وضع داكن
28-04-2024
Logo
مختلفة قطر : 9 - مركز تربية - بالعلم نرقى.
رابط إضافي لمشاهدة الفيديو اضغط هنا
×
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

مقدمة :


بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله الذي نَوَّرَ بالقرآن القُلوب ، وأنزَلَهُ في أَوجَزِ لفظٍ و أَعجَزِ أسلوب ، فأعيَت بلاغته البُلغاء ، و أعجَزَتْ حِكمَتُه الحُكماء . أَحَمدُه سبحانه وهو أهل الحَمدِ و الثَّناء ، وأُصَلّي وأُسَلِّم على رسوله المصطفى ونَبَيِّه المُرتضَى ، مُعَلِّمُ الحِكمة و هادي الأُمَّة صلَّى الله عليه وعلى آله الأبرار وصَحبِه الأخيار ، ما تعاقَبَ الليل و النهار وسلَّم تسليماً كثيراً . 
وبعد ، أيَّها الأُخوة الكِرام نُرَحِّب بكم جميعاً حضورنا الكريم في هذه الأُمسية الطَّيبَة المُبارَكة ، ونُرَحِّب بفضيلة شيخنا الدكتور محمد راتب النابلسي ، بقلوبٍ مِلؤُها المَحبَّة وأفئدةٍ تنبُض بالمَودَّة ، فأهلاً وسهلاً بكم سيدي ، بهذه الأُمسية من أُمسيات معرض الدوحة الدولي للكتاب الواحد والثلاثين .
الدكتور محمد راتب النابلسي غَنَيٌّ عن التَّعريف فهو العالِم الرَّبَّاني الذي أكرَمَهُ الله بما أَكرَمَه به من حُبٍّ و قبَول بين الناس ، فجَعل لكلماتِه الأثر البالِغ في نُفوس المُستمعين ، وهو القائل :

" إذا عَلِم الله منك إخلاصاً فيما تقول ، وتطبيقاً لِمَا تقول ، كتَبَ الله لك القَبول"

وهذا الذي نعرفه منه ، ولا نُزَكِّيه على الله . ومن جُملة ما سَمِعنا منه وتعلَّمنا أيضاً : 

إذا أردت الدنيا فعليكَ بالعِلم ، وإذا أرَدت الآخرة فعليكَ بالعِلم ، و إذا أردتهما معاً فعليكَ بالعِلم 

[ الإمام الشافعي  ]

هذا و قد أكرَمَنا الله في هذه الأُمسية الطَّيبَة لنَستَمِع إلى مُحاضرة قَيَّمةٍ من فضيلته بعنوان : (بالعِلم نرقَى) ، فإلى فضيلته نستَمِعُ ونُنصِت جزاه الله عنَّا كلَّ خير ، وتَقَبَّل الله منه . تفَضَّلوا سيدي . 
 

إرساءُ البِناء الأخلاقي للفرد والمجتمع هو الهدف الأول من دعوة النبي الكريم :


الدكتور محمد راتب النابلسي : 
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله ربِّ العالمين ، والصَّلاة والسَّلام على سيدنا محمد الصَّادق الوعد الأمين ، اللهم لا عِلمَ لنا إلا ما عَلَّمتَنا ، إنَّك أنت العليم الحكيم ، اللهم عَلِّمنا ما ينفَعُنا ، وانفَعنا بمَا عَلَّمتَنا و زِدنا عِلماً ، و أَرِنا الحقَّ حقَّاً وارزُقنا اتَّباعَه ، و أَرِنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتِنابَه ، واجعلنا ممن يَستمِعون القول فيتَّبِعون أحسَنَه ، وأدخِلنا برحَمَتك في عبادك الصالحين . 
بادئ ذي بِدئ ، أشكُر لكم دعوتكم الكريمة التي إن دَلَّت على شيء فعلَى حُسن الظَّن بي ، وأرجو الله أن أكون عند حُسنِ ظَنكِم ، وإن وَجدَتم في محاضرتي هذه ما كنتم تتوقعون فالفَضلُ لله وحده ، و إلا فحَسبُكُم الله ونعم الوكيل . 
بالعِلمِ يُكَرَّمُ المَرء ، وبالجَهل يُهان ، والنبي صلى الله عليه وسلَّم حَدَّد الغاية الأولى من بِعثَتِه ، والمَنهَج الأمثل لدعوته فقال : 

((  إنَّما بُعثتُ مُعَلِّمَاً إنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكارمَ الأخلاقِ  ))

[  الألباني  ]

فالهدف الأول من دعوته صلى الله عليه وسلم هو إرساءُ البِناء الأخلاقي للفرد والمجتمع لأنه سبب السعادة في الدنيا والآخرة ، والوسيلة هي التَّعليم لا التَّعنيف ، قال عليه الصلاة والسلام :

((  عَلِّموا ولا تُعَنِّفوا فإنَّ المُعلِّمَ خيرٌ من المُعَنِّفِ  ))

 

[ الألباني   ]


  أنواع القراءات في القرآن الكريم :

 

1 ـ قراءة بحث وإيمان :


أول كلمةٍ في أول آيةٍ في أول سورةٍ أُنزِلَت من القرآن الكريم هي اقرأ :

﴿  اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَىٰ (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَىٰ (7)  ﴾

[  سورة العلق  ]

و قد أشار الله جلَّ جلاله إلى العِلم بمفتاحٍ وهو كلمة اقرأ ، وفي اللغة إن الفعل إذا حُذِفَ مفعولُه أُطلِقَ معناه ، فلْنَقرَأ في كتاب الله جلَّ جلاله ، أو في بيان رسول الله الذي عَظُم مَقامُه ، أو في كتاب الكون المُعجِز في إبداعه وجماله و كماله . فالكونُ قرآنٌ صامِت ، والقرآن كونٌ ناطِق ، والنبي عليه الصلاة والسلام قرآنٌ يمشي . 
ولا يَقنَعُ الناس عادةً بأحقية هذا الإسلام العظيم إلا إذا رأوا إسلاماً يمشي أمامهم ، فالقُدوة قبل الدَّعوة ، والإحسان قبل البيان ، وهما أبلغُ من الدَّعوة اللفظيَّة ، فالناس في الأعَمِّ الأغلب يَتَعَلَّمون بعيونِهم أكثر مما يتَعَلَّمون بآذانهم ، والله جلّ جلاله يقول : 

﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)  ﴾

فالأصل في القراءة الأولى أن تكون قراءة بحثٍ وإيمان ، تنتهي يقيناً إلى معرفة الله الواحد الدَّيَّان ، موجوداً وواحِداً وكامِلاً وخالِقاً ومُربِّياً ومُسَيِّراً .  
هذه القراءة مَقدورٌ عليها بدليل أنها تَنطَلِقُ من أقرب شيءٍ إلى الإنسان ، هي نَفْسهُ التي بين جَنبيه ، قال تعالى: 

﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)  ﴾

هذه القراءة الأولى .
 

2 ـ قراءة الشكر والعرفان :


ولكن القراءة الثانية هي قراءة الشُّكر والعِرفان أساسُها شُكر المُنعِم على نِعمَة الإيجاد ونِعمَة الإمداد ونِعمَة الهُدى والرَّشاد 

﴿ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3)  . ﴾

 إذاً بعد قراءة البحث والإيمان تأتي قراءة الشُّكر والعِرفان ، لقد سَخَّر الله الكون لهذا الإنسان تسخير تعريفٍ و تكريم ، أما تَسخير التَّعريف فكل ما في السماوات وما في الأرض يَنطِق بوجود الله  وحدانيَّته وكماله ، ويَشِف عن أسمائه الحسنى وصفاته الفُضلى ، قال تعالى : 

﴿  وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)  ﴾

[  سورة الجاثية  ]

أما تَسخير التَّكريم ففي قوله تعالى : 

﴿  وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)  ﴾

[  سورة الإسراء  ]

فواجِبُ الإنسان ، أي إنسان ، تِجاه تَسخير التَّعريف أن يُؤمن ، وواجِبُ الإنسان أيضاً تِجاه التَّكريم أن يشكُر ، فأي إنسان إذا آمَن وشَكَر فقد حَققَ الغاية من وجوده في الدنيا ، لذلك قَطْعاً يتوقف التَّأديب والمُعاقبة يقول الله عز وجل :

﴿  مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)  ﴾

[  سورة النساء  ]

﴿  اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) ﴾

   فالتَّعليم بالقَلم يعني اللغة التي امتَنَّ الله جلّ جلاله على الإنسان بها حينما قال :
 

﴿ الرَّحْمَٰنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)  ﴾

[  سورة الرحمن  ]

فالبيان الشَّفهي يُعَبِّر به الإنسان عن أفكاره ، وعن مشاعره ، و يتَعَرَّف إلى أفكار الآخرين ومشاعرهم ، فيتَعَلَّم بالبيان ويُعَلِّم ، أما البيان الكتابي فتنَتقل به المعارف عن طريق الكتاب من إنسان لآخر ، من دون اتصال فيزيائي ، ومن جيلٍ إلى جيل ، من دون مُجاورة حُدوديَّة ، ومن أُمَّةٍ إلى أُمَّة من دون مُعاصرةٍ وتفاعل ، ثم تنتقل المَعارف وتتراكَم في خزائن العِلم للإنسانية كلها ، هذا بفضل عَلَّمَ بِالْقَلَمِ . 

﴿  اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ  (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) ﴾

[  سورة العلق  ]

 

3 ـ قراءة الوحي والإذعان :


أما القراءة الثالثة فهي قراءة الوحي والإذعَان ، فمعرفة طَرَفٍ من حقيقة الذات الإلهية وكمالها المُطلَق ومعرفة الماضي السَّحيق والمستقبل البعيد ومعرفة حقيقة الحياة الدنيا ، ومعرفة حقيقة الحياة الآخرة ، ومعرفة حقيقة الإنسان ، وسِرّ وجوده ، وغاية وجوده ، ومعرفة حقيقة النُّبوَّات والرِّسالات ، ومعرفة حقيقة المَنهَج والدقائق ، ومفردات التَّكاليف وتفاصيلها ، هذا كلُّه يُؤخَذ من الوُحيين الكتاب والسُّنَّة ، وهذا مما يُستَنبَطُ من قوله تعالى: 

﴿ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ  ﴾

ولكن لا يعني هذا الكلام أن المسلمين اليوم يقرؤون هذه القراءات الثلاثة ، ولو قرؤوها  لما استطاع أحدٌ في الأرض أن ينال مِنَّا ، ولكن هذا من قبيل ما هو كائن ، وما يجب أن يكون كما نقول . 
 

4 ـ قراءة العدوان والطغيان :


أما القراءة الرابعة فهي القراءة النَّفعيَّة ليس غير ، وهذ القراءة لا تتناقض مع القراءات الثلاثة ، ولكن ينبغي ألا نكتفي بها ، بل يُسخِّرُها الأقوياء الجبابرة لنَهبِ الثَّروات ، وسَحْقِ الشُّعوب ، وأخذ خَيراتِها ، وهذه قراءة العُدوان والطُّغيان ، قال تعالى :

﴿  كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَىٰ (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَىٰ (7)  ﴾

[  سورة العلق  ]

هذا طُغيان العِلم الذي يقود الإنسان الغافِل القوي إلى هذه القراءة النَّفعيَّة بعيداً عن الإيمان والعِرفان ، وبعيداً عن الإِذعان لوحي السماء ، وبعيداً عن الانغماس لوحي الأرض . هذا العِلم النَّفعي يقوّد صاحبه إلى القُوَّة المُفرِطَة فيَبْني الظَّالِمُ مَجدَه على أنقاضِ الآخرين ، و يَبني غِناهُ على فَقرِهم ، ويَبني قُوَّتَه على ضَعفِهم ، ويَبني أَمنَه على خوفهم ، ويَبني عِزَّهُ على ذُلِّهم ، ويَبني حياته على موتهم . وبهذا يكون قد طَغَى و بَغَى و نَسي المُبتدى والمُنتهى ، واستخدم العِلم لغير ما أُريد منه ، وقد ضَرَبَ الله لنا مَثَلاً في القرآن الكريم قَومَ عَادٍ كنموذجٍ مُتَكَرِّر لهذا الإنسان الذي قرَأَ العِلم قراءةً نَفعِيَّة فَطَغَى وبَغَى ونَسِيَ المُبتَدى والمُنتَهى ، و نَسيَ الجَبَّار الأعلى . 
 

السلامة والسعادة مَطْلبَان ثابِتان لكل إنسان في كل زمان ومكان :


لقد خَلَقَ الله الإنسان في أحسن تقويم ، وكَرَّمَه أعظم تكريم ، وسَخَّرَ له الكون تَسخير تعريفٍ وتكريم وإرشاد ، ووهَبَ الله الإنسان نعمة العقل ، وأودَع فيه الشَّهوات لَيرقَى بالشَّهوات إلى ربِّ الأرض والسماوات ، وأحَلَّ له الطَّيَّبات ، وحَرَّم عليه الخَبائِث ، ومَنَحَه حُريَّة الاختيار والإرادة ، كلُّ ذلك ليَعرِف ربَّه فيَعبُدَه ، ويَسعَد بعبادته في الدنيا والآخرة : 

﴿  وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)  ﴾

[  سورة الذاريات  ]

لهذا لا يَسلَمُ الإنسان ولا يَسعَد وهما مَطْلبَان ثابِتان لكل إنسان في كل زمان ومكان ، لا يَسلَمُ الإنسان ولا يَسعَدُ إلا إذا تَطابَقَت حَرَكَتُه اليومية في حياته الدنيا مع الهدف الحقيقي الذي خُلِقَ من أجله .
إذاً تُعَدُّ معرفة هذا الهدف والتَّحَرُّك نحوه شَرطين أساسييَّن لبلوغ هذين المَطَلبين الثَّابتين من كل بني البشر ، معرفة الله معرفةً تَحمِلُ الإنسان على طاعته ، وتَحمِلُ الإنسان على الاستعداد لليوم الآخر ، فإن لم يَبحَث الإنسان عن الهدف الحقيقي الذي خُلِقَ من أجله ، أو تَوَهَّمَ هدفاً آخر لم يُخلَق له ، أو لم تأت حَرَكَته اليومية مُطابِقةً للهَدَف الصَّحيح الذي خُلِق من أجله ، كان القَلقُ والاضطراب ، وكان الضَّلال والشَّقاء ، وتَحَققَت خسارةٌ كبيرةٌ أبديَّة . قال تعالى :

﴿  قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)  ﴾

[  سورة الكهف  ]

فالذي يَحكُم حركة الإنسان في هذه الحياة تصوّرات للأهداف والوسائل ، هذه التَّصوُّرات تُعَدُّ صحيحة إذا انطَلَقَت من الوَحيين ، الكتاب و السُّنَّة ، و لأن نهاية العِلم القانون ، والقانون في حقيقته علاقةٌ ثابتة بين مُتَغَيَّرين ، مَقطوعٌ بصحَّتها ، مُطابِقةٌ للواقع ، عليها دليل قَطعي ، فإن لم يكن مَقطوعاً بِصِحَّتِها كان الظَّنُّ والشَّكُّ والوَهم ، وإن لم تكن مُطابِقةً للواقع كانت جهلاً ، و إن افتقرت إلى الدليل كانت للتقليد ، قال تعالى :

﴿  وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ ۖ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ۖ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28)  ﴾

[  سورة النجم  ]

ولن يستطيع الإنسان توجيه حركته اليومية نحو الهدف الصحيح الذي خُلِقَ من أجله إلا إذا انطلق من تَصوُّراتٍ صحيحة أساسها العِلم اليقيني ، وأسقَطَ من تصوراتِه كل ما اعتَراه من الشَّك والظَّن والوَهم والجَهل والتَّقليد ، وذلك أنَّ العلاقة بين طاعة الله وبين ثمارها علاقة علمية ، أي علاقةُ سببٍ بنتيجة ، كذلك العلاقة بين معصية الله وتَبِعاتِها علاقة علميَّة ، أي علاقة سببٍ بنتيجة ، لهذا يُعدُّ العِلمُ أساساً مَكَيناً لسلامة الإنسان وسعادته في الدنيا و الآخرة ، 

" فإذا أردت الدنيا فعليكَ بالعِلم ، وإذا أرَدت الآخرة فعليكَ بالعِلم ، و إذا أردتهُما معاً فعليكَ بالعِلم" .


  طلب العلم فريضة على كل مسلم :


لذلك دعا الإسلام وهو دين الحق والفِطرَة إلى العِلم في كل المجالات ، و أشادَ بأداته وهي العقل في كل المستويات ، إن العِلم في الإسلام كالروح في الجسد ، و قِوام الرجل عقله ، فمن لا عقل له لا دين له ،  ومن لا دين له لا عقل له ، و إنما الدَّين هو العقل . والآيات التي وَرَدَت في القرآن الكريم والتي تتناول العِلم  والعقل تقترب من ألف آية ، وحسبنا الدُّعاء القرآني :

﴿  فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ۗ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ ۖ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)  ﴾

 

[ سورة طه  ]

لم يَقُل : زِدني مالاً ، وحسبُنا أن الله يُفَصِّل في الآيات الكونيَّة التي هي خَلقُه ، والتَّكوينيَّة التي هي أفعاله ، والقرآنيَّة التي هي كلامه ، يُفَصِّلُها لقوم يعقلون ، حيث يقول :

﴿  قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ۚ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)  ﴾

[  سورة الأعراف  ]

بل إنَّ العُلماء وحدَهم وليس أحدٌ سواهُم هم الذين يخشون الله ، قال تعالى : 

﴿  وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ ۗ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)  ﴾

[  سورة فاطر  ]

ولا يخفى أن إنَّما في الآية تُفيد الحَصْر والقَصْر ، أي إنَّ طَلَب العِلم فَريضةٌ مُحكمَةٌ  من فرائِض الدِّين ولا تَقَلُّ أهميَّةً عن فرائِضِه الأخرى بل من هي أخطر فرائِضِه ، وفي الحديث الصحيح :

((  طَلَبُ العِلمِ فريضةٌ على كلِّ مسلمٍ  ))

[  ابن ماجة  ]

أي استنشاق الهواء فَرْض ، و شُرْبِ الماء فَرْض ، و الطعام فَرض ، فالإنسان بلا عِلم يَتيَهُ ويشقى ، فقد رَوَى ابن عباسٍ رضي الله عنه أن النبي الكريم عليه الصلاة و السلام قال : 

((  طلَبُ العِلْمِ ساعةً خيرٌ مِن قِيامِ ليلة  ))

[  الألباني  ]

 

العِلم هو القيمة الوحيدة المُرجحة بين بني البشر :


والإسلام من خلال القرآن والسُّنَّة يرفض أشَدَّ الرَّفضِ أن تكون القوَّة أو المالُ أو النَّسَبُ أو المَظهَر أساساً للمُفاضَلَة بين الناس ، لكنَّه اعتَمَد العِلم قيمةً وحيدة مُرجحَة بين بني البشر ، قال تعالى :

﴿  أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ۗ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)  ﴾

[  سورة الزمر ]

وعن سيدنا معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : 

(( تعلَّموا العلمَ فإنَّ تعلُّمَهُ للهِ خشيةٌ ، وطَلبهُ عبادةٌ ، ومذاكرتهُ تسبيحٌ ، والبحث عنهُ جهادٌ ، وتعليمهُ لمن لا يعلمُهُ صدقةٌ ، وبذلَهُ لأهلِهِ قُربةٌ ، لأنَّهُ مَعالِمُ الحلالِ والحرامِ ، ومنارُ سُبلِ أهلِ الجنَّةِ ، وهو الأنيسُ في الوحشةِ ، والصَّاحبُ في الغُربةِ ، والمُحدِّثُ في الخلوةِ ، والدليلُ على السراءِ والضراءِ ، والسلاحُ على الأعداءِ ، والزَّين عند الأخلاءِ ، لأنَّ العلمَ حياةُ القلوبِ من الجهلِ ومصابيحُ الأبصارِ، يبلغُ العبدُ بالعلمِ منازلَ الأخيارِ ، والدَّرجاتِ العُلى في الدُّنيا والآخرةِ ، التفكُّرُ فيه يعدِلُ الصيامَ ، ومُدارستُه تعدلُ القيامَ ، به توصلُ الأرحامُ ، وبه يُعرَفُ الحلالُ من الحرامِ ، وهو إمامُ العملِ ، والعملُ تابعُه يُلهمُه السُّعداءُ ، ويحرمه الأشقياءُ ))

[  ورد في الأثر  ]

 

أنواع العلم :

 

1 ـ العلم بالله :


والعِلم هو عِلمٌ بالله ، وعِلمٌ بأمره ، وعِلمٌ بخَلقِه ، العِلمُ بالله أصل الدِّين ، والعِلمُ بأمرِه أصل العبادة ، والعِلمُ بخَلقِه أصلُ صلاح الدنيا . 
لقد دعا الإسلام إلى العلم بالله من خلال التَّفكر في خَلقِ السماوات والأرض ، حيث تتابع الأمر به في سور القرآن ، و عُدَّ الأساس الأول لبِناء دعائِم العقيدة والإيمان قال تعالى :

﴿  فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَىٰ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8)  ﴾

[  سورة الطارق  ]

وقال تعالى :

﴿  فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)  ﴾

[  سورة عبس  ]

وقال أيضاً :

﴿  أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) ﴾

 

[  سورة الغاشية  ]

وقال تعالى :

﴿  قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)  ﴾

[  سورة يونس  ]

والتَّفَكُّر في خَلقِ السماوات والأرض نوعٌ من أرقى العِبادات بل هو العِبادة المُوصِلَة لله عز وجل ، وعن عائشة رضي الله عنها قالت :

(( أتاني النبي صلى الله عليه وسلم في ليلتي ، وقال : ذَرِيني أتعبَّدِ اللَّيلةَ لربِّي عز وجل ، فقام فتطهَّر ثمَّ قام يُصَلِّي ، فبكى حتى بَلَّ لِحيَتَه ، ثم سَجَد ، حتى بَلَّ الأرض ثم اضطجع على جنبه ، حتى أتى بلال يُؤذِنُه بالصَّلاةِ فلمّا رآه يبكي قال : يا رسولَ اللهِ لِمَ تَبكي وقد غفَر اللهُ لك ما تقدَّم وما تأخَّر ؟ قال: ( أفلا أكونُ عبدًا شكورًا لقد نزَلَتْ علَيَّ اللَّيلةَ آيةٌ، { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} آل عمران: 190 ثم قال صلى الله عليه وسلم : ويلٌ لِمَن قرَأها ولم يتفكَّرْ فيها  ))

 

[ صحيح بن حبان  ]

لذلك التَّفَكُّر في خَلقِ السماوات والأرض أقصر طريقٍ إلى الله وأوسعُ بابٍ ندخل منه على الله ، وقال :

(( أُمِرتُ أن يكون صَمتي فِكراً ونُطقِي ذِكراً ونَظَري عِبرَةً  ))

[  ابن حبان  ]

وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى :

( من لم يكن كلامه حِكمَةً فهو لَغوٌ ، ومن لم يكن سُكوتَه تَفَكُّراً فهو سَهوٌ ، ومن لم يكن نَظرُه عِبرَةً فهو لهو)

 

(انظر إلى الشمس واسأل من الذي رَفَعَها ناراً ، ومن نَصَبَها مَناراً ، وضَرَبها ديناراً، ومن عَلَّقها في جَوِّ ساعة ،  يَدِبُّ عقرباها على يوم الساعة ؟ ومَن ذا الذي آتاها مِعْراجَها، وهَداها أدْراجَها، وأحلَّها أبراجَها ، ونَقَّلَ في سماءِ الدنيا سِراجَها ؟ الزمانُ هي سببُ حصولِه ، ومُنْشَعبُ فروعِه وأصولِه ، وكتابُه بأجزائِه وفصلوِه ، لولاها ما اتَّسَقَتْ أيامُه ، ولا انتظمتْ شهورُه وأعوامه، ولا اختلف نوره وظلامُه ؛ ذَهَبُ الأصيل مِن مناجِمها ، والشَّفَقُ يسيلُ مِنْ محاجِمها ؛ تحطَّمَت القرونُ على قَرْنِها ، ولم يمحُ التَّقادُم لَمحَةَ حُسنِها )

[  أحمد شوقي  ]

هي تكبُر الأرض بمليون و ثلاثمئة ألف مرَّة حَجماً ، وتبعُد عن الأرض مئة وستة وخمسين مليون كيلو متر مسافةً ، وهناك نجوم يزيد حجمها عن حجم الأرض والشمس مع المسافة بينهما ، إنَّهُ قَلب العقرب ، قال الله :

﴿  وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1)  ﴾

[  سورة البروج  ]

أحد هذه البُروج بُرج العقرب ، هذا مُصَوَّر في متحف فضائي ، وضعوا خطوطاً بين نجومه كالعقرب تماماً ، يوجد نجم صغير ، مُتَأَلِّق أحمر اللون اسمه : قلب العقرب ، يتَّسِع للشمس والأرض مع المسافة بينهما ، هذا الإله العظيم يُعصَى ؟ ألا يُخطَبُ وُدَّهُ ؟ ألا تُرجى جَنَّتُه ؟ ألا تُخشَى ناره ؟
حرارة الشمس بمركزها حوالي عشرين مليون درجة ، لو اُلقِيَت الأرض في جَوفِ الشمس لتَبَخَّرَت في ثانيةٍ واحدة ، ويزيد طول أَلسِنَة الَّلهب المُنطَلِقَة من سَطحِهَا عن نصف مليون كيلو متر ، لقد صَدَقَ الله العظيم إذ يقول :

﴿  سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد ٌ(53)  ﴾

[  سورة فصلت  ]

لقد صَدَقَ الله العظيم إذ يقول : 

﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ ﴾

  أي في الكون وفي النَّفس  حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد  . 
                       

  انظـــــــــــر لتلك الشجرة ذات الغُصون النَّضِـرَة

                     

    كيف نَمت من حَبَّةٍ و كيف صارت شجــــــــــرة 

                     

    فابحث و قل من ذا الذي يُخرِج منه الثمرة ؟

                       

  وانظُر إلى الشمس التي جَذوَتهــا مُستَعِـــــــــرَة

                     

    من ذا الذي أَوجَدَها في الجو مثل الشــــــرَرَة 

                         

وانظُر إلى الليل فمن أَوجَدَ فيــــــــــه قَمَــــــــــــرَه

                       

  وزَانَـــــــــــهُ بأنجُـــــــــــمٍ كالــــــــــدُّرَر المُنتَثـــــــــــــرة

                     

    وانظُر إلى الغيــــــــــــم فمن أنزل منه مَطَـــــــرَه

                     

    فصَيَّرَ الأرض به بعــــــــد اغبِـــــــرَار خَضِــــــــرَة

                       

  ذاك هـــــــــو الله الـــــــذي أنعُمـــــــــهُ مُنهَمِــــــــرَة

                         

ذو حكمــــــــــةٍ بالغــــــــةٍ و قُـــــــــــدرَةٍ مُقتـــــــــَدِرَة

***

 

[ معروف الصافي  ]

 

2 ـ العلم بأمر الله :


هذا عن العِلم بالله ، فماذا عن العِلم بأمر الله ؟ إن الإنسان إذا تَفَكَّرَ في خَلق السماوات والأرض فعرَفَ أن له خالِقاً ومُرَبِّياً و مُسَيَّراً و عَرَفَ طَرَفَاً من أسمائه الحسنى وصفاته الفُضلى ، يشعر بدافعٍ قوي إلى التَّقرب إليه من خلال امتثال أَمرِه ، واجتناب نَهيِهِ ، وعندها يأتي عِلمُ الشريعة ، هذه هو العِلمُ بأَمرِه ونَهيِه ، ويظهر أمر الله ونَهيِه في العبادات و المُعاملات والأخلاق ، والشريعة عَدلٌ كُلُّها ، ورحمةٌ كُلُّها ، ومصالحٌ كُلُّها ، فكل مسألةٍ خَرَجَت من العَدل إلى الجَور ، ومن الرَحمة إلى ضِدِّها ، ومن المَصلَحَة إلى المَفسَدَة ، فليست من الشريعة ولو أُدخِلَت عليها بألف تأويلٍ وتأويل . قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه الإمام البخاري :

((  من يُرِدِ اللَّهُ به خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ ، وإنَّما أنا قاسِمٌ ويُعْطِي اللَّهُ ، ولَنْ يَزالَ أمْرُ هذِه الأُمَّةِ مُسْتَقِيمًا حتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ ، أوْ: حتَّى يَأْتِيَ أمْرُ اللَّهِ ))

[  صحيح البخاري  ]

 

3 ـ العلم بخلقه :


بقي عِلمٌ بخَلقِه ، لقد دعَا الإسلام إلى العِلم بطبائع الأشياء وخصائصها ، والقوانين التي تَحكُم العلاقة بينها ، كي نستفيد منها تحقيقاً لتَسخير الله عز وجل للأشياء ، قال تعالى :

﴿  أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ۗ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)  ﴾

[  سورة لقمان  ]

وتَعَلُّم العُلوم الماديَّة يُحقّق عمارة الأرض عن طريق استخراج ثرواتها ، واستثمار طاقاتها ، وتذليل صعوباتها ، وتوفير الحاجات تحقيقاً لقوله تعالى : 

﴿  وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ۚ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ۚ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61)  ﴾

[  سورة هود  ]

و تَعَلُّم العلوم الماديَّة والتَّفوق فيها قُوَّة يجب أن تكون في أيدي المسلمين ليُجابِهوا أعداءهم أعداء الحق والخير والسلام تحقيقاً لقوله تعالى :

﴿  وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)  ﴾

[  سورة الأنفال  ]

 

التَّعَلُّم و التَّعليم قِوام هذا الدِّين :


إذاً القوَّة في هذا العَصر هي قُوَّة العِلم ، فإن الحَرب الحديثة ليست حرباً بين ساعِديَن، بل هي حربٌ بين عقلين ، و لحكمةٍ بالغةٍ لم يشَأ الله عز وجل أن يكون الانتفاع بخيرات الأرض وثرواتها وطاقاتها انتفاعاً بشكل مباشر ، يُلغي دور الإنسان ، إنَّما جَعَل هذا الانتفاع مُتَوّقِّفاً على جُهدٍ بَشَري ، عِلم وعَمَل . وقد أودَعَ الله في البذِرة فيما يبدو قُوَّة الإنبات ولكن لابد للإنسان أن يزرعها ويرعاها ، ولا بد للإنسان أن يحصدُها ليجني ثمارها ، وأودع الله في الأرض خامات المعادن ، ولكن لابد للإنسان أن يبحث عنها ويكتشفها وأن يستخرجها ، أي إذا كنت قَويَّاً فطريق القُوَّة سالكٌ إلى الله .
خيارات القوي في العمل الصالح لا تُعَدُّ ولا تُحصَى ، فإذا كان طريق القُوَّة سالِكاً وَفقَ مَنهَج الله يجب أن تكون قويَّاً لأن عِلَّة وجود الإنسان العمل الصَّالح ، وخيارات القوي في العمل الصالح لا تُعدُّ ولا تُحصَى .
لذلك ترسيخاً لقِيَم العِلم والعمل ، وابتداءً من إنسانية الإنسان ، نجد أن العِلم والعمل يرفعان الإنسان إلى أعلى عِليّين ، وتَركهما يُسقِطَانِه إلى أسفل سافلين .
فبالتَّحرر من الجَهل والوَهم واعتماد النَّظرة العلميَّة ، واتِّباع الطريقة الموضوعيَّة ، نستطيع أن نُسقِطَ كل الدَّعاوى الباطِلة المُزَيَّفَة التي يطرُحُها أعداؤنا أعداء الدِّين للنَّيل من إمكانياتنا وطموحاتنا .
باعتمادنا النَّظرة العِلميَّة تَصِح بها رؤيتنا ، وبإيماننا بالله واستقامتنا على أمره نَستَمدَّ قُوَّتنا ، قال تعالى :

﴿  إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ ۖ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ ۗ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)  ﴾

 

[ سورة آل عمران  ]

إن التَّعَلُّم و التَّعليم قِوام هذا الدِّين ، ولا بقاء لجوهره ولا ازدهار لمستقبله إلا بهما ، والناس أَحَدُ رَجُلين : مُتَعَلِّم يَطلبُ النَّجاة ، وعالِمٌ يَطلِب المزيد . وقد قيل : تَعَلَّموا العِلم ، فإن كنتم سادةً فُقْتُم ، وإن كنتم وسَطَاً سُدتم ، وإن كنتم سُوْقَةً عِشتم ، لكن العِلم لا يُعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كُلك ، فإذا أعطيته بعضك لم يعُطِك شيئاً  فلابد أيها الأخ الكريم أن تكون عالِماً أو مُتَعَلِّمَاً أو مُستَمِعَاً أو مُحِبَّاً ، ولا تكن الخامسة فتَهلِك 
على مثل هذه الصورة كن مع العِلم وإن هذا العِلم دين فانظروا عمَّن تأخذون دينكم :

((  يا بنَ عمرَ ! دينُك دينُك ، إنَّما هو لحمُكَ و دمُكَ ، فانظُر عمَّن تأخذُ ، خُذ عنِ الَّذينَ استَقاموا- أي في عقيدتهم - ولا تأخُذ عن الَّذينَ مالوا  ))

[  الألباني  ]

 

الابتعاد عن العلم غير النافع :


أيها الأخوة الكرام ؛ العِلم الذي لا يصل تأثيره إلى نفوسنا ومن ثم إلى سلوكنا ما هو إلا حَذلَقَة لا طائِل منها ، والعِلم الذي يجعلنا نَتَيه به على غيرنا ما هو إلا نوع من الكِبر ، والعِلم الذي يُعَطِّل فينا المُحاكَمَة السليمة والتفكير السَّديد نوعٌ من التَّقليد ، والعِلم الذي يوهمنا أننا عُلماء كبار هو نوعٌ من الغرور، والعِلم الذي يسعى لتدمير الإنسان ، والفَتكِ به ، ويسعى لصناعة المَرض نوعٌ من الجريمة ، والعِلم الذي نستخدمـه للإيقاع بين الناس ، والعدوان على أموالهم وأعراضهم نوعٌ من الجُنوح و الانحراف ، والعِلم الذي لا يتَّصِل بما ينفعنا في ديننا ودنيانا نوعٌ من التَّرَفِ المذموم ، والدعاء النبوي : 

((  اللَّهمَّ إنا نعوذُ بك من عِلمٍ لا ينفعُ ، ومن قلبٍ لا يخشعُ ، و من أُذُنٍ لا تَسمعُ ، ومن عينٍ لا تدمع ، ومن نفسٍ لا تشبع  ))

[  الألباني  ]

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور