وضع داكن
30-04-2025
Logo
خطبة جمعة : 1202 - قطر - الدوحة - مسجد عمر بن الخطاب - من عرف نفسه عرف ربه - دوران الأرض حول الشمس.
رابط إضافي لمشاهدة الفيديو اضغط هنا
×
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلّ له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً -صلى الله عليه وسلم- سيد الخلق والبشر ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين، اللّهم لا علم لنا إلا ما علّمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعا، وانفعنا بما علمتنا وزدْنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممَن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

الخطبة الأولى:


علة وجود الإنسان في الدنيا:


أيها الإخوة الكرام؛ قيل: من عرف نفسه عرف ربه، فمن أنت أيها الإنسان؟ هل تعلم أنك المخلوق الأول عند الله؟ لإن الله سبحانه وتعالى حينما عرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال في عالم الأزل أشفقن منها وحملها الإنسان، فلما قبِل حمل الأمانة كان عند الله المخلوق الأول؛ لذلك سخّر الله له مافي السماوات وما في الأرض جميعاً منه تسخير تعريف وتسخير تكريم، أي شيء في الكون يدلك عليه، وأي شيء في الكون ينفعك، موقف الإنسان المؤمن من تسخير التعريف أن يؤمن، وموقفه من تسخير التكريم أن يشكر، فإذا آمن وشكر حقق الهدف من وجوده، عندئذ تتوقف المعالجات الإلهية، فالإنسان هو المخلوق الأول رتبة لأنه قبِل حمل الأمانة، وكأنه قال: يا ربِّ أنا لها، فلما قبِل حمل الأمانة سخّر الله له ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه تسخير تعريف وتكريم، إذًا هو الأول، وهو المكرم.

﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِىٓ ءَادَمَ وَحَمَلْنَٰهُمْ فِى ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ وَرَزَقْنَٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَفَضَّلْنَٰهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍۢ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)﴾

[ سورة الإسراء ]

والإنسان فضلاً عن أنه الأول، وأنه المكرم، فهو المكلف، كلّفه أن يعبد الله، قال تعالى:

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)﴾

[ سورة الذاريات ]

العبادة علة الوجود، لماذا أنت في الدنيا؟ من أجل أن تعبد الله. 
أيها الإخوة الكرام؛ العبادة خضوع لمنهج الله، خضوع لتعليمات الصانع، خضوع للإله العظيم، خضوع لخالق السماوات والأرض، أنت عبد والله رب، فالعبد عبد والرب رب، أنت مهمتك في الدنيا أن تخضع لتعليمات الصانع، والجهة الوحيدة التي ينبغي أن تتبع تعليماتها هي الجهة الصانعة لأنها الجهة الخبيرة.

﴿ إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا ٱسْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)﴾

[ سورة فاطر ]


أنواع العبادات:

 
أيها الإخوة الكرام؛ العبادة علة وجودنا؛ فهناك عبادات شعائرية، وهناك عبادات تعاملية، والعبادة الشعائرية:

(( بُنِيَ الإسْلَامُ علَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللَّهِ، وإقَامِ الصَّلَاةِ، وإيتَاءِ الزَّكَاةِ، والحَجِّ، وصَوْمِ رَمَضَانَ. ))

[ أخرجه البخاري، ومسلم عن عبد الله بن عمر  ]

هذه عبادات شعائرية، وهنالك عبادات تعاملية الأصل فيها أن سيدنا جعفر -رضي الله عنه- حينما التقى النجاشي سأله عن الإسلام، قال:( أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأتي الفواحش، ونأكل الميتة، ونقطع الرحم، ونسيء الجوار، حتى بعث الله فينا رجلاً نعرف أمانته وصدقه وعفافه ونسبه- أي إن حدثك فهو صادق، وإن عاملك فهو أمين، وإن استثيرت شهوته فهو عفيف، وفوق ذلك نسبه شريف- فدعانا إلى الله لتوحيده، ولنعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان) ، الآن بدأت العبادة التعاملية: (... وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء) ، الحقيقة الدقيقة والخطيرة أن العبادات الشعائرية وعلى رأسها الصلاة، ثم الصيام، ثم الحج، ثم الزكاة، والنطق بالشهادة، هذه العبادات الشعائرية لا تُقطف ثمارها بل لا تُقبل إلا إذا صحت العبادات التعاملية، وترك دانق من حرام خير من ثمانين حجة بعد الإسلام، يوجد لدينا عبادة شعائرية يفعلها معظم المسلمين في أنحاء الأرض؛ صلاة وصيام وحج وزكاة ونطق بالشهادة، أما العبادة التعاملية فهي أن تخضع لمنهج الله في بيعك وفي شرائك، في عطائك وفي منعك، في بيتك وفي السوق، ومع أصحابك، أن تخضع لمنهج الله في كل أطوارك، هذه العبادة التعاملية، الحقيقة الدقيقة في هذا اللقاء الطيب- وأنا أسعد الناس به- أن العبادات الشعائرية لا تُقبل ولا تصح ولا تقطف ثمارها إلا إذا صحّت العبادة التعاملية، ولا تُقبل إلا بالدليل، ولولا الدليل لقال من شاء ما شاء، يقول عليه الصلاة والسلام:

(( لأعلمنَّ أقوامًا من أمتي يأتون يومَ القيامةِ بحسناتٍ أمثالِ جبالِ تهامةَ بيضًا فيجعلُها اللهُ -عزَّ وجلّ- هباءً منثورًا، قال ثوبانُ: يا رسولَ اللهِ صِفْهم لنا جَلِّهم لنا أن لا نكونَ منهم ونحنُ لا نعلمُ، قال: أما إنهم إخوانُكم ومن جِلدتِكم ويأخذون من الليلِ كما تأخذون ولكنَّهم أقوامٌ إذا خَلْوا بمحارمِ اللهِ انتهكُوها ))

[ أخرجه ابن ماجه عن ثوبان مولى رسول الله  ]

فمن لم يكن له ورع يصده عن معصية الله إذا خلا لم يعبأ الله بشيء من عمله، فهذه الصلاة: (لأعلمنَّ أقوامًا من أمتي يأتون يومَ القيامةِ بحسناتٍ أمثالِ جبالِ تهامةَ بيضًا فيجعلُها اللهُ -عزَّ وجلّ- هباءً منثورًا، قال ثوبانُ: يا رسولَ اللهِ صِفْهم لنا جَلِّهم لنا أن لا نكونَ منهم ونحنُ لا نعلمُ، قال: أما إنهم إخوانُكم ومن جِلدتِكم ويأخذون من الليلِ كما تأخذون ولكنَّهم أقوامٌ إذا خَلْوا بمحارمِ اللهِ انتهكُوها) 
الصيام:

(( مَن لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ به، فليسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ في أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ ))

[ أخرجه البخاري عن عن أَبي هريرة ]

 أي بضاعة المحل كتبت على حاشية القماش على أنها من أمريكا؛ هذا زور (مَن لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ به، فليسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ في أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ) هذا الصيام.
الزكاة:

﴿ قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ ۖ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَٰسِقِينَ(53)﴾

[ سورة التوبة ]

  الحج: ورد في الأثر: (من حج بمال حرام ووضع رجله في الركاب وقال: لبيك اللهم لبيك، ينادى أن لا لبيك ولا سعديك وحجك مردود عليك)
الشهادة:

(( مَنْ قالَ لا إلهَ إلَّا اللهُ مخلصًا دخلَ الجنة، قيل: وما إخلاصُها؟ قال: أنْ تحجِزَه عن محارمِ اللهِ ))

[  رواه الطبراني عن زيد بن أرقم ]

بالدليل القطعي القرآني والنبوي أن العبادات الشعائرية وهي الصلاة والصوم والحج والزكاة والنطق بالشهادة لا تُقبل ولا تقطف ثمارها، بل ولا تصح إلا إن صحت العبادة التعاملية، إذًا الدين ليس فقط في المسجد، في المسجد تتلقى تعليمات الصانع، وفي المسجد تقبض الثمن أثناء الصلاة، العبادة في البيت، العبادة في بيتك.

(( خيرُكُم خيرُكم لِأهْلِهِ، وَأَنَا خيرُكم لِأَهْلِي ))

[ أخرجه الترمذي، وابن ماجه عن عائشة أم المؤمنين ]

أي الإنسان أحياناً بدافع من ذاته يتجمل، يرتدي أجمل الثياب، يتعطر، يبتسم، يصافح، ينحني، يستقبل الضيف، يرحب به؛ هذا خارج البيت، أما إذا دخل البيت فكان عبوساً قمطريراً، لذلك أشار النبي لهذا المعنى فقال: (خيرُكُم خيرُكم لِأهْلِهِ، وَأَنَا خيرُكم لِأَهْلِي) ، فحينما لا يكون هناك من يحاكمك، ولا يكون هناك من يضبطك، ولا يكون هناك من ينتقدك، أنت رب البيت، البطولة هنا أن تعبد الله في البيت.
أيها الإخوة الكرام؛ لذلك الحقيقة الدقيقة أن الإمام جعفر -رضي الله عنه- حينما دخل على النجاشي وسأله عن الدين قال:(أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأتي الفواحش، ونأكل الميتة، ونقطع الرحم، ونسيء الجوار، حتى بعث الله فينا رجلاً نعرف أمانته، وصدقه، وعفافه، ونسبه، فدعانا إلى الله لنعبده ونوحده وندع ما كان يعبد آباؤنا من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وحسن الجوار، وصلة الرحم، والكف عن المحارم والدماء)

أسباب خسارة الإنسان:


أيها الإخوة الكرام؛ ما من تعريف جامع مانع رائع للإنسان كتعريف سيد التابعين الحسن البصري، قال: "الإنسان بضعة أيام كلما انقضى يوم انقضى بضع منه"، أنت زمن، أنت بضعة أيام وكلما انقضى يوم انقضى بضع منك؛ لذلك أقسم الله لك أيها الإنسان فقال:

﴿ وَالْعَصْرِ (1)﴾

[ سورة العصر ]

والعصر مطلق الزمن، أقسم لك أيها الإنسان، لأنك زمن أقسم لك بمطلق الزمن، قال: ﴿وَالْعَصْرِ﴾ جواب القسم:

﴿ إِنَّ ٱلْإِنسَٰنَ لَفِى خُسْرٍ (2)﴾

[ سورة العصر  ]

لذلك ربنا، خالقنا، بارئنا يقسم لنا ويأتي بجواب القسم أننا خاسرون، ما تفسير ذلك؟ التفسير أن مضي الزمن وحده يستهلكك، سبت أحد اثنين ثلاثاء أربعاء خميس جمعة، ذهب أول أسبوع، ثاني أسبوع، الثالث، الرابع، ذهب شهر، أربعة شهور ذهب فصل، أربعة فصول ذهبت سنة، عشر سنوات ذهب عقد، أنت بضعة عقود، فلذلك الإنسان قد لا ينتبه ويفاجأ أنه قد انتهى أجله، وقد ورد: "ينادى أن عبدي رجعوا وتركوك، وفي التراب دفنوك، ولو بقوا معك ما نفعوك، ولم يبق لك إلا أنا، وأنا الحي الذي لا يموت" ، لذلك العصر هذه السورة قال عنها الإمام الشافعي: لو تدبر الناس هذه السورة لكفتهم.

﴿ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ ٱلْإِنسَٰنَ لَفِى خُسْرٍ (2) إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلصَّبْرِ (3)﴾

[ سورة العصر  ]

بعد (إلا) يوجد أركان النجاة، سمّى الإمام الشافعي ما بعد (إلا) أركان النجاة، ما الذي ينجّيك من الخسارة؟ أن تزداد من الله علماً فالنبي الكريم يقول في دعائه: " لا بورك لي في طلوع فجر يوم لم أزدد به من الله علماً، ولا بورك لي في طلوع شمس يوم لم أزدد فيه من الله قرباً"، فكل يوم ينبغي أن تزداد علماً وأن تزداد قرباً، أما المغبون من تساوى يوماه. 
أيها الإخوة الكرام؛ ﴿وَالْعَصْرِ* إِنَّ ٱلْإِنسَٰنَ لَفِى خُسْرٍ* إِلَّا﴾ أولاً: الذين آمنوا وبحثوا عن الحقيقة، ما الحق؟ لماذا أنا في الدنيا؟ لماذا جيء بي إلى الدنيا؟ ما الموت؟ ماذا بعد الموت؟ ما الجنة؟ ما النار؟ هذه كليات الدين، هناك مرض خطير يصيب المسلمين وهو الغرق في جزئيات الدين، غفلوا عن المقاصد، قد يرتكب حراماً من أجله سلطان، قد يؤذي جاره وهو لا يشعر؛ فلذلك لا بد من فقه،
﴿وَالْعَصْرِ* إِنَّ ٱلْإِنسَٰنَ لَفِى خُسْرٍ*إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ﴾ الآن الحركة، أنت كائن متحرك، هذه الطاولة كائن ساكن، أما أنت فكائن متحرك، ما الذي يحركك؟ الحاجة إلى الطعام والشراب حفاظًا على بقاء الفرد، وما الذي يحركك؟ يحركك الزواج حفاظاً على بقاء النوع، وما الذي يحركك؟ يحركك التفوق حفاظاً على بقاء الذكر، فأنت تأكل وتشرب من أجل بقاء الفرد، وتتزوج من دون أن تشعر من أجل بقاء النوع، وتتفوق من أجل بقاء ذكرك، أنت بعد أن تأكل وتشرب وتتزوج وتنجب عندك حاجة ثالثة، هذه يسميها علماء النفس تأكيد الذات، أن يُشار إليك بالبنان، هذا الطبيب الأول، هذه الحاجة الثالثة بقاء الذكر مهمة جداً، الحاجات الأساسية الثلاث محققة في هذا الدين، لذلك هؤلاء البشر على اختلاف مللهم، ونحلهم، وانتماءاتهم، وأعراقهم، وأنسابهم، وطوائفهم، لا يزيدون عن نموذجين جاءا في هذه الآية:

﴿ وَٱلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ (1) وَٱلنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ (2) وَمَا خَلَقَ ٱلذَّكَرَ وَٱلْأُنثَىٰٓ (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ (4)﴾

[ سورة الليل ]

سبعة مليارات ومئتا مليون كل واحد له هدف، لكن الله -جلّ جلاله- جمع كل هؤلاء في حقلين اثنين فقال تعالى:

﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَٱتَّقَىٰ (5) وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ (6)﴾

[ سورة الليل ]

العقيدة: صدق أنه مخلوق للجنة؛ لذلك اتقى أن يعصي الله، بنى حياته على العطاء، يعطي من ماله، من وقته، من علمه، من خبرته، من جهده:

﴿ وَأَمَّا مَنۢ بَخِلَ وَٱسْتَغْنَىٰ (8) وَكَذَّبَ بِٱلْحُسْنَىٰ (9)﴾

[ سورة الليل ]

لأنه كذب بالجنة وآمن بالدنيا استغنى عن طاعة الله، بنى حياته على الأخذ، لذلك على رأس الهرم البشري هناك زمرتان؛ الأقوياء والأنبياء، الأقوياء ملكوا الرقاب، والأنبياء ملكوا القلوب، الأنبياء عاشوا للناس، والأقوياء عاش الناس لهم، الأنبياء يُمدحون في غيبتهم، والأقوياء يُمدحون في حضرتهم،
لذلك يمكن أن نقسّم البشر جميعاً إلى صنفين فقط؛ أتباع الأنبياء وأتباع الأقوياء، أتباع الأنبياء يسعدهم العمل الصالح، يسعدهم العطاء، وأتباع الأقوياء هدفهم الأخذ، إنسان يعطي وآخر يأخذ، فهنيئاً ألف مرة لمن كان من أتباع الأنبياء.
إخواننا الكرام؛ ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَٱتَّقَىٰ* وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ﴾ لأنه صدق بالحسنى اتقى أن يعصي الله، لأنه صدق بالحسنى بنى حياته على العطاء، ﴿وَأَمَّا مَنۢ بَخِلَ وَٱسْتَغْنَىٰ* وَكَذَّبَ بِٱلْحُسْنَىٰ﴾ لأنه كذب بالحسنى استغنى عن طاعة الله، وبنى حياته على الأخذ، فما الذي يسعدك؟ امتحان دقيق، أن تعطي أم أن تأخذ؟ إن كان الذي يسعدك أن تعطي فأنت -ورب الكعبة- من أتباع الأنبياء، أما إذا كان الذي يسعدك أن تأخذ فأنت من أتباع الأقوياء، لذلك -أيها الأخوة- الله -عزَّ وجلَّ- في أول سورة، في أول آية، في أول كلمة، قال:

﴿   ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِى خَلَقَ (1)﴾

[ سورة العلق ]

الجماد كائن مادي له وزن وحجم وأبعاد ثلاثة، والنبات كذلك لكنه ينمو، والحيوان كذلك لكنه يتحرك، أما الإنسان فكائن مادي له وزن، وله حجم، ويشغل حيزاً في الفراغ، وله أبعاد ثلاثة، وينمو كالنبات، ويتحرك كبقية المخلوقات لكنه يفكر، هنالك حاجة كبرى، حاجة علوية، حاجة إلى طلب المعرفة، فالذي لا يطلب المعرفة هبط عن مستوى إنسانيته إلى مستوى لا يليق به.

﴿ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَٱلْأَنْعَٰمِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)﴾

[ سورة الفرقان ]

﴿ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ۖ وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ۖ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ ۖ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ۚ هُمُ ٱلْعَدُوُّ فَٱحْذَرْهُمْ ۚ قَٰتَلَهُمُ ٱللَّهُ ۖ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ (4)﴾

[ سورة المنافقون ]

﴿ وَمَا يَسْتَوِى ٱلْأَحْيَآءُ وَلَا ٱلْأَمْوَٰتُ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ ۖ وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍۢ مَّن فِى ٱلْقُبُورِ (22)﴾

[ سورة فاطر ]

 هكذا قال الله -عزَّ وجلَّ-، والآية الأصعب والأشدّ:

﴿ مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمِّلُواْ ٱلتَّوْرَىٰةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ ٱلْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًۢا ۚ بِئْسَ مَثَلُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ ۚ وَٱللَّهُ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلظَّٰلِمِينَ (5)﴾

[ سورة الجمعة ]

لذلك إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معا فعليك بالعلم، إلا أن العلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلَّك، فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً، ويظل المرء عالماً ما طلب العلم، فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل، طالب العلم يؤثر الآخرة عن الدنيا فيربحهما معاً، أما الجاهل فيؤثر الدنيا عن الآخرة فيخسرهما معاً.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم، فيا فوز المستغفرين!

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل بيته وأصحابه الطيبين الطاهرين.

أنواع آيات الله:


أيها الإخوة؛ الله -عزَّ وجلَّ-لا تدركه الأبصار ولكن العقول تصل إليه، فالله -عزَّ وجلَّ- يُعرف من خلال آياته، قال تعالى:

﴿ تِلْكَ ءَايَٰتُ ٱللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِٱلْحَقِّ فَبِأَىِّ حَدِيثٍ بَعْدَ ٱللَّهِ وَءَايَٰتِهِۦ يُؤْمِنُونَ (6)﴾

[ سورة الجاثية ]

آياته أنواع ثلاثة؛ آيات كونية هي خلقه، آيات تكوينية هي أفعاله، وآيات قرآنية هي كلامه،
 هذه قنوات ثلاث سالكة لمعرفة الله -عزَّ وجلَّ-، من آياته الكونية أن الأرض تدور حول الشمس إلا أن مسارها ليس دائرياً بل هو بيضوي – إهليلجي-، والشكل البيضوي له قطران قطر أصغر وقطر أطول، فالأرض في القطر الأطول تتجه نحو القطر الأصغر، هناك جاذبية والجاذبية متعلقة بالكتلة والمسافة، فإذا قلَّت المسافة هنا لا بد من أن تنجذب إلى الشمس، وإذا انجذبت الأرض إلى الشمس تبخرت في ثانية واحدة، كل القارات والمحيطات تتبخر بثانية واحدة لأن الحرارة عشرون مليار درجة-أرقام فلكية-، فما الذي يحصل؟ قال: هنا ترفع الأرض سرعتها لينشأ من رفع السرعة قوة نابذة تكافئ القوة الجاذبة فتبقى على مسارها.

﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يُمْسِكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِۦ إِنَّهُۥ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)﴾

[ سورة فاطر ]

أي أن تنحرف عن مسارها، تتابع مسيرها فإذا وصلت إلى القطر الأطول تطول المسافة وتضعف الجاذبية، وهناك احتمال أن تتفلّت من جاذبية الشمس، وعندئذ تسير في الفضاء الكوني وتصبح الحرارة مئتين وستين تحت الصفر، فالحياة تنتهي إذا انجذبت، وتنتهي إذا تفلتت، من الذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا؟! إنه الله.

﴿ وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِۦ وَٱلْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُۥ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُ مَطْوِيَّٰتٌۢ بِيَمِينِهِۦ ۚ سُبْحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)﴾

[ سورة الزمر ]

الآيات الكونية أقصر طريق لمعرفة الله، وأوسع باب ندخل منه على الله؛ لأن هذه الآيات تضعنا وجهاً لوجه أمام عظمة الله.

الدعاء:


اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، ولا يعزّ من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر مولانا رب العالمين، اللهم وفّق ولاة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها لما تحب وترضى، اجمع بينهم، وحد كلمتهم، أعنهم على طاعتك يا رب، وفّق ولاة المسلمين لحقن دماء المسلمين، اللهم احقن دماء المسلمين في الشام وانصرهم على أعدائك يا رب يا رحمن يا رحيم، اللهم اجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين.

الملف مدقق

 والحمد لله رب العالمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

نص الدعاة

إخفاء الصور