وضع داكن
29-03-2024
Logo
محفوظات - مقدمات الكتب : 20 - مقدمة كتاب تأملات في الإسلام.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد للّه الذي أخرجنا ـ بهذا الدين القويم ـ من ظلمات الجهل والوهم ، إلى أنوار المعرفة والعلم ، والصلاة والسلام على سيد الخلق ، وحبيب الحق ، الذي أخرجنا ـ بسنته المطهرة ـ من وحول الشهوات إلى جنات القربات .
لقد خلق اللّه الإنسان في أحسن تقويم ، وكرمه أعظم تكريم ، سخر له الكون تسخير تعريف وتكريم ، ووهبه نعمة العقل ، ليتعرف به على خالقه العظيم ، وجعل له فطرة سليمة تدله على خطئه الجسيم ، وأودع فيه الشهوات ليرقى بها صابراً أو شاكراً إلى رب الأرض والسماوات ، وجعل له الشرع الحنيف ميزاناً دقيقاً ، فأحل له من خلاله الطيبات ، وحرم عليه الخبائث ، ومنحه حرية الإرادة ، ليثمن عمله ، كل ذلك ... ليعرف ربه فيعبده ، فيسعد بعبادته ، في الدنيا والآخرة .
لهذا لا يَسْلَم الإنسان ولا يسعد ـ وهما مطلبان ثابتان للإنسان في كل زمان ومكان ـ إلا إذا تطابقت حركته اليومية في حياته الدنيا ، مع الهدف الحقيقي الذي خُلق من أجله ، إذاً تعدُّ معرفة هذا الهدف ، والتحرك نحوه ، شرطين أساسيين لبلوغ هذين المطلبين الثابتين .
فإن لم يبحث الإنسان عن الهدف الحقيقي الذي خُلق من أجله ، أو توهّم هدفاً آخر لم يُخلق له ، أو لم تأت حركته اليومية مطابقة للهدف الصحيح ، كان القلق والاضطراب ، وكان الضلال والشقاء ، وتحققت خسارة كبيرة أبدية .
وجُعل في كيان الإنسان قبضة من طين الأرض ، ونفخة من روح اللّه ، فإذا سما عقله على شهوته أصبح فوق الملائكة المقربين ، وإن سمت شهوته على عقله كان أسفل السافلين وخلق فيه حاجات دنيا لا يقوم إلا بها ، وخلق فيه حاجات عليا ، لا يسعد إلا بتلبيتها ، ومن أبرز هذه الحاجات العليا " العلم " ، الذي هو القيمة المرجحة بين العباد ، قال تعالى :

" هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ "

( سورة الزمر : آية " 9 " )

وجعل منحة العلم أعظم النعم ، قال تعالى :

" وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا "

( سورة النساء : آية " 113 " )

* * *

وانطلاقاً من حديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم :

" إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث ؛ صدقة جارية ، وعلم ينتفع به ، وولد صالح يدعو له "

فقد تمّ بعون الله وتوفيقه تأليف كتاب جديد هو : " تأملات في الإسلام " ، حيث تنوعت موضوعاته بين : العقائد ، والعبادات ، والمعاملات ، ومكارم الأخلاق ، وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم ، وصحابته الكرام ، وفيه أيضاً موضوعات أصولية ، وتاريخية وموضوعات أدبية ، وقضايا معاصرة .
وقد حرصت على أن يكون في الموضوع الواحد ؛ ركن عقدي فلسفي ، وركن من النقل الصحيح ؛ كتاب وسنة مع الشرح الأصولي ، وركن من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسير صحابته الكرام ، والجوانب المشرقة من التاريخ الإسلامي ، وركن علمي يؤكد أن النقل
الصحيح يتوافق مع العقل الصريح ، وأن الذي خلق الأكوان ، وخلق الإنسان هو الذي أنزل على عبده الفرقان ، ليكون منهجاً للإنسان ، بحيث إذا طبقه لا يضلُّ عقله ، ولا تشقى نفسه ولا يندم على ما فات ، ولا يخشى مما هو آت .

* * *

وقد بينت في موضوع " العبادة " أن العبادة علة وجودنا ، وسرّ سعادتنا في الدنيا ، وثمن جنة ربنا في الآخرة . إنها غاية الخضوع لأمره ، وغاية محبته ، فمن أطاعه ، ولم يحبه ، لا يكون عابداً له ، ومن أحبّه ، ولم يخضع له ، لا يكون عابداً له . فلابد لهذه الطاعة الطوعية من معرفة يقينية تسبقها ، كما أنه لابد لهذه الطاعة الطوعية من سعادة حقيقية تفضي إليها تلك السعادة التي خُلق الإنسان من أجلها .
وبينت في موضوع " الفطرة " أن في القلب شعثاً ، لا يلمّه إلا الإقبال على الله ، وفي القلب وحشة ، لا يزيلها إلا الأنس بالله ، وفيه حزن ، لا يُذهبه إلا السرور بمعرفة الله ، وفيه قلق ، لا يُسكنه إلا الاجتماع عليه ، والفرار إليه ، وفي القلب نيران حسرات ، لا يطفئها إلا الرضا بأمره ، ونهيه ، وقضائه ، وقدره ، والصبر على ذلك إلى يوم لقائه ، وفي القلب فاقة لا تسدها إلا محبته ، والإنابة إليه ، ودوام ذكره ، وصدق الإخلاص له .
وأكدت في موضوع " الوسطية " أن الإسلام وسط بين المادية المقيتة ، والروحية الحالمة بين الواقعية المرة ، والمثالية التخيلية ، بين الفردية الطاغية ، والجماعية الساحقة ، بين الثبات الرتيب ، والتغير المضطرب ، بين الحاجات المُلحة ، والقيم البعيدة ، بين العقلانية الباردة والعاطفية المتَّقدة ، بين نوازع الجسد ، ومتطلبات الروح .
وفي موضوع " فلسفة المال في الإسلام " بينت أن الإنسان حريص على رزقه ؛ كما هو حريص على حياته ، ولا يقلقه إلا زوال النعمة عنه ، أو زواله عن النعمة ، فكيف يدفع المرء عن نفسه القلق من أجل الرزق ؟ وكيف يمتنع الرجل عن ارتكاب المعاصي من أجل الرزق ؟ وكيف يحترز الإنسان عن أن يقف موقف مذلة من أجل الرزق ؟.
وأكدت في موضوع " التوحيد " أنه يملأ نفس صاحبه أمناً وطمأنينة ، فلا تستبد بها المخاوف ، التي تتسلط على أهل الشرك ، فقد سدّ الموحد منافذ الخوف ، التي يفتحها الناس على أنفسهم ؛ الخوف على الرزق ، والخوف على الأجل ، والخوف على النفس ، والخوف على الأهل والأولاد ، والخوف من الإنس ، والخوف من الجن ، والخوف من الموت والخوف ممّا بعد الموت .
وفي موضوع " تأملات في سورة العصر " وضحت أن الإيمان هو اتصال هذا الكائن الإنساني ، الصغير ، الضعيف ، الفاني ، المحدود ، بالأصل المطلق الأزلي الباقي ، الذي صدر عنه هذا الوجود ؛ وعندئذٍ ينطلق هذا الإنسان من حدود ذاته الصغيرة ، إلى راحبة الكون الكبير ، ومن حدود قوته الهزلية ، إلى عظمة الطاقات الكونية المخبوءة ، ومن حدود عمره القصير ، إلى امتداد الآباد التي لا يعلمها إلا الله ، هذا الاتصال فضلاً عن أنه يمنح الإنسان القوة ، والامتداد ، والانطلاق ، فإنه يمنحه السعادة الحقيقية التي يلهث وراءها الإنسان .
وفي موضوع " ذكر الله " عددت أنواع الذكر ... فمن الذكر : أن تذكر الله في آياته الكونية ، ومن الذكر أن تذكره في آياته القرآنية ، ومن الذكر أن تذكره في نعمه الظاهرة ونعمه الباطنة ، أن تذكره في أمره ونهيه ، أن تذكره لعباده معرفاً به ، وأن تذكره في قلبك مسبحاً ، وأن تذكره في لسانك حامدا ، وأن تذكره ذكراً كثيرا ، ليطمئن قلبك ، ولينجلي همك
ولينشرح صدرك ، وليتسع رزقك ، ولينصرك الله على عدوك .
وفي موضوع " يوم عرفة " بينت أنه : إذا أطاع المرء مخلوقاً ، كائناً من كان وعصى خالقه ، فهو ما قال : الله أكبر ، ولا مرة ، ولو رددها بلسانه ألف مرة ، لأنه إنما أطاع الأقوى في تصوره . وإذا غش المرء الناس ، ليجني المال الوفير ، فهو ما قال : الله أكبر ولا مرة ، ولو رددها بلسانه ألف مرة ، لأنه إنما رأى أنَّ هذا المال أكبر عنده من طاعة الله ورسوله . وإذا لم يُقم المرء الإسلام في بيته ، إرضاء لأهله ، ولأولاده ، فهو ما قال : الله أكبر ، ولا مرة ، ولو ردَّدها بلسانه ألف مرة ، لأنه إنما رأى أن إرضاء أهله أكبر عنده
من إرضاء ربه .
وفي موضوع " مقام إبراهيم " بينت أن الله جل جلاله ، حينما يخاطب خلقه ، لا يخاطبهم بالتكليف ، افعلوا ولا تفعلوا ، إنما يدعوهم إلى الإيمان به ، فمن آمن به يكلفه ، لذلك تجد كل تكليف مسبوقاً في القرآن الكريم بـ ( يا أيها الذين آمنوا ) ، لأن الإنسان ، حينما يدخل مع الله في عقدٍ إيماني ، فقد آمن إيماناً قطعياً أن لله الكمال المطلق ، فإذا تلقيت الأمر الإيماني ولم تفهمه ، ونفذته فإنك ستجد الراحة في قلبك ، والصفاء في نفسك ، وحينما تقبل على تنفيذ أمر الله ، لثقتك بعلمه ، وحكمته ، ورحمته ، يكشف لك الحكمة منه ، فتعود بثمرتين : ثواب العابد ، وفهم العالم .
وفي موضوع " الصيام " حاولت أن أبين أن الله تعالى لم يصطف زماناً كرمضان من بقية الشهور ، ليكون شهر الطاعة ، والقرب فحسب ، بل أراده شهراً ، يتدرب فيه الإنسان على الطاعة ، حتى يذوق حلاوة القرب ، وعندها تنسحب هذه الطاعة ، وذاك القرب ، على كل شهور العام ، وحينما يصطفي الله مكاناً ، كبيته الحرام ، ويدعو المؤمنين إليه ، ليذوقوا حلاوة القرب فيه ، يريد أن ينسحب هذا القرب على كل الأمكنة ، لأن الله مع المؤمن في كل
مكان ، وحينما يصطفي الله إنساناً كسيد الأنام فيكشف له الحقائق ، إنما يصطفيه ، ليكشف من خلاله الحقائق لكل الناس .
وحينا وصلت إلى " الجانب الاجتماعي " في الإسلام ، بينت أن الإسلام جعل الدافع الاجتماعي في المسلم ينبعث من عبادة الله ، وطلب مرضاته ، من طريق خدمة عباده ، لا من طريق تلبية حاجاته المادية والمعنوية ، وجعل الإسلام النشاط الاجتماعي للمسلم يسري في قنوات نظيفة ، حددها الشرع الحكيم ، ضماناً لسلامة الفرد ، وضماناً لسلامة المجتمع ، من الفساد والانحلال ، وجعل كثيراً من الفضائل الخلقية ، والأعمال الجليلة ، لا تتحقق إلا من طريق العمل الجماعي ، وجعل الفردية ، والانعزالية ، سبباً لكثير من الرذائل الخلقية والأعمال الخسيسة ، أما حينما يفسد المجتمع ، وتنهار فيه القيم ، وتداس فيه المبادئ ، بأقدام المصالح ، عندئذ يأمر الإسلام بجفوة هذا المجتمع واعتزاله .
وفي موضوع " التعاون " قدمت صورة للمؤمن الذي رباه الإسلام على التعاون المثمر فهو إنسان متميز ، يرى ما لا يراه الآخرون ، ويشعر بما لا يشعرون ، يتمتع بوعي عميق ، وإدراك دقيق ، له قلب كبير ، وعزم متين ، وإرادة صلبة ، هدفه أكبر من حاجاته ، ورسالته أسمى من رغباته ، يملك نفسه ولا تملكه ، يقود هواه ولا ينقاد له ، تحكمه القيم ويحتكم إليها من دون أن يسخرها لمصالحه ، أو يسخر منها ، سما حتى اشرأبت إليه الأعناق ، وصفا حتى مالت إليه القلوب .
أما موضوع " الحلال والحرام " ، فهو قوام الإسلام ، ودليل الإيمان ، وميزان الصدق عند الواحد الديان ، فلا إيمان بلا عمل ، ولا عمل إلا على مقتضى الأمر والنهي ، ولا التزام بأمر آمر ، ولا نهي ناهٍ ، إلا عن حب ، والحب دون اتباع كذب ونفاق ، ومن هنا كانت خطورة موضوع الحلال والحرام في الإسلام .
و " محبة الله " هي قوت القلوب ، وغذاء الأرواح ، وهي الحياة التي من حرمها فهو في جملة الأموات ، وهي النور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات ، وهي الشفاء الذي من عدمه حلت به الأسقام ، وهي اللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام ، والحب دون اتباع كذب ونفاق .
وعن " إنسانية " هذا الدين الحنيف ، ذكرت أنه قبل أن تسمع أذن الدنيا ، عن حقوق الإنسان ، لاثني عشر قرناً ، أو تزيد ، ويوم كان العالم كله ، لا ينظر إلى الإنسان ، إلا من جهة ما عليه من الواجبات ، يُطالب بأدائها ، وإلا كان عليه من العقاب ما لا يطيق ، جاء الإسلام ليقرر جهرة ، أن للإنسان حقوقاً ، ينبغي أن تُرعى ، كما أن عليه واجبات ، يجب أن تؤدى ، وكما أنه يُسأل عما عليه ، يجب أن يعطى ما له ، فكل واجب يقابله حق ، كما أن كل حق يقابله واجب .
ومن هذه الحقوق التي أعلنها الإسلام جهرة ، قبل خمسة عشر قرناً ، حق الحياة ، وحق الكرامة ، الإنسانية ، وحق التفكير ، وحق التدين ، وحق الاعتقاد ، وحق التعبير ، وحق التعلم ، وحق التملك ، وحق الكفاية ، وحق الأمن من الخوف .
وفي موضوع " حقيقة المعجزة " أكدت أنه من رحمة الله بنا أيضا ، أن تلازم الأسباب مع النتائج يضفي على الكون طابع الثبات ، ويمهد الطريق لاكتشاف القوانين ، ويعطي الأشياء خصائصها الثابتة ، ليسهل التعامل معها ، ولو لم تكن الأسباب متلازمة مع النتائج ، ولو لم تكن النتائج بقدر الأسباب ، لأخذ الكون طابع الفوضى ، والعبثية ، ولتاه الإنسان في سبل المعرفة ، ولم ينتفع بعقله ، لكن مَنِ اعتقد أن الأسباب وحدها تخلق النتائج ، ثم اعتمد على الأسباب وحدها ، فقد أشرك ، لذلك يتفضل الله على هذا الإنسان ، الذي وقع في الشرك الخفي فيؤدبه بتعطيل فاعلية الأسباب ، التي اعتمد عليها ، فيفاجأ بنتائج غير متوقعة ، ومن ترك الأخذ بالأسباب ، متوكلاً في زعمه على الله ، فقد عصى ، لأنه لم يعبأ بهذا النظام الذي ينتظم
الكون كله، ولأنه طمع ، بغير حق ، أن يخرق الله له هذه السنن .
وحرصت في موضوع " الهجرة " على أن أبين أن الظروف التي أحاطت بالنبي صلى الله عليه وســــــلم ، والأحداث التي واجهها، هي ظروفٌ وأحداثٌ ، خُلقت وقُدرت بعنايةٍ تامة ، وبحكمةٍ بالغة ، ليقف النبي صلى الله عليه وسلم منها الموقف التشريعي الكامل الذي ينبغي أن يقفه الإنسان ، ليؤكد إنسانيته ، وليحقق غاية وجوده ، إن هذه الظروف ، وتلك الأحداث ، من شأنها أنها تكرر ، بسبب أن طبيعة النفس واحده .
ومن خلال موضوع " رحمة النبي " الكريم وضحت أن في تاريخ البشرية كلها ، بروادها بصفوتها ، بقادتها ، لا نكاد نعرف حياةً ، نقلت إلينا أنباؤها ، وحفظت لنا وقائعها ، في وضوح كامل ، وتفصيل عميم شامل ، كما حفظت ، وكما نقلت إلينا ، حياة محمد بن عبد الله رسول الله رب العالمين ، ورحمته المهداة إلى الناس أجمعين ، فكل كلمة قالها ، وكل خطوة خطاها ، وكل بسمة تألقت على محيّاه ، وكل دمعة تحدرت من مآقيه ، وكل نفس تردد في صدره ، وكل مسعىً سار لتحقيق أمره ، كل مشاهد حياته ، حتى ما كان منها من خاصة أمره ، وأسرار بيته ، وأهله ؛ كل ذلك نقل إلينا بحروف كبار ، موثقاً بأصدق ما عرف التاريخ الإنساني من وسائل .
وفي " الجانب الانساني في شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلّم " ذكرت أن النبي صلى الله عليه وسلم في نظر المنصفين من خصومة ، الإنسان الأول ، من بين المئة الأوائل في تاريخ البشرية كلها ، من حيث قوة التأثير ، ومن حيث نوع التأثير ، ومن حيث امتداد أمد التأثير ، ومن حيث اتساع رقعة التأثير .
وبينت في موضوع " الإيدز " أنه لحكمة بالغة بالغة جُعلت علاقة المعصية بنتائجها علاقةً علمية ، أي علاقة سبب بنتيجة ، ففي كل معصية بذور نتائجها ، وهذا ما يليق بالتشريع الإلهي ، تشريع الخبير ، الذي هو في حقيقته تعليمات الصانع ، لكن هذه النتائج الوبيلة للمعاصي ، ليست هي كل النتائج ، بل بعضها ، فالعاصي ـ فضلاً عن أنه يخسر الدنيا ـ يخسر الآخرة ، والعاصي ـ فضلاً عن أنه يعذب في الدنيا ـ يعذب في الآخرة ، لكن عذاب الدنيا ليس بشيء ، إذا قيس بعذاب الآخرة .
وفي موضوع " الدخان " ذكرت قصة رجل وسيم جداً ، تتخذه شركات التسويق وسيلة للإعلان عن الدخان ، يرتدي ثياب رعاة البقر، ويضع قبعةً على رأسه ، ويدعوك إلى التدخين مات في سن الشباب ، بسبب التدخين ، قال وهو على فراش الموت : كنت أكذب عليكم الدخان قتلني ، لذلك لا ينبغي أن نكون ضحية الكذب ، ولا ضحية إعلان رخيص ، ولا ضحية شركة ، تبحث عن الربح ، ولا تعبأ بصحة الآخرين .
وفي موضوع " القدس " ، ذكرت أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، انطلقوا ينشرون هذه الرسالة السماوية في الآفاق ، متخذين لهذه الأهداف النبيلة وسائل نبيلة من جنسها ، فهذه وصية أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، لأسامة بن زيد ، قائد الجيش الإسلامي، قال له : " لا تخونوا ، ولا تغدروا ، ولا تغلوا ، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً ، ولا شيخاً كبيراً ، ولا امرأة ، ولا تعقروا نخلاً ، ولا تحرقوه ، ولا تقطعوا شجرة مثمرة ، ولا تذبحوا شاةً ، ولا بقرة ، ولا بعيراً إلا لمأكلة ، وسوف تمرون بأقوام قد فرَّغوا أنفسهم بالصوامع ، فدعوهم وما فرَّغوا أنفسهم له ... اندفعوا بسم الله" .
وفي موضوع " المقالة " بينت أن مهمة الكاتب ليست في إضعاف النفوس ، بل في تحريك الرؤوس ، كل كاتب لا يثير في الناس رأياً ، أو فكراً ، أو مغزى يدفعهم إلى التطور أو النهوض ، أو السمو ، على أنفسهم ، ولا يحرك فيهم غير المشاعر السطحية العابثة ، ولا يقرُّ فيهم غير الاطمئنان الرخيص ، ولا يوحي إليهم إلا بالإحساس المبتذل ، ولا يمنحهم غير الراحة الفارغة ، ولا يغمرهم إلا في التسلية ، والملذات السخيفة ، التي لا تكوِّن فيهم شخصية
ولا تثقف فيهم ذهناً ، ولا تربي فيهم رأياً ، لهو كاتب يقضي على نمو الشعب ، وتطور المجتمع .
وفي موضوع " البطولات " ذكرت أن جيوش الغزو الفرنجي الثالثة ، يقودها سبعة وعشرون ملكاً وأميراً ، يتقدمهم ريكاردوس ملك انكلترا ، وقد قال لصلاح الدين قبل التحام الجيوش : " إني أنا ريكاردوس ، والقوة عندنا هي كل شيء ، وسأريك البرهان " ثم دعا بقضيب من حديد ثم سل سيفه وأهوى عليه ، فاخترطه نصفين . فضحك صلاح الدين وقال لريكاردوس : " ليست الحرب صلابة سيف ، وقوة ساعد ، وإنما هي مضاء حدٍّ وسداد يد ثم قذف بمنديل من الحرير الرقيق الشفاف إلى أعلى ، ثم تلقاه بسيفه فشطره وقال
لريكاردوس : بمثل هذا السيف سنلقاكم غداً " .

* * *

ولا بد من التنويه بالمنهج العلمي الذي اعتمدته في هذا الكتاب ؛ فانطلاقاً من أن الدين في حقيقته نقل عن الله ورسوله ، وأن أخطر ما في النقل صحته ، لذلك حرصت على اختيار النصوص الصحيحة ، وتخريج النصوص الواردة في بعض أصول الكتاب .
وبما أن العلم ـ في الأصل ـ حكم ، مقطوع بصحته ، يطابق الواقع ، وعليه دليل ؛ فلو لم يكن الحكم مقطوعاً بصحته ، كان الوهم والشك والظن ، ولو لم يطابق الواقع كان جهلاً ، لأن حقيقة العلم هو الوصف المطابق للواقع ، ولو لم يؤيده الدليل ـ ولو كان الحكم صحيحاً ـ كان تقليداً ، فانطلاقاً من هذا ... أؤكد أن الحق ما جاء به النقل ، ومن البدهي أن يقبله العقل الصريح ، وأن ترتاح له الفطرة السليمة ، وأن يؤكده الواقع الموضوعي .
فالنص الصحيح أولاً والحكم مأخوذ منه ومبني عليه ثانياً ، أما إذا عكسنا الأمر ؛ فجئنا بالرأي أولاً ، ثم بحثنا عن نص يؤيده ، فقبلنا من النصوص ما يؤيده ، ورفضنا ما لا يؤيده ، وقعنا في ضلالات أهل الرأي ، قال تعالى :

" إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء "

( سورة الأنعام : آية " 159 " )

ويمكن أن نلخص منهج البحث الإسلامي بالقاعدة : " إن كنت ناقلاً فالصحة ، أو مدعياً فالدليل " .
وبما أن النبي معصوم بمفرده ، وأمته معصومة بمجموعها ، وأن كلّ طالب علم تفوق في جانب ، وتفوق غيره في جانب آخر ؛ فلا بد في العلم من الأخذ والعطاء ، لذلك اعتمدت في بعض الموضوعات وهي قليلة ، وفي بعض أجزائها ، على كتب قيمة ، أشرت إليها في قائمة المصادر والمراجع وذكرت أسماء مؤلفيها .
وبما أن الكمال لله وحده ، وبما أن كلّ إنسان ، يؤخذ منه ويرد عليه ، إلا صاحب القبة الخضراء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، فإني أنتظر من الإخوة القراء ـ كما عودوني في كتاب النظرات ـ تنفيذاً لوصية سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه " حينما قال : " أحب الناس إلي من رفع إلي عيوبي " ، أن يتفضلوا بإبداء ملحوظاتهم حول مضامين الكتاب وأدلتها ، ونصوصه واستنباطاتها ، وقصصه التاريخية ودلالاتها ، وموضوعاته العلمية وارتباطاتها ؛ لآخذ بها في الطبعات القادمة إن شاء الله تعالى . فالكتاب لا يزيد عن تأملات في الإسلام فإن أصبت فمن توفيق الله وفضله ، وإن لم أصب فمن تقصيري وضعف حيلتي .
فالحق فوق الجميع ، والمضامين فوق العناوين ، والحقيقة فوق الأشخاص فالمؤمنون بعضهم لبعض نصحة متوادون ، والمنافقون بعضهم لبعض غششة متحاسدون ، ويروى أن إماماً لقي غلاماً وأمامه حفرة ، فقال له : إياك ياغلام أن تسقط فقال له الغلام : بل إياك يا إمام أن تسقط ؛ إني إن سقطت سقطت وحدي ، وإنك إن سقطت سقط معك العالم ، لذلك ما من أحد أصغر من أن يَنقد ، وما من أحد أكبر من أن يُنقد .
ولا بد من أن أنوه أيضاً بفضل بعض الإخوة الذين أجلّهم وأحبّهم ، والذين شاركوا في تصميم البرامج التي أفرغت فيها أصول الكتاب ، والذين نفذوها وطوروها ، والذين نقحوا النصوص ودققوها ، والذين راجعوا الأحاديث الشريفة وخرجوها ، والذين أخرجوا الكتاب وطبعوه ، وأخص بالشكر الدار التي نشرته، على حرصها أن يقترب الكتاب من درجة الكمال .
ولا يسعني إلا أن أدعو فأقول : جزى الله عنا سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم ما هو أهله ، وجزى عنا أصحابه الكرام ما هم أهله ، وجزى عنا والدينا ، وأساتذتنا ، ومشايخنا ومن علمنا ، ومن له حق علينا ماهم أهله .
أعوذ بك يارب ... أن يكون أحد أسعد بما علمتني مني ، وأعوذ بك أن أقول قولاً فيه رضاك ، ألتمس به أحداً سواك ، وأعوذ بك من فتنة القول ، كما أعوذ بك من فتنة العمل وأعوذ بك أن أتكلف ما لا أحسن ، كما أعوذ بك من العجب فيما أحسن .
محمد راتب النابلسي
أستاذ محاضر في كلية التربية بجامعة دمشق
خطيب جامع الشيخ عبد الغني النابلسي
مدرس ديني في مساجد دمشق

إخفاء الصور