وضع داكن
07-10-2024
Logo
الدرس : سورة قريش - تفسير الآيات 1 - 4 نِعَمُ الله على خلقه .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعَه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.

سورتا الهمزة وقريش قال بعضهم إنهما سورة واحدة:


  لماذا 

﴿ أَلَمۡ تَرَ كَيۡفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصۡحَٰبِ ٱلۡفِيلِ (1)أَلَمۡ يَجۡعَلۡ كَيۡدَهُمۡ فِي تَضۡلِيلٍ (2) وَأَرۡسَلَ عَلَيۡهِمۡ طَيۡرًا أَبَابِيلَ (3) تَرۡمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ (4)فَجَعَلَهُمۡ كَعَصۡفٍ مَّأۡكُولٍۭ (5)﴾

[ سورة الفيل ]

ولماذا جعل كيدهم في تضليل؟ ولماذا

﴿ وَأَرۡسَلَ عَلَيۡهِمۡ طَيۡرًا أَبَابِيلَ (3) تَرۡمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ (4)فَجَعَلَهُمۡ كَعَصۡفٍ مَّأۡكُولٍۭ (5)﴾

[ سورة الفيل ]  

﴿ لِإِيلَٰفِ قُرَيۡشٍ (1)﴾

[ سورة قريش ]

هذه اللام متعلقة بهذه الأفعال:

﴿ لِإِيلَٰفِ قُرَيۡشٍ (1)إِۦلَٰفِهِمۡ رِحۡلَةَ ٱلشِّتَآءِ وَٱلصَّيۡفِ (2) فَلۡيَعۡبُدُواْ رَبَّ هَٰذَا ٱلۡبَيۡتِ (3) ٱلَّذِيٓ أَطۡعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَءَامَنَهُم مِّنۡ خَوۡفٍۭ (4)﴾

[ سورة قريش ]

لقريش في هذه السورة معنيان؛ المعنى الضيق؛ قريش القبيلة التي منها النبي عليه الصلاة والسلام، كانت تعيش حول البيت الحرام، وكانت لها مهابةٌ بين العرب، لأن بيتها يُحَجّ إليه من قِبَل العرب جميعاً، ولذلك كانت تجارتها آمنة، هي في وادٍ غير ذي زرع، من أين تأكل إذاً؟ من التجارة، لها رحلة إلى اليمن شتاءً، ورحلة إلى الشام صيفاً، وقد ألفت هاتين الرحلتين، وكانت هاتان الرحلتان سبباً في الرزق الوفير، وفي رخاء العيش التي تنعم به قريش، فلو أن الله سبحانه وتعالى مكّن أبرهة من هدفه، وسمح له أن يهدم الكعبة، وأن يتحول الناس إلى صنعاء لذهبت مكانة قريش، ولاعتُدِيَ على تجارتها، ولماتوا جوعاً، لكن لأنهم يعيشون حول هذا البيت ويرعونه دافع الله عنهم، لذلك بعضهم يقول: إنهما سورة واحدة، قال تعالى:

﴿ أَلَمۡ تَرَ كَيۡفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصۡحَٰبِ ٱلۡفِيلِ (1)أَلَمۡ يَجۡعَلۡ كَيۡدَهُمۡ فِي تَضۡلِيلٍ (2)وَأَرۡسَلَ عَلَيۡهِمۡ طَيۡرًا أَبَابِيلَ (3)تَرۡمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ (4)﴾

[ سورة الفيل ]


الحكمة من ردّ الله تعالى أبرهة الحبشي عن بيت الله الحرام وعن قريش:


 ﴿لِإِيلَٰفِ قُرَيۡشٍ﴾ لتألف قريش رحلتيها، وتنعم بهما، وتبقى مُوقّرةً مُهابةً بين قبائل العرب، هذه اللام هي في الأساس لام التعليل، لكن في حالات نادرة لا تكون هذه اللام لام تعليل، بل لام المآل، مثلاً قال تعالى:

﴿ فَٱلْتَقَطَهُۥٓ ءَالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ۗ إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَٰمَٰنَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خَٰطِـِٔينَ(8)﴾

[ سورة القصص ]

 هل يعقل أن يلتقط فرعون هذا الغلام ليقضي على ملكه؟ مستحيل، لكن الذي حصل أن هذا الغلام قضى على ملكه، إذاً هذه اللام لام المآل والعاقبة، وليست لام التعليل، هو بوعيه وعقله وفكره واختياره لا يفعل هذا، ولكن الذي حصل أن هذا الغلام (سيدنا موسى) قضى على ملكه، قال تعالى: ﴿فَٱلْتَقَطَهُۥٓ ءَالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا﴾ فأبرهة ما فعل ما فعل إلّا عن رغبة في الكيد لبيت الله، لكن الله سبحانه وتعالى حينما رده عن قريش، وقريش وقتها لا تستحق النصر من الله عز وجل، فالذي حصل لو كانت قريش مؤمنة بالله لكانت هذه اللام لام التعليل، بل لأن قريش وقتها كانت وثنية تعبد الأصنام من دون الله، ويأكل قويها ضعيفها، لا تستحق النصر، الذي حصل أن الله عز وجل حينما رد أبرهة عن الكعبة المشرفة كان من نتيجة هذا أن قريش بقيت على مكانتها، وحافظت على منزلتها، حتى إن قبائل العرب بعد حادثة الفيل كانت تسمي قريشاً "أهل الله، وأهل حرمه"، صارت مُهابة يخاف الناس أن يعتدوا عليها، وأصبحت لها هيبة كبيرة، وأصبحت تجارتها رائجة، وقوافلها آمنة، فلا يجرؤ أحد على أن يعتدي عليها.
كل ما في الأرض يألفه الإنسان لأنه صُنع خصيصاً له وليس محض صدفة :
 قال تعالى: ﴿لِإِيلَٰفِ قُرَيۡشٍ*إِۦلَٰفِهِمۡ رِحۡلَةَ ٱلشِّتَآءِ وَٱلصَّيۡفِ﴾ بعضهم قال: الإيلاف مصدر الأُلفة، وقريش: قَرّشَ الشيء أي تجمع، في الكون آيات باهرة ومجتمعات بشرية، وهذه المجتمعات موفورة لها كل حاجاتها، هذه نِعَمٌ من الله عز وجل. الهواء موجود، والماء موجود، الطعام موجود، والمحاصيل موجودة، والخضراوات موجودة، والفواكه موجودة، والأزاهير، والرياحين، والمعادن، وأشباه المعادن، والفيتامينات، والكائنات الصغيرة المجهرية، والبكتريا، وديدان الأرض، والشمس والقمر، والإنسان ألِف هذا، لأنّ هذا الكون مصمم وفق حاجاته فألفه، إذا لبس الإنسان معطفاً بقدره ضعف حجمه مرتين، يقال له: شيئاً فشيئاً تألفه، لكن الواقع أنه ما يُؤلف معك ما دام كمه طويلاً وعريضاً، أما إذا كان مخيطاً وفق جسمك فتألفه، فالألفة ليست ناتجة بالصدفة، بل هي ناتجة من أن هذا الشيء صُنع لهذا الشيء.
 أنت بحاجة للطعام، جعل لك الطعام طيباً طعمُه، طيبة رائحته، جميل منظره، وهو قِوام حياتك، مَن جعل التفاحة فيها عناصر يحتاجها الإنسان؟ من وضع في الماء الكلور؟ من وضع في الماء مواد تستعين بها الغدد على القيام بوظائفها؟ هذا الماء ألفته أنت، وعندما يحلُّون مياه البحر فليست صالحة للشرب، لأن البحر لم يُخلَق للشرب، فلما يحلّونه يضيفون معه مياه الآبار، لأن مياه الآبار فيها بعض المعادن، يقال: مياه معدنية، فربنا عز وجل جعل في مستودعات المياه في الجبال صخوراً معدنية، تنحل بنسب محدودة جداً، تكفي لحاجة الإنسان، فأنت ألِفت الماء، وألِفت الغذاء، وألِفت اللحم، وألِفت الخضار، وألِفت الفواكه، وكان هذا الهواء مناسباً لك، والحرارة مناسبة، يقال: حول معدلها، فوق معدلها، دون معدلها، ليست مئة تحت الصفر، أو ستين تحت الصفر، لا بل هي خمس وثلاثون، أو حواليْ عشرون، أو خمس عشرة، وقد ترتفع إلى أربعين درجة، مألوفة، فالجو تألفه، والطعام تألفه، والماء تألفه، وكل ما في الأرض تألفه لأنه صُنع خصيصى لك وليس محض صدفة، ولنضرِبْ لذلك مثلاً؛ في طحال الوليد كمية حديد تكفيه سنتين، لأن حليب الأم ليس فيه حديد، فبطحال كل مولود كمية من الحديد تكفيه عامين، إلى أن يأكل من الطعام الآخر، نقول: الحديد ألِفه، لأن الله خلقه خصيصى له.

سورة (قريش) لها معنيان:


1 ـ يمكن أن نأخذ الآية بمعناها الضيق عن قريش ورحلتيها إلى اليمن والشام:

 هذه السورة إما أن نأخذها على قريش بمعنى أن هذه القبيلة التي كانت حول الكعبة، والله حينما رد أبرهة عن بيته العتيق وفّر لها طمأنينة وأمناً ومكانة ومهابة، وبقيت على رحلتيها الصيفية والشتوية، وحققت عيشاً رغداً، ولأن قريش في المستقبل سوف ترعى هذا البيت، هذا معنى.

2 ـ المعنى الثاني أن الذي نألفه ليس محض صدفة وإنه خُلِق خصيصاً لنا:

 والمعنى الآخر؛ أن هذا الذي تألفه، أتألف النوم على فراش غير الصوف؟ لا ترتاح عليه، على إسفنج مثلاً، فهو حام، والقطن يتلبد، أما الصوف فخاص بك، أتألف في الصيف ثياباً صوفية؟ تحتاج إلى قطن، والقطن تألفه، أتألف ماءً ساخناً للشرب؟ والله جعل ماءَ الينابيع بارداً، فربنا عز وجل خلق كل شيء كي تسعد به، وتألفه، وجعل لك الطعام من حيوان تألفه، ولا تخاف منه، فهل الغنم يخيف؟ فمن جعلها مذللة لنا، قال تعالى:

﴿ وَذَلَّلْنَٰهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ(72)﴾

[ سورة يس ]

 الدجاج، الغنم، البقر، الماعز -سبحان الله- الجمل كبير ولا يخافه الإنسان، وقد يقوده طفل، ويجعله يجلس، أو يجعله يقف، لكن عقرباً صغيراً لا تألفه، واللهُ خلق حيوانات مخيفة أيضاً، وهذا الذي تألفه ليس محض صدفة، إنه من صنع الله عز وجل، وإنه خُلِق خصيصى لك أيها الإنسان.

الفصول وما فيها من نعَم وما فيها من فواكه وثمار كلها إكرام من الله عز وجل:


 هذه الفصول الأربعة؛ من صيف وشتاء وربيع وخريف، أو الصيف موسع، لأن الربيع قليل، والشتاء موسع، والشتاء له طعام خاص وله عادات، والبيت محبب للإنسان، والثياب الداكنة محببة، الصوف والمعاطف كلها للشتاء، لكن السهرات في الصيف، وفيه تحب الثياب الرقيقة الخفيفة، فأجمل شيء في الصيف الثياب الخفيفة كالحرير، رقيق، وقماش اللينو، كله خفيف، لكنك في الشتاء تحتاج إلى صوف سميك، وإلى معطف، ومدفأة، ودثار، ولحاف، أمّا في الصيف فيكفيك مسبل خفيف، وفي الصيف طقس معيَّن، وجو خاص، ومناخ، وفواكه، وثمار، وعادات، وتقاليد، إنّ الله نوَّع الحياة، آخر الصيف الناس يملون منه، وينتظرون الشتاء بفارغ الصبر، وفي آخر الشتاء يملونه، وينتظرون الصيف بفارغ الصبر.
 رحلة الأرض، دورانها حول نفسها، دوران محورها، كونها عمودية تحت الشمس، أو مائلة، صيف وشتاء، طبعاً يمكن أن نأخذ الآية بمعناها الضيق عن قريش، ورحلتيها إلى اليمن والشام، وعن أن الإنسان خُلق، وأنّ الله خلَق له ما يألفه من كل شيء.
هناك طعام، ولحم خفيف، قال تعالى:

﴿ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ(21)﴾

[ سورة الواقعة ]

 وهناك لحم ثقيل، ولحم يؤكل مشوياً، ولحم يحتاج إلى طبخ، وأنواع الفواكه، وأنواع الثمار، وأنواع الخضراوات، الإنسان خُلِق يألف زوجه، قال تعالى:

﴿ وَمِنْ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا لِّتَسْكُنُوٓاْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَآيَٰتٍۢ لِّقَوْمٍۢ يَتَفَكَّرُونَ(21)﴾

[ سورة الروم ]

 الإنسان يألف أولاده، ويألف بيته، يألف حيّه، ويألف صنعته، وهذه الألفة ليست مجرد صدفة، إنها خلق مُركّز من الله عز وجل، وهذه الفصول وما فيها من نِعَم، وما فيها من اختلاف، وما فيها من فواكه وثمار، كلها إكرام من الله عز وجل، فإذا فكرتم بهذه النعم لدينا هنا فاء رابطة للجواب: ﴿فَلۡيَعۡبُدُواْ رَبَّ هَٰذَا ٱلۡبَيۡتِ﴾ البيت كل شيء فيه، فيه مكان للنوم، مكان للراحة، مكان للجلوس، مكان للطعام، مكان للاستحمام، البيت كناية عن مكان فيه كل حاجاتك، وكأن هذه الأرض بيت كبير، إذا فكرتم في هذه النعم ماذا تنتظرون؟

توافر النعم يجب أن نعرف الله بها:


 قال تعالى: ﴿فَلۡيَعۡبُدُواْ رَبَّ هَٰذَا ٱلۡبَيۡتِ*ٱلَّذِيٓ أَطۡعَمَهُم مِّن جُوعٖ﴾ تصور حالة الإنسان من دون خضار، عندما قلَّ محصول البندورة قليلاً خفت قبل شهرين، فإنْ شاهد أحدهم مع الآخر كيس بندورة، ينظر إليه بطرف عينه، ويتساءل: من أين أتى به؟ وكأنه شيء ثمين جداً. وربنا عز وجل بعد ذلك جعل كل شيء متوافراً، وتوافر النعم هذا يجب أن نعرف الله بها، والدعاء المأثور: اللهم عرفنا نعمك بكثرتها لا بزوالها، إذا زالت نعرف قيمتها تماماً، وإذا انقطعت المياه في الخزانات عندئذ تعرف قيمة الماء، وحينما تشرب كأس الماء، وتفتح الصنبور، وتغسل يديك بماء طاهر نقي بارد عذب فرات، هل تقول الحمد لله رب العالمين؟ سيدنا عمر كان يقتدي بالنبي عليه الصلاة السلام في كثير من أحواله، فمرةً أكل خبزاً وزيتاً وملحاً خشناً، وبعد أن انتهى قال: آتونا بالشراب، أسقَوه سُويقاً (ماء شعير) فبعد أن انتهى قال: الحمد لله الذي أطعمني فأشبعني، وسقاني فأرواني.
ماذا نأكل نحن؟ على أثر طعام نفيس هل تقول: الحمد لله الذي أطعمني؟ وهل ترى أن هذه المائدة مائدة الله عز وجل؟ ﴿فَلۡيَعۡبُدُواْ رَبَّ هَٰذَا ٱلۡبَيۡتِ﴾ إذا كانت الآية موجهة لأهل مكة ﴿فَلۡيَعۡبُدُواْ رَبَّ هَٰذَا ٱلۡبَيۡتِ﴾ الذي حماه هو، والذي رد عنه كيد الكائدين، والذي جعلكم آمنين مطمئنين، ويُتخطَّف الناس من حولكم ﴿فَلۡيَعۡبُدُواْ رَبَّ هَٰذَا ٱلۡبَيۡتِ﴾ .

العبادة علة الخلق :


 أتعارضون النبي عليه الصلاة والسلام، وقد رد الله كيد الكائدين عنكم، وحمى بيتكم، وجعل لكم هذه المهابة، هذا عتاب من الله عز وجل، وإذا فهمنا الإيلاف وقريشاً التجمع، والصيف، والشتاء آيات من آيات الله عز وجل، وإذا فكرتم بهذه الآيات ﴿فَلۡيَعۡبُدُواْ رَبَّ هَٰذَا ٱلۡبَيۡتِ﴾ ليعبدوه، وليطيعوه، فما هي العبادة؟ هل تقول: إن العبادة هي الطاعة؟ لا، قد تطيع المرأة زوجها، وليست راضية بهذه الطاعة، قد يأمرها أن تغطي وجهها وهي غير قانعة بهذا، هذا اسمه إذعان، طاعة مع إذعان، وقد يطيع الجندي قائده، وقد يطيع الفتى سيده، وليس في الطاعة رضى أو قبول، ولكن العبادة تعني شيئاً آخر؛ طاعة لله بعد معرفة به، إذا عرفت الله عز وجل أطعته طاعة المحب، وطاعة المستسلم، وطاعة الراضي، وطاعة الذي يرى أن في هذه الطاعة مكسباً كبيراً: ﴿فَلۡيَعۡبُدُواْ رَبَّ هَٰذَا ٱلۡبَيۡتِ﴾ والعبادة ينتج عنها السعادة، لأنك إذا أطعت الله عز وجل أقبلت عليه، وإذا أقبلت عليه سعدت بقربه، فكلما ذُكرت كلمة العبادة في القرآن الكريم فتعني أن هذه العبادة تسبقها معرفة، وتعقبها سعادة، وهي طاعة ذاتية، طاعة مع طواعية وليس مع إكراه، لذلك ربنا عز وجل قال:

﴿  وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ(56)﴾

[  سورة الذاريات ]

 فجعل الله تعالى العبادة علة الخلق، العبادة ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ أن يعرفوني.

من معاني العبادة الطاعة التامة والإسلام ليس فيه حل وسط:


 ربنا عز وجل قال: ﴿فَلۡيَعۡبُدُواْ﴾ إما هؤلاء الذين فكروا في هذه الآيات، فالفاء رابطة لجواب الشرط، أو أنهم قريشٌ، فالمقصود بهذه الآية قريش التي كذبت النبي عليه الصلاة والسلام، ﴿فَلۡيَعۡبُدُواْ﴾ ومن معاني العبادة مثلاً؛ تلقيت عشرة أوامر، أطعت اثنين منها، فأنت في هذين الأمرين طائع، وفيما سواهما عاصٍ، لكن العبادة لا تُسمى عبادة إلا إذا أطعت الله في كل أوامره، من دون استثناء، لذلك قالوا: ليس في الإسلام حل وسط، إما أن تأخذه كله أو أنْ تدعه كله، لأنك إذا أخذت بعضه لم يعطك شيئاً، كالعلم، لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك، فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً، هذه مشكلة، يقولون: لا تكن متزمتاً، دقة على الحافر ودقة على النافر، هذا كلام العوام، والإسلام ليس فيه حل وسط، لأن الإسلام مثل الآلة، هذا البرغي أكبر لا يدخل في المكان المناسب وإن كان أصغر لا يصلح، فبالمكانيك لا يوجد حل وسط، إما أن تكون الآلة مضبوطة أوْ لا، وليس من حالة ثالثة، فلذلك قال الله عز وجل قال: ﴿فَلۡيَعۡبُدُواْ﴾ ومن معاني العبادة الطاعة التامة، فما الذي يحصل إذاً؟ إنسان يحضر مجلس علم سنة وسنتين، وقد يستمر سنوات عدة، وهو مقيم على بعض المخالفات، مقطوع عن الله، محسوب على أهل العلم، طالب علم، وهو لا يحقق من نتائج العلم شيئاً، هذه المخالفات تحجبه عن الله، وبهذا الحجاب عن الله عز وجل لا يذوق طعم الإيمان، ولأنه لا يذوق طعم الإيمان يصبح ملولاً، ويقول: واللهِ سمعنا كثيراً هذا الشيء، لكنه إذا طبق الأوامر الإلهية تطبيقاً تاماً عندئذ يقطف الثمار، فإذا قطف الثمار سعد بدينه، وأثمر دينه سعادة وطمأنينة ورضى وتوكلاً وصبراً وعفواً، وصار إنساناً كاملاً، فالإنسان حتى لا يضيع وقته عليه أن يعلم أن الحلول الوسطية غير موجودة ولا بد من تطبيق الإسلام كاملاً، فعدم تطبيقك كل شيء أو تطبيق بعض الشيء سيان عند الله عز وجل.

يجب أن نعرف الآمر قبل أن نعرف الأمر:


 قال تعالى: ﴿فَلۡيَعۡبُدُواْ﴾ العبادة هي الطاعة التامة المبنية على معرفة بالله عز وجل، كيف تريد أن تطيع أمر الله عز وجل وأنت لا تعرفه، فالذي يحصل أنْ يقال له: هذه حرام فيقول: حط بالخرج، هذه نهى عنها ربنا، فيقول: لا تدقق، الله لا يدقق يوم القيامة، أما لو عرفت الله عز وجل قبل أن تطيعه لأطعته، لكنك إذا تلقيت أمره قبل أن تعرفه فلن تطيعه، لأنك ترى الشهوات أغلى عليك من الله عز وجل، أنا أترك هذه من أجل آية قرآنية، الله غفور رحيم.
 إذاً يجب أن تعرف الآمر قبل أن تعرف الأمر، والنبي عليه الصلاة والسلام في مكة المكرمة عرَّف أصحابه بالله عز وجل، فلما عرفوه جاءهم التشريع، فإذا عكسنا الآية حقّقنا فشلاً ذريعاً، إذا علمنا الناس أحكام الدين قبل أن نعرفهم بالله عز وجل احتالوا عليها؛ يقول أحدهم: أنا والحمد لله دفعت زكاة مالي، كيف؟ والله أخذت كيلو خبز ووضعت داخل رغيف خمسة آلاف ليرة، وأعطيت الخبز لفقير، والفقير بعد ذلك باعني هذا الخبز بعشر ليرات، الحمد لله الزكاة وصلت، يحتالون على الزكاة كما يحتالون على أكل الربا، يقول: أنا أبيع شاياً، أضع صندوق شاي أمام المحل، يأتي زبون فيشتريه دَيناً بألف ريال، ويسجله عليه، بعد ذلك يبيعه إلى صاحب المحل نقداً بثمانمئة ريال، باع واشترى، فعندما تُعلِّم الناس أوامر الله عز وجل قبل أن تعرفهم به احتالوا عليها كما فعل اليهود.
 يقول الأخ: أريد أن أرى زوجة أخي، فما هي الطريقة، سهلة، خذ بنتاً صغيرة من بنات الجيران عمرها سنة، في سن الرضاع، واجعل زوجة أخيك ترضعها، واعقد عقداً على هذه البنت الصغيرة، فتصبح زوجة أخيك حماتك بالرضاعة، أي أم زوجتك، بعد ذلك طلقها في اليوم الثاني، الحماة تحرم على التأبيد، فتدخل على بيت أخيك متى شئت، ويمكن أن تسكنوا في بيت واحد، صار إطلاق البصر والاختلاط والربا كله مباحاً عن طريق الحيل الشرعية، لماذا صار هذا؟ لأنهم تعلموا الأمر قبل أن يعرفوا الآمر، تعلموا أمر الله وأحكامه الشرعية قبل أن يعرفوا خالقهم أنه سميع بصير، مطلع على قلوبهم وعلى خواطرهم، وعلى نياتهم وعلى خططهم، ولا تأخذه سنة ولا نوم، ولا تفوته شاردة ولا واردة، ولو عرفوا الله حق المعرفة لما احتالوا على شرعه.

الجوع وحده آية كبرى من آيات الله عز وجل:


 قال تعالى: ﴿فَلۡيَعۡبُدُواْ رَبَّ هَٰذَا ٱلۡبَيۡتِ* ٱلَّذِيٓ أَطۡعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَءَامَنَهُم مِّنۡ خَوۡفٍۭ﴾ أما قوله تعالى: ﴿أَطۡعَمَهُم مِّن جُوعٍ﴾ معنى أطعمهم أيْ خلق لهم ألوان الطعام والشراب، ولكن الإنسان لو لم يشعر بالجوع ماذا يحدث؟ أحياناً السيارة ينقصها الماء فيسخن المحرك، ولولا وجود إشارة أمام السائق تشير إلى ارتفاع الحرارة لاحترق المحرك، فيضطرون لوضع عدادات، الآن الأحدث يضعون عداداً ناطقاً، يقول: انتبه ارتفعت الحرارة، فالإنسان عنده أجهزة أدق من ذلك، فإذا جاع ولو كان منهمكاً في العمل يشعر بالجوع، ولولا إحساسه بالجوع لمات جوعاً، ولم يدر لماذا مات، وجود الإحساس بالجوع وحده آية، وكذا الإحساس بالعطش، أنت بحاجة للماء، فالله سبحانه وتعالى لإتقان صنعته خلق لدى هذا الكائن دوافع داخلية للطعام والشراب، منها الإحساس بالجوع، وأحد وسائل تخفيف الشهوة للطعام دواء يؤثر على أماكن الجوع في الدماغ، فلا يجوع الإنسان، ويبقى عشر ساعات دون طعام، لأنّ مركز الإحساس بالجوع تخدّر قليلاً، فمن خلق هذا المركز في الإنسان؟ والجوع أيضاً معه لذة الشبع، ولولا الجوع لما أحسسنا بلذة الطعام الطيب، لكن إذا لم تكن جائعاً لم تشعر به. وأطيب أكل ما كان على الجوع، فكن جائعاً وكل ما تشاء، وكن جائعاً تجدْ أي طعام طيباً، وإن لم تكن جائعاً فلن يعجبك أنفس الطعام، فالجوع وحده آية كبرى من آيات الله عز وجل، ومن دون إشعار أنّ الماء ارتفعت حرارته في السيارة يحترق المحرك، فيسبِّب خسارة بعشرة آلاف ليرة، لكن بهذه المشيرة تعرف أن الحرارة ارتفعت، وإذا لم تنتبه لها، وأنت تتكلم مع راكب احترق المحرك، الآن صنعوا جهازاً صوتياً يسمعك؛ أن انتبه فقد ارتفعت الحرارة، في الإنسان أعمق من ذلك، لا تحتاج إلى إبرة ولا عداد ولا جهاز صوتي، يقول جائع، سأموت من الجوع، تشعر بنفسك أنك جائع، فمن جعل الإحساس بالجوع؟ وهل تدري أيها الأخ الكريم أنك إذا شعرت بالجوع، وفحصنا دمك فحصاً دقيقاً، فليس فيه نقص إطلاقاً في كل المواد الغذائية، بدليل إذا جاع الشخص جوعاً شديداً وبلغه نبأ مؤلم جداً، ويحتاج إلى ركض هذا النبأ، فهذا الشخص تنشأ عنده طاقة عجيبة، وينسى جوعه، إذاً الجوع نقصٌ في المخزون، فعندما ينقص مخزون الطعام في الكبد يشعر الإنسان بالجوع، لكن الدم دائماً بحالة تامة، وبحالة كاملة من توفر المواد الغذائية، إذاً الجوع وحده آية.

نعمة الشبع والأمن هما الحياة كلها:


 قال تعالى: ﴿أَطۡعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَءَامَنَهُم مِّنۡ خَوۡفٍۭ﴾ العلماء قالوا: نعمة الشبع والأمن هما الحياة كلها:

(( قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِناً فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا. ))

[ الترمذي عَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مِحْصَنٍ الْخَطْمِيِّ ]

 إذا كان لأحدنا قوت يومه لا أكداس المؤن بل قوت يومه، وكان آمناً في سربه، ما عليه دعوى، ولا ملاحقة، ولا شيء من هذا القبيل، معافى في جسمه، فكأنما حيزت له الدنيا.
﴿أَطۡعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَءَامَنَهُم مِّنۡ خَوۡفٍۭ﴾ قال تعالى:

﴿  وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ(112)﴾

[  سورة النحل ]

 نعمة الشبع والأمن هما الحياة بكاملها، فإذا حاز الإنسان هاتين النعمتين فليكن لله شاكراً، وله حامداً.
﴿أَطۡعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَءَامَنَهُم مِّنۡ خَوۡفٍۭ﴾ قال تعالى:

﴿  فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ(81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ(82)﴾

[  سورة الأنعام ]


الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

نص الدعاة

إخفاء الصور