- (083) سورة المطففين
- /
- (083) سورة المطففين
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد ، وعلى آله وأصحابه الطيّبين الطاهرين ، أمناء دعوته ، وقادة ألوِيَتِه ، وارضَ عنّا وعنهم يا ربّ العالمين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وُحول الشهوات إلى جنّات القربات .
وصف حال أهل الإيمان يوم القيامة :
أيها الأخوة الكرام ؛ لا زلنا في تفسير الجزء الثلاثين من القرآن الكريم ، ومع سورة المطففين ، ومع قوله تعالى :
﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ * إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُون﴾
أخواننا الكرام ؛ هذا وصف دقيق لحال أهل الإيمان :
﴿ كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ﴾
الكتاب سجل أعمالهم ، أحياناً في الجامعات يضعون أسماء المتفوقين في مكان عال ، هؤلاء الذين تفوقوا ، هؤلاء الذين نجحوا ، هؤلاء الذين نالوا أعلى الدرجات :
﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ﴾
كلمة وما أدراك تأتي في القرآن كثيراً ، يوجد وما أدراك وما يدريك ، الفرق بينهما دقيق ، وما أدراك أنت يا محمد أي لا تعلم هذا ، أما وإن الله قد أعلمك فأنت في الأصل لا تعلم ولكن الله أعلمك ، أما معنى قوله تعالى : وما يدريك ، هذا الشيء استأثره الله بعلمه لا تعلمه أنت ولا غيرك :
﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ﴾
معنى مرقوم إما أن تكون من الرُّقم أو من الرقم ، الرقم العدد ، والرقم الصورة ، لذلك هناك كتب أو هناك دفاتر تجارية مرقمة ومختومة من قبل وزارة المالية ، لا يستطيع التاجر أن يحذف ورقة ، ولا أن يلغي ورقة ، مرقوم ، أعمالك كلها مسجلة ، كتاب مرقوم مرقَّم ، الصفحات مرقمة لا تستطيع أن تنتزع منها صفحة .
وهناك معنى آخر ؛ كتاب مرقوم من الرقم الصورة ، أي مخالفتك مصورة ،أحياناً تطورت الأجهزة الفاحصة للمخلفات ، يقدم للسائق صورة سيارته وهي تخالف ، لما قدمت له الصورة انتهى الأمر ، لذلك لا يستطيع أن يقول : لم أكن في هذا الطريق ، فكتاب الأبرار لفي عليين أي في مكان بارز ، مكان عال ، مكان مشهود ، مكان مقروء ، دائماً في الجامعات توضع أسماء المتفوقين في مدخل الجامعة ، ونحن مرة في سوريا توضع أسماء وصور الطلاب المتفوقين في أماكن من المدنية عديدة جداً ، هذا الطالب نال الدرجة الأولى ، مجموعه كذا في الشهادة الثانوية :
﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ﴾
الأبرار جمع بر ، الإنسان المتفوق الصالح المستقيم المحسن :
﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ ﴾
ما أدراك أنت يا محمد ، لم تكن تعرف أما وقد عرفناك :
﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ﴾
صفحاته مرقمة ، لا يستطيع الإنسان أن يلغي صفحةً ، وصفحاته مرقومة من الرقم وهي الصورة أي المخالفة مصورة ، والعمل الصالح مصور ، مرقوم ، فالإنسان يوم القيامة يرى يوم أحسن ليتيم ، يوم تولى رعاية أرملة ، يوم أنفق من ماله ، أنفق من وقته ، دعا إلى الله ، صبر على بلواه ، كل هذه الأعمال المشرفة يراها مدرجةً في كتاب ، أو يراها مصورة ، هذا مما يزيد فرحه وثقته بالله عز وجل .
عطاء الله عز وجل يجمع بين الدنيا والآخرة :
﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ* يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ﴾
أخواننا الكرام ؛ من هم المقربون ؟ قال : الملائكة ، وقال : المؤمنون ، لذلك :
﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ﴾
﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴾
وفي الدنيا جنة من لم يدخلها لن يدخل جنة الآخرة ، هذا بر له جنة ، في الدنيا جنة وفي الآخرة جنة ، وفي بعض الأدعية النبوية :" اللهم اجعل نعم الدنيا متصلة بنعم الآخرة" في الدنيا في نعمة ، توفاه الله عز وجل وبعد الوفاة في نعمة ، لذلك عطاء الله عز وجل يجمع بين الدنيا والآخرة ، اجعل نعم الدنيا متصلة بنعم الآخرة :
﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ﴾
هذا النعيم لو أن الله عز وجل وصف النعيم للتقريب لو أن طفلاً عقب أحد الأعياد قال لقريب له : معي مبلغ عظيم كم تقدره ؟ أما إذا قال مسؤول كبير في دولة عظمى : أعددنا لهذه الحرب مبلغاً عظيماً ، أعتقد أنه مئتا مليار ، فإذا قال خالق السموات والأرض ، خالق الأكوان :
﴿ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ﴾
كم هذا الفضل ؟
الإقبال على الله يورث الإنسان نضارة و تألقاً و سروراً :
لذلك أخواننا الكرام ؛
﴿ إني والإنس والجن في نبأ عظيم ، أخلق ويعبد غيري ، وأرزق ويشكر سواي ، خيري إلى العباد نازل ، وشرهم إليّ صاعد ، أتحبب إليهم بنعمي وأنا الغني عنهم ، ويتبغضون إليّ بالمعاصي وهم أفقر شيء إليّ ، من أقبل عليّ منهم تلقيته من بعيد ، ومن أعرض عني منهم ناديته من قريب ، أهل ذكري أهل مودتي ، أهل شكري أهل زيادتي ، أهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي ،إن تابوا فأنا حبيبهم ، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم ، أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من الذنوب والمعائب ، الحسنة عندي بعشرة أمثالها وأزيد ، والسيئة بمثلها وأعفو وانا أرأف بعبدي من الأم بولدها ﴾
إذاً المؤمن ينتظره عطاء كبير :
﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ﴾
الإنسان إذا أقبل على الله هذا الإقبال يورثه نضارة ، تألقاً ، سروراً ، إشراقاً ، هذه نظرة النعيم .
﴿ يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ ﴾
شراب راق جداً :
﴿ خِتَامُهُ مِسْكٌ ﴾
أي عقب الشراب يوجد رائحة طيبة .
الفرق بين النجاح و الفلاح :
﴿ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴾
﴿ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ﴾
هنا التنافس ، هنا التفوق : لا بورك لي في طلوع شمس يوم لم أزدد فيه من الله علماً ، لا بورك لي في طلوع شمس يوم لم أزدد فيه من الله قرباً :
﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴾
التنافس على الدنيا ، الدنيا تنتهي بالموت ، والموت ينهي كل شيء ، ينهي قوة القوي وضعف الضعيف ، ينهي غنى الغني وفقر الفقير ، ينهي وسامة الوسيم ودمامة الدميم، ينهي العزير وينهي الذليل ، الموت ينهي كل شيء ، فمن كان همه الدنيا جعل الله فقره بين عينه ، أما من كان همه الآخرة فجعل الله غناه في قلبه ، يشعر بالغنى ، يشعر بالعمل الصحيح، قال :
﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴾
﴿ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ﴾
هنا التنافس ، هنا التفوق ، هنا الفوز ، هنا النجاح ، لذلك أحياناً الإنسان ينجح في جمع المال ، لا يسمى هذا فلاحاً يسمى نجاحاً ، ينجح في تسلم منصب رفيع ، لا يسمى هذا فلاحاً يسمى نجاحاً ، لكن الفلاح أن تحقق الهدف الذي خلقت من أجله :
﴿ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾
أنواع التكذيب :
أنت مخلوق للجنة ، مخلوق لجنة عرضها السموات والأرض ، فإذا كنت على طرق الجنة فأنت فالح ، أما الإنسان مخلوق للجنة ويسعى للدنيا ، فسعيه للدنيا دليل تكذيب عملي للجنة .
أخواننا الكرام ؛ هناك تكذيب اعتقادي ، الذي يكذب بالآخرة اعتقاداً فهو كافر ، و هناك تكذيب قولي ، و هناك تكذيب عملي ، أنت عندما زرت طبيباً مثلاً ولست قانعاً بعلمه ، وصف لك وصفة ، وأعطيته المبلغ وصافحته وشكرته ، لكن عدم شرائك للوصفة دليل أنك تكذب علمه ، أخطر تكذيب هو التكذيب العملي لا التكذيب القولي ، يوجد تكذيب اعتقادي وتكذيب قولي و تكذيب عملي ، فالذي يعمل للدنيا لا للآخرة هذا يكذب بالآخرة تكذيباً عملياً .
أخواننا الكرام ؛ موضوع التكذيب شيء خطير جداً ، نحن نتصور أن الذي يقول : لا يوجد آخرة كافر ، صح ، لكن لا تجد في العالم الإسلامي من يكذب بالآخرة تكذيباً لفظياً ، كله صامت ، الذي يعمل للدنيا فقط ، الذي لا يدخل الله في حساباته ، بل لا يدخل الموت في حساباته ، هذا مكذب لكن تكذيبه خطير هو التكذيب العملي ، لذلك هؤلاء يسقون من رحيق مختوم - المؤمنون - شراب راق جداً بعد أن تنتهي من شربه هناك رائحة طيبة قال :
﴿ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴾
هنا التفوق ، هنا النجاح ، هنا الفلاح ، هنا الفوز ، هنا الرقي ، من هنا وجب أن نعلم علم اليقين ما لم تتحرك من أجل الآخرة ، ما لم تدخل الجنة في حساباتك ، ما لم تدخل طاعة الله في حساباتك ، فهذ النوع من التكذيب العملي ، ولا تجد في العالم الإسلامي من يكذب بلسانه مسلمات الدين ، هذه المسلمات ينبغي أن تعلم بالضرورة :
﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴾
اختلاف صفات الدنيا عن صفات الآخرة :
ثم قال تعالى :
﴿وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ ﴾
ومزاج هذا الشراب من تسنيم ، ما التسنيم ؟ قال :
﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُون﴾
أي شراب صاف ، وهذه صفات الآخرة ، بعيدة عن صفات الدنيا كثيراً ، وما ذكرت ألفاظها قريبة من صفات الدنيا إلا تقريب للأذهان :
(( أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ))
المرئيات محدودة ، كل واحد منا زار بحياته عدة مدن في العالم ، مرئياته محدودة، ولا أذن سمعت أي سمع بمئات المدن ، هذه المدن سمعت بها لكن لم تصل إليها ، أما الخواطر فليس لها حدود :
(( أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ))
هذه الآخرة تنسى ؟ ألا يعمل لها ؟ هذا الإله العظيم ألا يخطب وده ؟ ألا ترجى جنته ؟ ألا تخشى ناره ؟
تعصي الإله وأنت تظهر حبه ذاك لعمري في المقال شنيع
لو كان حبك صادقاً لأطعتــــه إن المحب لمن يحب يطيــــع
***
قضية الدين قضية مصيرية :
أخواننا الكرام ؛ قضية الدين قضية مصيرية ، هناك قضية جزئية تنتهي بانتهائها، لكن يوجد قضية مصيرية أي علاقتك بالدين علاقة مصير ، علاقة سعادة أو شقاء ، علاقة توفيق أو تعسير ، علاقة رقي أو سقوط ، من هنا كان الدين حاجة أساسية في الإسلام ، لذلك حتى في البلاد التي لا تؤمن بالأديان السماوية آمنت بدين من وضع البشر ، الإنسان بحاجة إلى مرجع ، بحاجة إلى قوة يحتمي بها ، بحاجة إلى قوة يرجو رضاها ، هذا من فطرة الإنسان :
﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾
فأقم وجهك أن تقيم وجهك للدين حنيفاً هذا ما فطرت عليه ، لذلك يقال : الإسلام دين الفطرة ، أي كل أمر بالإسلام أمرك الله به حببه إليك بفطرتك ، وكل أمر نهاك عنه كرهه إليك بفطرتك :
﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ﴾
العاقل من عرف سرّ وجوده وغاية وجوده :
لذلك أخواننا الكرام ؛
﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴾
هنا التنافس ، هنا التفوق ، هنا النجاح ، لذلك حينما تحقق الهدف من وجودك أي الهدف الذي رسمه الله لك فأنت فالح ، أما حينما تحقق نجاحاً محدوداً فأنت ناجح ، لكن ما كل نجاح هو فلاح ، لذلك قالوا : ما كل ذكي بعاقل ، الذكاء متعلق بالجزئيات ، قد تنال دكتوراه في الفيزياء النووية ولا تعد عند الله عاقلاً ، تعد ذكياً ولست عاقلاً ، العاقل من عرف سرّ وجوده ، وغاية وجوده ، وتحرك وفق منهج الله ، هذا هو العاقل .
أرجو الله سبحانه و تعالى أن ينفعنا بما علمنا ، وأن يوفقنا إلى ما يحب ويرضى ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .