وضع داكن
28-03-2024
Logo
الدرس : 10 - سورة التوبة - تفسير الآية 7 ، الإيمان هو خلقٌ حسن.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.


التلازم الحتمي بين التدين الصحيح والخلق القويم :


 أيها الإخوة الكرام، مع الدرس العاشر من دروس سورة التوبة، ومع الآية السابعة وهي قوله تعالى:

﴿  كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ(7)﴾

[ سورة التوبة  ]

 أيها الإخوة الكرام، بادئ ذي بدء: إن هناك تلازماً ضرورياً حتمياً بين التدين الصحيح والخُلق القويم، فقد حدد النبي -صلى الله عليه وسلم- الغاية الأولى من بعثته، والمنهج الأول لدعوته، فقال عليه الصلاة والسلام:

((  إنما بعثت معلماً  ))

[  أخرجه ابن ماجه عن ابن عمرو ]

((  إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق  ))

[ أخرجه البزار عن أبي هريرة  ]

 النبي -عليه الصلاة والسلام- ضغط دعوته كلها بالأخلاق. 


قضية الأخلاق تحتل مركز الصدارة في هذا الدين :


 النبي -صلى الله عليه وسلم- له آلاف الخصائص، فلما أراد الله أن يمدحه بماذا مدحه؟ بالخلق القويم:

﴿  وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ(3)﴾

[  سورة القلم ]

 إذاً: قضية الأخلاق تحتل مركز الصدارة في هذا الدين، ترك دانق من حرام خير من ثمانين حجة بعد حجة الإسلام،  ابن عباس -رضي الله عنه- كان معتكفاً في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأى رجلاً كئيباً، فقال له: ما لي أراك كئيباً؟ قال: ديون لزمتني ما أطيق سدادها، فقال ابن عباس: لمن؟ قال له: لفلان، فقال: أتحب أن أكلمه لك؟ قال: إذا شئت، فخرج ابن عباس من معتكفه، قال له إنسان: يا بن عباس أنسيت أنك معتكف؟ قال: لا والله! ولكني سمعت صاحب هذا القبر ـ وأشار إلى النبي الكريم ـ والعهد به قريب، وبكى يقول:

((  والله لأن أمشي مع أخ في حاجته خير لي من صيام شهر، واعتكافه في مسجدي هذا  ))

[  الجامع الصغير عن ابن عباس ]

(( أنَّه كان معتكِفًا في مسجدِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ، فأتاه رجلٌ فسلَّم عليه ، ثمَّ جلس ، فقال له ابنُ عبَّاس ٍ : يا فلانُ ، أراك كئيبًا حزينًا ، قال : نِعمَ ابنُ عمِّ رسولِ اللهِ ، لفلانٍ عليَّ حقٌّ ، لا وحُرمةِ صاحبِ هذا القبرِ ما أقدِرُ عليه ، قال ابنُ عبَّاس ٍ : أفلا أكلِّمُه فيك ؟ قال : إن أحببتَ ، قال : فانتعل ابنُ عبَّاس ٍ ثمَّ خرج من المسجدِ ، فقال له الرَّجلُ : أنسيتَ ما كنتَ فيه ؟ قال : لا ، ولكنِّي سمِعتُ صاحبَ هذا القبرِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والعهدُ به قريبٌ - فدمِعت عيناه - وهو يقولُ : من مشَى في حاجةِ أخيه وبلغ فيها كان خيرًا من اعتكافِ عشرِ سنين ، ومن اعتكف يومًا ابتغاءَ وجهِ اللهِ تعالَى جعل اللهُ بينه وبين النَّارِ ثلاثةَ خنادقَ أبعدَ ما بين الخافِقَيْن ))

[ البيهقي عن عبد الله بن عباس وفيه ضعف ]

ترك دانق من حرام خير من ثمانين حجة بعد حجة الإسلام (لأن أمشي مع أخ في حاجته خير لي من صيام شهر، واعتكافه في مسجدي هذا) إذاً أكبر حيز، وأكبر مساحة في هذا الدين، مساحة الخلق. 


الإنسان موقف أخلاقي :


 لذلك: (إنما بعثت معلماً) (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) وكلمة لأتمم فيها ملمح دقيق جداً، ذلك لأن العرب قبل الإسلام كانوا على بعض القيم الأخلاقية، كانت عندهم الشجاعة، والبذل، والتضحية.

 بعضهم يركب فرساً، رأى رجلاً في أيام الحر الشديدة ينتعل رمال الصحراء، دعاه لركوب الخيل، فلما اعتلى ظهر الخيل وراءه، دفع صاحبها إلى الأرض، وعدا بالخيل لا يلوي بها على شيء، قال له صاحب الخيل: يا هذا! لقد وهبت لك هذا الفرس، ولن أسأل عنها بعد اليوم، ولكن إياك أن يشيع هذا الخبر في الصحراء، فتفقد الصحراء أجمل ما فيها، المروءة.

 والله أيها الإخوة، هناك قصص بتاريخنا الإسلامي تبدو متألقة لمئات السنين، الإنسان في النهاية موقف أخلاقي، لذلك: (إنما بعثت معلماً) (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)


الإنسان على أحد طريقين إما أن يستجيب لله ولرسوله أو أنه على طريق الهوى :


 الشواهد:

﴿  أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ(1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ(2)﴾

[  سورة الماعون ]

 انظر إلى الربط، الربط بين التدين الصحيح والخلق القويم، وبين التكذيب بالدين وبين الإساءة إلى اليتيم ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ﴾ هو هو﴿فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ﴾

﴿ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ۚ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) ﴾

[  سورة القصص  ]

 أي أنت على أحد طريقين، إما أن تستجيب لله ولرسوله، أو أنك على طريق الهوى، وليس هناك طريق ثالث، إما أن تستجيب لله ولرسوله، أو أنك تتبع الهوى ﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ﴾ هذا قرآن. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن قال:

(( لا إيمانَ لمن لا أمانةَ له ، ولا دينَ لمن لا عهدَ له ))

[ أخرجه أبو يعلى والطبراني عن أنس بن مالك ]

 لا إيمان، نفى عنه الإيمان كلياً لمن لا أمانة له (ولا دين لمن لا عهد له) إذا كان هناك مؤشر يتحرك بحسب مرتبة الإيمان، وهناك مؤشر آخر يتحرك بحسب القيم الأخلاقية، العقربان يتحركان معاً، فأنت أخلاقي بقدر ما أنت مؤمن، وأنت مؤمن بقدر ما أنت أخلاقي، لذلك الإيمان هو الخلق، فمن زاد عليك في الخلق، زاد عليك في الإيمان، لأن الآية اليوم: ﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ﴾ ما دام قد أشرك، ما دام قد ابتعد عن الله، أنّى لهذا الإنسان أن يفي بوعده؟ أنى له؟ ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ﴾


الإيمان أساس الفضائل ولجام الرذائل :


 أيها الإخوة، وفي حديث صحيح آخر أخرجه الحاكم: 

(( الحياء والإيمان قرنا جميعاً فإذا رفع أحدهما رفع الآخر  ))

[  الحاكم عن عبد الله بن عمر  ]

 لذلك قيل: الإيمان أساس الفضائل، ولجام الرذائل، وقوام الضمائر، وصدق ولا أبالغ وأدعوك إلى أن تصدق أنه لا خلق إلا من خلال الدين، وقد يقول أحدكم: ما بال بعض الناس الذين لا دين لهم يتخلقون بأخلاق رائعة؟ هذه أخلاق الأذكياء، العمل العبادي الرائع يلتقي مع العمل الذكي في النتائج، ويختلف عنه في البواعث، مثال:

 إنسان ذكي جداً، ومثقف ثقافة عالية جداً، سلمناه إدارة مشروع، وراقبناه، قد نفاجأ أنه مستقيم، وقد نفاجأ أنه حكيم، وقد نُفاجأ أنه عادل، فإذا جاء إنسان مؤمن، مؤمن إيماناً كبيراً وسلمناه، هناك مفاجأة مؤلمة، أيضاً الثاني جيد، الأول جيد، والثاني جيد، الأول أخلاقه أخلاق الأذكياء، يقطفون ثمارها في الدنيا فقط:

﴿ فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ۗ فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200)﴾

[  سورة البقرة  ]

 وأنا والله أتصور أن كل الإيجابيات في الغرب إسلامية، لأنهم يعبدون المال من دون الله، تقتضي مصلحتهم أن يكونوا أخلاقيين، صادقين، متقنين، لكن إذا هُددت مصالحهم ينقلبون إلى وحوش. 


خلاص العالم في الإسلام بشرط أن يحسن المسلمون فهم دينهم وتطبيقه :


 أقول لكم بكل دقة: إن صحّ أن هناك سطحاً للمبادئ والقيم في الأرض، يعني هناك سطح، الأرض ستة آلاف مليون، مختلف الأديان، والاتجاهات، والمعتقدات، والطروحات التي جمعنا عقائدها، ما الذي كان على سطح هذا المكتب؟ الإسلام، الغرب، الشرق، الشرق سابقاً آمن بالمجموع ولم يعبأ بالفرد، والغرب آمن بالفرد ولم يعبأ بالمجموع، ملخص الملخص والإسلام دين الله، ما الذي حصل؟ أن الشرق تداعى من الداخل، ماذا بقي على هذا السطح؟ الغرب والإسلام، أليس كذلك؟ الغرب -وكلام موضوعي- غني جداً، وذكي جداً، وقوي جداً، وطرح قيماً رائعة جداً، طرح قيمة الحرية، وطرح قيمة حقوق الإنسان، وطرح تكافؤ الفرص، وطرح حق التقاضي، وطرح، وطرح، هذه القيم الغربية، بهذه القيم مع قوته، وغناه، وذكائه جذب أبصار أهل الأرض، فصار الذي معه بطاقة خضراء يدخل بها إلى بلاد بعيدة كأنه دخل إلى الجنة.

 مرة كنت بالعمرة، فراكب بسيارة، قال إنسان للآخر: الله يطعمها لكل مشتهٍ، هذه عوض عن مكة أصبحت أمريكا.

فالغرب خطف أبصار أهل الأرض، بلاد جميلة، قوة، ذكاء، علم، حرية، ديمقراطية، حقوق الإنسان، حقوق الحيوان، ما الذي حدث بعد الحادي عشر من أيلول؟ كان الغرب حضارة سامقة فأصبح قوة غاشمة، أليس كذلك؟ والله الذي لا إله إلا هو كان قلة قليلة جداً من كبار المثقفين يعرفون حقيقة الغرب، أما الآن والله أطفالنا يعرفون ذلك، الذي جرى في هذه البلاد الإسلامية التي احتلت من قبلهم، الجرائم، القتل العشوائي، التدمير، هذا هو الغرب، فالغرب بعد الحادي عشر من أيلول كان حضارة سامقة فأصبح قوة غاشمة، ما الذي بقي على هذا السطح؟ الإسلام وحده.

 لذلك قال أحد أكبر علماء الغرب وهو مقيم في أمريكا: أنا لا أصدق أن يستطيع العالم الإسلامي اللحاق بالغرب، على الأقل في المدى المنظور لاتساع الهوّة بينهما، ولكنني مؤمن أشد الإيمان أن العالم كله سيركع أمام أقدام المسلمين، قال: لا لأنهم أقوياء، ولكن لأن خلاص العالم بالإسلام، لكن بشرط، وهذا الشرط هو ورقة العمل بين أيدينا، أن يحسن المسلمون فهم دينهم، أن يحسنوا تطبيقه، أن يحسنوا عرضه على الطرف الآخر.


الخط البياني للإسلام في صعود والعالم كله يتطلع إلى الإسلام :


 فلذلك أيها الإخوة، يعني مثلاً انهيار النظام العالمي المالي العملاق، جرعة منعشة من الله -عز وجل- ليبين لنا أن الحق ما جاء به هذا الدين.

﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)﴾

[  سورة البقرة  ]

 مئات البنوك أعلنت إفلاسها ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا﴾ انتصار عشرة آلاف مقاتلاً في غزة على الجيش الرابع في العالم، على الجيش الأول في المنطقة، على الجيش الأول في الأسلحة، لاثنين و عشرين يوماً لم يستطع أن يحقق شيئاً، جرعة منعشة ثانية.

إخواننا الكرام، الله -عز وجل- رحمة بنا يبدو أن تتالي النكبات أدخلتنا في نفق اليأس، والإحباط، والطريق المسدود، فشاءت حكمة الله أن ينعشنا بهذه الجرعات المنعشة، لذلك الخط البياني للإسلام في صعود، والعالم كله يتطلع إلى الإسلام.

 أنا حضرت مؤتمراً إسلامياً في باريس، عدد الحاضرين مئة وخمسون ألفاً، وكأنك في مدينة إسلامية، والنساء كلهن محجبات، الآن الدين يأخذ أعلى مرتبة، وعلى الإسلام حرب عالمية ثالثة معلنة، كانت غير معلنة، الآن معلنة، حرب عالمية ثالثة معلنة على الإسلام، ومع ذلك الدين الأول الذي ينمو في العالم هو الإسلام، في باريس يدخل في الإسلام كل يوم خمسون إنساناً فرنسياً، في أمريكا يدخل كل يوم في الإسلام ثلاثة وثلاثون إنساناً، الإسلام ينمو، وكأن هذا الدين أراد الله -جلّ جلاله- أن يجعله في أعلى درجة، والعالم كله الآن يتطلع إلى الإسلام، الآن هناك دراسات بأعلى مستوى في الجامعات من أجل أن يحل المصرف الإسلامي في التراب الأوروبي محل المصارف الربوية، سبحان الله!، أي شيء يقع لصالح هذا الدين، أي شيء يقع يؤكد أحقية هذا الدين. 


سلوك الإنسان يدل عليه :


 لذلك النبي -عليه الصلاة والسلام- بينَّ في أحاديثه الصحيحة لأن الآية: ﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ﴾ كيف: تعجبية، إنسان أميّ مثلاً كيف يؤلف كتاباً وهو لا يقرأ ولا يكتب؟ هناك حالة تعجب ﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ﴾ كيف؟ (الحياء والإيمان قرنا جميعاً) ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ﴾ هناك آية دقيقة:

﴿  أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى(9) عَبْداً إِذَا صَلَّى(10)﴾

[  سورة العلق ]

 أين التتمة؟ مضمرة، أي هذا الذي ينهى عبداً إذا صلى دعك من أفكاره، انظر إلى سلوكه، يكذب، يحتال، يبالغ في الكبر ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْداً إِذَا صَلَّى﴾  

﴿ أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى(11)  ﴾

[  سورة العلق ]

 دعك من كلام المؤمن، ومن كلام غير المؤمن، انظر إلى السلوك، هذا صادق، هذا كاذب، هذا أمين، هذا ليس أميناً، هذا متواضع، هذا متكبر، الشيء واضح تماماً.

 فلذلك أيها الإخوة، هناك أحاديث صحيحة دقيقة جداً، يقول عليه الصلاة والسلام:

((  وإن أحسن الناس إسلاماً أحسنهم خلقاً  ))

[ أخرجه أبو يعلى والطبراني عن جابر بن سمرة ]

أول حديث.

((  إن أكمل الناس إيماناً أحسنهم خلقاً  ))

[ أخرجه البزار عن أنس بن مالك ]

(( من أحب الناس إلى الله يا رسول الله؟ فقال: أحب الناس إلى الله أحسنهم خلقاً  ))

[ أخرجه الطبراني عن أسامة بن شريك ]

 أصبحوا ثلاثة، وإن من أقرب المؤمنين مجلساً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة أحسنهم خلقاً:

(( إنَّ مِن أحبِّكم إليَّ وأقربِكُم منِّي مجلسًا يومَ القيامةِ أحاسنَكُم أخلاقًا ))

[ صحيح الترمذي عن جابر بن عبد الله ]

((  ما خير ما أعطي الناس؟ قال: خلق حسن  ))

[ أخرجه الحاكم عن أسامة بن شريك ]

((  إِنَّ المؤمنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ القَائِمِ  ))

[ أخرجه أبو داود عن عائشة أم المؤمنين ]

(( إن العبد ليبلغ بحسن خلقه عظيم درجات الآخرة  ))

[ أخرجه الطبراني عن أنس بن مالك وخو ضعيف ]

 كلها أحاديث في أعلى مستوى من الصحة.

((  الخلق الحسن يذيب الخطايا كما يذيب الماء الجليد، والخلق السوء يفسد العمل كما يفسد الخل العسل.  ))

[ أخرجه الطبراني عن عبد الله بن عباس وهو ضعيف ]


أعظم المسلمين قرباً من رسول الله من ضاقت المسافة بين سلوكهم ومبادئ هذا الدين :


 تحتل القيم الأخلاقية في هذا الدين أكبر مساحة، وملخص الملخص: الإيمان هو الخلق فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الإيمان، ويكفي أن الله -سبحانه وتعالى- أعطى نبيه مئات الخصائص التي ينفرد بها، فلما أراد أن يثني عليه أثنى على خلقه العظيم ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ .

 أيها الإخوة، أقول لكم: إن أعظم المسلمين قرباً من رسول الله أولئك الذين ضاقت المسافة بين سلوكهم وبين مبادئ هذا الدين، لا تقيّم نفسك بمعلوماتك، لا تقيّم نفسك بحفظك، لا تقيّم نفسك بخصائصك، بمكتبتك، قيّم نفسك باستقامتك، وبأخلاقك، هذا المقياس الأول، وقد أكده الله -عز وجل- للنبي الكريم، بل إن ابن القيم رحمه الله يقول : الإيمان هو الخلق فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الإيمان . 


المؤمن ينتظر وعد الله ولا يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل :


 أيها الإخوة، إن الذين نكنّ لهم عظيم الاحترام، ليسوا أولئك الذين يملكون كثيراً من المال، وليسوا أولئك الذين يملكون الدهاء والمكر، وليسوا أولئك الذين يملكون القوة الجسدية الخارقة، وليسوا أولئك الذين يملكون الرقاب، الأنبياء ملكوا القلوب، والأقوياء ملكوا الرقاب، إنما أولئك الذين يملكون الخلق الكريم، ويترفعون عن سفاسف الأمور، أولئك الذين انتصروا على التحديات داخل نفوسهم، أولئك الذين يملكون قوة الانتظار، من هو المؤمن؟ ينتظر فرج الله، منضبط، متماسك، لا يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل، ينتظر وعد الله.

﴿ أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)﴾

[  سورة القصص  ]

 أولئك الذين يملكون التضحية بالعاجل في سبيل الآجل، أولئك الذين يملكون الإيثار مع مسيس الحاجة، أولئك الذين يملكون القلوب هؤلاء نكنّ لهم عظيم الاحترام. 


طابع الرقي الحقيقي هو طابع أخلاقي :


 أيها الإخوة، إن طابع الرقي الحقيقي هو طابع أخلاقي.

 مرة كنت في لقاء حضره كبار الصناعيين، قال أحدهم كلمة رائعة، قال: حتى في العمل الصناعي، وحتى في العمل التجاري، الأخلاق عماد هذه الأعمال، الشركات العملاقة فيها مبادئ أخلاقية، بالتعامل مع المشتري، مع الموظفين، إن طابع الرقي الحقيقي هو طابع أخلاقي أكثر من أن يكون طابعاً عمرانياً، تنظيمياً، والجاذبية التي تتمتع بها القرون الأولى من تاريخ الإسلام تنبع بشكل أساسي من طابع الاستقامة، والنبل، والتضحية، وليس من التفوق في الحروب، أو العلوم، أو العمران.

 في بدر الرواحل ثلاثمئة، والصحابة ألف، فسيد الخلق وحبيب الحق أعطى أمراً، هو قائد الجيش، وزعيم الأمة، قال: كل ثلاثة على راحلة، وأنا وعلي وأبو لبابة على راحلة، سوّى نفسه مع أقل جندي، ركب الناقة، فلما جاء دوره في المشي توسل صاحباه أن يبقى راكباً فقال: "ما أنتما بأقوى مني على السير، ولا أنا بأغنى منكما عن الأجر"، خُلق، رئيس دولة، زعيم أمة.

(( كنَّا يومَ بَدْرٍ نَتَعاقبُ ثلاثةٌ على بَعيرٍ، فكان عَليٌّ وأبو لُبابةَ زَميلَيْ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فكان إذا كانت عُقْبةُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولانِ له: اركبْ حتَّى نمشيَ، فيقولُ: إنِّي لستُ بأَغْنَى عنِ الأجر منكما، ولا أنتما بأَقْوى على المَشيِ مِنِّي. ))

[ الحاكم عن عبد الله بن مسعود   ]

مرة في سفر، أرادوا أن يذبحوا شاةً، قال أحدهم: عليّ ذبحها، وقال الثاني: عليّ سلخها، وقال الثالث: عليّ طبخها، فقال عليه الصلاة والسلام: وعليّ جمع الحطب، قال: نكفيك ذلك يا رسول الله، قال: لا، أعلم أنكم تكفونني، ولكن الله يكره أن يرى عبده متميزاً على أقرانه ، هذا هو النبي الكريم.

 دخل أعرابي إلى مجلسه، تأمل، قال: أيكم محمد؟ ليس له كرسي؟ ليس له ثياب خاصة؟ الآن بعض رجال الدين منظره صارخ من ألف متر، من ألف متر معروف أنه رجل دين، أيكم محمد؟ هناك روايتان، الأولى قال له: أنا، والثانية قال له صحابي: ذلك الوضيء، معنى هذا أنه كان جالساً بين أصحابه، ليس له أي ميزة، لذلك من رآه بديهة هابه، ومن عامله أحبه.

 لذلك أيها الإخوة، الجاذبية التي تتمتع بها القرون الأولى من تاريخ الإسلام تنبع بشكل أساسي من طابع الاستقامة، والنبل، والتضحية، وليس من التفوق في الحروب، أو العلوم، أو العمران.


مصير الإنسان يتوقف على أمرين؛ علاقته بربه وعلاقته بأخيه الإنسان :


 أيها الإخوة، الآية الكريمة موضوع هذا الدرس:

﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ﴾ هناك تناقض بين أن تكون مؤمناً وبين أن تكون لا أخلاقياً، أو أن تكون لا أخلاقياً وأن تكون مؤمناً، التناسب أن القيم الأخلاقية الأصيلة من صفات المؤمنين، لكن من عامل الناس بذكائه هذا يكسب الدنيا، كما هو الحال عند الغرب، الغرب تفوقوا، لأنهم في الحقيقة بذكائهم طبقوا منهج الإسلام دون أن يشعروا، فقطفوا ثماره في الدنيا، أما المؤمن يقطف ثمار أخلاقه في الدنيا والآخرة.

 أيها الإخوة، دراسة الحضارات الإنسانية توقفنا على حقيقة كبرى، هذه الحقيقة أن مصير الإنسان يتوقف دائماً على أمرين، على علاقته بربه، وعلاقته بأخيه الإنسان، والبعد الروحي والأخلاقي هو المركز والمحور في هاتين العلاقتين، وحينما ينحط الإنسان ينحط المجتمع، ويتحول عن عبادة ربه إلى عبادته لذاته وشهواته، وتَسْود علاقته بالآخرين، تسود هذه العلاقة الرغبة في القوة لا الرحمة، يعني علاقة الناس فيما بينهم القوي يأكل الضعيف، والغني يبتلع الفقير، والقمع مكان التفاهم، والعناية بالجسد لا بالروح، والاهتمام بالمصلحة لا بالمبدأ، في مثل هذه المجتمعات المنحرفة يتحول المجتمع كله إلى غابة، يشعر كل واحد فيها أن من حقه افتراس الآخرين، كما أنه من الممكن أن يكون فريسة لواحد منهم، هذا مجتمع الغاب، نعوذ بالله من مجتمع الغاب. 


العودة إلى الدين الطريق الوحيد السالك إلى الله :


 لذلك أيها الإخوة، الطريق الوحيد السالك إلى الله أن نعود إلى هذا الدين. و قد قيل إذا رجع العبد إلى الله، نادى منادٍ في السماوات والأرض أن هنئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله ﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ﴾ هذا منهج مع الطرف الآخر ﴿فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ يجب أن تكون العلاقة بين المؤمنين وبين غير المؤمنين تحكمها هذه الآية ﴿فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ﴾ وهذا منهج لنا جميعاً، أنت في دائرة، في شركة، في عمل، في حي، لك جار غير مسلم، أو غير مؤمن، فما استقام لك، ينبغي أن تستقيم له، هذا منهجنا في هذا الدرس ﴿فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ ﴾.

والحمد لله رب العالمين

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضِنا وارضَ عنا، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور