وضع داكن
28-03-2024
Logo
الخطبة : 0711 - الكبائر2 - الكبائر الباطنة1 - كبيرة الأمن من مكر الله ، اليأس من روح الله
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى :
الحمد لله نحمده و نستعين به و نسترشده ، و نعوذ به من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضلَّ له و من يضلل فلن تجد له وليّا مرشدا ، و أشهد أن لا إله إلا الله و حده لا شريك له إقرارا بربوبيته ، و إرغاما لمن جحد به و كفر ، و أشهد أن سيدنا محمدا صلى الله عليه و سلم رسول الله سيد الخلق و البشر، ما اتَّصلت عينٌ بنظر و أو سمعت أذنٌ بخبر ، اللهم صلِّ وسلِّم و بارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وعلى ذرِّيته ، ومن والاه ، ومن تبعه إلى يوم الدين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علِّمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علَّمتنا ، وزدنا علمًا ، و أرنا الحق حقا ، وارزقنا اتِّباعه ، وأرنا الباطل باطلا ، و ارزقنا اجتنابه ، و اجعلنا ممن يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه ، و أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

تمهيد :

أيها الإخوة الكرام ؛ وعدتُكم في الأسبوع الماضي أن أعالج بعض موضوعات الكبائر ، لأن الله سبحانه و تعالى يقول:

﴿ إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً ﴾

[سورة النساء]

و قد ورد عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه

(( لا صغير مع الإصرار ، ولا كبير مع استغفار))

[أخرجه الحارث في مسنده ]

الصغيرة إذا أصررتَ عليها انقلبت إلى كبيرة .

(( لا صغير مع الإصرار ، ولا كبير مع استغفار))

[أخرجه الحارث في مسنده ]

أيها الإخوة الكرام ؛ العلماء قسموا الكبائر قسمين ، قسم باطن ، وقسم ظاهر ، و لعلَّ الكبيرة الظاهرة لأنها ظاهرة يُحتمل أن يتوب منها الإنسان ، لكن الكبيرة الباطنة خطيرة ، ذلك لأنها ليست ظاهرة ، و هذه الكبيرة الباطنة تحجب عن الله عز وجل ، لذلك يرى بعضُ العلماء أن الكبائر الباطنة أخطر من الكبائر الظاهرة ، و هناك عدد كبير جدًّا من الكبائر الباطنة .

تعريف الكبائر :

أيها الإخوة الكرام ؛ قبل أن أتابع الحديث عن بعض الكبائر الباطنة لا بدَّ من وقفة سريعة حول تعريف الكبيرة ، بعض العلماء قالوا :
ليس هناك صغائر و كبائر لأن الذنوب صغيرها و كبيرها هي عند الله كبائر لا تنظر إلى صغر الذنب ، ولكن انظر إلى عظم من اجترأت .
و قال بعضهم الآخر :

معاصي الله تعالى كلُّها كبائر .
و بعضهم قال :
و ما سُمِّيت الصغيرة صغيرة إلا بالقياس إلى معصية أكبر منها .
على كلٍّ التعريف الدقيق للكبيرة هو :
أنه ما لحق صاحبَها وعيدٌ شديد بنصٍّ من كتاب الله أو سنة .
إذا كان هناك وعيد شديد في الكتاب و السنة يتوعد مقترف هذه المعصية فهي كبيرة قطعا ، و قال بعضهم :
ما لحق صاحبها وعيد دون أن يُضاف إليها شديد .
لأن كلَّ وعيد الله شديد ، هذا تعريف من تعريفات الكبائر تعريف آخر :
إنها كلُّ معصية أوجبت حدَّا .
فهي كبيرة ، و تعريف ثالث :
أن كلَّ ما نصَّ في الكتاب على تحريمه فهي كبيرة .
كلُّ شيء ورد في القرآن الكريم وفي سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم أن هذا حرام فهو كبيرة ، و بعضهم يقول :
أيُّ ذنب لم يكترث به صاحبُه انقلب إلى كبيرة ، و لو كان ذنبا صغيرا .
مادام الإنسان قابله بعدم الاكتراث ، و عدم المبالاة ، هذا الذنب انقلب إلى ذنب كبير ، و إلى كبيرة ، من هنا

(( لا كبيرة مع استغفار ، ولا صغيرة مع إصرار ))

بعضهم قال :
كلُّ ما أوجب حدًّا و توجَّه إليه وعيدٌ ، فهو كبيرة .
و بعضهم قال :
كلُّ محرَّم بعينه منهيٌّ عنه لمعنى في نفسه .
أنتم تعلمون أن الحرام نوعان :
1- حرام لذاته .
2- حرام لغيره .
فمن أكل لحم الخنزير أكلا حراما لذاته ، و من أكل لحم الضأن و لم يدفع ثمنَه أكل حراما لغيره ، أصل لحم الضأن حلال ، لكن عدم دفع ثمنه حرام ، فهناك حرام لذاته ، وهناك حرام لغيره .
أيها الإخوة الكرام ؛ لكن الشيء الذي يلفت النظر أن إحصاء الكبائر غيرُ معروف ، لعلَّة قالها بعضُ العلماء ، كيف أن الله عز وجل أخفى الصلاة الوسطى لتكون كلُّ الصلوات وسطى ، نسعى إليها ، و كيف أن الله عز وجل أخفى ليلة القدر ليكون العشرُ الأخير كلُّه ليلة القدر ، و كيف أن الله أخفى ساعةَ الإجابة ، و كذلك لو كانت الكبائر واضحةً محدَّدة لأقبل الناسُ على الصغائر فحُجِبوا عن الله عز وجل ، هناك أحاديث كثيرة تبيِّن ما الكبائر ، لا على وجه الحصر بل على وجه المثال .

 

الكبائر الباطنة :

منها الأمنُ من مكر الله :

أيها الإخوة الكرام ؛ أحدُ الكبائر الباطنة الخطيرة ، الأمنُ من مكر الله بالاسترسال في المعاصي مع الاتَّكال على رحمة الله تعالى ، قال تعالى :

﴿ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ﴾

[سورة الأعراف الآية : 99 ]

و قال تعالى :

﴿ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾

[سورة فصلت الآية : 33 ]

أي إذا طالب توقَّع أن أستاذه يحبُّه و سوف يعطيه السؤال قبل الامتحان فلم يدرس ، ثم فوجِئ قبل الامتحان بساعات أنه لم يدرس و لم يعطِه أستاذُه هذا السؤال ، فهذا الظنُّ السيِّء ، هذا الوهم الباطل هو الذي أهلكه على سبيل المثال ، قال تعالى :

﴿ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾

[سورة فصلت الآية : 33 ]

الاسترسال في المعاصي مع الاتِّكال على رحمة الله تعالى ، و في الحديث :
عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :

(( إذا رأيت الله يعطي العبد ما يحب وهو مقيم على معاصيه فإنما ذلك منه له استدراج ))

[أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط ]

إذا كان العبد مقيما على معصيته ، و اللهُ يعطيه ما يشاء فهذا ليس إكراما ، بل هو استدراج قال تعالى :

﴿ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ﴾

[سورة الفجر الآية : 15 ]

يقول الله عز وجل :

﴿ كَلَّا﴾

[سورة الفجر الآية : 17 ]

ليس عطائي إكراما و لا منعي حرمانا ، عطائي ابتلاء و حرماني دواء ، و في الآية الكريمة ، قال تعالى :

﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾

[سورة الأنعام الآية : 44 ]

وهذا أيضا هو استدراج ، و هذه الآية تحلُّ مشكلات كثيرة ، الذين يذهبون إلى بلاد الغرب و يرون الدنيا الناعمة والرفاه العريض ، والبيوت الشامخة ، والمركبات الفارهة ، و بلد مبنيٌّ على أحدث ما يكون مع كفر و انحراف و فسق و فجور ، ينشأ عنده تساؤل ، و هذا الجواب ، قال تعالى :

﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾

[سورة الأنعام الآية : 44 ]

و قال تعالى

﴿ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾

[سورة آل عمران الآيات : 196 -197]

و قال تعالى :

﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ﴾

[سورة إبراهيم الآية : 42 ]

هذا هو استدراج ، هؤلاء أمنوا مكرَ الله ، فاسترسلوا في المعاصي و الآثام ، من عنده عقيدة ضعيفة يتَّكل على رحمة الله ، هذا اتِّكالٌ باطل اتِّكالٌ لا أصل له لأن المؤمن يستقيم ثم يسأل اللهَ رحمته .
أيها الإخوة الكرام ؛ الإمام الحسنُ يقول :
من وسَّع اللهُ عليه وهو مقيم على معصية فلم يرَ أنه مكرٌ به فلا عقل له .
و هناك قوم أُعطوا النعم فلم يشكروا ، فقال بعض ُ الصالحين :
مُكِر بهم و ربِّ الكعبة ، أُعطوا حاجتهم ثم أُخذوا .

 

قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن :

و النبي عليه الصلاة و السلام كثيرا ما يدعو بهذا الدعاء ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ :

((دَعَوَاتٌ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَدْعُوَ بِهَا يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ قَالَتْ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ تُكْثِرُ تَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ فَقَالَ إِنَّ قَلْبَ الْآدَمِيِّ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِذَا شَاءَ أَزَاغَهُ وَإِذَا شَاءَ أَقَامَهُ))

[رواه أحمد]

ما تعليل هذا ؟ ما تفسير هذا ؟ قلبُ العبد بين أصبعين من أصابع الرحمن بقلِّبه كيف يشاء ، و لكن يقلِّبه لصالحه ، فإذا اتَّخذ قرارا حكيما ملأ اللهُ قلبَه انشراحا ، و إذا اتَّخذ قرارا أحمق ملأ الله قلبه ضيقا ، قال تعالى :

﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ﴾

[سورة الحجرات الآية : 7]

أن يمتلأ القلبُ انشراحا وثقةً و غبطة هذا من فعل الله ، و أن يمتلأ القلب ضيقا وخوفا وقلقا هذا من فعل الله ، لأن القلب بيد الله عز وجل يقلبه لمصلحة العبد ، فالله عز وجل يدعمك حينما تصطلح معه بقلب منشرح ، و حينما تبتعد عنه يدعمك بقلب منقبض ، من أجل أن يكون الانقباضُ رادعا لك و الانشراح باعثا لك ، شيء آخر ، الأمر بيد الله وحده ، فقد يكون لك عدوٌّ شرسٌ ، لكن قلبه بيد الله ، قد يصرفه عنك و قد يسلِّطه عليك ، ما الذي يبعث هذا الإنسان على أن يتسلَّط على إنسان آخر ؟ أو على أن يبتعد عنه ، هذا القلب الذي يقلَّبه الله كيف يشاء ، إذًا لأن القلب بيد الله ، هو لصالحك مرتين ، لصالحك في دعمك إذا أردتَ الخير و في ردعك إن أردت الشرَّ ، و في حمايتك إن أراد بك آخر شرًّا .
أيها الإخوة الكرام ؛ يقول الله عز وجل :

﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ﴾

[سورة الأنفال الآية : 24]

قال بعض العلماء : يحول بين المرء و بين عقله ، حتى لا يدري ماذا يصنع ، الله عز وجل أعطانا حرية الاختيار ، و لكن لأنه ربُّ العالمين لو أن الواحد منا اتَّخذ قرارا ليس لصالحه ، فالله يؤدِّبه ، كيف يؤدِّبه ؟ يسلب منه اختياره ، إذا أراد ربُّك أن ينفذ أمرا أخذ من كلِّ ذي لُبٍّ لبَّه ، فالذكيُّ الحصيفُ الحكيم إن أراد الله أن يؤدِّبه سلب منه اختياره و لُبَّه و عقله و جعله يقع في شرِّ عمله تأديبا له ، فلذلك قال تعالى :

﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ﴾

[سورة الأنفال الآية : 24]

أي بينه و بين عقله ، أي لا يدري ماذا يصنع ، ثم إن الله عز وجل أعلمنا أنه جلَّ جلاله أملكُ لقلوبنا منا ، فما دمنا على طاعته و ما دمنا راغبين في مرضاته فقلوبنا تدعمنا ، لأنها بيده ، وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ :

((دَعَوَاتٌ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَدْعُوَ بِهَا يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ قَالَتْ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ تُكْثِرُ تَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ فَقَالَ إِنَّ قَلْبَ الْآدَمِيِّ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِذَا شَاءَ أَزَاغَهُ وَإِذَا شَاءَ أَقَامَهُ))

[رواه أحمد]

و قد أثنى الله عز وجل على الراسخين في العلم بقولهم :

﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾

[سورة آل عمران الآية : 8]

البطولة أن تصل إلى القمة ، وأن تبقى فيها ، البطولة أن تهتديَ و أن تبقى مهتديا ، البطولة أن تطيع اللهَ ، وأن تبقى طائعا ، البطولة أن تصطلح مع الله ، وأن تبقى معه مصطلحا ، قال تعالى :

﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾

[سورة آل عمران الآية : 8]

البطولة أن تبقى مفتقرا إلى الله ، قال تعالى :

﴿ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾

[سورة يوسف الآية : 33]

في حنين قال أصحاب النبيِّ رضوان الله تعالى عليهم وفيه النبيُّ عليه الصلاة و السلام : لن نغلب من قوة ، قال تعالى :

﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ﴾

[سورة التوبة الآية : 25 ]

أيها الإخوة الكرام ؛ القلب صالح للميل للخير أو الشر ، إلى الإيمان أو إلى الكفر ، و محالٌ أن يميل إلى أحدهما من دون داعية ، لذلك لا بدَّ في ميله هذا من حدوث داعية والداعيةُ هي اختيار الإنسان ، قال تعالى :

﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ﴾

[سورة الإنسان الآية : 3 ]

القلبُ مؤهَّل لأن يكون خيِّرا أو شرِّيرا ، لأن يؤمن أو لأن يكفر ، ليحسن أو ليسيء ، لا بدَّ من مرجِّح له الاختيار ، قال تعالى :

﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾

[سورة فصلت الآية : 46 ]

قال تعالى :

﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾

[سورة البقرة الآية : 286 ]

أيها الإخوة الكرام ؛ يؤكِّد هذا أنه عليه الصلاة و السلام يقول ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ :

((كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَنَازَةٍ فَأَخَذَ شَيْئًا فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِهِ الْأَرْضَ فَقَالَ مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنْ النَّارِ وَمَقْعَدُهُ مِنْ الْجَنَّةِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ قَالَ اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ أَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ ثُمَّ قَرَأَ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى الْآيَةَ ...))

[رواه البخاري]

لماذا خُلقنا ؟ قال تعالى :

﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ﴾

[سورة هود الآية : 118]

خلقنا ربُّنا ليرحمنا ، لذلك كلُّ أفعال الله معنا من أجل أن يدفعنا إلى طاعته لكي يرحمنا ، و كلٌّ ميسَّر لما خُلق له ، قال تعالى :

﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ﴾

[سورة الليل]

تعريف الكبيرة من قبل الرسول :

أيها الإخوة الكرام ؛ سئل عليه الصلاة و السلام : ما الكبائر ؟ فقال :

(( الإشراك بالله ، والأمن من مكر الله ، والقنوط من رحمة الله ، واليأس من روح الله ))

[أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ]

و هذا أكبر الكبائر ، أن يأمن مكر الله ، و بالمناسبة أيها الإخوة قال تعالى :

﴿ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾

[سورة الأنفال الآية : 30]

لا يمكن أن يكون الله ماكرا ، هذا لا يليق بجلاله ، و لكن هذه مشاكلة في البلاغة ، لأن مكر الله عز وجل ردٌّ على مكرهم و حفظ فللمؤمن و تأديب لهم ، ردُّه كلُّه خير ، لأهل الدنيا و لأهل الآخرة للمؤمنين ولغير المؤمنين ، فمكره تدبيرٌ حكيم ، يحفظ به المؤمنين و يؤدِّب به الكافرين ، قال تعالى :

﴿ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ﴾

[سورة إبراهيم الآية : 46]

و قال تعالى

﴿ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾

[سورة الأنفال الآية : 30]

لذلك لا يجوز أن تقول : الله ماكر ، و لا يمكن أن تقول : الله كائد أيضا ، قال تعالى :

﴿ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً ﴾

[سورة الطارق الآيات : 15 -16]

كيد الله عز وجل تدبيره الحكيم ، العدل الذي يحفظ به المؤمنين ، ويؤدِّب به العصاة والمجرمين ، بل إن علماء التوحيد يقولون : لا ينبغي أن تقول : الله ضارٌّ ، مع أن الضارَّ من أسماء الله الحسنى ، يحب أن تقول : النافع ، الضارُّ ، و المعطي و المانع ، و الخافض و الرافع ، و المذِل و المعز ، لأن الله عز وجل يذلُّ ليعزَّ ، و يمنع ليعطي و يبتلي ليجزي ، و يخفض ليرفع ، و يضرُّ لينفع ، إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء ، ومنزل ترحٍ لا منزل فرح ، فمن عرفها لم يفرح لرخاء ، ولم يحزن لشقاء ، قد جعلها الله دار بلوى ، و جعل الآخرة دار عقبى ، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سببا ، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضا ، فيأخذ ليعطي ، و يبتلي ليجزي ، هذه المقابلة و المشاكلة جاءت في آية أخرى قال تعالى :

﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ﴾

[سورة الشورى الآية : 40 ]

ا يُسمَّى جزاء السيئة سيئة ، لكن سُمِّي هنا سيئة مشاكلة للأولى .
أيها الإخوة الكرام ؛ قال تعالى :

﴿ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ﴾

[سورة الأعراف الآية : ]

الذي يأمن مكر الله يسترسل في المعاصي و الآثام ، اتِّكالا على رحمة الله عز وجل ، و الله عز وجل حينما يقول :

﴿ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾

[سورة الأنفال الآية : 30]

أي مكره خيرٌ للأطراف كلها .

منها اليأس من روح الله :


أيها الإخوة الكرام ؛ ماذا يقابل الأمن من مكر الله ؟ كبيرة باطنة أخرى اليأس من روح الله ، الله عز وجل يقول :

﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾

[سورة النساء الآية : 116]

عدا الشرك ، بل إن العلماء يقولون : إن لم يمت على هذا إن تاب حتى الشرك يُغفَر إن تاب صاحبُه ، قال تعالى :

﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾

[سورة النساء الآية : 116]

أي إن لم يتب ما سوى الشرك كلُّه مغفور ، لكن مع الاستغفار و مع الإقلاع و مع التوبة و مع الإصلاح ، قال تعالى :

﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾

[سورة الزمر الآية : 53]

و قال تعالى :

﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾

[سورة الأعراف الآية : 156]

وفي الحديث الصحيح ، عَنْ سَلْمَانَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

((إنّ اللَّهَ خَلَقَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِائَةَ رَحْمَةٍ كُلُّ رَحْمَةٍ طِبَاقَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَجَعَلَ مِنْهَا فِي الْأَرْضِ رَحْمَةً فَبِهَا تَعْطِفُ الْوَالِدَةُ عَلَى وَلَدِهَا وَالْوَحْشُ وَالطَّيْرُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَكْمَلَهَا بِهَذِهِ الرَّحْمَةِ))

[رواه مسلم]

وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى :

((يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلَا أُبَالِي يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً))

[رواه الترمذي]

و قد سأل عليه الصلاة و السلام بعض أصحابه ، فَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قال :

((أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى شَابٍّ وَهُوَ فِي الْمَوْتِ فَقَالَ كَيْفَ تَجِدُكَ قَالَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنِّي أَرْجُو اللَّهَ وَإِنِّي أَخَافُ ذُنُوبِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ مَا يَرْجُو وَآمَنَهُ مِمَّا يَخَافُ))

[رواه الترمذي]

الأمن من مكر الله كبيرة ، و اليأس من روح الله كبيرة ، يجب أن تكون بين الخوف و الرجاء ، اطلُب رحمة الله عند طاعته ، و خفه عند معصيته ، و لا تقطع رجاءك فيما بينه .
و في الحديث الشريف ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

((إِنْ شِئْتُمْ أَنْبَأْتُكُمْ مَا أَوَّلُ مَا يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَا أَوَّلُ مَا يَقُولُونَ لَهُ قُلْنَا نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ هَلْ أَحْبَبْتُمْ لِقَائِي فَيَقُولُونَ نَعَمْ يَا رَبَّنَا فَيَقُولُ لِمَ فَيَقُولُونَ رَجَوْنَا عَفْوَكَ وَمَغْفِرَتَكَ فَيَقُولُ قَدْ وَجَبَتْ لَكُمْ مَغْفِرَتِي))

[رواه أحمد]

وفي الحديث الشريف الذي رواه الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى :

((أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً))

[رواه البخاري]

وفي الحديث الصحيح الآخر عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

((إِنَّ حُسْنَ الظَّنِّ بِاللَّهِ مِنْ حُسْنِ عِبَادَةِ اللَّهِ))

[رواه الترمذي]

و في حديث ثالث رواه الإمام مسلم ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ يَقُولُ :

((لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ))

[رواه مسلم]

وفي الحديث القدسي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ :

((أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي إِنْ ظَنَّ بِي خَيْرًا فَلَهُ وَإِنْ ظَنَّ شَرًّا فَلَهُ))

[رواه أحمد]

الخلاصة :

أيها الإخوة الكرام ؛ حال الإنسان مع الله دقيق جدًّا ، إن أمن مكر الله و استرسل في المعاصي اتِّكالا على رحمة الله فقد وقع في كبيرة باطنة ، و إن يئس من روح الله فقد وقع في كبيرة باطنة ثانية ، يجب أن ترجوَه و أن تخافه ، و رد في الأثر القدسي :

((قال يا رب ، أيُّ عبادك أحبُّ إليك حتى أحبه بحبك ؟ قال : أحب عبادي إلي تقيُّ القلب نقيُّ اليدين لا يمشي إلى أحد بسوء ، أحبني و أحب من أحبني و حببَّني إلى خلقي ، قال : يا ربي إنك تعلم أني أحبك و أحب من يحبك ، فكيف أحببك إلى خلقك ؟ قال : ذكِّرهم بنعمائي و آلائي و بلائي))

أي ذكِّرهم بآلائي كي يعظِّموني ، و ذكِّرهم بنعمائي كي يحبوني ، و ذكِّرهم ببلائي كي يخافوني ، فيبدو من خلال هذا الأثر أنه لا بدَّ من أن يكون في قلب العبد تعظيم لله ، لقوله تعالى :

﴿ إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ ﴾

[سورة الحاقة الآية : 33 ]

و محبة له يحبهم و يحبونه ، و خوف منه رأس الحكمة مخافة الله فيجب أن تخافه و يجب أن تحبَّه و يجب أن تعظِّمه ، يجب أن تعظِّمه كي تطيعه لأنك إن عرفت الآمر و عرفت الأمر تفانيت في طاعة الآمر أما إن عرفت الأمر و لم تعرف الآمر تفنَّنت في التفلُّت من الأمر ، فلا بدَّ من التعظيم كي تطيعه ، و لابدَّ من المحبة كي ترجو رحمته ، و لا بدَّ من الخوف كي تخاف عقابه فتطيعه .
أيها الإخوة الكرام ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا ، و زنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، و اعلموا أن ملك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا ، و سيتخطَّى غيرنا إلينا ، فلنتَّخذ حذرنا ، الكيس من دان نفسه و عمل لما بعد الموت ، و العاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني.

والحمد لله رب العالمين
***

الخطبة الثانية :

 

الحمد لله رب العالمين ، و أشهد أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحين ، و أشهد سيدنا محمدا عبده و رسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ و سلِّم و بارك على سيدنا محمد ، و على آله و صحبه أجمعين .

منها سوء الظن بالله تعالى :

أيها الإخوة الكرام ؛ بقي كبيرة ثالثة ملحقة بالكبيرتين ، وهذه من الكبائر الباطنة ، التي لا تظهر ، و ذكرت في مطلع الخطبة أن الكبيرة الظاهرة ، لأنها ظاهرة يُرجى أن ينتبه لها صاحبُها ، و لكن الكبيرة الباطنة خطيرة ، لأنها قد تخفى عن صاحبها فيُحجب عن الله طوال حياته .

الكبيرة الثالثة سوء الظن بالله تعالى ، سوء ظن بالله تعالى جهلٌ به و سوء الظن بالله تعالى حجاب عنه ، وسوء الظن بالله تعالى نتيجة اقتراف المعاصي ، و قد قال عليه الصلاة و السلام :

((أكبر الكبائر سوء الظن بالله عز وجل))

و لو أن الله عز وجل وعد المؤمن و قد المؤمن بالنصر ، و التوفيق و الحفظ ، و الإنجاح ، و هذا المؤمن على استقامته يخاف أن تنزل به نازلةٌ قاصمة ، هذا سوء ظنٍّ بالله عز وجل ، الله عز وجل قال :

﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ﴾

[سورة النحل الآية : 97]

وزوال الكون أهون على الله من أن لا يحقِّق وعدَه للمؤمنين ، قال تعالى :

﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾

[سورة النور الآية : 55]

هذه وعود الله عز وجل ، و لكن الله عز وجل يقول :

﴿ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ ﴾

[سورة النور الآية : 55]

فإن لم يرتضِ لهم دينهم ، لم يكن دينهم كما جاء به النبيُّ عليه الصلاة و السلام ، لم يكن دينهم شاملا لكل نواحي حياتهم ، اقتُصِر دينُهم على صلاة و صيام و حج و زكاة ، و في المعاملات يفعلون ما يشتهون ، فإذا كان دينهم لم يرتضِه الله لهم لا يمكِّنهم ، و بالمقابل إن لم يمكِّنهم فهناك استنباط دقيق هو أن دينهم لم يرتضه الله لهم .
أيها الإخوة الكرام ؛ سوء الظن بالله تعالى أن تكون في أعلى درجات الطاعة ، وأن تخشى أن يقصمك الله عز وجل ، لا بدَّ من أن تكون مطمئنا لرحمة الله ، قال تعالى :

﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ﴾

[سورة التوبة الآية : 51]

كتب الله لنا ، أي المؤمن على شيء من التفاؤل ، قال تعالى :

﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ﴾

[سورة طه الآية : 123]

و قال تعالى :

﴿ فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾

[سورة البقرة الآية : 38]

و قال تعالى :

﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ﴾

[سورة النحل الآية : 97]

و قال تعالى :

﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ﴾

[سورة فصلت الآيات : 30-32]

هذه كلها آيات تملأ القلب راحة ، قال تعالى

﴿ وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ ﴾

[سورة سبأ الآية : 17]

أيُعقل أن نجازي إلا الكفور .
أيها الإخوة الكرام ؛ لا بدَّ من أن تكون حسن الظن بالله عز وجل الأمر بيد الله أولا و آخرًا ، و الإنسان حينما يضعف إيمانه يظن ان في الأرض قوى تفعل ما تريد ، قال تعالى :

﴿ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ﴾

[سورة يونس الآية : 24]

قوى الشر الكبرى في العالم ، هذه القوى بيد الله ، إن فعلت شيئا فخِطَّة الله تستوعب خطَّتها ، لا تفعل شيئا إلا إذا أراده الله عز وجل ، و في أيَّة لحظة يوقفها في وقت غير معلوم عندها ، فالإنسان إذا رأيته يطغى و يبغي ليس هذا بعيدا عن علم الله عز وجل ، لا يقع في ملك الله إلا ما أراده الله ، فالإنسان ينبغي أن يطمئن لرحمة الله ، و لأن الأمر كله بيد الله ، قال تعالى

﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ ﴾

[سورة هود الآية : 123]

ما أمرك أن تعبده إلا بعد أن طمأنك أن الأمر كله عائد إليه .
أيها الإخوة الكرام ؛ هذا الذي يقول : نحن انتهينا ؛ مثلا ؛ إذا رأى أنه في ظرف طارئ في العالم تحكَّم قطبٌ واحد في العالم كله ، هذا لن يستمر ، استمراره يتناقض مع وجود الله عز وجل ، الله جل جلاله لا بدَّ من أن يُريَ الناسَ آياته العظمى ، فهذا الذي ييأس حينما يرى قطبا قد تحكَّم في العالم كله هذا يأس دليل ضعف إيمانه ، نحن نؤمن أن الأمر كله بيد الله ، و أنه :

﴿ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾

[سورة فاطر الآية 2 ]

و المؤمن أن الله عز وجل يقول :

﴿ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً ﴾

[سورة الكهف الآية : 26]

و قال تعالى

﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ﴾

[سورة الزخرف الآية : 84]

و قال تعالى :

﴿ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾

[سورة يس الآية : 83]

آيات التوحيد مريحة ، لذلك :

﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ ﴾

[سورة الشعراء الآية : 213]

فاليأس من سوء الظن بالله أن تتوَّهم أن الله خلاَّق و ليس فعَّالا ، خلقَ و جعل الناسَ أقوياءَ و ضعفاءَ وأغنياء وفقراءَ وتركهم يأكل قويُّهم ضعيفَهم ، وغنيُّهم فقيرَهم ، هذا لا يليق بكمال الله عز وجل ، قال تعالى :

﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ ﴾

[سورة هود الآية : 123]

أيها الإخوة الكرام ؛ الأمن من مكر الله و الاسترسال في المعاصي و الآثام اتِّكالا على رحمة الله عز وجل هذه من الكبائر الباطنة ، ثم إن اليأس من رحمة الله هذه كبيرة ثانية ، لأن الله يغفر كلَّ ذنب ، إلا أن تشرك به ، الكبيرة الثالثة ،أن تكون مستقيما ، ولكنك لضعف توحيدك رأيتَ الأمر بيد قويٍّ لا يخاف الله فأسأتَ الظنَّ بالله عز وجل.
أيها الإخوة ؛ في معركة الخندق قال تعالى :

﴿ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً ﴾

[سورة الأحزاب الآيات : 10-11]

و قال تعالى :

﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ﴾

[سورة الأحزاب الآية : 23]

أما هؤلاء الذين قالوا :

﴿ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً ﴾

[سورة الأحزاب الآية : 12]

هؤلاء ضعاف الإيمان ، هؤلاء الذين ضعف توحيدُهم فرأوا قوَّةً باغية تريدان تسحقهم ، و هذا يقع في كل زمان و مكان .
أيها الإخوة الكرام ؛ لا إله إلا الله كلمة الإسلام الأولى ، هذه كلمة التوحيد ، أي لا معطيَ ، ولا مانع ، ولا نافع ، ولا ضار ، ولا قابض ، ولا باسط إلا الله عز وجل .

الدعاء :

اللهم اهدنا فيمن هديت ، و عافينا فيمن عافيت ، و تولنا فيمن توليت و بارك لنا فيما أعطيت ، و قنا و اصرف عنا شرَّ ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق و لا يُقضى عليك ، و إنه لا يذلُّ من واليت ، و لا يعز عاديت ، تباركت ربنا و تعاليت ، و لك الحمد على ما قضيت نستغفرك و نتوب إليك ، اللهم هب لنا عملا صالحا يقرِّبنا إليك ، اللهم أعطنا و لا تحرمنا ، و أكرمنا و لا تهنَّا ، آثرنا ، ولا تؤثر علينا ، أرضنا ، وارض عنا ، أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، و أصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، و أصلح لنا آخرتنا التي إليها مردُّنا ، و اجعل الحياة زادا لنا من كل خير ، و اجعل الموت راحة لنا من كل شر مولانا ربَّ العالمين ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، و بطاعتك عن معصيتك ، و بفضلك عمن سواك ، اللهم لا تؤمنَّا مكرك ، و لا تهتك عهنا سترك ، و لا تنسِنا ذكرك ، يا ربَّ العالمين ، اللهم إنا نعوذ بك من الفقر إلا إليك ، و من الخوف إلا منكم ، و من الذل إلا لك ، نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء ، مولانا ربَّ العالمين ، اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا ربَّ العالمين ، اللهم صُن وجوهنا باليسار ، و لا تبذلها بالإقتار فنسأل شرَّ خلقك ، و نُبتلى بحمد من أعطى ، و ذمَّ من منع ، و أنت من فوقهم وليُّ العطاء ، و بيدك وحدك خزائن الأرض و السماء ، اللهم بفضلك و رحمتك أعلِ كلمة الحق و الدين ، و انصر الإسلام و أعزَّ المسلمين ، و خذ بيد ولاتهم إلى ما تحبُّ وترضى ، إنه على ما تشاء قدير ، و بالإجابة جدير.

تحميل النص

إخفاء الصور