الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ، أو سمعت أُذُنٌ بخبر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغُر الميامين، أُمناء دعوته وقادة ألويته وارضَ عنّا وعنهم يا ربَّ العالمين.
اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعِلم، ومن وحول الشهوات إلى جنَّات القُربات.
أيُّها الإخوة الكرام: في كتُب العلم بابٌ يُسمّى بباب الرقائق، هذا الباب يُرقِّق القلب، يشوّقه بطاعة الله، يُزهده في الدنيا، ذلك أنَّ العالم الإسلامي الحق فيه واضح.
(( وعظَنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّمَ مَوعظةً ذَرَفَتْ منها العيونُ ووجِلَتْ منها القلوبُ فقلنا يا رسولَ اللهِ إنَّ هذه لموعِظَةَ مُوَدِّعٍ فماذا تعهَدُ إلينا؟ فقال: تركتُكم على البيضاءِ ليلِها كنهارِها لا يزيغُ عنها بعدي إلا هالِكٌ، ومن يَعِشْ منكم فسَيرى اختلافًا كثيرًا فعليكم بما عرَفتُم من سُنَّتي وسُنَّةِ الخلفاءِ المهدِيِّينَ الرَّاشدينَ، وعليكم بالطاعةِ وإن كان عبدًا حبشيًّا عَضُّوا عليها بالنَّواجذِ فإنما المؤمنُ كالجملِ الأَنِفِ كلما قِيدَ انقَادَ ))
[ أخرجه أبو داوود والترمذي وابن ماجه وأحمد ]
أيُّها الإخوة: بل قبل خمسين عاماً إن صحَّ أنَّ هناك ساحة عليها المبادئ والقيَم، كان هناك كُتلٌ ثلاث، الغرب والشرق والإسلام، الشرق تداعى من الداخل وانتهى، لأنه رفع شعار لا إله، بعد سبعين عاماً وهو من أعتى القوى في الأرض انتهى وتداعى من الداخل.
﴿ وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا ۚ وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ ۚ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)﴾
بقيَ على ساحة المبادئ والقيَم كتلتان كبيرتان، الغرب والإسلام.
والحقيقة تُقال: الغرب قوي جداً، وغني جداً، وذكي جداً، وطرح قيَماً سابقاً رائعة جداً، كرَّم الإنسان، طرح قيمة الحرية، وقيمة الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والرفق بالحيوان، وتكافؤ الفرص، والعولمة، واحترام جميع الأديان، وحق المُقاضاة، إلى ما هنالك، الذي حصل بعد الحادي عشر من أيلول، أنَّ هذا الغرب الذي كان حضارةً نافست الإسلام، حتى صار الذي معه بطاقة خضراء كأنه دخل الجنَّة، بعد أن كان طموح كل شاب أن يصل إلى هناك.
هذا الغرب الذي نافس الإسلام بعد الحادي عشر من أيلول، انتهى كحضارة وبقي قوةً غاشمة، ولم يبقَ على ساحة المبادئ والقيَم إلا الإسلام، مع أنَّ الإسلام تُشَنُّ عليه حربٌ عالميةٌ ثالثة، مع أنَّ الإسلام يُحارَب في كل مكان، ومع ذلك الإسلام ينمو نموُّاً يفوق حدّ الخيال، كنت في فرنسا قبل شهر، أنبأني من أثق بكلامه، أنه يدخل في الإسلام يومياً خمسون فرنسي من أصلٍ فرنسي، ويوجد بفرنسا ألفين وسبعمئة مسجد، والإسلام هو الدين الثاني.
ويوجد بأمريكا عشرة ملايين مسلم، الإسلام ينمو بشكلٍ عجيب، ولعلَّ الهجوم عليه من نموّه السريع، لماذا؟ لأنَّ هناك عالِمٌ أمريكي هداه الله إلى الإسلام، التقى بالجالية الإسلامية في بريطانيا قال: أنا لا أُصدِّق أن يستطيع العالَم الإسلامي اللحاق بالغرب، على الأقل في المدى المنظور لاتساع الهوة بينهما، ولكنني مؤمنٌ أشدَّ الإيمان أنَّ العالم كله سيركع أمام أقدام المسلمين، لا لأنهم أقوياء هُم أضعف الناس الآن، ولكن لأنَّ خلاص العالم في الإسلام هو الحل الوحيد، هو الحل الوحيد والأكيد والفريد والأخير.
العالم الإسلامي الأمور فيه واضحة والحق والتعاون واضح:
البشَر جرَّبوا كل شيء، جرَّبوا مبادئ مستوردة، هذه المبادئ لم تُفلِح في تحقيق السلامة والسعادة، بل ساهمَت في شقّ صفوف المجتمع البشري إلى عشرةٍ بالمئة من أهل الأرض، يملكون تسعين بالمئة من ثروات الأرض، وإلى تسعين بالمئة من أهل الأرض، يملكون عشرة بالمئة من ثروات الأرض.
أيُّها الإخوة الكرام: الغلاء في المواد الغذائية ليس غلاءً طبيعياً يقتضيه العرض والطلب أبداً، غلاء الهدف منه تركيع الشعوب، لأنَّ الغذاء شيءٌ أساسيٌ في حياة الشعوب.
على كلٍّ أيُّها الإخوة: هذه مقدمة لموضوعٍ قلَّما أطرقه إطلاقاً، الموضوع أنه بعد الحادي عشر من أيلول، المساحة الرمادية الواسعة جداً بين الحق والباطل، يُمكن أن أرمز للحق باللون الأبيض الناصع، والباطل باللون الأسود الداكن، وكان هناك قبل خمسين عاماً وإلى عشر سنواتٍ ماضية، كان هناك مساحة واسعة جداً من المنطقة الرمادية بين بين، الآن المنطقة الرمادية تلاشت ولم يبقَ إلا الأبيض الناصع والأسود الداكن، لم يبقَ إلا وَليٌّ وإباحي، مُحسنٌ ومُجرم، هذا اسمه انقسام، العالم انقسَم الآن، لكن الذي يعنيني من هذه المقدمة، بالعالم الإسلامي الأمور واضحة، الحق واضح أبلج، القرآن واضح، طريق الحق واضح، طريق السعادة واضح، طريق التعاون واضح، طريق القوة واضح، طريق السيطرة واضح، لكن الناس نائمون في ضوء الشمس، والأعداء يعملون ليلاً نهاراً في الظلام، فالذي يعمل في الظلام يسبق النائم في ضوء الشمس.
موضوع هذه الخُطبة رقائق، كلماتٌ تُرقِّق القلب، يعني مثلاً من آيات الرقائق:
﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)﴾
إلى متى أنت باللذَّات مشـغولُ وأنت عن كلِّ ما قدَّمت مسؤوّلُ
تعصي الإله وأنت تُظهِر حـبَّه هـذا لعمرِي في المـقـال شـنيـعُ
لو كان حبُّك صادقاً لأطعتــــه إنّ الـمُـحـبَّ لـمـن يـُحبُّ يـطـيعُ
فلو شاهدت عيـناك من حســننـا الـذي رأوه لما ولـيت عنـا لغـيرنـا
ولو سمـعت أُذناك حُسن خطابنا خلـعت عنك ثيـاب العُجب و جئتـنا
ولـو ذقت مـن طعم المحـبَّة ذرةً عــذرت الـذي أضـحى قتيلاً بحـبنا
ولـو نسمـت مـن قُربنا لك نسمةٌ لـمـُتَّ غـريـبـاً واشــتياقـاً لـقُربـنـا
هذه رقائق، كلامٌ يُرقِّق القلب، يُزهِّدُك في الدنيا، يُرغِّبُك في الآخرة، يُحبِّبُك بقيام الليل، بطاعة الله، ببذل المال، والغالي والرخيص، والنفس والنفيس، هذا الباب في أكثر كتُب العِلم تحت عنوان الرقائق، وأنا قلَّما أُعالج هذا الموضوع.
الله عزَّ وجل يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور:
لكنني أردت في هذا الأسبوع أن يكون موضوع الخُطبة الرقائق، من هذه الرقائق حديثٌ لرسول الله، يقول عليه الصلاة والسلام:
(( عَنْ أبي يَعْلَى شَدَّادِ بْن أَوْسٍ، عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الكَيِّس مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِما بَعْدَ الْموْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَه هَواهَا، وتمَنَّى عَلَى اللَّهِ ))
(الكَيِّس) العاقل، الذكي، المتفوق، الفالح، الناجح (مَنْ دَانَ نَفْسَهُ) أي ضبطها (وَعَمِلَ لِما بَعْدَ الْموْتِ) أمّا (الْعَاجِزُ) يعني غير الذكي، غير العاقل، الأحمق، الغبي (وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَه هَواهَا، وتمَنَّى عَلَى اللَّهِ) ترى دعاءً عريضاً مُنمَّقاً، يا ربّ لا تسألنا عن شيء، من قال لك ذلك؟! والله سيسألك عن كل شيءٍ.
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92 (عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)﴾
تقول: لا تسألنا عن شيءٍ ويقول الله عزَّ وجل:
﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7 (وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)﴾
الله عزَّ وجل:
﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19)﴾
﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ (47)﴾
ما هذا القول: لا تسألنا عن شيء؟!
كلمة المسلمين ليست العُليا وأمرهم ليس بيدهم:
لذلك يمكن أن نستنبط من كلام النبي عليه الصلاة والسلام وكأنه بيننا، قال:
(( يُوشِكُ الأممُ أن تداعَى عليكم كما تداعَى الأكَلةُ إلى قصعتِها، فقال قائلٌ: ومن قلَّةٍ نحن يومئذٍ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثيرٌ، ولكنَّكم غُثاءٌ كغُثاءِ السَّيلِ، ولينزِعنَّ اللهُ من صدورِ عدوِّكم المهابةَ منكم، وليقذِفَنَّ اللهُ في قلوبِكم الوهْنَ، فقال قائلٌ: يا رسولَ اللهِ! وما الوهْنُ؟ قال: حُبُّ الدُّنيا وكراهيةُ الموتِ ))
[ أخرجه أبو داوود وأحمد وابن أبي شيبة ]
في العراق هناك ثلاثين دولة متحالفة مع أمريكا، في أفغانستان ثلاثين دولة، في لبنان ثلاثين دولة، مليار وخمسمئة مليون لا وزن لهم في الأرض، ليست كلمتهم هي العُليا، أمرهم ليس بيدهم، لأعدائهم عليهم ألف سبيلٍ وسبيل.
تصوَّر قش فوق السيل، هل يستطيع هذا القش أن يُغيِّر مجرى السيل؟ ألا تذكرون قبل الحرب الثانية على العراق، أنَّ مَسيراتٍ في الأرض ما من دولةٍ في الأرض إلا وسارت فيها مَسيراتٍ بالملايين، أنا أذكُر هذا تماماً، ما من دولةٍ حتى في أمريكا، حتى في أوربا، في آسيا، في استراليا، ما من دولةٍ إلا وسار فيها ملايين مُملينة تشجُب العدوان على العراق ومع ذلك: (أنتم يومئذٍ كثيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ) .
وقد قال عليه الصلاة والسلام:
(( أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أحَدٌ مِنَ الأنْبِيَاءِ قَبْلِي: نُصِرْتُ بالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وجُعِلَتْ لي الأرْضُ مَسْجِدًا وطَهُورًا، وأَيُّما رَجُلٍ مِن أُمَّتي أدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ، وأُحِلَّتْ لي الغَنَائِمُ، وكانَ النبيُّ يُبْعَثُ إلى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وبُعِثْتُ إلى النَّاسِ كَافَّةً، وأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ ))
نحن هُزِمنا بالرُعب مسيرة سنة.
أيُّها الإخوة: ثم يسأل الصحابة الكرام رسولهم لِمَ يا رسول الله؟ (وليقذِفَنَّ اللهُ في قلوبِكم الوهْنَ، فقال قائلٌ: يا رسولَ اللهِ! وما الوهْنُ؟ قال: حُبُّ الدُّنيا وكراهيةُ الموتِ) إذاً نحن بحاجةٍ إلى رقائق.
المفارقة الحادة بين وضوح الأمور وبين تقصير المسلمين:
هذا الوضع الأمور واضحة، هناك تقصيرٌ بالعبادات، بالطاعات، بالأعمال الصالحة، بالبذل، بالعطاء، تصوَّر بلد مثل السودان، نحن في سورية والفضل لله، المساحة عندنا مئة وخمسة وثمانون ألف كيلو متر مربع، ربع هذه المساحة صالحة للزراعة فقط، المزروع منها ربع الربع، أي واحد على ستة عشر من مساحة سورية والتي هي مئة وخمسة وثمانين ألف كيلو متر مربع، ومع ذلك إنتاجنا من القمح ستة ملايين طن وحاجتنا مليون، الحمضيات سبعمئة ألف طن، الزيتون ثاني دولة في العالم، القطن من الدول المُتقدمة، هذه المساحة المتواضعة واحد على ستة عشر من مساحةٍ صغيرةٍ جداً مزروعة وهذا إنتاجها.
حدَّثني أخٌ كريم من السودان قال لي: الأرض الصالحة للزراعة في السودان اثنين ونصف مليون كيلو متر، ونهر النيل يصب أربعة أخماسه في البحر، وهذا السودان يحتاج إلى بُنيةٍ تحتيةٍ فقط يُطعِم العالم الإسلامي بأكمله، ومع ذلك ترى ألف مليار مودعة في بلادٍ غربية لصالح المسلمين، أليس هذا وصمة عارٍ بحقّ المسلمين؟
أيُّها الإخوة الكرام: سبب موضوع هذه الخُطبة، المُفارقة الحادة بين وضوح الأمور وبين تقصير المسلمين.
العاقل من أعدَّ العُدَّة قبل لقاء الله عزَّ وجل:
المسلم يحتاج إلى مُرقِّق، من هذه المُرقِّقات ما ورد في بعض خُطب النبي عليه الصلاة والسلام:
<<إنَّ الأيام تطوى، والأعمار تَفنى، والأبدان تبلى، وإن والليل والنهار يتراكضان كتراكض البريد، يُقربان كل بعيد، ويُخلِقان كل جديد>> .
أيُّها الإخوة: "كم من مُستقبلٍ يوماً وليس يستكمله" ، والله بهذا العُمر المتواضع في الدعوة إلى الله، معي قصصٌ العقل لا يُصدِّقها، إنسان ما تمكن أن يسكن في البيت الذي جَهِدَ في كسوته، يوجد بأرقى أحياء دمشق بناءٌ فيه سبعة طوابق، هذه الطوابق يزيد سعر الطابق عن مئة وثلاثين أو مئة وأربعين مليوناً، هذا أغلى سعر، سبعة طوابق فارغة الذين اشتروها لم يتمكنوا من سُكناها.
انظُر إلى دقّة الكلمة: كم من مستقبلٍ يوماً ليس يستكمله، والله جلست مع مدير ثانوية حدَّثني عن مشاريعه لعشرين سنة قادمة، سيسافر إلى الجزائر، وسيُقيم هناك خمس سنوات، ولن يأتي إلى الشام في الصيف، وسوف يزور في أول صيف بريطانيا، وثاني صيف فرنسا، وثالث إسبانيا، والرابع سويسرا، وسوف يعود بعد ذلك يُقدِّم استقالته ويأخُذ التقاعدية، يُنشئ محلاً للتُحف، لعشرين سنة قادمة، والله في اليوم نفسه رأيت نعوته على الجدران، كم من مستقبلٍ يوماً ليس يستكمله.
إخوانَّا الكرام: من هذه المنطقة والله صالحون أحدهم إمام مسجدٍ صلّى الظُهر إماماً وكان العصر مدفوناً، في جامع الشافعي بمنطقة المزة، هناك مجموعةٌ من إخوتنا الكرام يُصلّون، أحدهم صاحب دُعابة كلما خرجوا من المسجد يُلقي على مسامعهم دُعابة، في أحد الأيام صلّى الفجر في المسجد والظُهر في المسجد وكان مع أذان العصر تحت أطباق الثرى، قصصٌ كثيرة لا تُعد ولا تُحصى.
رسائل الله عزَّ وجل للإنسان رسائل لطيفة أن اللقاء قد اقترب فهل أنت مُستعد له؟
كم من مستقبلٍ يوماً ليس يستكمله، من يملِك أن يعيش لساعةٍ قادمة؟ أحد كبار علماء الشام كان يحضر خُطبة في جامع الحسن، والخطيب هناك كان يناقش فكرةً قال والله لنسأل الأستاذ فلان، كان ميتاً في صحن المسجد، طبعاً هذه أجمل موتة، مات وهو يؤدّي صلاة الجمعة، وعندنا أحد الإخوان توفي وهو في الجامع، وهو في صلاة الجمعة، من يملِك أن يعيش لثانية؟ هل أعددنا العُدَّة؟ أساساً تطور الصحة، مثلاً يَضعُف بصره، يُصلِح أسنانه، يُعالِج نفسه، يقول لك: معي أسيد أوريك، معي شحومٌ ثلاثية، معي معي...
كل هذه الأعراض السلبية الصحيَّة، هذه رسائلٌ لطيفةٌ من الله أن يا عبدي قد اقترب اللقاء، فهل أنت مُستعدٌ له؟ هيأت نفسك تنتقل من بيت مئتي متر إلى قبر، من غرفة نوم، وغرفة ضيوف، وغرفة طعام، وغرفة جلوس، مطبخ، جميع الأجهزة موجودة في البيت، هيأت نفسك من بيتٍ إلى قبر؟ ماذا في القبر؟
(( خطبنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يومَ جمعةٍ فقال: أيُّها الناسُ توبوا قبلَ أن تموتوا، وبادروا بالأعمالِ الصالحةِ قبل أن تُشغلوا، وصِلوا الذي بينكم وبينَ ربِّكم بكثرةِ ذكرِكم إيَّاه تسْعدوا، وأكثروا الصدقةَ تُرزقوا، وأْمُروا بالمعروفِ تُحصنوا، وانْهوا عن المنكرِ تُنصروا، أيُّها الناسُ إنَّ أكيسَكم أكثرُكم ذكرًا للموتِ، وأحزمُكم أحسنُكم استعدادًا له، ألا وإنَّ من علاماتِ العقلِ التجافي عن دارِ الغرورِ والإنابةِ إلى دارِ الخلودِ والتزوُّدِ لِسكْنى القبورِ والتأهبِ لِيومِ النشورِ ))
[الذهبي عن أبو الدرداء في الأربعون الودعانية ]
النبي عليه الصلاة والسلام سُئل:
(( كُنتُ معَ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ، فجاءَهُ رجلٌ منَ الأنصارِ، فَسلَّمَ على النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ، ثمَّ قالَ: يا رسولَ اللَّهِ أيُّ المؤمنينَ أفضلُ؟ قالَ: أَحسنُهُم خُلقًا، قالَ: فأيُّ المؤمنينَ أَكْيَسُ؟ قالَ: أَكْثرُهُم للمَوتِ ذِكْرًا، وأحسنُهُم لما بعدَهُ استِعدادًا، أولئِكَ الأَكْياسُ ))
[ أخرجه ابن ماجه والحاكم والطبراني ]
(الأَكْياسُ) أي الأذكياء، أحد علماء دمشق اشترى قبراً قبل موته بخمس سنوات، كان يزور مع بعض إخوانه قبره كل يوم خميس، يقول: يا بُنَي هُنا المصير، أحد الصالحين حفر قبراً في بيته، وصار يضطجع فيه كل يوم خميس، ويتلو قوله تعالى:
﴿ حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99 (لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ۚ كَلَّا ۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ۖ وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)﴾
فيخُاطب نفسه ويقول: قومي لقد أرجعناكِ، تفضلي، سيدنا علي له كلام طيب من الرقائق قال:
<<أيُّها الناس اتقوا الله الذي إن قلتم سمِع، وأن أضمرتم عَلِم، وبادروا الموت الذي إن هربتم منه أدرككم، وإن قمتم أخَذَكم، ليس قبل الموت إلا والموت أشدُّ منه، وليس بعد الموت شيء إلا والموت أيسر منه>> .
الانتقال للدار الآخرة أخطر حدث في حياة الإنسان:
إخوانَّا الكرام: بالمناسبة معظم الناس يعيشون الماضي، يقول لك كنت وكنت، خاصةً المُتقاعدين ما عنده حديث ثانٍ، يقول: كنت رئيس دائرة، عملت كذا، فعلت كذا، وهناك أُناسٌ يعيشون الحاضر، هؤلاء أكثر ذكاءً، أمّا هناك أشخاصٌ أذكياءٌ جداً يعيشون المستقبل، أخطر حدث في المستقبل، أخطر حدث الانتقال للدار الآخرة، حينما أرى جنازةً خُتِمَ عمله لا يوجد حلٌّ ثالث، هناك خياران لا ثالث لهما.
(( المؤمنُ بين مخافتيْنِ بين أجلٍ قد مضى لا يدري ما اللهُ صانعٌ فيه، وبين أجلٍ قد بقيَ لا يدري ما اللهُ قاضٍ فيه، فليتزوَّدِ العبدُ من نفسِه لنفسِه، ومن دنياه لآخرتِه، ومن حياتِه لموتِه، ومن شبابِه لهرمِه، فإنَّ الدنيا خُلِقَتْ لكم وأنتم خُلقتم للآخرةِ، والذي نفسي بيدِه ما بعد الموتِ من مستعتبٍ ولا بعد الدنيا من دارٍ إلا الجنةُ أو النارُ ))
[ أخرجه ابن أبي الدنيا في قصر الأمل والبيهقي في شعب الإيمان ]
الذي في هذا النعش أمام خيارين، الإنسان حينما يولد أمام مليون خيار، إذا جاءه الموت أمام خيارين: إمّا إلى جنةٍ يدوم نعيمها أو إلى نارٍ لا ينفَذ عذابها.
قال بعضهم: "السعيد لا يركن إلى الخُدَع ولا يغتر بالطمع" ، وقال بعضهم: "إن بقاءك إلى فناء" ، الإنسان مكانته، هيمنته، ذكاءه، ألمعيته، أعوانه، أتباعه، كل هذا الكم من الإنجاز منوطٌ بقُطر شريانه التاجي، فإذا أُغلِق وضِعت النعوةُ على الجُدران، كل هذه المكانة منوطةٌ بنبض القلب، فإذا توقف القلب كل أملاكه لغيره، كل هذه المكانة بنمو الخلايا، فإذا نمَتْ نموُّاً عشوائياً انتهى، الإنسان بثانيةٍ يموت، بثانيةٍ يُغادر الدنيا.
إن بقاءك إلى فناء، وفناءك إلى بقاء، بقاؤك في الدنيا إلى فناء، وفناؤك بعد الدنيا إلى بقاءٍ أبدي، فخُذ من فنائك الذي لا يبقى إلى بقائك الذي لا يفنى.
عادات المؤمن عبادات وعبادات المنافق سيئات:
أيُّها الإخوة: مرةً ألقيت خُطبةً تقريباً منذ اثنتي عشرة سنة عنوانها ماذا بعد؟ جمعنا أموالاً طائلة ماذا بعد؟ القبر، بلغنا إلى أعلى منصب ماذا بعد؟ القبر، أنجبنا أولاداً نُجباء ماذا بعد؟ القبر، استمتعنا بالحياة ماذا بعد؟
تصوَّر سباق أول مركبة تسقط في حفرةٍ عميقة مالها من قرار، والثانية تسقط، بأي موقعٍ أنت، بأي مكانة، بأي حجم، بأي ثروة، بأي منصب، الموت مصير كل حي، الأنبياء ماتوا، الأقوياء ماتوا، لذلك ماذا بعد؟ دائماً فكِّر ماذا بعد أن أصل إلى هذا الهدف؟ سيدنا عُمر بن عبد العزيز قال: "تاقت نفسي إلى الإمارة فلمّا بلغتها تاقت نفسي إلى الخلافة، فلمّا بلغتها تاقت نفسي إلى الجنَّة" .
ما شاء الله طموح، أنت ممكن أن يكون لك تجارةٌ عريضة وإنجازٌ ضخم، لكن هذا موظفٌ للآخرة، إن كان للآخرة فاشتغل في الدنيا قدر ما تستطيع، لأنَّ حجمك عند الله بحجم عملك الصالح.
إخوانَّا الكرام: المؤمن عاداته عبادات، اشترى سيارةً أخذ أهله نُزهةً، أنا موقنٌ بهذا الشيء، عاداته اليومية التي يفعلها كل الناس هي للمؤمن عبادات، وعبادات المنافق سيئات، قال بعضهم: أقلِل من الدنيا تعش حُرَّاً، الآن استغنِ عن الرجُل تكن نظيره، أحسِن إليه تكن أميره، احتَج إليه تكن أسيره، أي شخصٍ أمامك تستغني عنه نظيره، تُحسِن إليه أنت أميره، تحتاجه أنت أسيره، بإمكانك أن تُحدِّد موقع الذي أمامك، إمّا أن تكون له أميراً، أو نظيراً، أو أسيراً، هذه من المرقِّقات.
مثلاً ما مضى فات والمؤمَّل غيب، الماضي مضى، الماضي لا يُسترجَع، والمُستقبل ليس بيدك، ولك الساعة التي أنت فيها، ما مضى فات والمؤمَّل غيب ولك الساعة التي أنت فيها.
هناك قولٌ آخر: هنالك خمسة أيام، يومٌ مفقود الماضي، ويومٌ مشهود، ويومٌ مورود الموت، ويومٌ موعود القيامة، ويومٌ ممدود إلى أبد الآبدين، أخطر هذه الأيام اليوم المشهود.
(( وَرُوِيَ عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: هَلَكَ الْمُسَوِّفُونَ ))
[ تنبيه الغافلين للسمرقندي ]
تريد أن تتوب تُب الآن، قال بعض الصحابة الكرام: "نبِّه بالتفكُّر قلبك، وجافِ عن النوم جنبك، واتقِ الله ربك" .
وقال سيدنا عُمر: "ارضَ بالقوت وخَف من الفَوت" .
وقال بعض العلماء: "ما رأيت يقيناً لاشكَّ فيه - كالموت - أشبه بشكٍ لا يقين فيه" كالحياة الدنيا.
أندَم الناس يوم القيامة رجُلٌ دخل ورثته بماله الجنَّة ودخل هو بماله النار:
إخوانَّا الكرام: نحن ألِفنا بحياتنا جميعاً أن نَعُدّ أعمارنا عدَّاً تصاعدياً، يقول: أنا عمري ثلاثة وستون عاماً، سبعة وستون، سبعون، خمسة وثمانون، أحياناً الإنسان يفتخر أنَّ عُمره مديد، لكن ينبغي أن تُعدّه عدَّاً تنازلياً، أن تقول كم بقي لي؟ شخصٌ وصل للأربعين يقول لك: أنا عمري أربعون سنة، كيف مضت؟ يقول لك: كلمح البصر، إذا مضت الأربعون كلمح البصر، ولو عشت أربعين قادمة سوف تمضي كلمح البصر فماذا تبحث؟ ماذا تهدف؟ ماذا تعمل؟
وقد قيل: السعيد من اعتبر بأمسه والشقي من جمع لغيره، أندَم الناس رجُلٌ عاش فقيراً ليموت غنياً، أندَم الناس رجُلٌ دخل ورثته بماله الجنَّة ودخل هو بماله النار.
(( ما من بَيْتٍ إِلا ومَلَكُ المَوْتِ يَقِفُ على بابِه كلَّ يومٍ خَمْسَ مراتٍ فإذا وجد الإنسانَ قَدْ نَفِدَ أَكْلُهُ وانْقَطَعَ أَجَلُهُ أَلْقَى عليه غَمَّ المَوْتِ فَغَشِيَتْهُ كُرُباتُهُ وغَمَرَتْهُ سَكَرَاتُهُ فمِنْ أهلِ بَيْتِهِ النَّاشِرَةُ شَعَرَهَا والضَّارِبَةُ وجْهَهَا والباكِيَةُ لِشَجْوِهَا والصارِخَةُ بِوَيْلِهَا فَيَقُولُ ملَكُ الموتِ عليْه السلامُ ويْلُكُمْ مِمَّ الفَزَعُ؟ وفِيمَ الجَزَعُ؟ واللهِ ما أَذْهَبْتُ لِوَاحِدٍ مِنْكُمْ رِزْقًا ولا قَرَّبْتُ لَهُ أَجَلا ولا أَتَيْتُهُ حتى أُمِرْتُ ولا قَبَضْتُ رُوحَهُ حتى اسْتَأْمَرْتُ وإِنَّ لِي فِيكُمْ عَوْدَةً ثمَّ عَوْدَةً حتَّى لا أُبْقِيَ مِنْكُمْ أَحَدًا قال النبيُّ صَلَّى اللهُ عليْه وسَلَّمَ فَوَالَّذِي نَفْسُ محمدٍ بيدِه لو يرَوْنَ مكانَهُ ويسْمَعُونَ كلامَهُ لَذَهِلُوا عن مَيِّتِهِمْ ولَبَكَوْا على نُفُوسِهِمْ حتى إِذَا حُمِلَ المَيِّتِ على نَعْشِهِ رَفْرَفَتْ رُوحُهُ فَوْقَ النَّعْشِ وهُوَ يُنَادِي بِأَعْلَى صَوْتٍ يا أهلِي ويا ولَدِي لا تَلْعَبَنَّ بِكُمُ الدنيا كَمَا لَعِبَتْ بِي ولا تَغُرَّنَّكُمْ كما غَرَّتْنِي جمعتُ المالَ من حِلِّهِ ومن غيرِ حِلِّهِ ثمَّ خَلَّفْتُهُ لِغَيْرِي فَالمَهْنَأَةُ لهُ والتَّبِعَةُ عَلَيَّ فَاحْذَرُوا مثلَ ما حلَّ بِي ))
[ أخرجه ابن ودعان في الأربعون الودعانية ]
بعضهم قال: "رتعنا في الدنيا جاهلين، وعشنا فيها غافلين، وأُخرِجنا منها كارهين" .
والله أعرف رجلاً بعيداً عن الالتزام بُعد الأرض عن السماء، يميل إلى النساء ميلاً غير طبيعي، تزوره مغنياتٌ في بيته، أُصيب بمرضٍ عُضال وهو في الأربعين، وتجارته رابحة جداً، ودخله كبير، وعنده مرحٌ عجيب، هو قريب أحد إخواني يُحدِّثني عنه كثيراً، هذا المرض ما أخبروه به ظنَّ أنه مرضٌ عارض، فلمّا عَلِم بأنه مصابٌ بمرضٍ عُضال، أصبحت تأتيه تشنجاتٌ نوبية، يقول لا أُريد أن أموت، فلمّا جاء مَلَك الموت يُقسِم بالله العظيم أهل البناء، أنه صاح صيحةً لم يبقَ بالأربعة طوابق أحد إلا سمعها، ما الموت؟
إخوانَّا الكرام: الموت عندنا فكرة الآن، الله يُتمّ فضله عليكم بالصحة، لكن الموت عندما يأتي حقيقةً شيءٌ مُخيف، إنسان مُفرِط في طاعته جاءته أزمةٌ قلبية، وضعوه في المستشفى بالعناية المُشدَّدة، يقول يخاطب ربّه: يا ربّ ألقاك وأنا عارٍ، ما عنده ولا عمل صالح، يا ربّ امهلنِ، أمهله الله عزَّ وجل، تابع الدروس في المساجد، قال لي: مرةً ناجيت ربّي قلت يا ربّي كل هذه السعادة بمعرفتك، لِمَ لمْ تُرسل لي هذه الأزمة منذ عشر سنوات؟ كل هذه السعادة بمعرفتك، هذا الإنسان غير منتبه لنفسه، هذا العمر محسوب، أنت بِضعةُ أيامٍ كلما انقضى يومٌ انقضى بِضعٌ منك، لو أنك نظرت للساعة حركة عقرب الثواني، كلما تحرك حركةً نقص عمرك، الإنسان بِضعة أيامٍ كلما انقضى يومٌ انقضى بِضعٌ منه.
المبادرة إلى الأعمال الصالحة لأن الموت نهاية كل إنسان:
إخوانَّا الكرام: حديثٌ أرويه كثيراً:
(( بادِروا بالأعمالِ سبعًا: هل تنتظرون إلَّا فقرًا مُنسِيًا، أو غنًى مُطغِيًا، أو مرضًا مُفسِدًا، أو هِرَمًا مُفنِّدًا أو موتًا مُجهِزًا، أو الدَّجَّالَ، فشرٌّ غائبٌ يُنتَظرُ، أو السَّاعةُ فالسَّاعةُ أدهَى وأمرُّ ))
[ أخرجه الترمذي وابن أبي الدنيا في قصر الأمل والعقيلي في الضعفاء الكبير ]
هناك سبعة أشياءٍ هل من الممكن لشخصٍ أن ينجو منها؟ مستحيل (هل تنتظرون إلَّا فقرًا مُنسِيًا) ؟ والعياذ بالله
(( كادَ الفقرُ أن يَكونَ كُفرًا وَكادَ الحسدُ أن يسبِقَ القدرَ ))
[ أخرجه ابن أبي الدنيا في إصلاح المال والعقيلي في الضعفاء الكبير والطبراني في المعجم الأوسط ]
يكون وكيل شركة، تُسحب منه الشركة وعليه ديونٌ والتزامات، والمُنافس باع بسعرٍ أقل ففلَّس، كان غنياً فأصبح فقيراً، هذا فقراً مُنسياً (أو غنًى مُطغِيًا) ؟ شخصٌ من هذه البلدة وله زوجةٌ محجبة، سافر لبلدٍ والله رزقه ثروةً طائلةً جداً، تتصل به زوجته قال لها: إن لم تأتِ إليّ بالبنطال لا أقبلك، وهي مُحجبة ترتدي معطفاً، وتكلم كلاماً آخر قبيحاً لا أستقبلك كزوجة، هذا الغنى المُطغي، بعد أن اغتنى يُحب المعصية.
(هل تنتظرون إلَّا فقرًا مُنسِيًا، أو غنًى مُطغِيًا، أو مرضًا مُفسِدًا) ؟ هناك مرضٌ يا إخوان يجعل حياة الإنسان جحيماً لا يُطاق، اسألوا الله العافية، اسألوا الله دوام العافية وتمام العافية، إنّا نعوذ بك من عُضال الداء ومن شماتة الأعداء ومن السلب بعد العطاء.
(أو هِرَمًا مُفنِّدًا) يعيد القصة مئة مرة، يكرهه أولاده، يصبح حشرياً، ظله ثقيل، يتمنّى مَن حوله أن يموت (أو هِرَمًا مُفنِّدًا أو موتًا مُجهِزًا، أو الدَّجَّالَ، فشرٌّ غائبٌ يُنتَظرُ، أو السَّاعةُ فالسَّاعةُ أدهَى وأمرُّ) .
العاقل من طلب الآخرة و رفض الدنيا:
أيُّها الإخوة الكرام: هناك قولٌ رائعٌ جداً قال تعالى:
﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)﴾
مَن هُم؟ بعض العلماء شرح مَن هُم، قال: الذين نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها، فكِّر بالقبر تحت الأرض، الناس همّهم البيوت، أربعمئة متر، له إطلالة، ثمنه، الناس ينظرون إلى ظاهر الدنيا ما فوق الأرض، هو بأوج شبابه نظر إلى باطنها، الذين نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها، ونظروا إلى آجل الدنيا حين نظر الناس إلى عاجلها، فأماتوا منها ما خَشوا أن يُميت قلوبهم، وتركوا منها ما أيقنوا أنه سيتركهم، فقال سيدنا عُمر تعقيباً على هذه الآية: "إذا رأيتم طالب الآخرة فنافسوه فيها، وإذا رأيتم طالب الدنيا فارفضوها في نحره" .
سيدنا أبو الدرداء يُخاطب أهل الشام يقول: "يا أهل الشام اسمعوا قول أخٍ ناصح: مالي أراكم تبنون ما لا تسكنون، وتجمعون ما لا تأكلون، إن الذين كانوا قبلكم بنوا فشيَّدوا، وأمَّلوا بعيداً، وجمعوا كثيراً، فأصبح أملهم غروراً، وجمعهم ثبوراً، ومساكنهم قبوراً" .
الشحن اليومي أساسي لكل إنسان كي يحيا قلبه:
أيُّها الإخوة: هذه بعض الرقائق التي لعلَّ القلب يرق لها، فالإنسان عندما ينشحن يومياً، أنت أيُّها المؤمن أنا متأكد من هذا التطابق، أنت كالهاتف المحمول إنجازٌ كبيرٌ جداً لكنه يحتاج إلى شحن، إن لم تشحنه انطفأت الشاشة وسكت، ما عاد هاتفاً بقي صامتاً، بقي أخرساً مظلماً، لابُدَّ من الشحن، هناك شحنٌ يومي خمس صلوات، شحنٌ أسبوعي صلاة الجمعة، شحنٌ سنوي رمضان ثلاثين يوماً، وشحن العُمر الحج، هذا شحن فما لم نشحن أنفسنا تمُت قلوبنا.
أيُّها الإخوة الكرام: حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أنَّ مَلَك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا وسيتخطَّى غيرنا إلينا، فلنتخذ حِذرنا، الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني، والحمد لله ربِّ العالمين.
الحمد لله ربِّ العالمين، وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وليُّ الصالحين، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً عبده ورسوله صاحب الخُلُق العظيم.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
علاقة كل إنسان مع المولى سبحانه فعليه أن يتعلَّق بمَن مصيره إليه:
أيُّها الإخوة: لذلك بناءً على هذا الموضوع، أمر النبي عليه الصلاة والسلام أن نُكثِر من هادِم اللذات، مُفرِّق الأحباب، مُشتِّت الجماعات.
(( أتاني جبريلُ عليه السَّلامُ فقال: يا محمَّدُ عِشْ ما شئتَ فإنَّك ميِّتٌ، وأحبِبْ من شئتَ فإنَّك مفارقُه، واعمَلْ ما شئتَ فإنَّك مجزِيٌّ به، ثمَّ قال: يا محمَّدُ شرفُ المؤمنِ قيامُه باللَّيلِ، وعِزُّه استغناؤُه عن النَّاسِ ))
[ أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط والحاكم ]
تعلَّق بالحي الذي لا يموت، أمّا إذا تعلَّقت بالحي الذي يموت لابُدَّ من أن تتركه أو أن يتركك، ما سوى الله تتركه أو يتركك، تعلَّق بالحي الذي لا يموت، تعلَّق مع الأزلي الأبدي، تعلَّق مع من بيده الجنَّةُ والنار، تعلَّق مع مَن مصيرك إليه.
﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)﴾
يا أيُّها الإخوة: هناك موظفون أذكياءٌ جداً، يشعرون أنَّ الوزارة سوف تستقيل، يحاول أن يستوضح مَن الوزير القادم لهذه الوزارة؟ حتى يُنشئ معه علاقات طيبة قبل أن يصبح وزيراً، يزوره ويُقدِّم له الهَدايا، فعندما يصبح وزيراً يكون مركزه قوي، يُفكِّر لمسافاتٍ بعيدة، أنت بالنهاية علاقتك مع مَن؟ مع الله، (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ) .
بطولتك أن تُقيم علاقة متميزة بشكلٍ خاص مع مَن مصيرك إليه، الله عزَّ وجل رحيم ومنهجه حكيمٌ وواقعي، وضمن استطاعتك ما كلَّفك فوق ما تُطيق.
﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)﴾
اللهم اهدِنا فيمَن هديت، وعافِنا فيمَن عافيت، وتولنا فيمَن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقِنا واصرِف عنّا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت، تباركت ربّنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت.
اللهم أصلِح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلِح لنا آخرتنا التي إليها مردُّنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر، مولانا ربّ العالمين.
اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمَّن سواك.
اللهم لا تؤمِنّا مكرك ولا تهتِك عنّا سترك ولا تُنسنا ذِكرك يا ربَّ العالمين.
اللهم بفضلك ورحمتك أعلِّ كلمة الحق والدين، وانصُر الإسلام وأعز المسلمين، وخُذ بيد ولاتهم إلى ما تُحب وترضى، إنك على ما تشاء قدير وبالإجابة جدير.
الملف مدقق
والحمد لله ربِّ العالمين.