وضع داكن
28-04-2024
Logo
الدرس : 1 - سورة الحشر - تفسير الآيات 1- 5 قصة بني النضير
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على سيدنا محمد الصّادق الوعد الأمين.
اللّهمّ لا علم لنا إلا ما علّمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللّهمّ علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا، وزِدنا عِلماً وأرنا الحقَ حقاً وارزقنا أتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادكَ الصّالحين.
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الأول من سورة الحشر.
بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ 

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۖ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ (1)


 1 ـ مفهوم التسبيح:

  التسبيح: التنزيه، والتسبيح: التمجيد، التنزيه أن تنزِّهَ الله -جلَّ جلاله-عن كلّ ما لا يليقُ به، والتمجيد أن تجولَ في كماله، وأن تتحققَ من أسمائه الحُسنى ومن صفاته الفُضلى ، أن تنزهَه وأن تمجدَه.

 2 ـ كلُّ المخلوقات تسبِّح اللهَ:

الله -سبحانه وتعالى- في هذه الآية الأولى من سورة الحشر يُبيِّن أن كلّ المخلوقات من دون استثناء تسبح الله ولكن لا نفقه تسبيحها، وكلمة (لا نفقه تسبيحها) هي قرينةٌ مانعةٌ من أنَ نفهم التسبيح إتقان صنعتها، الشيء المتقن كأنّه ينطق ويقول: سبحان الذي صنعني! المعنى أعمق من ذلك، إن هذه المخلوقات من دون استثناء تسبحُ الله على نحوٍ لا نعرفه، فإذا كانت المخلوقات التي سخَّرها الله للإنسان تسبّح وتنزّه وتمجّد بطريقةٍ لا نفقهها، فلأن نكون نحن المسبِّحين من باب أولى، حينما سخَّر الله لنا الكون بأكمله:

﴿ وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَءَايَٰتٍۢ لِّقَوْمٍۢ يَتَفَكَّرُونَ (13)﴾

[ سورة الجاثية ]

نحن أولى بالتسبيح ونحن أولى بالتنزيه ونحن أولى بالتمجيد، فكيف إذا غفلَ هذا الإنسان المخلوق الأول المكرم المكلَّف، وتنبَّه الذين سُخّروا له فسبّحوا ونزَّهوا ومجّدوا.

 3 ـ معنى العزيز الحكيم:

ربنا -سبحانه وتعالى- يقول: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۖ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ) أي: عزيزٌ قويٌ، متفردٌ بالقوة، فَعَّالٌ لما يريدُ، قاهرٌ، إرادته هي النافذة، وحكيمٌ في أفعاله، والحكمة من أَولى ومن أبرز دلائل عظمته، فهو عزيزٌ لا يُنال جانبه ، فإذا كنت مع العزيز فأنت العزيز، وإذا كنت مع القوي فأنت القوي، وإذا كنت مع الفعَّال لما يريد ودَعوتَه كان ما تريدُ، وأنت بالدعاء أقوى إنسان، فالدعاء كما قال عليه الصلاة والسلام: 

(( الدُّعاءُ هوَ العبادةُ  ))

[ أخرجه أبو داود، الترمذي، وابن ماجة، وأحمد عن النعمان بن بشير  ]

هو عزيزٌ، ومع أنّه عزيز هو حكيم، كلّ أفعاله فيها حكمةٌ مطلقة، لذلك قالوا: "كل ما أراده الله وقع، وكلّ ما وقع أراده الله، وإرادة الله متعلقةٌ بالحكمة المطلقةِ" ومعنى الحكمة المطلقة أن الشيء الذي وقع إن لم يقعْ على النحو الذي وقع فهذا نقصٌ في حكمة الله؛ لأن حكمته مطلقةٌ، فكلّ شيءٍ وقع أراده الله وكلّ شيءٍ أراده الله وقع، وإرادته متعلقةٌ بالحكمة المطلقة، وحكمته المطلقة متعلقةٌ بالخير المطلق.

﴿ قُلِ ٱللَّهُمَّ مَٰلِكَ ٱلْمُلْكِ تُؤْتِى ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّن تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ ۖ بِيَدِكَ ٱلْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌ (26)﴾

[ سورة آل عمران ]

لم يقل: بيدك الخير والشر، بل قال: (تُؤْتِى ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّن تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ) قال: (بِيَدِكَ ٱلْخَيْرُ) معنى ذلك أن إيتاء الملك خيرٌ ونزعَ الملك خيرٌ، الإعزاز خيرٌ والإذلال خيرٌ، فالله -سبحانه وتعالى- نافعٌ وضارٌ لكن يضرُّ لينفع، ويخفضُ ليرفع، ويأخذ ليُعطي ويبتلي ليجزي، وقد ورد في الأثر: (وإن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، ومنزل ترحٍ لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح برخاء ولم يحزن بشقاء، قد جعلها الله دار بلوى، وجعل الآخرة دار عُقْبى، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سببًا، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضًا، فيأخذُ ليعطي ويبتلي ليجزي)

 قصة إجلاء بني النضير من المدينة النبوية:


هُوَ ٱلَّذِىٓ أَخْرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ مِن دِيَٰرِهِمْ لِأَوَّلِ ٱلْحَشْرِ ۚ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ ۖ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ ٱللَّهِ فَأَتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ ۖ وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ ۚ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى ٱلْمُؤْمِنِينَ

﴿ فَٱعْتَبِرُواْ يَٰٓأُوْلِى ٱلْأَبْصَٰرِ (2)﴾

[   سورة الحشر ]

هذه الآية في سورة الحشر تشير إلى حدثٍ وقع في عهد النبي حينما أجلى النبي -عليه الصلاة والسلام- بني النضير، أجلاهم في السنة الرابعة للهجرة، ولإجلائهم قصةٌ يحسنُ أن نطَّلعَ عليها قبل أن نتابعَ تفسير الآية، ففي السنة الرابعة للهجرة بعد غزوة أُحد وقبل غزوة الأحزاب(الخندق) يذكُرُ عنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنّه ذهبَ مع عشرةٍ من كبار أصحابه فيهم أبو بكرٍ وعمر وعلي-رضي الله عنهم أجمعين- ذهبوا إلى مَحلة بني النضير يَطْلُبُ منهم المشاركة في أداء دية قتيلين، بحكم ما كان بين النبي -صلى الله عليه وسلم- وبينهم من عهدٍ في أول مدة مَقدَمِه إلى المدينة، النبي-عليه الصلاة والسلام- حينما هاجر إلى المدينة قبل أربع سنوات أبرم العهود مع جيرانه بني قريظة وبني قينقاع وبني النضير، فلما ذهب النبي مع كبار أصحابه إلى مَحلة بني النضير ليطالبهم بإنجاز العهد الذي بينه وبينهم المشاركة في أداء دية قتيلين، بحكم ما كان بينه وبينهم من عهدٍ في أول مَقْدِمِه إلى المدينة، فاستقبله يهود -بني النضير- بالبِشر والترحاب ووعدوه بأداء ما عليهم، بينما كانوا يدبِّرون أمراً لاغتيال النبي-عليه الصلاة والسلام- ومَن معه، وكان -صلى الله عليه وسلم- جالساً إلى جدارٍ من بيوتهم، فقال بعضهم لبعضٍ:" إنّكم لن تجدوا الرَجُل على مثل حاله تلك -أي أنّها فرصة لا تُفوت- فمن رَجُلٌ منكم يعلو هذا البيت فيلقي عليه صخرةً فيريحنا منه؟" فانتدبوا لذلك عمرو بن جحاش بن كعب أحد بني النضير فقال: "أنا لذلك" ، فصعد ليلقي عليه الصخرةَ كما قال، فأُوحِي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بما يُبَيِّت هؤلاء ضدّه، فقام كأنه ليقضي أمراً فلما غاب واستبطأه أصحابه خرجوا من المَحلة يسألون عنه، فعلموا أنّه دخل المدينة، جاءه الوحي وأخبره بما تآمر عليه اليهود.
وأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- للتهيُّؤ لحرب بني النضير لظهور الخيانة منهم ونقض عهد الأمان الذي بينه وبينهم، وكان قد سبق هذا إقذاع كعب بن الأشرف من بني النضير في هجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتأليبه الأعداء عليه، وما قيل من أن كعباً ورهطاً من بني النضير اتصلوا بكفار قريش اتصالَ تآمرٍ وتحالفٍ وكيدٍ ضدّ النبي -صلى الله عليه وسلم- مع قيام ذلك العهد بينه وبينهم، ممّا جعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأذن في قَتْلِ كعب بن الأشرف، فلمّا كان التبييت للغدر برسول الله في مَحلة بني النضير لم يبقَ مفرٌ من نبذ عهدهم إليهم وفق الآية الكريمة:

﴿ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَٱنۢبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَآءٍ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلْخَآئِنِينَ (58)﴾

[ سورة الأنفال ]

فتجهَّز النبي -صلى الله عليهم وسلم- وحاصر مَحلة بني النضير، وأمهلهم ثلاثةَ أيام وقيل عشرة ليفارقوا جواره وليذهبوا عن مَحلتهم، على أن يأخذوا أموالهم ويقيموا وكلاء عنهم على بساتينهم ومزارعهم، ولكن المنافقين في المدينة وعلى رأسهم عبد الله بن أبي بن سلول رأس النفاق أرسل إليهم يحرضهم على الرفض والمقاومة، وقالوا لهم: "أن اثبتوا وتمنَّعوا فإنّا لم نسلمْكم، وإن قوتلتم قاتلنا معكم وإن أُخرجتكم خرجنا معكم" ، المنافقون الذين حول النبي تواطئوا مع بني النضير، وفي هذا يقول الله -عزَّ وجلَّ-:

﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نَافَقُواْ يَقُولُونَ لِإِخْوَٰنِهِمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَٰذِبُونَ(11) لَئِنْ أُخْرِجُواْ لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ ٱلْأَدْبَٰرَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ(12) لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِى صُدُورِهِم مِّنَ ٱللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ(13)﴾

[ سورة الحشر ]

تَحصَّنَ اليهودُ في الحصون فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقطع نخيلهم وتحريق بعضها، فنادوا: "أنْ يا محمد، قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من صنعه، فما بالك تقطعُ النخيل وتحرِّقُها؟" وفي الردّ عليهم قال الله تعالى:

﴿ مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَىٰٓ أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ ٱللَّهِ وَلِيُخْزِىَ ٱلْفَٰسِقِينَ (5)﴾

[ سورة الحشر ]

ولما بلغَ الحصارُ ستاً وعشرين ليلةً يئس اليهود من صدق وعد المنافقين لهم، وقذف الله في قلوبهم الرُعب فسألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يُجليَهم وأن يكفَ عن دمائهم، كما سبق أن جلى بني قينقاع على أن لهم ما حَمَلَت الإبل من أموالهم، فأجابهم النبي -صلى الله عليه وسلم- فاحتملوا من أموالهم ما استقلَّتْ به الإبل، فكان الرجل منهم يهدمُ بيته عن خشبةٍ من أجل أن يأخذَها معه، أو يُخرِبُهُ حتّى لا يقعَ في أيدي المسلمين، وكان المسلمون قد هدموا وخربوا بعض الجدران التي اتُخِذَتْ حصوناً في أيام الحصار.

 إرادة الله وقدرته نافذة على العباد:


لذلك يقول الله -عزَّ وجلَّ-: (هُوَ ٱلَّذِىٓ أَخْرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ) (هُوَ) : أي أن الله -عزَّ وجلَّ- تولى إخراجهم بذاته، أحياناً الله -عزَّ وجلَّ- يفعل فعله، لكن من خلال جهاتٍ أرضية، وأحياناً يتولى بذاته مباشرةً فعل أفعاله، فهذه الآية تشير إلى أن الله -سبحانه وتعالى- تولَّى أمر إخراجهم مباشرةً (هُوَ ٱلَّذِىٓ أَخْرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ) 
هذه الآية أيّها الإخوة؛ تعطينا الشيء الكثير، ليس إلّا الله بيده كلّ شيءٍ، وكلّ الخلق بيده، وفي الأثر: "إن العباد أطاعوني حوَّلت قلوب ملوكهم عليهم بالرأفة والرحمة، وإن هم عصوني حوَّلت قلوبَ ملوكهم عليهم بالسخط والنقمة" ، الأمر كلّه بيد الله (هُوَ ٱلَّذِىٓ أَخْرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ) ، يبدو أن بني النضير كانوا بأعلى درجةٍ من القوة والتَحَصُّن، فما كان يخطرُ في بال المسلمين أن هؤلاء يخرجون من حصونهم، وما كان يخطرُ ببالهم إطلاقاً أن هؤلاء يخربون بيوتهم بأيديهم، فالله -عزَّ وجلَّ- له آياتٍ، أحياناً الإنسان يؤتى من داخله، قد يكونُ من خارجه قويًا جداً ومحصنًا جداً، ولكن إذا قذفَ الله في قلبه الرعب يؤتى من داخله.

من حكمة الله صراع الحق والباطل:


هذه الآية تفيدنا أشياء كثيرة، ممّا تفيدنا به أن المؤمن لا يخشى إلّا الله، لأن الخلقَ كلُّهم بيد الله ، فإذا كان مع الله كان اللهُ معه وإذا كان الله معه فمن عليه؟ وإن لم يكنْ مع الله لم يكنِ الله معه، وإذا لم يكنِ الله معه أضعفُ الخلق يتطاولُ عليه، وأقرب الناس إليه يكيدُ له، فهذه الآية تعلمنا الشيء الكثير،
 شاءت حكمة الله أن يكونَ في الأرض مؤمنون وكفار، أهل حقٍ وأهل باطل، مستقيمون ومنحرفون، محسنون و مسيئون؛ هذا من حكمة الله، وكان من الممكن أن يخلقَ الله المؤمنين في قارة والكفار في قارة وبينهما بحارٌ شاسعة، ولكن اختلاط الكفار بالمؤمنين من حكمة الله العظيمة، إن هذا الاختلاط هو الذي يضاعفُ أجر المؤمنين، أي أن الطريق إلى الله ليست مفروشةً بالورود والرياحين، لابدّ من أن تتحملَ، لابدَّ من أن تصبرَ، هناك أعداءٌ للحقِّ هناك مناوئون للحقِّ، هناك من يريد أن يطفئَ نور الله -عزَّ وجلَّ-.

﴿ وَلَا تَهِنُواْ وَلَا تَحْزَنُواْ وَأَنتُمُ ٱلْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (139)﴾

[ سورة آل عمران ]

أليس بقدرة الله -عزَّ وجلَّ- أن يخلقَ النبي-عليه الصلاة والسلام- وأصحابه الكرام الذين تفانوا في محبته وحدهم من دون أبي لهبٍ ومن دون أبي جهلٍ، ومن دون صفوانَ بن أمية، هذا شيء كان من الممكن أن يفعلَه الله، ولكن من أجل أن يظهرَ صدق النبي، أن يُظهِرَ حرصه على الحقِّ. 
أحياناً المناوئ -الطرف الآخر- الذي يشوش عليك والذي يزعجك والذي يكيد لك، والذي يقف لك بالمرصاد، هذا من تقدير الله لك، وهذا ممّا يرفعُ قدر المؤمن ويظهر صدقه وإصراره وثباته، فالحزن خلاَّق، وحياة النبي -عليه الصلاة والسلام- مفعمةٌ بالمتاعب. 

﴿ طه (1) مَآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْءَانَ لِتَشْقَىٰٓ (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ(3)﴾

[ سورة طه ]

كان النبيُ يَنتقِلُ من غزوةٍ إلى غزوة ومن سريةٍ إلى سرية ومن مشكلةٍ إلى مشكلة، من أجل أن يظهرَ صدقُ النبي وثباته، وأن تظهرَ محبته لله -عزَّ وجلَّ-، معنى ذلك أن المؤمن إذا عانى من بعض المتاعب ممن حوله أحياناً من أسرته أحياناً من أولاده، ممن حوله من جيرانه، هذه المتاعب مقدَّرة لتُظهرَ صدق إيمانه، ولتُظهر ثباته على مبدئه، ولتُظهر محبته لله ورسوله.
أيها الإخوة؛ (هُوَ ٱلَّذِىٓ أَخْرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ) أحياناً تستمعُ إلى أقوياء وضعفاء، وأناس انتصروا وأناس انهزموا، يجبُ أن تعلمَ علم اليقين أن الأمرَ بيد الله هو مَكَّنَ هؤلاء من هؤلاء، هو سلَّط هؤلاء على هؤلاء، هو قوَّى هؤلاء على هؤلاء، الأمر بيده يقوِّي لحكمةٍ ويضعِّف لحكمةٍ وينصرُ لحكمة، ويقدِّرُ الهزيمة لحكمة من أجل أن يكشفَ حقيقة عباده لأنفسهم ولمن حولهم، هو يعرفهم فالأمر بيد الله وهذا هو التوحيد، الآية واضحة جداً (هُوَ ٱلَّذِىٓ أَخْرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ)
أحياناً الإنسان بحسب القواعد، بحسب ما يبدو له من قوانين يقول: فلان مستحيل أن يضعفَ، فإذا به يهوي كبيت العنكبوت، وهذه من آيات الله الدالة على عظمته، وقد قيل: "عَرِفْتُ الله من نقضِ العزائم"، يبدو فيما يروي التاريخ أن هؤلاء -بني النضير- كانوا من أقوى الناس، لهم حصون منيعة، أموال وفيرة، بساتين غنَّاء، كلّ شيء بيدهم، ما كان يصدِّقُ المؤمنون وما كان يخطرُ في بالهم أن هؤلاء يخرجون من حصونهم، ما كان المؤمنون ليصدِّقوا أن هؤلاء يخربون بيوتهم بأيديهم، هذه الآية مطمئنة فلا تخفْ إلّا الله، أقوى قوى الأرض بيد الله، أقوى الأقوياء في قبضة الله، فإذا كنت مع الله كان الله معك وكنت أقوى من كلّ قوي، وإذا تخلَّى الله عنك تطاول عليك كلّ ضعيفٍ من أجل أن تثق بوحدانية الله وبقدرة الله وبنصر الله (هُوَ ٱلَّذِىٓ أَخْرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ مِن دِيَٰرِهِمْ لِأَوَّلِ ٱلْحَشْرِ ۚ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ ۖ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ ٱللَّهِ) 
هؤلاء بنو النضير ظنّوا أن هذه الحصون تمنعهم، وأحياناً الإنسان يظنُّ أنَّ مالَهُ يمنعه من كلّ له مشكلة، فيسوق الله له مشكلةً لا تُحلُّ بالمال، يظنُّ أن الذين حوله يمنعونه فيضعه الله في مأزقٍ لا يستطيع أن يُعلِمَ أحداً ممّن حوله بما هو فيه، لله آياتٌ باهرات، آياتٌ جليَّات، كلّ شيءٍ تتكئ عليه يُخليه الله من تحت يدك فإذا أنت على هواء.

 معنى الإيمان الحقيقي:


العبرة من هذه الآية أن تعتصم بالله، وأن تثق بالله، وأن تتوكل على الله، وألّا ترى مع الله أحداً، أن توحِّدَهُ، ألّا تشركَ به، أن تؤمنَ أنّه في السماء إلهٌ وفي الأرض إله، أن تؤمنَ أن الأمر كلّه بيده:

﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ ٱلْأَمْرُ كُلُّهُۥ فَٱعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)﴾

[ سورة هود ]

أن تؤمنَ أن:

﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ۚ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِۦ ۖ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَٰهَدَ عَلَيْهُ ٱللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيماً10)﴾

[ سورة الفتح ]

أن تؤمنَ أنّه:

﴿ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ ۚ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ ۚ وَلِيُبْلِىَ ٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَآءً حَسَنًا ۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)﴾

[ سورة الأنفال ]

أن تؤمنَ أنَّه: 

﴿ قُلِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ ۖ لَهُۥ غَيْبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۖ أَبْصِرْ بِهِۦ وَأَسْمِعْ ۚ مَا لَهُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَلِىٍّۢ وَلَا يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِۦٓ أَحَدًا (26)﴾

[ سورة الكهف ]

أن تؤمنَ أن:

﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِى ٱلْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ۚ وَٱللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِۦ ۚ وَهُوَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ (41)﴾

[ سورة الرعد ]

أن تؤمنَ أن:

﴿ ٱللَّهُ خَٰلِقُ كُلِّ شَىْءٍۢ ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ وَكِيلٌ (62)﴾

[ سورة الزمر ]

أن تؤمنَ أن الله:

﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍۢ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ يُغْشِى ٱلَّيْلَ ٱلنَّهَارَ يَطْلُبُهُۥ حَثِيثًا وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرَٰتٍ بِأَمْرِهِۦٓ ۗ أَلَا لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَٰلَمِينَ (54)﴾

[ سورة الأعراف ]

أن تعبدَه، هو الفعال لما يريد، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكنْ، لا حول ولا قوة إلا بالله، حسبي الله ونعم الوكيل؛ هذه كلمات الإيمان، هذه الكلمات التوحيدية تُلقي في قلبك طمأنينة ما بعدها طمأنينة، تُلقي في قلبك سكينة ما بعدها سكينة، تُلقي في قلبك أمناً ما بعده أمن؛ لأن الله معك، أنت عبدٌ له تطيعه وتخطبُ ودَّه، فماذا تنتظر منه؟ كلّ خيرٍ.

﴿ قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلَّا مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَىٰنَا ۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ (51)﴾

[ سورة التوبة ]

إذا كنت تخطبُ ودَّ الله -عزَّ وجلَّ- تتقرب إليه بالطاعات، بالأعمال الصالحة بالتوبة النصوح، ماذا تنتظر منه؟ كلَّ خير؛ لذلك ربنا -عزَّ وجلَّ-طمأن المؤمنين.
نحن علاقتنا بهذه الآية؛ إذا كان هناك خصوم أقوياء جداً فهؤلاء عند الله ضعفاء، فإذا كنّا مع الله كان الله معنا ونصرنا على أعدائنا؛ لذلك الله -عزَّ وجلَّ- ما كلَّفنا أن نُعِدَّ لأعدائنا القوة المكافئة، بل كلفنا أن نُعِدَّ لهم القوة المتاحة وهو يرمم ما بقي، قال تعالى:

﴿ وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍۢ وَمِن رِّبَاطِ ٱلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَىْءٍۢ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)﴾

[ سورة الأنفال ]

المؤمن يجبُ ألّا يضعفَ أمام ما يقال، يقولون لك: تفوقٌ وتكنولوجية وأقمار صناعية، يقولون لك مثلاً: سلاح ذكي، قنابل عنقودية؛ هذه كلّها عند الله لا شيء، إذا كان الله معك فمن عليك، وإذا كان عليك فمن معك ، لا تخفْ إلّا الله ولا تخشَ إلّا الله، ولا تتكلْ إلّا على الله، وهذه الآية: (هُوَ ٱلَّذِىٓ أَخْرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ مِن دِيَٰرِهِمْ لِأَوَّلِ ٱلْحَشْرِ ۚ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ) بحسب المُعطيات بحسب ما يبدو لكم بحسب القوانين المادية هم أقوياء جداً وأنتم ضعفاء، لكنهم خرجوا من بيوتهم وخرَّبوها بأيديهم (مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ ) هم (ظَنُّوٓاْ أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم) ، وأنت ترى بأُمِ عينك كلما ادعت قوةٌ أنّها الأقوى في العالم تهاوت كبيت العنكبوت، والتاريخ القريب يؤكِّد هذه الحقيقة، قلعةٌ من قلاع الكفر تهاوت كبيت العنكبوت (وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ ٱللَّهِ) 
أحياناً الإنسان يتَّكئُ على ماله فإذا المال لا شيء، يتّكئُ على مكانته فإذا مكانته لا شيء، يتّكئُ على مَن حوله فإذا مَن حوله لا شيء، يتكلُ على علمه فإذا علمه لا شيء، يتكلُ على أعوانه فإذا أعوانه لا شيء كلما اتكلت على شيءٍ وقد أشركت بالله -عزَّ وجلَّ- زلزل الأرض من تحت قدمك، فإذا أردت أن تكونَ أقوى الناس فتوكَّل على الله.

 الدروس والعبر من غزوتي بدرٍ وحُنينٍ:


لا تبتعدوا كثيراً فهؤلاء أصحاب النبي وهم صفوة الله من خلقه، في بدرٍ قال تعالى:

﴿  وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ بِبَدْرٍۢ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ ۖ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)﴾

[ سورة آل عمران ]

هُم هم، في حنين قال:

﴿  لَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍۢ ۙ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْـًٔا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ (25)﴾

[ سورة التوبة ]

معنى ذلك أن في حياة كلّ مؤمنٍ يومين -يومَ بدرٍ ويوم حنين- في بدر إذا قلت: "الله، وأنا لا شيء" تولاَّك الله بالرعاية والحفظ والنصر والتأييد والتوفيق، وفي حنين إذا قلت: "أنا ذكاء علم خبرة قوة" ، إذا قلت هذا تخلَّى الله عنك، فأنت بين أن يتولاَّك الله وبين أن يتخلى عنك، نحن بحاجةٍ ماسَّةٍ إلى هذا الدرس، كلّكم يعلمُ أن المسلمين يواجهون أعداءً لهم في شتَّى بقاع الأرض، فإذا آمن المسلمون أن الله وحده بيده كلّ شيء، وأنّه مع المؤمنين عندئذٍ لا تضعف عزائمهم ولا تخور قواهم.
(هُوَ ٱلَّذِىٓ أَخْرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ مِن دِيَٰرِهِمْ لِأَوَّلِ ٱلْحَشْرِ ۚ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ ۖ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ ٱللَّهِ فَأَتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ) يُؤتى الحَذِرُ من مَأمنه، يُؤتى القوي من نقطة ضعفه، يؤتى الإنسان من داخله، أحياناً يُلقي الله في قلبك الرُعب فتخورُ قواك، ترتعدُ فرائسك، تنهارُ من الداخل وينتهي الأمر؛ لذلك قال عليه الصلاة والسلام:

(( أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أحَدٌ مِنَ الأنْبِيَاءِ قَبْلِي: نُصِرْتُ بالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وجُعِلَتْ لي الأرْضُ مَسْجِدًا وطَهُورًا، وأَيُّما رَجُلٍ مِن أُمَّتي أدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ، وأُحِلَّتْ لي الغَنَائِمُ، وكانَ النبيُّ يُبْعَثُ إلى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وبُعِثْتُ إلى النَّاسِ كَافَّةً، وأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ ))

[ أخرجه البخاري، ومسلم عن جابر بن عبد الله  ]

فإذا عَصَتْ أُمته ربها، أو خالفت سُنة نبيها، ربما تخافُ، تُهزم بالرُعب، النبي في صدر الإسلام نُصِرَ بالرعب.

﴿ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَٱتَّبَعُواْ ٱلشَّهَوَٰتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)﴾

[ سورة مريم ]

﴿ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ كَمَا ٱسْتَخْلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ٱلَّذِى ٱرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِى لَا يُشْرِكُونَ بِى شَيْـًٔا ۚوَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْفَٰسِقُونَ (55)﴾

[ سورة النور ]

هذا قانون ربنا -عزَّ وجلَّ-، والتاريخ يؤكِّد هذه الحقيقة، ففي بدرٍ كان عددهم ثلاثمائة غلبوا ألفاً بإذن الله، كلّ معارك المسلمين كانوا قلَّةً لكن قوتهم في إيمانهم وفي اعتمادهم على ربهم وفي تطبيقهم لمنهج ربهم، فإذا خالفوا منهج ربهم وآثروا الشهوة على المبدأ عندئذٍ تخلَّى الله عنهم، الله تخلى عن أصحاب رسوله في حنين، فمن نحن إذاً إذا تخلَّى الله عن أصحاب رسوله ورسوله بين أظهرهم: (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْـًٔا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ) فمن نحن؟ 
لذلك أيها الإخوة؛ نحن أقوياء بالله (وَلَا تَهِنُواْ وَلَا تَحْزَنُواْ وَأَنتُمُ ٱلْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) ، أنت بإيمانك بالله تشعرُ أن الله معك، وإذا كان الله معك فلا أحد يجرؤ أن ينالَ منك. 
(وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ ٱللَّهِ فَأَتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ ۖ وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ) فالله -عزَّ وجلَّ- يمكن أن يقويَ خصمك، ويمكنُ أن يُضعِفَ خصمك، يمكنُ أن يُضعفَك من الداخل، فيصبح خصمك الضعيف أقوى منك إذا أضعفك من الداخل؛ الأمر بيده، وقلبك بيده، وعزيمتك بيده، ورؤيتك بيده.

﴿ إِذْ يُرِيكَهُمُ ٱللَّهُ فِى مَنَامِكَ قَلِيلًا ۖ وَلَوْ أَرَىٰكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَٰزَعْتُمْ فِى ٱلْأَمْرِ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ سَلَّمَ ۗ إِنَّهُۥ عَلِيمٌۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ (43)﴾

[ سورة الأنفال ]

أي: أن ترى رؤيتك بيد الله، قلبك بيد الله، ثباتك بيد الله، كن مع الله، ولا تخشَ أحداً (فَأَتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ ۖ وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ)

 قانون الأمن والخوف عند الله-عزَّ وجلَّ-:


إخواننا الكرام؛ هذا الرُعب الذي يُقذفُ في قلب المشرك هو قانون، في آيةٍ أخرى:

﴿ سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعْبَ بِمَآ أَشْرَكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِۦ سُلْطَٰنًا ۖ وَمَأْوَىٰهُمُ ٱلنَّارُ ۚ وَبِئْسَ مَثْوَى ٱلظَّٰلِمِينَ (151)﴾

[ سورة آل عمران ]

قال تعالى:

﴿  فَلَا تَدْعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَ فَتَكُونَ مِنَ ٱلْمُعَذَّبِينَ (213)﴾

[ سورة الشعراء ]

الإنسان بمجرد أن يدعوَ مع الله إلهاً آخر يدخلُ في الخوف، فقانون الخوف متعلقٌ بالشرك، إن وَحَّدْت فلا تخفْ وإن أشركت تخفْ، (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى ٱلْمُؤْمِنِينَ فَٱعْتَبِرُواْ يَٰٓأُوْلِى ٱلْأَبْصَٰرِ) والإنسان قد يجدُ في حياته أو في عصره أو فيمن حوله الدلائل الكثيرة، الله -عزَّ وجلَّ- قال:

﴿ وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ ءَامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍۢ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَٰقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ (112)﴾

[ سورة النحل ]

الله -عزَّ وجلَّ- يقول:

﴿ وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِۦ عَلَيْكُمْ سُلْطَٰنًا ۚ فَأَىُّ ٱلْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِٱلْأَمْنِ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (81) ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوٓاْ إِيمَٰنَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمُ ٱلْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ (82)﴾

[ سورة الأنعام ]

المؤمن أكبر ميزةٍ يمتاز بها عمّن سواه أن الله -سبحانه وتعالى- يُلقي في قلبه الأمن والسكينة والطُمأنينة والسعادة والتوازن والاستقرار، وأن المبتعد عن الله الشارد عن منهجه المنقطع عنه المرتكب للمعاصي والآثام، أول ضعف يصيبه أن الله يلقي في قلبه الخَوْف، فنعمة الأمن خاصةٌ بالمؤمنين، ومشكلة الخوف من لوازم المشركين، فهؤلاء اليهود ألقى الله في قلوبهم الخوف لذلك:

﴿ لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14)﴾

[ سورة الحشر ]


طرق المعالجة الربانية:


﴿ وَلَوْلَآ أَن كَتَبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمُ ٱلْجَلَآءَ لَعَذَّبَهُمْ فِى ٱلدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِى ٱلْءَاخِرَةِ عَذَابُ ٱلنَّارِ (3)﴾

[  سورة الحشر ]

هذه الآية لها معنىً دقيق: أي أن الله -عزَّ وجلَّ- كتب عليهم أن يخرجوا من ديارهم - كتب عليهم الجلاء- لو لم يفعل ذلك لعالجهم بطريقةٍ أخرى، فالإنسان أحياناً الله يسوق له مرض فيعالجه به، حسنًا إن لم أمرض؟ هناك طريقة ثانية، هناك مشكلة أخرى تأتيك، المشكلة لابد من أن تُعالجَ فإن لم تُعالجْ بهذا العلاج تُعالجُ بعلاجٍ آخر، فأنت في قبضة الله، أحدهم يقول لك: لو لم آكلْ هذه الأكلة لما أصابني هذا الجرثوم، لا، لا تقل هكذا، لا تقلْ: لو أنّي فعلت كذا وكذا، ولكن قلْ: قدَّر الله وما شاء فعل، أي إن لم يقدّر لك العلاج من هذا الطريق فعند الله ألف طريقٍ وطريق.
 (وَلَوْلَآ أَن كَتَبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمُ ٱلْجَلَآءَ لَعَذَّبَهُمْ) بطريقة أخرى، معنى ذلك أن هؤلاء لأنّهم خانوا عهد رسول الله، وائتمروا على قتله، وخانوا العهد الذي بينهم وبينه استحقوا من الله العقاب، فكان من عقاب الله لهم أن أجلاهم عن بلادهم، لو لم يكتب عليهم الجلاء لعذَّبهم بطريقةٍ أخرى، فالله عنده من أنواع البلاء ما لا يُعَدُ ولا يُحصَى، الجسم البشري وحده فيه أمراض تصيب القلب، أمراض تصيب الرئتين، أمراض الأعصاب، العضلات، الدماغ، خثرة بالدماغ، خثرة بالقلب، أحياناً بالبصر، أحياناً بالسمع، أحياناً بالجلد، مليون طريق وطريق بجسمك فقط، بمالك، إذا سَلِم الإنسانُ من شيء قد يقعُ في شيءٍ آخر، الآية دقيقة جداً (وَلَوْلَآ أَن كَتَبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمُ ٱلْجَلَآءَ) أي كان من تقدير الله أنّه عاقبهم بأن أجلاهم عن بلادهم، (وَلَوْلَآ أَن كَتَبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمُ ٱلْجَلَآءَ لَعَذَّبَهُمْ فِى ٱلدُّنْيَا) بطريقةٍ أخرى، فإذا أخذ الإنسانُ الاحتياط، اعتنى بصحته اعتناءً شديداً ولم يكنْ مستقيماً، يقول لك: أنا رياضي، إذا اعتنى بصحته أبلغ عناية ولم يكنْ مستقيماً على أمر الله فهناك ألف طريق وطريق لمعالجته من طريق آخر، حَصَّن ماله، هناك طريق ثالث، حَصَّن حاجاته الأساسية، يقول لك: كلّه أَمَّنت عليه، يأتي من طريق رابع، فهذه النقطة:

﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ (11)﴾

[ سورة الرعد ]

مهما تحَّصنوا، إن حصنوا أموالهم من طريق آخر، إن حصنوا ممتلكاتهم من طريق آخر، إن حصنوا أنفسهم من طريق آخر.

﴿ وَلَوْلَآ أَن كَتَبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمُ ٱلْجَلَآءَ لَعَذَّبَهُمْ فِى ٱلدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِى ٱلْءَاخِرَةِ عَذَابُ ٱلنَّارِ (3) ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ ۖ وَمَن يُشَآقِّ ٱللَّهَ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ (4)﴾

[  سورة الحشر ]

لماذا عذَّبهم؟ لماذا أجلاهم من بلادهم؟ لماذا أذلَّهم؟ لماذا أخزاهم على يد النبي -عليه الصلاة والسلام- لماذا؟ قال: (ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ)

معنى مُشاقّة الله ورسوله:


من أوجه المعاني لهذه الآية: أنّهم اتخذوا شقاً آخر غير شق الله، أي أنهم ناوؤوا الله، لم يكونوا مع الله، أرادوا أن يطعنوا في دينه، أرادوا أن يطفئوا نوره، أرادوا أن يفعلوا شيئاً يطفئ نور الله بأفواههم (ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ) ، الإنسان إذا كان من السُعداء لا يفكر إطلاقاً أن يقفَ ضدّ الحقّ، كن مع الحقّ ولا تكن ضدّه، كن مع أهل الحقّ ولا تكن ضدّهم، كن مع إحقاق الحقّ ولا تكن مع ترسيخ الباطل، الإنسان حينما يتخذُ له موقفاً يناوئ به أهل الحقِّ يستحق عذاب الله -عزَّ وجلَّ (ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ) ، أحياناً يطرح الإنسان فكراً مناوئًا للدين، فيُلقي الشبهات يُلقي في قلوب الناس التُرُّهات، النقاط السلبية، الأشياء الخلافية، من أجل أن يزلزلَ ثقة الناس بالدِّين، هذا يشاققُ الله ورسوله، أحياناً ينقِّب في السيرة عن أشياء، يقول لك: النبي تزوج تسع نساء، يريدُ أن يقولَ لك: إنّه زير نساء (ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ) ، أحياناً يقول لك: لماذا المرأة نصف الرجل، هي تعملُ مثله؟ يريد أن يطعن في هذا الشرع العظيم، أو في التاريخ، أو في نبوة النبي، أو في عصمة النبي، أو في كمال أصحاب النبي، وحينما يقفُ الإنسان الموقف المعارض، الموقف المناوئ، الموقف الذي يطعنُ ويُربِكُ ويشوَّشُ (ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ) 
 كن مع المؤمنين، كن دعماً لهم، كن مؤيِّداً لهم، كن ناصراً لهم، كن مدافعاً عنهم من أجل أن يدافع الله عنك من أجل أن يرفعَك الله -عزَّ وجلَّ- (ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ ۖ وَمَن يُشَآقِّ ٱللَّهَ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ) ، هل تَقْوَى على أن تقفَ في وجه خالق الكون؟! أنت لا شيء، حركتك بيد الله سمعك وبصرك بيد الله، نقطة دمٍ كرأس الدبوس لو تجمَّدت في أحد شرايين الدماغ الفرعية، يقال لك: خثرة دماغية، وانتهى الإنسان، إما أن يفقدَ حركته، وإما أن يفقدَ سمعه أو بصره، وإما أن يفقدَ ذاكرته وإما أن يفقدَ عقله، من أجل نقطة دمٍ لا تزيدُ على رأس دبوس، تجمدَتْ في أحد فروع فروع شرايين الدماغ.
من أنت؟ كلّ من يقول: "أنا" ، جاهل، قالها إبليس فأهلكه الله، قال:

﴿ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ۖ قَالَ أَنَا۠ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِى مِن نَّارٍۢ وَخَلَقْتَهُۥ مِن طِينٍۢ (12)﴾

[ سورة الأعراف ]


قالها فرعون: 


﴿ وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِى قَوْمِهِۦ قَالَ يَٰقَوْمِ أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ ٱلْأَنْهَٰرُ تَجْرِى مِن تَحْتِىٓ ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51)﴾

[ سورة الزخرف ]

فأهلكه الله، قالها قارون:

﴿ قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُۥ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِىٓ ۚ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِۦ مِنَ ٱلْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ۚ وَلَا يُسْـَٔلُ عَن ذُنُوبِهِمُ ٱلْمُجْرِمُونَ (78)﴾

[ سورة القصص ]

فأهلكه الله، قالها بنو سبأ:

﴿ قَالُواْ نَحْنُ أُوْلُواْ قُوَّةٍۢ وَأُوْلُواْ بَأْسٍۢ شَدِيدٍۢ وَٱلْأَمْرُ إِلَيْكِ فَٱنظُرِى مَاذَا تَأْمُرِينَ (33)﴾

[ سورة النمل ]

فأهلكهم الله، فكلّما ارتقى علم الإنسان يتواضعُ، كلّما ارتقى علمه يوحِّد، كلّما ارتقى علمه يفتقرُ لله -عزَّ وجلَّ- وإذا افتقرَ إلى الله نصرَه الله، إنّ الله -عزَّ وجلَّ-علَّمنا من خلال التاريخ أن المسلمين على ضعفهم كانوا سادة الدنيا، الإسلام جعل من رعاة الشياه رعاةً للأمم، جعل من سُكَّان البوادي قادةً للأمم بفضل طاعتهم لله -عزَّ وجلَّ- والله موجود هو هو، والآن نحن المسلمين إذا أطعنا الله -عزَّ وجلّ- وأنبنا إليه واصطلحنا معه لأظهرَ لنا من آياته الدالة على عظمته ولأيَّدنا، ونحن والحمد لله نعيش في إكرام من الله -عزَّ وجلّ-، الله -عزَّ وجلَّ- لن يضيِّعنا، ولن يسلمنا، ولن يخذلنا ما دمنا معه. 

كُنْ معَ اللهِ ترَ اللهَ معـكَ        واتركْ الكلَّ وحاذرْ طمعـَكْ

وإذا أعطاكَ من يمنعُـــهُ        ثمَّ من يعطي إذا مـا منعَــكَ

[ عبد الغني النابلسي ]

(ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ ۖ وَمَن يُشَآقِّ ٱللَّهَ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ)  الإنسان أحياناً يروِّج فكرةً باطلةً، يُلقي شبهةً في النفوس، يزعزع ثقة الناس في أحكام الشرع، أحياناً يتَّهم الدعاة إلى الله باتهامات باطلة ما أنزل الله بها من سلطان، يفتري عليهم وهو يعلم علم اليقين أنّهم بريئون من، هذا كلّه يشاقق الله ورسوله (وَمَن يُشَآقِّ ٱللَّهَ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ) ، فأنت كمؤمن كنْ مع المؤمنين، كنْ مؤيِّداً لهم، كنْ دعماً لهم، كنْ ناصراً لهم، كنْ مدافعاً عنهم حتّى يكرمَك الله برحمته التي هي كلّ شيء، ثم يقول الله -عزَّ وجلّ-:

﴿ مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَىٰٓ أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ ٱللَّهِ وَلِيُخْزِىَ ٱلْفَٰسِقِينَ (5)﴾

[ سورة الحشر ]


 سبب قطع النبي لنخيل بني النضير:


النبي -عليه الصلاة والسلام- تحرَّك بوحيٍ من الله، ما فعل شيئاً كما وصفه أعداؤه، وهذا النخل تعلَّقت نفوسهم به فلما أحرق بعضها، قالوا: ستة فقط أحرقها النبي، تزلزلوا وخرجوا من حصونهم ورضخوا لأمره، فنجاح الدعوة هو المَّقدم على كلّ شيء، قال: (مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَىٰٓ أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ ٱللَّهِ) ، العلماء استنبطوا من هذه الآية حكم؛ أن ممتلكات العدو إذا كان بإمكانك أن تستفيدَ منها، وأن تهزمَه فدعها قائمةً، أما إذا كانت قوةً له وهو يتقوَّى بها عليك خرِّبها عليه من أجل أن يُضعضعَ (مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَىٰٓ أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ ٱللَّهِ وَلِيُخْزِىَ ٱلْفَٰسِقِينَ) 

مشروعية أخذ غنائم الحرب وأنواعها وكيف تقسيمها:


 1 ـ غنائم بدون قتال (الفيء):

ثم يقول الله -عزَّ وجلَّ- أن هذه الغنائم التي غنمها المسلمون من بني النضير بعد أن أجلوهم عن ديارهم، هذه الغنائم لم تكنْ بعد حربٍ ضروسٍ، إنّما كانت من دون حرب، فالغنيمة التي يأخذُها المسلمون من دون حربٍ هي فيءٌ أفاءَ الله به عليهم، لذلك قال تعالى:

﴿ وَمَآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍۢ وَلَا رِكَابٍۢ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُۥ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ ۚ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌ (6)﴾

[ سورة الحشر ]

أوجف بمعنى أسرع؛ أي: أنتم لم تتحملوا المشاق لنيل هذه الغنائم، هذه جاءتكم سائغةً هم تضعضعوا وانهاروا من داخلهم، وخرجوا من ديارهم، وحمَّلوا متاعهم على جمالهم وانتهى الأمر، أورثكم أرضهم وديارهم، هذه ليست غنائم كانت عقب حربٍ ضروس إنّما هي من الفيءٌ الذي اختصَ الله به النبي -عليه الصلاة والسلام-، لهذا قال تعالى:(وَمَآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍۢ وَلَا رِكَابٍۢ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُۥ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ ۚ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌ)

 2 ـ غنائم بعد القتال وحرب:

الغنائم التي تأتي بعد حربٍ سِجَالٍ بين المسلمين وأعدائهم هذه خُمُسُها لله -عزَّ وجلَّ- ولرسوله وأربعة أخماسها للمقاتلين، أما الفيء فكلّه لله ورسوله يوزعه النبي -عليه الصلاة والسلام- بحكمةٍ من حكمه على الفقراء والمهاجرين؛ لذلك:

﴿ مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ مِنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَٰمَىٰ وَٱلْمَسَٰكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ كَىْ لَا يَكُونَ دُولَةًۢ بَيْنَ ٱلْأَغْنِيَآءِ مِنكُمْ ۚ وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ ۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ (7)﴾

[  سورة الحشر ]


 قاعدتان مهمتان مستنبطتان من الآية:


 1 ـ قاعدة اقتصادية عظيمة: توزيع الثروة بين أفراد المجتمع وعدم الاحتكار.

النبي -عليه الصلاة والسلام- خَصَّ بهذا الفيء المهاجرين لأنّهم تركوا بلادهم وأوطانهم وأموالهم وجاءوا إلى المدينة فقراء من كلّ شيء، مع أن الأنصار استقبلوهم ورحّبوا بهم وعرضوا عليهم نصف ممتلكاتهم إلّا أن التاريخ الإسلامي لم يسجِّل أن مهاجراً أخذَ نصف مال الأنصاري، كان يقول أحدهم من الأنصار للمهاجر: يا فلان، دونك نصف مالي فخذْه، لي بستانان خذْ أيّهما شئت، لي داران خذْ أيّهما شئت، وكان هذا المهاجر العفيف يقول للأنصاري: بارك الله لك في مالك، ولكني دُلَّني على السوق.
على كلٍّ هؤلاء المهاجرون تركوا بلادهم وديارهم وأموالهم وتجارتهم وأعوانهم، وجاءوا مع رسول الله ابتغاء وجه الله، لذلك النبي ارتأى أن تكونَ هذه الغنائم للمهاجرين وحدهم، والنبي -عليه الصلاة والسلام- انطلق من هذه القاعدة في كتاب الله: ( كَىْ لَا يَكُونَ دُولَةًۢ بَيْنَ ٱلْأَغْنِيَآءِ مِنكُمْ) أي: أن هذه الكتلة النقدية يجب أن تكونَ متداولةً بين أيدي الناس جميعاً، هذا هو الوضع الصحي الطبيعي؛ إذا تداول الناس المال جميعاً عاشوا في بحبوحة وفي كفايةٍ وعدل، أما إذا تجمَّعت الأموال بأيدٍ قليلة وحُرمت منها الكثرة الكثيرة اختل التوازن الاجتماعي، ومع اختلال هذا التوازن تنشأ المُشكلات؛ فلذلك يقول الله -عزَّ وجلَّ-: (كَىْ لَا يَكُونَ دُولَةًۢ بَيْنَ ٱلْأَغْنِيَآءِ مِنكُمْ ۚ وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ) ففي هذه الآية قاعدتان أساسيتان في حياة المؤمنين؛ القاعدة الأولى: أن المال يجبُ أن يكونَ متداولاً بين الجميع ، إذاً الاحتكار حرام، الربا المال يلد المال، الربا من خصائصه أنه يجمَّعَ الأموال في أيدٍ قليلة، المال يجب أن يتولَّد من الأعمال لا من المال، إذا ولد المالُ المالَ تجمّع المال في أيدٍ قليلة، أما إذا ولدتِ الأعمال المال توزَّع بين الكثرة الكثيرة، فأنت قمْ بفتح محل تجاري ستحتاج لتشغيل مئة إنسان أو مئتي إنسان دون أن تشعرَ، أنت بحاجة إلى دفتر، فواتير، تحتاج لورق ومطبعة وخطاطين، بحاجة إلى مستودع، بحاجة إلى وسائل نقل، وأنت لا تشعرُ اشتغل بسببك مئاتٍ عديدة، فإذا أردت أن تكسبَ المال من الأعمال فهذا المال توزَّع، أنشأت مزرعة تحتاج إلى مهندس زراعي، تحتاج إلى معالجة بعض الأمراض، إلى خبرة معيّنة، فحينما تفكر أن تكسبَ المال من الأعمال فهذا المال يوزَّع بين أكثر الأيادي، أما إذا أردت أن يلدَ المالُ المالَ تأخذُ الفائدة، بهذه الطريقة الأموال تتجمع، فالقاعدة الأولى: الله حرم الربا، حرم الاحتكار، حرم مثلاً الغش، حرم التدليس، كلّ شيء من شانه أن يجمِّع الأموال في أيدي قليلة حرَّمه الله -عزَّ وجلَّ-.
أيها الإخوة؛ إذاً هذه الآيات في سورة الحشر تبيِّن أن الأمر بيدِ الله وحده، وأن الله وحده هو القوي، وأنك إذا كنت معه كان معك، وإذا كان معك انتصرت على أعدائك، والمسلمون الآن بحاجة ماسَّة لهذه الآيات، هم بحاجة ماسَّة بأن يصطلحوا مع الله، بحاجة ماسة بأن يثقوا بالله، بحاجة ماسَّة بأن ترتفعَ معنوياتهم (وَلَا تَهِنُواْ وَلَا تَحْزَنُواْ وَأَنتُمُ ٱلْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) ، وهذه الآيات تعلمنا أيضاً أن الإنسان في قبضة الله، فلمجرد أن يُلقيَ الله في قلبه الرعب انهار من داخله وانتهى، فبين أن يلقي الله في قلبك الأمن والطمأنينة، وبين أن يلقي في قلبك الرعب، هذا ما بين التوحيد والشرك، المشرك يُلقي الله في قلبه الرعب، أما المؤمن فيُلقي الله في قلبه الثقة بالله -عزَّ وجلَّ-، والمسلمون بحاجةٍ ماسّةٍ إلى أن يتعاونوا، وإلى أن يثقوا بعظمة دينهم، وإلى أن يثقوا بعظمة منهجهم، وإلى أن يعلموا أن الأمر بيد الله وحده، مهما تبجَّح أعداؤهم، مهما تطاولوا، مهما تعجرفوا، مهما تبختروا، مهما استعلوا فهم في قبضة الله (وَلَا تَهِنُواْ وَلَا تَحْزَنُواْ وَأَنتُمُ ٱلْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) 
أخطر شيء أن يُصابَ الإنسان بالضعف من الداخل، بالخَوَر، بالخنوع، مهما تبجحوا، مهما ادعوا بتفوقهم، لا.. كن مع الله ترّ الله معك ، نحن علينا أن نُعِدَّ كلّ شيءٍ لأعدائنا الذين يتربَّصون بنا الدوائر ولكن نُعِدّ ونتكلُ على الله، والله -سبحانه وتعالى- لا يضيعنا، (وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ) 

 2 ـ قاعدة تشريعية عظيمة: وجوب طاعة الرسول الكريم في الأمر والنهي. 

القاعدة الثانية: هناك قاعدة في التشريع: الله -جلَّ جلاله- هو المُشَرِّع من خلال قرآنه، ومن خلال سنة نبيه، ولا يوجد مصدر ثانٍ إطلاقاً (وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ) ، هذه الآية تشمل ما أعطاكم من غنائم أو إن لم يعطِكم، والأوسع من ذلك ما آتاكم من أمرٍ وما نهاكم عن شيءٍ، فالله -سبحانه وتعالى- من خلال قرآنه هو المُشَرِّع والنبي-عليه الصلاة والسلام- من خلال سنته المطهرة هو المُبَيِّن والمُفَصِّل، فنحن كمؤمنين وكمسلمين ليس لنا إلّا القرآن وسُنة النبي-عليه الصلاة والسلام- مصدراً تشريعياً لنا (وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ)

 التحذير من مخالفة القواعد الإلهية:


فإن لم تفعلوا ذلك (وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ) هذا يسمونه المؤيِّد القانوني، فالنظام يحتاج إلى مؤيِّد قانوني إلى ردعٍ، فإن اتبعت منهج الله -عزَّ وجلّ- ومنهج رسول الله المبيّن لمنهج الله نجوت، وإلّا فهناك عقابٌ من الله شديد.
إذًا عندنا قاعدتان؛ الأولى: أن المال يجب أن يكون متداولاً بين أيدي الجميع ، فأي سلوكٍ يُجَمِّعُ المال بأيدٍ قليلة، ويحرم منه الكثرة الكثيرة فهو يهدم أصول المجتمع وهو محرَّم في الإسلام.
 القاعدة الثانية: المصدر التشريعي للمسلمين واحد، وهو الكتاب والسُنة (وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ) .

الملف مدقق

 والحمد لله رب العالمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور