- (078) سورة النبأ
- /
- (078) سورة النبأ
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين ، وعلى صحابته الغر الميامين ، أمناء دعوته ، وقادة ألويته ، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
الإيمان بالله و رسوله ضمانة في الدنيا و في الآخرة :
أيها الأخوة الكرام ؛ لازلنا مع تفسير الجزء الثلاثين ، ومع السورة الأولى وهي سورة النبأ ، ومع قوله تعالى :
﴿ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا * وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا * وَكَأْسًا دِهَاقًا * لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا * جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا ﴾
هذه الآيات تتحدث عن المتقين وهم في الجنة ، لذلك الله عز وجل قال :
﴿ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا ﴾
من هم المتقون ؟ القرآن كما وصف من قبل الله عز وجل مثاني ، تأتي الآية تنثني على أختها فتفسرها ، قال تعالى :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ﴾
كل أمر في القرآن الكريم يقتضي الوجوب ، قال تعالى :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ ﴾
الإيمان بالله وبرسوله ، لا إله إلا الله محمد رسول الله ، قال تعالى :
﴿ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ ﴾
أي ضمانة في الدنيا وضمانة في الآخرة ، قال تعالى :
﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴾
جنة في الدنيا وجنة في الآخرة ، قال تعالى :
﴿ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ ﴾
في الدنيا ذاقوا طعمها ، والمؤمن في جنة هي جنة القرب ، لذلك قال بعض العلماء: ماذا يفعل أعدائي بي ؟ بستاني في صدري ، إن أبعدوني فإبعادي سياحة ، وإن حبسوني فحبسي خلوة ، وإن قتلوني فقتلي شهادة ، فماذا يفعل أعدائي بي ؟ هذه جنة القرب ، قال تعالى :
﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴾
جنة الآخرة التي ذكرها القرآن ، أما جنة الدنيا فهي جنة القرب ، لذلك :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾
بطولة الإنسان أن يفوز بمقياس الآخرة :
هذا الذي أعرض عن الآخرة ، لم يدخلها في حساباته أصلاً ، عاش شهواته وغرائزه ، عاش مصالحه ، هذا الإنسان الذي شرد عن الله عز وجل ما وضعه يوم القيامة ؟ في حالة ندم شديدة ، لذلك قال تعالى :
﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾
للتقريب لو قال طفل : معي مبلغ عظيم ، طفل قال هذه المقولة بعد أحد الأعياد ، الإنسان يقدر أن معه مئة دينار - نحن في الأردن - أما إذا قال مسؤول كبير في دولة عظمى: أعددنا لهذه الحرب مبلغاً عظيماً ، الكلمة نفسها تقدر بخمسمئة مليار ، الكلمة نفسها قالها طفل فقدرناها بمئة دينار ، وقالها مسؤول كبير في دولة عظمى فقدرناها بخمسمئة مليار ، فإذا قال ملك الملوك ومالك الملوك :
﴿ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ﴾
أعظم فضل من الله عليك أن تعرفه ، إنك إن عرفت الله عرفت كل شيء ، وإن فاتتك معرفة الله فاتك كل شيء ، والله عز وجل في بعض الآثار القدسية يقول :
(( ابن آدم اطلبني تجدني ، فإذا وجدتني وجدت كل شيء ، وإن فتك فاتك كل شيء ، وأنا أحب إليك من كل شيء ))
إذاً البطولة أن تفور ، أن تفوز بمقياس الآخرة ، لعل الفوز في الدنيا يعني المال ، معه أموال طائلة ، ولعل الفوز في الدنيا يعني المنصب الرفيع ، وصل إلى منصب عال جداً ، ولعل الفوز في الدنيا أن ينغمس في متع رخيصة بنظر أهل الفسق والفجور ، العبرة أن تبحث عن الفوز بمقياس الآخرة ، قال تعالى :
﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾
لذلك من أوتي القرآن فظن أن أحداً أوتي خيراً منه فقد حقّر ما عظمه الله . يكفيك شرفاً أنك أوتيت القرآن ، فهمت القرآن ، طبقت القرآن ، تلوت القرآن ، تعلمت من القرآن ، لذلك قالوا : القرآن كون ناطق و الكون قرآن صامت و النبي عليه الصلاة و السلام قرآن يمشي .
وما لم ير الناس إسلاماً يمشي أمامهم لا يقتنعون بهذا الدين ، النبي كان قرآناً يمشي .
جزاء المؤمن في الآخرة القرب من الله و النظر إلى وجهه الكريم :
إذاً أيها الأخوة الكرام ؛
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ ﴾
المؤمن أحياناً عنده حالة يتميز بها ، لماذا ؟ لأن الله وعده بالجنة ، قال تعالى :
﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا ﴾
لا يتمتع بالأمن إلا المؤمن حصراً ، قال تعالى :
﴿ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾
ما قال : أولئك الأمن لهم ، الأمن لهم ولغيرهم ، أما عندما قدمنا شبه الجملة الخبر فصارت الصياغة حصرية ، لو قلت : نعبد إياك ، نعبد إياك لا تعني أننا لا نعبد غيرك ، أما إذا قلت : إياك نعبد ، عندما قدمت إياك على الفعل صار هناك قصر وحصر ، فلذلك :
﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾
الحقيقة الجنة التي وعدنا بها فيها جنات تجري من تحتها الأنهار في المقاييس المادية للإنسان ، أي بستان جميل ، أشجار مزهرة ، قمر منير ، شمس ساطعة ، أزهار ، أطيار، هذه قيم الجمال في الدنيا ، لكن الله عز وجل قربها إلينا في القرآن :
﴿ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾
وفي الجنة حور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون ، وفيها نظر إلى وجه الله الكريم ، ورد في بعض الآثار القدسية أن المؤمن يرى وجه الله الكريم يغيب من نشوة النظرة خمسين ألف عام، لذلك في الجنة أنهار وأشجار هذا مستوى ، وفيها حور عين مستوى آخر ، وفيها نظر إلى وجه الله الكريم ، قال تعالى :
﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾
ناضرة متألقة ، إلى ربها ناظرة ، وفيها أعلى شيء ورضوان من الله ، أي لو أنك دخلت إلى بيت قدم إليك أطيب المأكولات ، وأطيب الفواكه والحلويات ، والأثاث جميل ، والإطلالة جميلة ، لكن هذا كله في كفة ، وإذا دخل صاحب البيت ورحب بك ، وأثنى عليك ، وأثنى على هذه الزيارة ، فأنت في سعادة أخرى ، لذلك في الجنة حور عين ، وولدان مخلدون ، وأشجار ، وفواكه ، وكل شيء ، لكن وفيها رضوان من الله ، هذا أعظم ما في الجنة ، لذلك أجمل ما في الجنة القرب من الله ، أجمل ما في الجنة التجليات التي تأتيك من الله ، أجمل ما في هذه الجنة الشعور أن الله يحبك ، وأنك فعلت في الدنيا ما فعلت ، فكان هذا هو الجزاء ، قال تعالى :
﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ*الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴾
من عرف الله عرف كل شيء :
بالمناسبة الفلاح شيء يفوق النجاح
قد تنجح في كسب المال ، قد تنجح في ارتقاء منصب رفيع ، لكن حينما تكون فالحاً تكون قد حققت الهدف من وجودك ، أنت لماذا في الدنيا؟ أنت جئت إلى الدنيا من أجل أن تعرف الله عز وجل .
(( ابن آدم اطلبني تجدني ، فإذا وجدتني وجدت كل شيء .. ))
وإن عرفت الله عرفت كل شيء ، وإذا كنت مع الله فأنت أقوى إنسان ، الله عز وجل قال :
﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ﴾
معكم بعلمه .
الله مع المؤمنين بالنصر و التوفيق و التأييد :
لكن إذا قال تعالى :
﴿ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾
العلماء قالوا : هذه معية خاصة ، معهم بالنصر ، والتأييد ، والتوفيق ، أي هذا الشاب المؤمن إذا أخلص لله في طاعته ، وفي عبادته ، كان الله معه ، أي معه بكل شيء ، يوفق في زواجه ، معه بعمله ، يوفق في عمله ، معه بصحته ، يوفق بصحته ، معه بمن حوله ، من حوله يحبونه ، الحقيقة أن عطاء الله ليس له إحصاء ، لذلك ورد في بعض الآثار:
((اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا ))
لن تحصوا الخيرات .
أيها الأخوة الكرام ؛ الأشياء الجميلة في الدنيا ما وظيفتها ؟ في الأرض حقول خضراء ، سهول جميلة ، جبال شاهقة ، غابات عملاقة ، أطيار جميلة ، أسماك رائعة ، هذه لمسات الجمال في الأرض ما وظيفتها ؟ وظيفتها أن تكون مرتكزاً لوصف الله في الجنة ، الكلمة من دون مرتكز مادي لا معنى لها ، أنت إذا قلت بحراً ولم تر البحر ، لا معنى لها إطلاقاً ، لا معنى لكلمة بحر إلا إذا رأيت البحر ، فهذه الكلمة إذا لفظتها تثير فيك ذكريات البحر ، ركبت البحر ، رأيت موج البحر ، رأيت زرقة البحر ، رأيت عمق البحر ، رأيت أسماك البحر ، ما دام هناك تجربة فكلمة بحر تفيد كل هذه المعاني ، لذلك الله عز وجل جعل في الدنيا أشياء جميلة ، جعل غابات ، جعل جبالاً وودياناً رائعة ، جعل أنهاراً و سهولاً و أطياراً و أسماكاً ، طفل صغير وجهه يأخذ بالألباب ، هذا الجمال هو مسحة من جمال الله ، وهذا الجمال كأن الله جعله مرتكزاً لآيات الجنة ، الجنة تحتاج إلى مرتكزات ، المرتكزات في الدنيا لكن على مستوى أعلى بكثير .
ضرورة الإكثار من ذكر الله عز وجل :
إذا الله عز وجل قال :
﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴾
الفلاح النجاح المطلق ، النجاح الأبدي ، أفلحت أي حققت الهدف من وجودك ، قال تعالى :
﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ*الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴾
قال بعضهم : الخشوع في الصلاة ليس من فضائلها بل من فرائضها .
﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ*الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴾
الخشوع في الصلاة من فرائض الصلاة ، ، قال تعالى :
﴿ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴾
اللغو ما قرأت تعريفاً للغو أبلغ من هذا التعريف : كل ما سوى الله لغو ، قد نسهر سهرة الحديث عن الدنيا ، وعن الأسعار ، وعن القوى التي تتمدد في الأرض ، وعن وعن ، هذا الكلام يقول عنه النبي الكريم :" ما جلس قوم مجلساً لم يذكروا الله فيه إلا قاموا عن أنتن من جيفة حمار ". مجلس ذكرت فيه السلبيات في حياتنا ، تسمى أحياناً جلد الذات، نحكي عن الفساد ، عن الرشوة ، عن الانحراف ، عن الأقوياء المتسلطين ، هذه المعلومات وتلك الأخبار تجعلك لا تستطيع أن تقف ، فأنا أتمنى على كل أخوتنا إن جلسوا مجلساً أن يكثروا ذكر الله فيه أما إذا ذكروا الله :
((....وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ، ويتدارسونه بينهم، إلا حفتهم الملائكة ، ونزلت عليهم السكينة ، وغشيتهم الرحمة ، وذكرهم الله فيمن عنده ...))
يقول لك : والله سررنا بهذه الجلسة ، فينبغي أن نحرص جميعاً في أي جلسة أن نذكر الله ، في هذه الجلسة لا مانع من ذكر بعض الحوادث ، أما أن نكتفي بالسلبيات ، نكتفي بجلد الذات ، فهذه الجلسة ليست مباركة فلا بد من ذكر الله عز وجل ، وقال تعالى :
﴿ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾
من يستنير بنور الله يميز بين الحق و الباطل :
الآية أيها الأخوة ؛
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ ﴾
تصور إنساناً يمشي في غابة في الليل بلا مصباح ، الوقوع في حفرة قطعي حتمي ، الاصطدام بصخرة حتمي قطعي ، أما هذا النور فيضيء لك الطريق ، قال تعالى :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ ﴾
الآن دقق :
﴿ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ ﴾
إذاً أنت متى تتقي الله ؟ عندما قال الله عز وجل :
﴿ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا ﴾
حينما تستنير بنور الله ترى بهذا النور الحق حقاً ، والباطل باطلاً .
إذاً أخواننا الكرام ؛
(( الصلاة عماد الدين من أقامها فقد أقام الدين ، ومن تركها فقد هدم الدين ))
الصلاة سيدة القربات ، ومعراج المؤمن إلى رب الأرض والسموات ، وأنت بالصلاة أنت مع الله ، وإذا كان الله معك فمن عليك ؟ وإذا كان عليك فمن معك ؟