وضع داكن
28-03-2024
Logo
الدرس : 01 - سورة الإسراء - تفسير الآيات 1 – 10 معجزة الإسراء
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين . 


  الحكمة من ابتداء السورة بقوله سُبْحَانَ :


أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع الدرس الأول من سورة الإسراء : ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ .. الموضوع متعلق بمعجزة الإسراء ، فلماذا بدأت هذه المعجزة بقول الله سبحانه وتعالى : ﴿ سُبْحَانَ ﴾ ؟

سبحان اسم ناب مناب المصدر ، والمصدر ناب مناب الفعل ، قد تقول : أشكرك ، هذا فعل ، قد تقول : شكراً ، هذا مصدر ناب مناب الفعل ، سبحان اسم ناب مناب مصدر ، والمصدر ناب مناب الفعل ، أي : سبّحْ ، ومعنى سبّحْ أي : نزّه ، ومعنى سبّحْ أي : مجّد ، نزّه ومجد . 

 

السبب وحده لا يكفي لإحداث النتيجة :


ما علاقة التسبيح بهذه المعجزة التي كانت بحق النبي عليه الصلاة والسلام ؟ العلاقة أن الله سبحانه وتعالى حينما خلق الكون ، خلقه وفق نظام ، جعل لكل سبب نتيجة ، وجعل فيما يبدو لنا أن الأسباب تؤدي إلى نتائج ، لكن الناس بعد أن ألِفوا أن هذه الأسباب تؤدي إلى النتائج ، قد يغفلون عن أن مسبب الأسباب هو الله ، وأن السبب وحده لا يكفي لإحداث النتيجة ، لذلك قد تأتي النتائج من دون أسباب كافية ، وقد تكون الأسباب ولا تحقق النتائج المتوقعة .

إذا وُجِد السبب ولم يحقق النتيجة المتوقعة كان هذا دليلاً على أن السبب وحده لا يكفي لتحقيق النتيجة ، وإذا كانت النتيجة من دون سبب معنى ذلك أن السبب ليس له دور حقيقي في إحداث النتيجة ، لكن الله سبحانه وتعالى هو الخالق ، هذا يتوضح بمَثَل فالله سبحانه وتعالى جعل توالد البشر عن طريق الزواج ، فلابدّ من زواج بين رجل وامرأة حتى تنجب المرأة طفلاً ، هذا هو النظام العام ، هذا هو القانون المفترض ، لكن إذا عطّل الإنسان فكره وتوّهم أن كل زواج يؤدي إلى مولود هكذا الطبيعة عندئذ نجد حالة العقم .

رجل وامرأة ، والرجل والمرأة لا ينجبان طفلاً ، وقد خلق الله عز وجل آدم من دون أب ولا أم ! وخلق سيدنا عيسى من دون أب ، وخلق السيدة حواء من دون أم ، إذاً ما كل سبب يؤدي إلى نتيجة ، معنى ذلك أن الله سبحانه وتعالى هو الخالق ، وما هذه الأسباب إلا قرائن رافقت النتائج ، لكنها ليست هي الخالقة . 

مَثَلٌ ضربه علماء التوحيد أن مصباحاً كهربائياً موصولاً بشريط ، والشريط ينتهي بمفتاح ، والمفتاح بيد رجل ، وهناك مفتاح كهربائي ليس موصولاً بالمصباح ، جاء شخص اقترب من المفتاح ، ضغط الرجل المفتاح فتألق المصباح ، توهم هذا الداخل أنه هو الذي أشعل المصباح ، هذا العمل تكرر كلما وضع يده على هذا الزر ، ضغط الرجل الزر الحقيقي فتألق المصباح ، إلى أن اعتقد هذا الإنسان بسذاجة وتوهم أنه هو الذي يشعل المصباح ، ذات مرة دخل ووضع يده على المفتاح لم يتألق المصباح ، إذاً : هذه الضغطة على الزر غير كافية لتألق المصباح ، وفي مرة ثانية تألق المصباح من دون أن يضغط على الزر ، استنتجنا أن هناك جهة أخرى هي التي تشعل المصباح ، وما هذا الزر إلا ترافق ، كلما تألق المصباح رافق ذلك ضغط الزر .

أي السبب وحده غير كاف لإحداث النتيجة ، هذا أول معنى .

لذلك ربنا عز وجل من حين لآخر يخرق هذه القوانين ، يعطلها ، يبطلها أو يعطلها ، تأتي النتيجة بلا سبب أي  أبطلها ، يكون السبب بلا نتيجة أي عطّلها ، أحياناً هذه القوانين تُبْطل أو تُعطَل ، من أجل أن تؤمن أنه لا إله إلا الله ، وأن الله هو الخالق ، وأن السبب وحده لا يكفي لإحداث النتيجة . 

 

تعطُّل قانون الزمان والمكان في معجزة الإسراء والمعراج :


لذلك أن ينتقل إنسان من مكة إلى بيت المقدس ، وأن يعرج إلى السماوات ، وأن يصل إلى سدرة المنتهى ، وأن يعود إلى مكة في جزء يسير من الليل ، هذا فوق طاقة البشر ، لا يمكن أن يُحْدِثَ هذا إلا خالق الكون الذي بيده أن يعطل قوانين المكان والزمان ، الزمان له قانون ، والمكان له قانون ، الله سبحانه وتعالى عطّل قانون المكان وقانون الزمان ، فجاء النبي عليه الصلاة والسلام وانتقل بجسده الطاهر وبروحه الشريفة من مكة المكرمة إلى بيت المقدس ، ومن بيت المقدس إلى السماء ، الانتقال من مكة المكرمة إلى بيت المقدس إسراء ، والانتقال من بيت المقدس إلى السماوات العلا معراج .

إذاً : جاءت كلمة ( سبحان ) أي نَزّه هذا الرب ، وعظّمه ، ومَجّدهُ الذي بيده كل شيء ، بيده المكان ، ولو شاء لألغى قوانين المكان ، وبيده الزمان ، ولو شاء لألغى قوانين الزمان ، إذاً : ( سبحان ) ما أعظم الخالق الذي بيده كل شيء ، الأسباب صور ، والنتائج صور ، هو كل شيء . 

﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10) ﴾  

[ سورة الفتح ]

﴿ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)  ﴾

[ سورة الأنفال ]

لا يحدث شيء إلا بأمر الله ، وبعلم الله ، وبقدرة الله ، وبتقدير الله . إذاً : مناسبة أن تأتي كلمة ( سبحان ) في مطلع سورة تشير إلى معجزة تمت للرسول عليه الصلاة والسلام بانتقاله من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، ومن المسجد الأقصى إلى السماوات العلا ، في جزء يسير من الليل ، هذه معجزة فيها خرق لقوانين المكان والزمان ، ولا يستطيع أن يفعلها إلا خالق الكون ، وخالق المكان ، وخالق الزمان ، ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ ﴾ سبحوا ، سبّح أيها القارئ ، سبّح أيها المؤمن ، سبّح  أيها المسلم ، أي نَزِّه وَمَجِّد وَعَظِّم .  


معاني قوله تعالى : أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا :

 

1 ـ معجزة الإسراء والمعراج تمت في جزء يسير من الليل :

﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ ﴾ .. أسرى ، يقال : سرى وأسرى ، سرى مشى في الليل ، سرى مشى في آخر الليل ، وأسرى مشى في أول الليل ، فإذا قال الله سبحانه وتعالى  : ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ﴾ لكان المعنى أنه أسرى بعبده ليلاً ، فلماذا جاءت كلمة ليلاً ؟ العلماء قالوا : جاءت كلمة ليلاً لتؤكد أن الإسراء تمّ بالليل ، كأن تقول  : 

﴿ وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51)﴾

[  سورة النحل  ]

اثنين تأكيد ، إله تعني أنه واحد ، إلهٌ مُفْرَد ، لكن تأكيداً على أن المطلوب ليس معنى إثبات الألوهية ، بل المقصود إثبات الألوهية والوحدانية ، ﴿ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ ﴾ .

﴿ وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ ﴾ اثنين توكيد ، وواحد توكيد ، و : ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا ﴾ تأكيد على أن هذه المعجزة تمت في الليل ، أما كلمة ليلاً جاءت نكرة ، ودليل أنها نكرة جاءت مُنَوَّنَة ليلاً ، وهذه إشارة إلى أن هذه المعجزة تمت في جزء ، هذا التنكير تنكير تبعيض ، يوجد تنكير شمول ، ويوجد تنكير تمكين ، هذا التنكير تنكير تبعيض ، أي ليست الليل كله ، لم تستغرق هذه المعجزة الليل كله ، لا ، ليلاً ، أي في جزء يسير من الليل ، كأن تقول مثلاً :

﴿ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58)﴾

[ سورة الكهف ]

الرحمة معرفة بأل ، أو تقول  :

﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)﴾

[ سورة آل عمران  ]

أي كل ما في قلبك من الرحمة يا محمد ما هو إلا جزء يسير يسير من رحمة المولى القدير ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ﴾ ، ﴿ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ ﴾ ، ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا ﴾   أي في جزء يسير من الليل انتقلت في البيت الحرام من المسجد الحرام  إلى المسجد الأقصى إلى السماوات العلا وعدتِ ولا يزال الفراش ساخناً ، هذا أول معنى . 

2 ـ للتأكيد أن الإسراء تمّ في الليل لأن الليل وقت المناجاة والتجلي والاتصال :

لماذا قال الله عز وجل : ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا ﴾ ؟ المعنى الثاني : أن الليل جاء ليؤكد أنه وقت المناجاة ، وقت التجلي ، وقت الاتصال ، وبعض العارفين بالله كان يناجي ربه : يا رب قد هجعت الطيور إلى أعشاشها ، وأغلقت الملوك أبوابها ، وآوى كل حبيب إلى حبيبه ، وأنا واقف ببابك أرتجي جنابك يا رب .

أي الليل وقت المناجاة ، وقت الاتصال ، وقت التهجد ، وقت الإقبال ، وقت التضرع ، سبحانك لا يطيب الليل إلا بمناجاتك ، ولا يطيب النهار إلا بخدمة عبادك ، لا تطيب الدنيا إلا بذكرك ، ولا تطيب الآخرة إلا ببرك .

إذاً أول معنى : أن الليل تأكيد إلى أن الإسراء تمّ في الليل . والمعنى الثاني : أن ليلاً المنكَّرة تنكير تبعيض دليل على أن هذه المعجزة التي تحتاج إلى سنوات وسنوات تمت في جزء يسير من الليل .

القمر يُعدّ أقرب شيء للأرض ، يكاد القمر والأرض يكونان نجماً واحداً أو كوكباً واحداً ، القمر يبعد عنا ثانية ضوئية ، أي إذا تألق ضوء في القمر وصل إلينا في ثانية واحدة ، والشمس تبعد عنا ثماني دقائق ، والمجموعة الشمسية قطرها ثلاث عشرة ساعة ، وطول درب التبانة مئة وخمسون ألف سنة ضوئية ، وبعض المجرات تبعد عنا ستة عشر ألف مليون سنة ضوئية . 

﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ(75)وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ(76) ﴾

[ سورة الواقعة  ]

هذا القمر الذي يُعدّ هو والأرض ككوكب واحد يبعد عنا ثانية ضوئية ، المركبة التي توجهت إليه بقيت ثلاثة أيام بلياليها منطلقة إليه بأقصى سرعة ركبها إنسان ، سارت أربعين ألف ميل في الساعة ، الطائرة الحديثة جداً سرعتها ألف ، طائرات الركاب ألف ، بعضها ستمئة ، بعضها تسعمئة ، الحديثة ألف ، أما هذه المركبة فتسير أربعين ألفاً في الساعة ومع ذلك احتاجت هذه الرحلة إلى ثلاثة أيام ، أما النبي العدنان عليه الصلاة والسلام من مكة  إلى بيت المقدس إلى السماوات العلا ذهاباً وإياباً وعودة والفراش لا يزال ساخناً ، أي عُطِّلَت قوانين الزمان ، وعُطِّلَت قوانين المكان ، ولا يفعل هذا إلا الواحد الديان ، لا يوجد جهة أخرى ، مهما كنت ذا قيمة من دمشق إلى حلب بالسيارة تقطعها في أربع ساعات أو ثلاث ساعات ، هذه طاقة البشر ، في الطائرة نصف ساعة ، أما تكون بثانية بحلب ؟ كن من كنت لن تستطيع ذلك ، لا يخرق هذه القوانين إلا الله سبحانه وتعالى ، إذاً  : ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ ﴾ .

 

أكمل المخلوقات خُلُقَاً وعِلماً أكملهم عبودية :


أما كلمة ( عبده ) قال : أكمل المخلوقات خُلُقَاً وعِلماً أكملهم عبودية ، أي أعلى مرتبة ينالها الإنسان على وجه الأرض أن يكون عبداً لله ، إذا كَمُل علمه كمُلت عبوديته ، إذا قال : أنا فهو جاهل ، من أنت ؟ كنت لا شيء ، فأصبحت به خير شيء ، في الورى قد طبعك ، إذا قال : أنا ذاكرتي قوية ، الله عز وجل قادر في لمح البصر أن يُجمّد قطرة دم في بعض شرايين المخ فيفقد ذاكرته ، إذا قال : أنا محاكمتي قوية ، جمّعت أعلى مجموع في الشهادة الثانوية الله عز وجل قادر أن يقوم بانفجار لبعض شرايين المخ فيصبح مجنوناً ونزيلاً في بعض المستشفيات العقلية ، إذا قال : أنا قوي أحمل كذا كيلو ، وحَصّل رقماً أولمبياً مثلاً ممكن أيضاً شريان آخر تأتيه خثرة دموية فيغلق فيصاب الإنسان بالشلل . 

 

أفضل مقامات العبد مقام العبودية :


إذاً : كمال علمك يؤدي إلى كمال عبوديتك ، كمال خُلُقك يؤدي إلى كمال عبوديتك ، إذا عرفت نفسك حقيقة فأنت عبد لله ، ثلاث كلمات مهلكات : أنا ، ولي ، وعندي ، قال إبليس  :

﴿ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) ﴾

[ سورة الأعراف ]

فأهلكه الله عز وجل . وقال قارون  :

﴿ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) ﴾

[ سورة القصص ]

﴿ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) ﴾

[ سورة القصص ]

وقال فرعون  :

﴿ وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51)﴾

[ سورة الزخرف ]

أنا ولي وعندي ، فكلما ارتقى علمك اقتربت من العبودية ، وكلَّما ارتقت نفسيتك اقتربت من العبودية ، فإذا بلغت قمة الكمال البشري فأنت عندئذ لا تزيد على أن تكون عبداً لله ، وإذا كنت عبداً لله رفعك الله ، وأعزك الله ، وأمدك الله ، وأغناك الله : 

﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)﴾

[ سورة الشرح  ]

إذا كنت عبداً لله فأنت عزيز في الدنيا والآخرة ، وإذا كنت عبداً لله فأنت غني بكل ما تعني هذه الكلمة ، تحس بالغنى ، الغنى ليس عن كثرة العَرَض ، ولكنَّ الغِنى غِنى النفس ، لذلك :

اجعل لربك كل عـزك يستقر ويثبت             فإذا اعتززت بمن يموت فإن عزك ميت

***

كلمة ( بعبده ) أي كلما تعمَّقْتَ بالتوحيد اقتربت من العبودية ، العبودية تعني أنك مِنْ أعز الناس ، ومن أكرمهم ، ومِنْ أرفعهم شأناً ، هل في الأرض كلها إنسان أعزه الله كهذا النبي العظيم ؟

قال لي أخ كريم : إنه تمكن قبل سنوات بقدرة قادر ، وبشكل غير طبيعي أن يدخل الحجرة النبوية ، وأن يغسلها بنفسه ، وقيل له : إياك أن تتلف هذه المناشف التي نشفت بها الحجرة ، هذه مباركة ، فهذه الحجرة النبوية يتشرف الملوك بتنظيفها ، فما قولك بصاحب هذا المقام المحمود والحوض المورود والشفاعة العظمى ؟ 

إذا كنت أنت عبداً لله يرفع لك ذكرك ، يرفعك في العالمين ، كلمة عبد أرقى كلمة يوصف بها إنسان ، أي عالم ، لأنه عالم صار عبداً ، لو كان متكبراً لكان جاهلاً ، لو قال : أنا ، معنى ذلك أنه أحمق وجاهل ، لا يفهم شيئاً ، لو قال : عندي ، هذا أحمق ، لو قال : لي ، أحمق ، لو قال : أنا أفعل كذا ، أحمق ، إلى أن يقول : لا إله إلا الله ، وأنا عبد الله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، حسبي الله ونعم الوكيل ، إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون ، لا معطي يا رب لما منعت ، ولا مانع لما أعطيت ، لا رافع إلا أنت ، ولا خافض إلا أنت ، ولا رازق إلا أنت .. فعندئذٍ أنت عبد لله ، أي إذا عرفت حجمك الحقيقي رفعك الله في الدرجات العلا ، إذا عرفت حجمك الحقيقي  أمدّك الله بمددٍ من عنده .

أي مصلحة إذا قال صاحبها : أنا فَهمان ، لابدّ من أن يرتكب حماقة تسحقه ، أو لا يوجد مثلي طبيب ، أو لا يوجد مثلي مهندس ، أو أنا أنفرد في البلد بهذه الخبرة ... عندما يقول  : أنا ، فهو أحمق ، لا يعرف أن كل ما يملكه بإذن الله عز وجل ، فلذلك كلمة ( عبد ) تُعدّ قمة العلو البشري .

يروى أن النبي عليه الصلاة والسلام وهو في سدرة المنتهى قال : يا رب اجعلني عبدك ، اجعلني متمثلاً صفات العبودية الحقّة ، فالمؤمن متواضع يعرف حجمه فيقف عنده ، لا يتعدى حدوده ، لا يدَّعي ما ليس له ، لأنه عالم أصبح عبداً ، العلم يقودك إلى العبودية ، والعبادة أرقى درجات العمل ، أرقى درجات العلم أن تقول : لا إله إلا الله ، وأرقى درجات العمل أن تعبد الله .

 

نهاية العمل أن تعبد الله ونهاية العلم أن ترى أن لا إله غير الله :


لذلك الأنبياء جميعاً ملخص دعوتهم :

﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59)﴾

[ سورة الأعراف ]

﴿ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65)﴾

[ سورة الأعراف  ]

وإلى وإلى الأنبياء جميعاً آية متكررة . 

﴿ فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32)﴾

[ سورة المؤمنون ]

نهاية العمل أن تعبده ، ونهاية العلم أن ترى أنه لا إله غيره ، لا إله إلا الله فاعبده. 

﴿ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)  ﴾

[ سورة الزمر ]

﴿ قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144)﴾

[ سورة الأعراف ]

﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)﴾

[ سورة طه  ]

 لا يوجد إلا الله عز وجل ﴿ فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ﴾ .


  شرفُ إضافة العبد إلى ربِّه :


﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا ﴾ .. بعبده ، الهاء ضمير غائب يعود على الله سبحانه وتعالى ، أي هل من تشريف أعظم من أن يضاف العبد إلى سيده ؟ من أن يضاف إلى خالقه ؟ من أن يضاف إلى الذات العلية  ؟ إلى صاحب الأسماء الحسنى والصفات الفضلى ؟ إلى واجب الوجود ؟ إلى الله الواحد الأحد الفرد الصمد ؟ إلى رافع السماوات بغير عمد ؟ ﴿ بِعَبْدِهِ ﴾ لذلك عندما يكون قلب الإنسان صاحياً ويقرأ قوله تعالى  :

﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)﴾

[ سورة الزمر ]

أي أنت نُسِبْتَ إليه ، أًضِفْتَ إليه ، يا عبادي فاتقون ، ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ﴾ هذا الضمير المتكلم الذي يعود على الله عز وجل إذا أُضيف العبد إليه فهذا تشريف ما بعده تشريف ، أي إذا قال لك شخص رفيع المقام : هذا موظف عندي ، هذا لمكتبي الخاص ، هذا أقرب الموظفين إليّ ، هذا أعلى مقام ، أي أضيف هذا الإنسان إلى هذا الإنسان العظيم ، فكيف بالمولى الكريم ؟ 

 

الكعبة مسجد حرام أصالة ومآلاً :


﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ .. الكعبة كان فيها أصنام ، فكيف سميت مسجداً ؟ هذا سؤال ، والأقصى كان هيكل سليمان ، لم يكن هناك مسجد ولم يكن هناك قبة ولا محراب ولا آيات كما هي الحال اليوم فكيف سماه الله مسجداً ؟ العلماء قالوا : المسجد مكان السجود ، والأصل أن هذه الكعبة المشرفة بناها سيدنا إبراهيم لتكون مسجداً لله عز وجل طهوراً ، هُدِمَت ، وُضِعَ فيها الأصنام .

شيء آخر ؛ اسمها على أصلها ، أصل هذا المكان بُنِي ليكون مسجداً لله عز وجل ، وهيكل سليمان عليه السلام بُنِي ليكون مسجداً لله جلّ وعلا ، إذاً : سمّاه الله عز وجل ، هذا المكان سماه مسجداً ، هذا المكان سماه مسجداً : ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ﴾ .. معنى الحرام أن هذه الكعبة المشرفة ومكة المكرمة جعلها الله بلداً حراماً ، أي يَحرُم القتال بها في الأشهر الحرم ، ويحرُم الصيد فيها ، ويحرُم قطع النبات فيها ، أي بلد مقدس ، من أجل أن تكون أمناً للناس ، ومثابة ، وكذلك المسجد الأقصى المسجد البعيد ، تقول  : الشرق الأدنى ، والشرق الأقصى ، والمسجد الأقصى أي المسجد البعيد عن أهل مكة ، هنا يوجد إشارة إلى أن هذه معجزة : ﴿مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ﴾ .

 

مباركة البلاد التي حول المسجد الأقصى :


﴿ الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ﴾ قالوا : حوله بلاد الشام ، لذلك ورد في بعض الأحاديث : عن أبي أمامة الباهلي :

(( صَفوةُ اللهِ من أرضِه الشَّامُ  ، وفيها صَفْوتُه من خلقِه و عبادِه ، و لَيدْخُلَنَّ الجنةَ من أمَّتِي ثُلَّةٌ لا حِسابَ عليهم ولا عذابَ. ))

[ صحيح الجامع  : خلاصة حكم المحدث  : صحيح :  أخرجه الطبراني ]

الداخل إليها فبرضائي ، والخارج منها فبسخطي..

(( عن زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رضي الله عنه قَالَ : كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُؤَلِّفُ – أي نجمع - الْقُرْآنَ مِنْ الرِّقَاعِ  ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : طُوبَى لِلشَّامِ ، فَقُلْنَا : لِأَيٍّ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : لِأَنَّ مَلَائِكَةَ الرَّحْمَنِ بَاسِطَةٌ أَجْنِحَتَهَا عَلَيْهَا . ))

[ رواه الترمذي وقال  : حسن غريب ]

طوبى لمن له فيها مربض شاة ، مربض شاة أي نصف هذه الطاولة ، وكأن عمود الإيمان كما قال النبي العدنان عُمِدَ به إلى الشام في آخر الزمان ، وما هذه المجالس الطيبة إلا دليل أن الله سبحانه وتعالى خصها بعنايته ، وحفظها من كل سوء ، فطوبى لمن له فيها مربض شاة  ، (( الشام صفوة الله من أرضه ، وفيها صفوته من عباده )) لكن حتى لا يعتقد الإنسان دمشق بالتحديد ، لا ، بلاد الشام المقصود بها هذه البلاد التي حول المسجد الأقصى الذي باركنا حوله ، ليس معنى هذا أن كل شيء موجود ، الإنسان قد يكون عزيزاً على إنسان آخر ، وهو في العناية المشددة ، ممكن ، لأنك عزيز على أبيك وكان هناك مرض يؤخذ هذا الإنسان إلى العناية المشددة ، فباركنا حوله القصد إذا كان هناك ضيق فبسبب أن يندفع الإنسان إلى المولى جلّ وعلا ، جاء في بعض الأحاديث :

(( أوحى ربك إلى الدنيا أن تَمرري ، وتكَدَري ، وتضَيقي ، وتَشَددي على أوليائي حتى يحبوا لقائي . ))

[ السلسلة الضعيفة : حكم المحدث منكر ]

 

البركة عامة ؛ دنيوية وأخروية :


﴿ الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ﴾ وقد تكون البركات أخروية ، ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان ، قد يتوهم الإنسان أن البركات دنيوية ، طبعاً يوجد آيات أخرى حينما قال الله عز وجل  :

﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84)  ﴾

[ سورة هود ]

العلماء فسروا هذه الآية أن الخير يعني وفرة المواد ، ورخص الأسعار ، ولكن ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان ، قد تأتي شدة فترقى بها إلى المولى جلّ وعلا فهذه خير ، ومحض خير ، ربما أعطاك فمنعك ، وربما منعك فأعطاك ، العطاء من العباد منعٌ ، والمنع من الله إحسان :

﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)  ﴾

[ سورة البقرة ]

الإنسان أحياناً يخسر ماله كله ، يقول لك : لم يبق شيء ، احترق محله ، من أجل أن تنهمر من عينيه دمعة واحدة يندم بها على بعض المعاصي ، إذا انتهى فَقْدُ المال كله بتوبة نصوح فقد ربح ربحاً كثيراً .

عن أبي عثمان عبد الرحمن بن مل النهدي :

(( إنَّ صُهَيبًا حين أراد الهِجرَةَ إلى المدينةِ قال له كُفَّارُ قُرَيشٍ : أتَيتَنا صُعلوكًا فكثُر مالُكَ عِندَنا وبلَغتَ ما بلَغتَ ، ثم تُريدُ أنْ تَخرُجَ بنَفْسِكَ ومالِكَ ، واللهِ لا يكونُ ذلك ، فقال لهم : أرأيتُم إنْ أعطَيتُكم مالي أتُخَلُّونَ سَبيلي ؟ فقالوا : نَعَمْ ، فقال : أُشهِدُكم أنِّي قد جعَلتُ لكم مالي ، فبلَغ ذلك رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال : رَبِحَ صُهَيبٌ رَبِحَ صُهَيبٌ . ))

[ ابن حجر العسقلاني  :  المطالب العالية  : خلاصة حكم المحدث  : صحيح ]

غير أنه ضيّع كل ماله ، لكنه نجا ، وكسب دينه وآخرته ، لذلك من آثر دنياه على آخرته خسرهما معاً ، ومن آثر آخرته على دنياه ربحهما معاً ، إنسان من دون شدة مستحيل ، الشدة دليل ، امتحان لا بد منه . 

﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)﴾

[  سورة العنكبوت  ]

لا بد من شدة ، بالشدة تظهر على حقيقتك ، إن كنت مُدَّعياً يظهر ذلك ، وإن كنت مخلصاً يظهر ذلك .

 

الإسراء والمعراج تسلية للنبي العظيم وإكراماً له خاصة بعد الشدة والضيق :


لذلك ربنا عز وجل يقول : ﴿ الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ﴾ .. لدي هنا سؤال : ( لنريه ) ، إذاً هذه المعجزة خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم ، جاءت بعد سنوات عجاف ، بعد امتحان مرير ، توفي عمه أبو طالب ، توفيت زوجته خديجة رضي الله عنها ، كانت مؤنساً له ، كانت خير زوجة مخلصة .

(( عن عائشة  : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَكَرَ خَدِيجَةَ أَثْنَى عَلَيْهَا فَأَحْسَنَ الثَّنَاءَ ، قَالَتْ  : فَغِرْتُ يَوْمًا ! فَقُلْتُ  : مَا أَكْثَرَ مَا تَذْكُرُهَا حَمْرَاءَ الشِّدْقِ ! قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا خَيْرًا مِنْهَا ، قَالَ : مَا أَبْدَلَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرًا مِنْهَا ، قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ ، وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ ، وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ ، وَرَزَقَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلادَ النِّسَاءِ . ))

[ الهيثمي  : مجمع الزوائد  : إسناده حسن ]

لا ينسى لها ذلك ، كان وفياً ، كانت السيدة عائشة رضي الله عنها وهي أصغر نسائه سناً تقول له : ألم يبدلك الله خيراً منها ؟ كان يقول عليه الصلاة والسلام : لا والله ، لا والله ، ما أبدلني خيراً منها ، هذا هو الوفاء ، وكانت تكبره بخمس عشرة سنة ، كانت بعمر أمه ، هذا الوفاء ، انصبوا لي خيمة عند قبر خديجة ، إذا كان أحدكم متزوجاً امرأة أكبر منه أو بعمره إذا مرضت يتفاءل ، يقول في نفسه : سأتزوج غيرها ، يتفاءل ، يا رب تكون القاضية ، أما النبي الكريم فكان وفياً عليه أتم الصلاة والتسليم .

إذاً : ( لنريه ) بعد الشدة والضيق ، المعارضة والصّد ، والتآمر من قبل قريش ، أي بلغ الخط البياني الحضيض ، فجاء الإسراء والمعراج تسلية لهذا النبي العظيم ، وإكراماً له ، وتعريفاً بمقامه ، تعريفاً له بأنه سيد الأنبياء والمرسلين ، ما كان يعرف ذلك قبل هذا التاريخ .

حينما صلّى بالأنبياء على بعض الروايات في بيت المقدس عرف أنه سيد ولد آدم ولا فخر ، عرف أنه سيد المرسلين ، عرف أنه إمام المرسلين ، عرف أنه المخلوق الأول .

﴿ قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81)﴾

[ سورة الزخرف ]

أول عابد لله عز وجل هو النبي عليه الصلاة والسلام ، أي الأولي ، يا أول خلقِ الله ، ليس أولية زمنية ، بل أولية مقامية ، من حيث المقام ، أول خلق الله . 

 

الله تعالى منّ على النبي بالإسراء والمعراج وعلى موسى بالكتاب :


﴿ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ الله سبحانه وتعالى أطلع هذا النبي الكريم على مقامه العظيم في هذا الإسراء والمعراج ، أي بها يعرج إلى الله عز وجل ، كلما استقام قبلها ، وكلما تقرب إلى الله بفعل الخيرات ، كانت صلاته معراجاً له .

وكما منَّ الله على هذا النبي العظيم بالإسراء والمعراج منَّ على سيدنا موسى بالكتاب . 

﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ﴾ .. مننا عليك ، وعلى موسى ، عليك بالإسراء والمعراج ، وعلى موسى بالكتاب .

 

فحَوَى الكتاب أن نعبد الله وحده وألا نتخذ من دونه وكيلاً :


﴿ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا ﴾ أي فحَوَى الكتاب أن تعبد الله وحده ، وألا تتخذ من دونه وكيلاً ، ﴿ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا ﴾ .. ألا تتخذ من دونه جهة تعتمد عليها ، أو تركن إليها ، أو تلجأ إليها ، أو تقصدها ، أو تطيعها ، ﴿ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا ﴾ أي ألا تتخذوا من دوني رباً لكم ، ربكم الله ولا رب سواه ، ومن تضعضع أمام شخص ظاناً أنه ينفعه ، أو يضره ، أو يعطيه ، أو يمنعه ، فقد اتخذه رباً ، وقد أشرك بالله رب العالمين ، لذلك :

عن عبد الله بن مسعود :

(( مَنْ تواضعَ لغنيٍّ لأجلِ غِناهُ ذهبَ ثُلثا دينِهِ . ))

[ السيوطي ، الدرر المنتثرة : خلاصة حكم المحدث : أورده ابن الجوزي في الموضوعات فلم يصب ]

شيء آخر : 

(( اطلبوا الحوائج بعزة الأنفس ، فإن الأمور تجري بالمقادير . ))

[ السلسلة الضعيفة وضعيف الترغيب والترهيب   ]

لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه ، له رب ، وهذا الرب بيده كل شيء ، مطَّلِع عليك ، كلما اعتمدت عليه أكرمك ، وكلما التجأت إليه حماك .

أطع أمرنا نرفع لأجلك حجبنا          فإنا منحنا بالرضا من أحبنـــا

ولذ بحمانا واحتـــــم بجنابنـــــــا          لنحميك مما فيه أشرار خلقنا

***

﴿ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا ﴾ أي رباً تدعونه ، تلوذون به ، تلتجئون إليه ، تحرصون على رضاه ، لا إله إلا الله ولا رب سواه . 

 

نوحٌ عبد شكور علينا الاقتداء به ونكون من أهل الشكر :


﴿ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ ﴾ .. هذه الكلمة منصوبة ، أي يا ذرية من حملنا مع نوح ، أي أيها البشر نحن جميعاً ذرية من حملنا مع نوح ، سيدنا نوح هو الذي نجا ، والذين آمنوا معه من الطوفان الذي عمّ الأرض ، لذلك لم ينج من طوفان نوح إلا سيدنا نوح ومن معه ، ونحن ذرية له .

﴿ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ ﴾ أي يا ذرية من حملنا مع نوح ، يا أيها البشر الذين منَّ الله عليكم ، وأنجاكم من الطوفان ، وجعلكم أحياء ، وخلقكم ، وأوجدكم من العدم ، ﴿ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ﴾ .. كونوا كنوح شاكراً ﴿ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ﴾   ، ما لكم لا تشكرون ؟ ﴿ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ﴾ ما لكم لا تعترفون ؟ مالكم لا تطيعون ؟ مالكم لا تحبون ؟ ﴿ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ﴾ يا ذرية من حملنا مع نوح إن جدكم نوح كان عبداً شكوراً ، فماذا تفعلون أنتم ؟ 

 

عادة اليهود الفساد والعلوّ :


﴿ وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا ﴾ .. الحديث الآن عن بني إسرائيل ؛ هؤلاء في علم الله وهم مختارون ، أي لا يتناقض أن الإنسان مختار ، وأن الله سبحانه وتعالى يعلم ما سيكون ؟ الإمام علي كرم الله وجهه يقول : " علم ما كان ، وعلم ما يكون ، وعلم ما سيكون ، وعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون " ، الله سبحانه وتعالى يعلم كل شيء ، يعلم ما كان ، وما يكون ، وما سيكون ، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون ، يعلم بلا كيف ، والإنسان مخير ، علم الله عز وجل لا يؤثر في اختياره . 

﴿ وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ ﴾ .. أول مرة ، وثاني مرة ، ﴿ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا ﴾ علوّ الاستكبار ، علوّ الظلم ، علوّ أن يبني الإنسان مجده على أنقاض الآخرين .

 

علاج الفساد :


﴿ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا(4)فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا ﴾ الله عز وجل إذا حصل الفساد يقيض لهذا الفساد رادعاً ، يقيض علاجاً ، والعلاجات أنواع ، قد يكون العلاج في الزلزال ، وقد يكون العلاج في الفيضان ، وقد يكون العلاج في جدب الأرض ، وشحّ السماء ، قد يكون العلاج في الطوفان ، في المطر الشديد ، في الفقر الشديد ، وقد يذيق الله عباده بأس بعضهم بعضاً ، وهذا أحد أنواع العلاج : 

﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)  ﴾

[ سورة النحل  ]

هذا علاج . 

﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)  ﴾

[ سورة الأنعام  ]

فهؤلاء بنو إسرائيل بعد أن فسدوا ، وطغوا ، وعتوا ، وتمردوا ، وعلوا علواً كبيراً ، بعث الله عليهم عباداً لنا ،﴿ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا ﴾ أي بأمرنا ، بتوجيهاتنا ، بعلمنا ، عباداً لنا ، بختنصر ﴿ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ ﴾ .. أي قتّلوا من قتلوا ، ونهبوا ما نهبوا ، وسفكوا الدماء ، وانتهكوا الأعراض ، فَسُحِق بنو إسرائيل ، ﴿ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا – داسوا - خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا﴾   هذا الوعد قد نُفِّذ .  


  الحياة تحوُّل وتغيير ولا تستقيم على حال واحدة  :


﴿ ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمْ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ ﴾ بعد أن جاءت هذه المصيبة الساحقة ، وهذا الابتلاء العظيم ، وهذا القهر تاب هؤلاء ، ورجعوا واستقاموا ، ﴿ ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمْ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ ﴾ .. أعاد الله لهم ملكهم ، ومجدهم ، وغناهم ، ورزقهم من الأموال والأولاد ما تقر به العيون ، ﴿ ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمْ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا ﴾ الحياة كر وفر ، البطل الذي إذا جاءته الدنيا لا يطغى ، لأنه إذا طغى سوف يقهره الله سبحانه وتعالى ، البطولة أن تكون مع الله وأنت في الرخاء ، وأنت في أوج نجاحك ، وأنت في أوج صحتك ، وأنت في أوج وقوتك ، ألا تنسى الله عز وجل ، هذه البطولة ، أما كل إنسان ضيق الأفق ، أعمى ، إذا جاءته الدنيا ، وأصبح قوياً ينسى فيطغى ، فيأتيه تأديب الله عز وجل ، ضربة قاضية ، هذه سنّة الله في خلقه ، يعطي الدنيا ، يعطي الأموال ، يعطي الأولاد ، يعطي القوة ، الخيرات من كل جانب ، هذا الإنسان يعلو فيعلو ، فينسى ، فيطغى ، فيفسد ، فيتجبر ، فيظلم ، تأتيه ضربة الله القاصمة ، يتوب ، مادام قد تاب يعود الله إلى إكرامه ، فإذا رجع إلى معصيته جاءه العلاج ، أبداً ، إن لكل سيئةٍ عقاباً ، ولكل حسنةٍ ثواباً .

﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5)﴾

[   سورة القصص  ]

إذا عصاني من يعرفني سلّطت عليه من لا يعرفني . 

﴿ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)  ﴾

[  سورة القصص  ]

الظالم سوط الله ، ينتقم به ، ثم ينتقم منه . 

﴿ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)  ﴾

[ سورة الأنعام ]

هذا ملخص الآية  .

 

من أحسن أحسنَ لنفسه ومن أساء فعليها :


 ﴿ ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمْ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا(6)إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ﴾ هذا مبدأ عام ، إذا وضع إنسان في الصندوق أموالاً ، والصندوق مفتاحه معه ، وهو ملكه ، ﴿ إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ ﴾ .. تستقيم لنفسك ، تترفع عن المال الحرام لنفسك ، تغض بصرك عن محارم الله لنفسك ، وسيكون الزواج سعيدًا ، تنظر إلى الحرام فزواج شقي ، تكسب مالاً حراماً يدمر المال ، تكسبه حلالاً ينمو ، تكون صادقاً يرفعك الله عز وجل ، تكذب يَحُطُك ، تكون أميناً يغنيك ، تخون يفقرك ، تزني يُزنى بزوجتك ، من يزن يُزنَ به ، تنظر ينظرون إلى زوجتك ، تلمس يلمسون ، أبداً ، حساب دقيق ، إن أحسنتم تفكر بالكون ، تتعرف إلى الله عز وجل ، تعيش حياة سعيدة ، تلتفت إلى الدنيا يأتي خريف العمر ويحمل معه الشقاء الكبير ، ﴿ إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ﴾ إذا ملك رجل سيارة ، وأحضر حجراً وكسر زجاجها ، فمن يكون قد آذى ؟ من غاظ ؟ أغاظ نفسه ، وإذا اعتنى بها فله ، إذا اعتنى بها أراحته وأراحها ، وفَّرَت عليه نفقات ، إذا أساء لها تسيء له ، القضية بمنتهى البساطة ﴿ إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ﴾ .

 

الله تعالى لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم :


﴿ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ – أي في الفساد الثاني - لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ ﴾ أي هنالك نوع من الإيلام والإهانة ﴿وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ – المقصود به بيت المقدس - كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا ﴾ .. التتبير هو التخريب ، والتدمير ، أي أعداؤكم الذين سَيُقَيَّضُون بتأديبكم على فسادكم ﴿ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا ﴾    وسيهدمون كل شيء ، ﴿ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا ﴾ .. هذه الآية وحدها تكفي ، كأن الله عز وجل يخاطب كل واحد منكم ، ﴿ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا ﴾ .. إن رجعت إليّ رجعت إلى إكرامك ، وإن نسيتني قيضت لك ما يُرجعك ، إن رجعت إليّ طوعاً رجعت إلى إكرامك ورفع شأنك ، وإذا نسيتني وكفرت بي قيضت لك ما يزعجك ، أنت تريد وأنا أريد ، فإذا سلمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد ، وإن لم تسلِّم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد ، ثم لا يكون إلا ما أريد .

كن لي كما أريد أكن لك كما تريد ، كن لي كما أريد ولا تعلمني بما يصلحك ، ﴿ إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ ﴾ ولم ترجعوا صار الفساد الثاني ، ولم ترجعوا ، سأقيض لكم عباداً لي يقهرونكم ويذلونكم ، ﴿ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا ﴾    يدمرون كل شيء ، ﴿ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا ﴾ ، يوجد آية قرآنية  :

﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)  ﴾

[ سورة الرعد ]

قانون ، والله الذي لا إله إلا هو لو لم يكن في هذا القرآن إلا هذه الآية لكفت ،  رجل وقع في مشكلة لن يغير الله ما به حتى يغيّر ، حتى يتوب ، حتى يرجع إلى الله ، حتى يصلي ، حتى يستقيم ، حتى يعمل الصالحات ، غيّر حتى يغير ، وإذا كنت في بحبوحة وأمن وسلام وصحة وعافية ومكانة وأنت لم تغير فالله لا يغير ، مهما اشتدت الظروف إن لم تغير فلن يغير ، غيرت يغير ، هذه لها معنى عكسي . ﴿ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا﴾ .

 

جهنم مكان يُحصَر فيه الكافر :


﴿ وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ﴾ .. أي مكان يحصر به الكفرة ، ليس القضية يوجد باب مفتوح وتسلل أحدهم من فوق السور لا يوجد ذلك ، ﴿ وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ﴾ أي تحصرهم حصراً .

 

المطبِّق للقرآن سعيد في الدنيا والآخرة : 


﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾ لا يوجد آية أبلغ ولا أجمل من هذه الآية  : ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾ .. أي طبقته بزواجك يصبح زواجك سعيداً ، طبقته في صحتك تتمتع بها إلى نهاية الحياة ، طبقته في علاقاتك المالية ، ولم تأكل الربا ، يبارك الله لك في مالك ، طبقته في أمور المعاش في التجارة ، في الصناعة ، في الزراعة .. حيثما طبقت هذا الكتاب يهدك للتي هي أقوم ، غضبت من زوجتك فلم تخرجها إلى بيت أهلها ، طبقت الآية:

﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) ﴾

[  سورة الطلاق ]

يمر يوم أو يومان تتصالحان وانتهى الأمر ، بقيتم في مكانتكم العلية ، لا ،  ساعة غضب نسيت الآية فطردتها إلى بيت أهلها ، شهران ، ثلاثة ، أربعة .. أنت امتلأت غيظاً وهم امتلؤوا غيظاً ، والتفكير أصبح بالطلاق ، ولديك أطفال منها ، ولا يوجد من يرعى الأولاد ، من غلطة واحدة أصبح الطريق إلى الهاوية مفتوحاً ، تطبق القرآن : 

﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)  ﴾

[  سورة النساء  ]

تكون أعلى منها علماً ، وخلقاً ، وأدباً ، وصلاحاً ، وتنفق عليها ، تملك القيادة ، فإذا كنت دونها ورعاً ، وعلماً ، وصلاحاً ، وطمعت بمالها كانت لها القيادة عليك ، القضية واضحة ، قرآن كريم ، تجعل نفسك فوقها بمئة درجة تعدّ ظالماً ، وربنا عز وجل قال : 

﴿ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) ﴾

[  سورة البقرة  ]

درجة واحدة ، وليس مليون درجة ، ليس هي لا شيء ، وأنت كل شيء ، هي شريكة حياة ، لكن القيادة لك .

أحياناً يلتقي ضابطان بالثكنة بنفس الرتبة ، الأقدم يقود السرية أو الكتيبة ، ربنا جعل الزوج أقدم دائماً ، أعلى درجة . ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾ لا يوجد شيء ، إن كان هناك توجيهات صحية ، الله عز وجل قال  : 

﴿ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) ﴾

[  سورة الأعراف  ]

هذه الآية تكفي ، ذهب رجل إلى دولة أجنبية ، على أضخم مستشفى كتب باللغة الأجنبية  : نحن قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع ، محمد بن عبد الله .  قال : هذا الحديث يُعد أصلاً في الطب الوقائي ، إن طبقت القرآن في الطعام والشراب تقطف ثماره في الدنيا ، وإن طبقته في الزواج تقطف ثماره ، إن طبقته في التربية تقطف ثماره ، في العمل ، في التجارة .. في أي شيء تطبقه تقطف ثماره ، ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾  ، أي للتي هي أصلح . 

 

القرآن يبشِّر المؤمن العامل للصالحات بأجر عظيم :


﴿ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ﴾ .. مرة ضربت مثلاً مضحكاً ؛ رجل فقير إلى درجة قصوى ، دخله سبعمئة ليرة ، عنده اثنا عشر ولداً ، بيته بالأجرة في مثل هذه الأيام ، له عم غني كبير ، ليس له أولاد ، توفي فترك ثمانية وخمسين مليونا ، هذه الأموال لهذا الإنسان ، بقي سنتان حتى استطاع أن يقبضها ، سنتان بين وفاته وبين قبضه للمبلغ ، هذا الإنسان الفقير هل تغيرت حياته ؟ لم تتغير ، طعامه تحسن ؟ لم يتحسن ، بيته غيره ؟ لم يغيره ، لماذا صار سعيداً ؟  دخل في الوعد ، دخل في الأمل ، هكذا المؤمن بالدنيا ، مهما ضاقت دنياه فهو طامع في الجنة ، هذا الإنسان الفقير مادام سيأتيه مبلغ ضخم كلما رأى بيتاً فخماً هذا سأشتريه ، كلما رأى مركبة فخمة هذه سأشتريها ، كلما رأى شيئاً جميلاً يقرر شراءه ، لأنه أصبح موعوداً بمبلغ ضخم ، لكن إجراءات قبض المبلغ تستغرق وقتاً ، هذا المثل لم يقع بل هو من عندي ، إنه مثل تركيبي ، وليس مثلاً واقعاً ، دخل بالوعد ، صار سعيداً ، أحد أسباب سعادة المؤمن أن الله عز وجل وعده بالجنة .

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور