الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ الصادق الوعد الأمين.
اللهم لا عِلم لنا إلا ما علَّمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم عَلِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزِدنا علماً، وأرِنا الحقَّ حقَّاً وارزقنا تباعه، وأرِنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتَّبِعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الحكمة من ذكر ما حدث لبني إسرائيل مع نبيهم موسى في القرآن الكريم:
أيُّها الإخوة الكرام: مع الدرس الخامس والستين من دروس سورة النساء، ومع الآية الثالثة والخمسين بعد المئة، وهي قوله تعالى:
﴿ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاءِ ۚ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَىٰ أَكْبَرَ مِن ذَٰلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ۚ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَٰلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَىٰ سُلْطَانًا مُّبِينًا (153)﴾
أيُّها الإخوة الكرام: نحن أمام مجموعة آياتٍ تتحدث عن بني إسرائيل، وقد يسأل أحدنا ما الحكمة وما الغاية من أن يَرِد في القرآن الكريم، ماذا حدث لبني إسرائيل مع نبيهم موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم، الحقيقة هُم أهل كتاب، وإنَّ المُنزلَقات التي انزلقوا بها كثيرة، والمسلمون يمكن أن ينزلقوا في المُنزلقات نفسها، كيف؟ لماذا أهلك الله بني إسرائيل؟ قال:
(( أنَّ قُرَيْشًا أهَمَّهُمْ شَأْنُ المَرْأَةِ المَخْزُومِيَّةِ الَّتي سَرَقَتْ، فَقالوا: ومَن يُكَلِّمُ فِيهَا رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؟ فَقالوا: ومَن يَجْتَرِئُ عليه إلَّا أُسَامَةُ بنُ زَيْدٍ، حِبُّ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أتَشْفَعُ في حَدٍّ مِن حُدُودِ اللَّهِ، ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ، ثُمَّ قالَ: إنَّما أهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ، أنَّهُمْ كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وإذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أقَامُوا عليه الحَدَّ، وايْمُ اللَّهِ لو أنَّ فَاطِمَةَ بنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا. ))
فحينما تُطبَّق الحدود على ضِعاف الناس، وينجو منها كِبارهم، فهذا مُنزلَقٌ خطير وقع فيه بنو إسرائيل، فأهلكهم الله عزَّ وجل.
ماذا فعل بنو إسرائيل؟
﴿ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)﴾
كأنَّ إنكار المُنكر أُلغيَ في حياتهم، فهناك مُداهنةٌ ومجاملة على حساب الدين، فلذلك أهلكهم الله عزَّ وجل، ونحن حينما ننزلق في المُنزلَق نفسه، فلا نأمُر بالمعروف ولا ننهى عن المُنكر، أو لا نتناهى عن مُنكراتٍ نفعلها، نستوجب سَخَط الله عزَّ وجل، فالحكمة البالغة من إيراد قصص بني إسرائيل وتعنتهم وجمودهم وحَرفية فهمهم، وأنهم نسبوا الظلم إلى الله عزَّ وجل:
﴿ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ ۚ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَّا يُؤْمِنُونَ (88)﴾
هكذا خُلِقنا! إنَّ معظم الأمراض التي أصابت بني إسرائيل، هي في الحقيقة مُتفشيةٌ في عالم المسلمين، وكأنَّ هذا أسلوبٌ بليغ: إياكِ أعني واسمعي يا جارة.
هؤلاء بنو إسرائيل أو أهل الكتاب، يقول الله عنهم: (يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاءِ) والحقيقة السؤال فيه خطأ، ينبغي أن يقولوا: يسألك أهل الكتاب أن تسأل الله أن يُنزِّل عليهم كتاباً من السماء، ذلك لأنَّ مقام النبوة مقامٌ مُحدَّد:
﴿ قُل لَّا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ۚ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ ۚ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50)﴾
أول بند.
﴿ قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۚ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ۚ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)﴾
﴿ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)﴾
﴿ قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21)﴾
﴿ قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۚ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ۚ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)﴾
قل: (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ) .
سبب تكذيب اليهود للقرآن :
هذا حجم النبوة لا يعلم الغيب، ولا يملِك النفع ولا الضُرّ لا لغيره ولا لنفسه، وهو لو أنه عصى الله - لا سمح الله ولا قدَّر - له عذابٌ عظيم: (قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) .
فهؤلاء أهل كتاب، صدَّقوا أنَّ التوراة أُنزلت على سيدنا موسى فلمَ يُكذِّبون بالقرآن؟ في عالمهم الديني كتابٌ مُنزل من السماء، لكن أرادوا أن يتعنَّتوا، وأن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يروا كتاباً من السماء يهبط.
هُم حينما قرؤوا القرآن وهم أهل بلاغةٍ وبيان، لم يستطيعوا أن يجدوا فيه مأخذاً واحداً، ولو وجدوا مأخذاً في اللغة لأقاموا الدنيا ولم يُقعدوها، ولكن بلاغة القرآن أسكتتهم، إذاً لا بُدَّ من حيلةٍ أُخرى، لماذا أُنزل على محمد عليه الصلاة والسلام:
﴿ وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)﴾
رأوه فقيراً، بمقاييس الأغنياء لا بُدَّ من أن يكون غنياً، ثم أرادوا أن يكون القرآن مُنزَّلاً دُفعةً واحدة، جملةً واحدة، إذاً هُم أرادوا أن يبقوا مع أهوائهم وشهواتهم، فحينما صعقهم القرآن بإعجازه وبلاغته، اعترضوا على أنه نزل على رجُلٍ فقير، ثم اعترضوا على أنه نزل مُنجَّماً: (يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاءِ) وكأنَّ الله سبحانه وتعالى يُخفِّف عن رسوله صلى الله عليه وسلم، يقول له: يا محمد لا تحزن، لقد سألوا نبيهم ما هو أكبر من ذلك: (فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَىٰ أَكْبَرَ مِن ذَٰلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ۚ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ) ، لأنَّ الله سبحانه وتعالى يريد أن يُقوّي نبيَّهُ عليه الصلاة والسلام، ثم يريد أن يُخفِّف عنه الحُزن الذي ينتابه، حينما يُكذَّب من قبل قومه.
إن أردت الحقيقة فأصغر شيء يدلك عليها :
إذاً إذا كان الإنسان في الأصل مُتَّبِعاً لشهوته، وجاءه الحقّ، وليس له ردٌّ على هذا الحقّ، يأتي باعتراضاتٍ سخيفةٍ وجانبيةٍ، ليُبرر لنفسه بقاءه على باطله: (فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَىٰ أَكْبَرَ مِن ذَٰلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً) .
قالوا: يا إمام، متى كان الله؟ فقال: ومتى لم يكن؟!!
وَفي كُلِّ شَيءٍ لَهُ آيَةٌ تَدُلُّ عَلى أَنَّهُ واحِدُ
(فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ) هذا تعنُّت (ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ) الإنسان حينما لا يُعمِل عقله في آيات الله الكونية، قد تأتيه النصوص وفجأةً ينتكس، رأوا بأعينهم كيف أنَّ موسى عليه السلام ضرب البحر بعصاه فأصبح طريقاً يبساً، رأوا بأعينهم كيف أنَّ العصا أصبحت ثعباناً مبيناً، رأوا بأعينهم آياتٍ بينات، رأوا مُعجزاتٍ حسيَّة، ومع ذلك حينما مرّوا على قومٍ يعكفون على أصنامٍ لهم قالوا:
﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَىٰ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٍ لَّهُمْ ۚ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ۚ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138)﴾
إذاً هُم ما أرادوا الحقّ، هذا الكلام يُستنبط منه استنباطٌ لطيف: "إن أردت الحقيقة فأصغر شيءٍ يدلك عليها"، هو قرار داخلي.
الهدى والإيمان قرار داخلي:
إن أردت أن تعرف الحقيقة: فبعرةٌ تدل على البعير، وأقدامٌ تدل على المسير، وماءٌ يدل على الغدير، أفسماءٌ ذات أبراج، وأرضٌ ذات فِجاج ألا تدلان على الحكيم الخبير؟ وإن لم تُرِد الحقيقة، لو كنت في أضخم قاعدة فضاء بالأرض، ورأيت المجرات بأمِّ عينك من خلال التلسكوبات، لو كنت في مجهرٍ إلكتروني تُكبَّر الخلية أربعين ألف مرة، وترى الخلية عالماً قائماً بذاته، لو كنت في أرقى الأمكنة العلمية في الأرض، ولم تؤمن بالله، أو لم تُرِد الحقيقة لا تنتفع بكل هذه الحقائق.
مَثَل للتقريب: آلة تصوير بدائية جداً، إذا كان فيها فيلم تلتقط الصور، بدائيةٌ جداً، وائتِ بأرقى آلةٍ في الأرض، وليكن ثمنها فوق المليون، إن لم يكن فيها هذا الفيلم لا قيمة لها، أنت إذا أردت الحقيقة فكأن فيلماً في آلتك تنطبع عليه الحقائق، وإن لم تُرِد الحقيقة مهما تكن عبقرياً وذكياً، فإنك لن تؤمن بالله عزَّ وجل، لذلك الهدى قرار داخلي، وهذه الفكرة تُفسِّر آياتٍ كثيرة:
﴿ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (248)﴾
إن أردت الإيمان هذه آيةٌ تُعرِّفك بالله، أمّا إن لم تُرِد الإيمان فكل آيات الأرض لا تدلك على الله، لأنك ما أردت الإيمان بالله.
حقيقة دقيقة: الإيمان قرار داخلي، صدق في الطلب، بحث عن الحقيقة، إن كان ذلك متوفراً فأقل الأدلة يوصلك إلى الله، وإن لم تُرِد الحقيقة؟! يوجد الآن مخابر، يوجد مجاهر، يوجد تلسكوبات، يوجد مراكز علمية في العالم فيها شيء لا يُصدق، وهؤلاء الذين في هذه المراكز الفضائية، ويرون كل يومٍ مجرةً تأخذ بالألباب، هؤلاء الذين فوق المجاهر الإلكترونية، ويرون دقائق بُنية النسج البشرية لا يتأثرون، لأنَّ آلتهم على أنها غاليةٌ جداً، ليس فيها فيلمٌ تنطبع عليه الحقائق.
كلما ارتقى الإنسان في سلّم الإنسانية قاده البيان وكلما هبط قادته الوقائع:
(يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاءِ ۚ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَىٰ أَكْبَرَ مِن ذَٰلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ۚ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ) عبدوا صنماً بعد أن رأوا آيات الله الصارخة: (فَعَفَوْنَا عَن ذَٰلِكَ ۚ وَآتَيْنَا مُوسَىٰ سُلْطَانًا مُّبِينًا) ، آتيناه المُعجزات التي خضعت لها رقاب المُتعنّتين، ثم إنَّ الله سبحانه وتعالى نوّع أساليب هدايتهم، هُم لا يخافون إلا بأعينهم.
الإنسان أيُّها الإخوة إمّا أن يخاف بعقله، وإمّا أن يخاف بعينيه، كلما ارتقى في سُلَّم الإنسانية خاف بعقله، وكلما هبط إلى مستوى البهيمية خاف بعينيه، والدليل أضرِب هذا المثل: إنسان مسافر إلى حمص في أيام الشتاء، وفي أيام الثلوج، فإن رأى لوحةً في عدرا أنَّ الطريق إلى حمص مُغلق في النبك بسبب تراكم الثلوج، واللوحة موضوعة في عدرا ماذا يفعل؟ يعود، ما الذي حرَّكه؟ البيان، لو أنَّ دابةً تمشي أين تقف؟ في النبك، ما الذي يُحركها؟ الواقع، كلما ارتقيت في سُلَّم الإنسانية قادك البيان، وكلما هبط الإنسان إلى درجات البهيمية قادته الوقائع.
فكل إنسان مثلاً حينما يُدخِّن، ثم يصاب بمرضٍ خبيثٍ في رئتيه يُقلع عن الدخان، لكن من هو الإنسان الراقي؟ هو الذي إذا قرأ بحثاً عن الدخان، أو قرأ حُكماً شرعياً عن الدخان أقلع عنه، حرَّكه البيان ولم يقهره الواقع، فنحن نؤمن بالغيب، لكن كل البشر هذه الملايين المُملينة، الستة آلاف مليون يعيشون لحظتهم، يعيشون شهواتهم، لكن كلهم عند الموت سوف يؤمنون بما آمن به الأنبياء والمرسلون، ولكن بعد فوات الأوان، فالبطولة أن تؤمن بالغيب.
الواقع أمام المؤمن ملموس لكنه أعرض عنه وابتغى الآخرة:
إخواننا الكرام: الدنيا محسوسة تراها بعينك، ترى قصراً مُنيفاً، ترى امرأةً جميلة، ترى سيارةً فارهة، ترى طعاماً نفيساً، ترى عِزّاً وسلطاناً، هذا تراه بعينك، أمّا الآخرة فليست محسوسة، الآخرة مُخبَرٌ عنها فقط، لذلك حينما يحكُمك البيان هذا القرآن، وتُصدّقه، وتستقيم على أمر الله، وتعمل للآخرة فأنت ارتقيت إلى مستوى الإنسان، لم يكن الواقع هو المُحرك لك، الذي حركك البيان الإلهي، هذا هو المؤمن، الواقع أمامه ملموس، لكنه أعرض عنه، وابتغى الآخرة:
﴿ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا (19)﴾
الدنيا محسوسة، لو أنَّ الآخرة محسوسة لاستقام الناس على أمر الله، وليس لهم أجر إطلاقاً، ضع إنساناً أمام خيارين، رصاصةً تقتله، أو مئة ألف دولار يأخذها؟ كم شخص يختار الرصاصة؟ ولا شخص بالأرض، لو كان الأمران محسوسين لاخترنا الآخرة، ولكن رُقيَّك في الآخرة بسبب أنَّ الآخرة خبر فقط، أمّا الدنيا فتراها بعينك محسوسة، فلذلك هذا الذي يؤمن بالغيب، يقرأ القرآن، يؤمن أنه كلام الله من إعجازه، يؤمن أنَّ الذي جاء به رسول الله من قرآنه، يؤمن بأن الله موجودٌ من كونه، هذا هو الإيمان بالغيب، فاستقام على أمر الله، له أجرٌ لا يعلمه إلا الله.
الفرق بين المؤمن والشارد عن الله عز وجل:
﴿ الم (1) ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3)﴾
ما الفرق بين هؤلاء وبين الشاردين عن الله عزَّ وجل؟ رأى امرأةً فاستغرق في التأمل في محاسنها، رأى مالاً فأخذه بحقٍّ أو بغير حقٍّ، يعيش لحظته، تحركه شهواته، لا يرى أبعد من أنفه، هذا هو الإنسان الشارد عن الله عزَّ وجل، أمّا المؤمن فيرى هدفه البعيد، وينسجم معه، ففي كل تفاصيل حياته يتَّبِع منهج الله عزَّ وجل، هؤلاء طبَّق الله عليهم مبدأ الشدة:
﴿ وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا (154)﴾
الطور أي الجبل، (وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ) أي اخضعوا لمنهج الله عزَّ وجل.
اخضعوا لمنهج الله عز وجل:
﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ۖ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ۗ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَىٰ ۗ وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)﴾
(وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ) يوجد نقطة دقيقة جداً، أرجو الله أن يوفقني بشرحها، أحياناً تكون في ضائقةٍ شديدة، وأبواب الحرام كلها مُفتَّحة، وباب الحلال مُغلق، هذا امتحانٌ صعبٌ جداً، كان من الممكن أن تُغلَّق أمامك أبواب الحرام، وأن تفتح أبواب الحلال، إذاً أنت لم تُمتحن، فحينما تُغلَّق أبواب الحلال، وتُفتح أبواب الحرام تقول: أنا مضطر، عندي أولاد، ماذا أفعل؟ بلوى عامة، الله يغفر لي إن شاء الله، لو أنك صبرت قليلاً وقلت: والله لا آكل الحرام ولو مِتُّ من الجوع، الله الغني.
(( يا عَمِّ! و اللهِ لو وضَعُوا الشمسَ في يَمينِي، و القَمَرَ في يَسارِي، على أنْ أترُكَ هذا الأَمرَ حتى يُظهِرَهُ اللهُ أوْ أهلِكَ فيه ما تَركْتُهُ ))
[ الألباني السلسلة الضعيفة ]
لجاءتك الدنيا وهي راغمة.
من سياسة الله مع خلقه أنه يضع أمامنا عقبات:
إخواننا الكرام: من سياسة الله مع خلقه أنه يضع أمامك عقبات، أمور الحرام سهلة، لو أنَّ الحلال سهلٌ جداً، وأنَّ الحرام صعبٌ جداً، لأقبل الناس على الحلال لا حُبَّاً بالله، ولا طاعةً له، ولا ابتغاء الجنَّة، ليس لهم أجراً، لكن شاءت حكمة الله أن يكون الحلال صعباً والحرام سهلاً.
امرأةٌ تعمل طوال النهار لتأخذ بضع مئاتٍ من الليرات، بينما تأخذ بغيٌّ أضعافاً مُضاعفة عن هذا المبلغ، بمعصيةٍ تُغضِب الله عزَّ وجل.
فلحكمةٍ بالغةٍ بالغة جعل المال الحرام سهلاً، تهريب كيلو مخدرات يُغنيك إلى ولد ولدك، لكن ماذا يفعل هذا الكيلو بهؤلاء الشباب؟ يُدمِّر أُسراً، أمّا التجارة الشرعية فمُتعبة، وطريقها طويل، تعمل ليلاً نهاراً كي يأتي مصروفك فقط، هذا امتحان الدنيا، نحن في دار امتحان، فلذلك بنو إسرائيل امتُحنوا، حرَّم عليهم الصيد يوم السبت، ويوم السبت الحيتان تتجول، وظاهرة وكأنها سُفُن، ممنوع أن يصطادوها، في أيام الصيد لا يوجد حيتان، هذا امتحانٌ مُطبَّق دائماً، طبعاً ليس دائماً هذا الامتحان، وإنما هو مؤقت، الحلال صعب، والحرام سهل.
يأتي إنسان يقول: والله لا أفعل معصيةً ولو مِتُّ من الجوع، حينما يرى الله منه هذا الصدق، وهذا الورَع يُخضعه لقوانينٍ لا يعلمها، قوانين العناية الإلهية، يعني إنسان يبيع الخمر ودخله مليون في اليوم مثلاً، تاب إلى الله فأصبح دخله خمسة آلاف في اليوم، لماذا هذا الهبوط؟ امتحانٌ صعب، مع بيع الخمر يوجد مبلغ ضخم، من دون خمر لا يوجد شيء، فإذا قال: والله لا أعصي الله، وأنا أرضى بالكَفاف من العيش، وأن يكون الله راضياً عنّي، وصلت إلى هذا المستوى، الآن يُخضِعُك الله لمنظومة قوانين أنا أُسمّيها قوانين العناية الإلهية، فإذا بالله يُغنيك غنىً كبيراً، وأنت في طاعته، ما الذي حصل؟ بلغت مرتبة العابدين في طاعتك لله، وجاءتك الدنيا وهي راغمة، لذلك:
(( إنك لن تدَعَ شيئًا إتقاءَ اللهِ إلا أعطاك اللهُ خيرًا منه ))
[ أخرجه أحمد وابن المبارك ]
من ترك الحرام يعوضه الله خيراً منه:
الامتحان ليس سهلاً، أحياناً دخل كبير، حدثني أخ قال لي: أَقسَم بالله أنه لا يجد مبلغاً ليدفع رسوم سيارته، عنده معمل متوقف نهائياً، لا يوجد معه رواتب العمال، جاءه عرض بحسب الحسابات البسيطة يأتيه من هذا العرض بضعة ملايين، لكن تصنيع شيءٍ لا يُرضي الله عزَّ وجل، مُحرَّم، فجاء وسألني، قلت له: هذا امتحانٌ صعب، لكنك إذا تركت الحرام عوضك الله خيراً منه، فقال: لا، وبقي على الشِدَّة التي هو فيها، وبعد حينٍ جاءه عرضٌ آخر كله حلالٌ في حلال واغتنى به (إنك لن تدَعَ شيئاً إتقاءَ اللهِ إلا أعطاك اللهُ خيراً منه) .
(وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ) فصنعوا أحواضاً يدخلها الحيتان يوم السبت ويغلقونها، يصطادونها يوم الأحد، انتهت العملية، وهذه الحيَل التي يفعلها معظم المسلمين في شتّى شؤون حياتهم، هي سبب هلاكهم عند الله عزَّ وجل (وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا) .
أيُّها الإخوة: نتابع هذه الآيات في الدرس القادم إن شاء الله تعالى، أسأل الله التوفيق لكم.
الملف مدقق