وضع داكن
28-03-2024
Logo
فقه السيرة النبوية - الدرس : 27 - الهجرة -2- تفاصيل الهجرة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
أيها الإخوة الكرام، مع درس جديد من دروس فقه السيرة النبوية، وقد وصلنا في الدرس الماضي إلى موضوع الهجرة، وكان الحديث عن مفهومات الهجرة:
الهجرة حركة، والهجرة ترك ما نهى الله عنه، والهجرة قائمة بين كل مدينتين تشبهان مكة والمدينة.
عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

(( الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ ))

[ رواه مسلم].

 وكان الحديث المطول حول قوله تعالى:

 

﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً ﴾

( سورة النساء ).

 الآن ندخل في التفاصيل.

 

اختيار يثرب مكانا للهجرة

في هذا الدرس الثاني للهجرة، الآن لم يكن اختيار يثرب داراً للهجرة مما اقتضته الظروف ظروف الدعوة فقط، إنما كان ذلك بوحي من الله سبحانه وتعالى.
 التعليق: إن كل حدث وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان من قِبل العناية الإلهية مقصوداً لذاته، لأن السنة النبوية المطهرة هي أقواله، وأفعاله، وإقراره، أفعاله كما يقول بعض العلماء: أبلغ في الدالة على معرفته بالله، وفهمه لكلامه من أقواله، لماذا ؟ لأن القول يحتمل التأويل، بينما الفعل حدّي، إذاً كل أفعاله كانت تشريعاً، النبي وحده، ولا أحد سواه أقواله تشريع، وأفعاله تشريع، وسكوته تشريع، وصفاته تشريع.

﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾

( سورة الحشر الآية: 7 ).

﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ﴾

( سورة النساء الآية: 80 ).

 ولأن أمر الله تعالى واضح جلي، قطعي الثبوت والدلالة في وجوب طاعة رسول الله، في أقواله، وأفعاله، وإقراره، إذاً ينبغي أن تكون أفعاله معصومة عن الخطأ لأنه مشرع.

 

رؤية النبي يثرب في المنام

 

 إذاً يجب أن نأخذ أحداث السيرة النبوية على أنها أحداث أرادها الله عز وجل لعبرة بالغةٍ بالغة ليقف النبي e منها الموقف الكامل، عندئذٍ يكون هذا الموقف تشريعاً، الله عز وجل هو الذي اختار يثرب، فقد ورد في حديث عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(( إِنِّي أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لَابَتَيْنِ، وَهُمَا الْحَرَّتَانِ ))

[البخاري عن عائشة]

 

(( إِنِّي أُرِيتُ ))

 

 ورؤيا الأنبياء حق، ورؤيا الأنبياء أمر.

﴿ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ﴾

( سورة الصافات الآية: 102 ).

 رؤيا الأنبياء أمر، والله عز وجل هو الذي اختار يثرب لتكون داراً للهجرة، لذلك ورد في بعض الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما خرج من مكة مهاجراً، قال:

 

(( اللهم ! إنك أخرجتني من أحب البلاد إلي فأسكني أحب البلاد إليك ))

 

[ رواه الحاكم عن أبي هريرة ]

 فكانت المدينة المنورة، لذلك الذين يزرون مكة والمدينة يؤكدون أن الجو العام في مكة جو إجلال، بينما الجو العام في المدينة جو جمال، روحانية النبي مهيمنة على هذه المدينة النبوية، إذاً:

 

(( إِنِّي أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لَابَتَيْنِ، وَهُمَا الْحَرَّتَانِ ))

وفي حديث آخر:

 

 

(( رأَيْتُ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍ بِهَا نَخْلٌ، فَذَهَبَ وَهَلِي إِلَى أَنَّهَا الْيَمَامَةُ، أَوْ هَجَرُ، فَإِذَا هِيَ الْمَدِينَةُ يَثْرِب ))

 

[ البخاري عن أبي موسى]

من أسباب الهجرة

 إنّ أسباب الهجرة لا تخفى على أحد، حيث كان الابتلاء والاضطهاد سبب هجرة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بأمر الله إلى المدينة التي اختارها الله، والحقيقة أن المدينة وظيفتها الأولى في الهجرة تأمين ملاذ آمن للدعوة، لذلك المكان أو أيّ مكان يحول بينك وبين عبادة الله ينبغي أن تغادره، لأن علة وجودك أن تعبد الله، وإذا قال عليه الصلاة والسلام:

(( لا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ ))

[ متفق عليه عن ابن عباس].

 أي أن باب الهجرة أغلق بين مكة والمدينة بعد الفتح، لكن الحقيقة أن الهجرة قائمة ومفتحة أبوابها على مصاريعها بين كل مدينتين تشبهان مكة والمدينة.
 وقد بينت في درس سابق أن الإنسان إذا كان ضعيفاً ضعف قمع على أن يعبد الله ينبغي أن يهاجر، وإن كان ضعيفاً ضعف غلبة على أن يعبد الله فينبغي أن يهاجر، إما أن يضعف أمام قوى الشر، وإما أن يضعف أمام الشهوات، إذاً سبب الهجرة توفير مكان آمن للدعوة، ولعبادة الله جل جلاله هدف الهجرة، والسبب اضطهاد المؤمنين والصحابة الكرام في مكة.
 كان المؤمنون قبل الهجرة يفرّ أحدهم بدينه إلى الله تعالى، وبالمناسبة السفر مشروع لأهداف متعددة، يقع في أعلاها الجهاد في سبيل الله، وبعد الجهاد يقع الفرار بالدين، وبعد الفرار في الدين يقع الدعوة إلى الله، ثم يقع التماس الرزق، فبين أن يهاجر المرء أو أن يسافر ليجاهد في سبيل الله، أو ليفر في دينه، أو ليطلب العلم، أو ليتمس الرزق، هذه الأهداف المشروعة التي وردت في هذا الدين العظيم.
 أما الآن فهناك سياحة، وسفر من أجل ارتكاب الموبقات، وهناك سفر من أجل انتهاك المحرمات، وسفر هدفه الفاحشة، فكان السفر الذي يرقى بالإنسان إلى أعلى عليين أن يسافر المسلم ليجاهد، يسافر ليفر بدينه، يسافر لطلب العلم، يسافر ليلتمس الرزق، الآن يسافر ليزداد بعداً عن الله، يسافر ليقترف الفواحش والآثام.
 الأمور أيها الإخوة بمقاصدها، أن تقيم الأمر بمقصده، فأي سفر كان من أجل التحلل من منهج الله عز وجل هو سفر لا يرضي الله، وفي بعض البلاد التي تأمر رعاياها ببعض أحكام الدين كالحجاب مثلاً تجد منظراً عجيباً في المطارات، أن المرأة التي كانت قبل قليل محجبة ما إن دخلت إلى الطائرة حتى خلعت حجابها، وظهرت بأبهى زينتها، وكان تعليق بعض المراقبين بهذه الظاهرة غير المقبولة أن هذا الدين الذي يعتنقه إنسان في مكان، ويتفلت منه في مكان، هو دين جغرافي.
كان المؤمنون يفر أحدهم بدينه إلى الله تعالى، لأن قريشاً يضطهد من يتبع الرسول لكن ثمة سؤال أتمنى أن نقف عنده وقفة متأنية:

 

ما الحكمة من كون الرسول ضعيفا ؟

 

 ما الحكمة أن يكون الرسول ضعيفاً ؟ الدليل أن النبي عليه الصلاة والسلام حينما مر بعمار بن ياسر يعذب لم يستطع تخليصه، فما كان منه إلا أن قال:

(( صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة ))

[السيرة النبوية بسند صحيح]

 لماذا كان النبي ضعيفاً ؟ أو ما الحكمة أن الله شاءت إرادته أن يكون النبي ضعيفاً.

 

(( لاَ أَملِكُ لَكُمْ مِنَ الله ضَرّا وَلاَ نَفْعاً ))

 

[ الترمذي عَن أَبي هُرَيْرَةَ ].

 بل:

 

﴿ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلَا ضَرّاً ﴾

( سورة الأعراف الآية: 188 ).

 لماذا ؟ لأنه لو كان قوياً كأقوياء هذا العصر، وجاء بهذه الرسالة لآمن به الملايين المملينة، لا عن قناعة، ولا عن إيمان، ولا عن عبادة، ولكن آمنوا خوفاً منه، وهذا الإيمان لا قيمة له عند الله إطلاقاً، لذلك كانت حكمة الله عز وجل أن يجعل سيد الخلق ضعيفاً، لا يملك لا لهم ولا لنفسه نفعاً ولا ضرا، ليكون الإيمان برسول الله إيماناً حقيقياً ، لكن بعد حين الله جل جلاله يتفضل عليه بالقوة.

 

أحوال المؤمن مع الله تعالى

 

 بالمناسبة، كل مؤمن له مع الله أحوال ثلاثة، وهذا الكلام ينطبق على كل مؤمن:
الحال الأول: حال التأديب، إذا كان هناك مخالفات.

الحال الثاني: حال الابتلاء وهو مستقيم.

الحال الثالث: حالم التكريم.
 أنت بين التأديب، والابتلاء، والتكريم، وقد تكون هذه الأحوال الثلاثة متداخلة، وقد تكون متمايزة، مرحلة تأديب، ومرحلة ابتلاء، ومرحلة تكريم، أو في اليوم الواحد تكون معاملة من الله أساسها التأديب، ومعاملة أخرى أساسها الابتلاء ومعاملة ثالثة أساسها التكريم.

﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴾

( سورة العنكبوت ).

 هل تعتقدون أن الإنسان بإمكانه أن يقول: أنا مؤمن، دون أن يمتحن، قال تعالى:

 

﴿ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ﴾

( سورة المؤمنون ).

 الله عز وجل قادر أن يحجم كل إنسان، أو أن يعيده إلى حجمه الطبيعي، قل ما شئت، لكن الله يسوق لهذا الإنسان بحكمة بالغة ظروفاً تكشفه على حقيقته، لذلك الله جل جلاله لا تخفى عليه خافية.

 

﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ﴾

( سورة غافر ).

علم ما كان، وعلم ما يكون، وعلم ما سيكون، وعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون.
 كان المؤمنون قبل الهجرة بين أي يفرّ أحدهم بدينه إلى الله تعالى مخافة أن يُفتتن، وكان من هو مفتون بدينه، وكان من هو معذب في أيديهم، وكان من هو هارب إلى بلاد أخرى، فهم بين معذب، ومفتون، وهارب، ومضطهد، وفارّ بدينه.

(( ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة، ألا إن سلعة الله الجنة ))

[ رواه الترمذي والحاكم في المستدرك عن أبي هريرة ].

الحكمة من الأمر بالصبر في مكة وعدم القتال

 إن جنة عرضها السماوات والأرض لا تأتي بركعتين وليرتين، بل تحتاج إلى جهد كبير، ومن طلب الجنة بغير عمل فطلبه ذنب من الذنوب، يقول حَبر الأمة عبد الله بن عباس: كان مشركو أهل مكة يؤذون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(( فيقول لهم اصبروا فإني لم أؤمر بالقتال ))

[ ورد في الأثر]

 هناك توجيه إلهي هو في الحقيقة تشريع، وهو أنّ الله عز وجل لا يقبل بالتعبير المعاصر حرباً أهلية.

 

﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ﴾

( سورة النساء الآية: 77 ).

 هذه الآية في مكة، البيت الواحد فيه مؤمن وفيه مشرك، فلو سمح بالقتال في مكة لكانت هذه الحرب حرباً أهلية، ولأحرقت الأخضر واليابس، وقد قال الله عز وجل:

 

﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ﴾

( سورة الأنعام الآية: 65 ).

بل إن الثالثة هي أصعب ما في الحياة الدنيا.
 شيء آخر، الدعوة لا تنمو إلا بالسلام، فلما انتقل الصحابة الكرام إلى المدينة حيث الأمن والسلام والهدوء نمت قدراتهم، وازداد نشاطاتهم، وأقبلوا على ربهم، هذا شأن الإنسان، أؤكد لكم هذا المعنى مرة ثانية: أن الله سبحانه وتعالى حينما قال:

 

﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ﴾

( سورة الفتح ).

 متى كان هذا الفتح ؟ كان هذا الفتح في صلح الحديبية، وكانت مناسبة هذا الفتح للسلام، و الأمن، والاستقرار، هذا ما ينقص المسلمين اليوم، فقد تهاونوا سابقاً وقصروا، ولم يعدوا العدة لأعدائهم، فتفنن أعداؤهم في إرهابهم، وفي تخويفهم، وفي تهديدهم، وفي الضغط عليهم، قال تعالى:

 

﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ﴾

( سورة الأنفال الآية: 60 ).

 إذاً أنت حينما تعد العدة تحقق هدفاً لا يكون إلا بها، أنك ترهب أعداءك، وكم من دولة قوية عندها أسلحة قوية لا تحتاج أن تستخدمها إطلاقاً، لكن وجود السلاح يلقي الرعب في قلوب الأعداء، والذي يحصل الآن من تدنيس للمصحف، ومن تشويه لمكانة النبي عليه الصلاة والسلام هو بسبب ضعف المسلمين، هذا الذي يحدث تحصيل حاصل، لذلك المؤمن القوي خير وأحب إلى الله تعالى من المؤمن الضعيف، يقول عليه الصلاة والسلام:

 

(( فيقول لهم اصبروا فإني لم أؤمر بالقتال ))

لمّا هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، واستقر المسلمون، وكان لهم كيان، وقيادة، وأتباع، عندئذٍ نزل قوله تعالى:

 

 

﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ﴾

 

( سورة الحج ).

من أوائل من هاجر من الرجل والنساء

 وهذه أول آيات القتال، الآن أول المهاجرين، كلن مصعب بن عمير، وعبد الله بن أم مكتوم، أول من هاجر إلى المدينة، وكانا يقرآني الناس القرآن كما ورد في آثار السيرة النبوية، في حين وردت روايات أخرى تفيد أن أول من هاجر هو أبو سلمة بن عبد الأسد، وذلك بعد أن آذته قريش على أثر رجوعه من هجرته إلى الحبشة، فتوجه إلى يثرب قبل بيعة العقبة بسنة واحدة، على أنه يمكن الجمع بين الخبرين في أن هذا الصحابي أبو سلمة وصل إلى المدينة، لا هجرة، ولكن فراراً بدينه، وكانت قبل بيعة العقبة، وكأن الذي أشار إلى أن أول من هاجر هو مصعب بن عمير أراد هذا الإنسان الكريم لأنه هاجر هجرة بأمر النبي بعد بيعة العقبة الأولى والثانية، وقد بينت أحداث السيرة والمصادر المعتمدة الكثيرة، من أساليب قريش في محاولتها عرقلة هجرة المسلمين إلى يثرب، وإثارتها للمشكلات في وجه المهاجرين، كالإرهاب مثلاً، وحجز الزوجات، والأطفال، وسلب الأموال، أو الاحتيال لإعادة من هاجر منهم، لأن هؤلاء المسلمين إن لم يهاجروا هم في قبضتها، وتحت سيطرتها، فإذا هاجروا تفلتوا من قبضتها، ونجوا من سيطرتها، لذلك كانت قريش تمنع الهجرة، إما بسلب الأموال، أو بحجز الزوجات، أو بالتهديد، أو بالوعيد.
لكن الصحابة الكرام كانوا على استعداد لا حدود له ليفتدوا أنفسهم بكل ما يملكون.
 إنّ أم سلمة رضي الله عنها لها قصة عجيبة، تأتي في سير الصحابة، وكيف كانت مع زوجها الأول، وكيف أن قريشاً انتزعتها وطفلها من زوجها، وكيف أن رحلة العذاب قد استمرت قرابة سنة، قبل أن يتاح لها أن تسترجع ابنها، وأن تلحق بزوجها، زوجها هاجر، وقد أخذوها وكانت برفقته، ومنعوها أن تهاجر، وأخذوا ابنها رهينة، ومضى عام حتى استطاعت أن تصل إلى المدينة، وأن تأتي بولدها إليها.
الحقيقة أن لقصة أم سلمة تفاصيل مذهلة، كما قال عليه الصلاة والسلام.

(( فَخِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقُهُوا ))

[ رواه البخاري عن أبي هريرة ].

 لم يكن مسلماً عثمان بن طلحة، فرقّ لها، رقّ لامرأة زوجها في المدينة، وهي محجوزة في مكة، هي مؤمنة، وقومها ليسوا مؤمنين، فما كان منه إلا أن اصطحبها مع طفلها قرابة أسبوعين من مكة إلى المدينة على ناقة لها، وناقة له، ولم ينظر إليها، هذا قبل أن يسلم، كان إذا أراد أن يريحها ينيخ ناقتها، ويبتعد كثيراً، ثم حين يزمع أن يتابع السير، يوقظ الناقة يدعوها إلى أن تركب الناقة، ويلتفت إلى جهة أخرى، ثم ينطلق بهذه الناقة، وكان مشركاً قبل أن يسلم، لذلك كان عليه الصلاة والسلام إذا رأى إنساناً دخل في الإسلام يقول له يا فلان:

 

(( أسلمت على ما أسلفت من خير ))

 

[ رواه أحمد في مسنده عن حكيم بن حزام وهو متفق عليه ].

 وكان عليه الصلاة والسلام يقول:

 

(( فَخِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقُهُوا ))

وكتعقيب على هذه الحقيقة: إن الله عز وجل يتولى الصالحين، فأيّ إنسان صالح ولو لم يكن يعرف الله عز وجل ما دام صالحاً يتولاه، ويأخذ بيده إلى الإيمان.
 إن صهيب الرومي منعه زعماء قريش من الهجرة بحجة أنه كان قد أتى إلى مكة فقيراً، فقالوا له: فكثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك، والله لا يكون هذا أبداً، ليس هناك هجرة، جئتنا فقيراً، واغتنيت بين أظهرنا، الآن تريد أن تخرج مع المال، لن نسمح لك بذلك، ما فعل صهيب ؟ عرض عليهم أن يجعل لهم المال كله في مقابل أن يخلوا سبيله، عندئذٍ وافقوا على ذلك، وبلغ ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم فقال:

(( ربح صهيب، ربح صهيب، ربح صهيب ))

إذا دفعت كل مالك، واستطعت أن تؤمن، وأن تنجو فأنت الرابح الأول، من هنا قيل: مستحيل وألف ألف مستحيل أن تطيعه وتخسر، ومستحيل وألف ألف مستحيل أن تعصيه وتربح.
 يروي عمر بن الخطاب رضي الله عنه خبر هجرته، حيث تواعد مع عياش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاص السهمي على الالتقاء في مكان بعيد عن مكة، وكيف أن هشام بن العاص قد حبس عنهما، وفتن، فافتتن، ثم تحدث عن خبر وصولهما إلى ظاهر المدينة ونزولهما في بني عمر بن عوف، وخروج أبي جهل بن هشام وأخيه الحارث إلى عياش بن أبي ربيعة، وإقناع إياه بضرورة العودة إلى مكة ليبر بقسم أمه التي نذرت ألا يمس رأسها مشط حتى تراه، وكيف حذره عمر منهما، وقوله له: يا عياش، << إنك والله إن يريد القوم إلا ليفتونك عن دينك، فاحذرهم >>.
 إذاً أُخِذ مال مسلم كله، وحُجِزتْ زوجة آخر وطفله كرهينة، ومنعوا الثالث بالقوة أن يهاجر، وفي بعض الطريق أوثقاه، وربطاه، ثم دخلا به مكة، وفتناه فافتتن، يقول سيدنا عمر: كنا نقول: ما والله بقابل ممن افتتن صرفاً ولا عدلاً ولا توبة، قوم عرفوا الله، ثم رجعوا إلى الكفر ببلاء أصابهم، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم أنزل الله تعالى فيهم.

 

﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ﴾

( سورة الزمر ).

 أيها الإخوة، المتاعب التي تحملها أصحاب رسول الله أكبر من أن توصف حتى وصل الدين إلينا، وقدم إلينا على طبق من ذهب، ماذا يطلب من المؤمنين اليوم ؟ يطلب الحفاظ على دينهم ، وأداء العبادات، وفعل الخيرات، أما الصحابة الكرام فتنوا، وقتّل بعضهم، وحبسوا، وأخذت أموالهم، وحجزت عنهم زوجاتهم، وكانوا أبطالاً بحق، بل إن أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام كانوا نخبة، كان عليه الصلاة والسلام كان يقول:

 

(( إن الله اختارني واختار لي أصحابا ))

 

[ الجامع الصغير عن أنس بسند فيه ضعف]

لزوم الجماعة والتحذير من الفرقة

 ومن أعظم نعمة ينعم الله بها عليك أن يكون الذين حولك على شاكلتك، ومن تكريم الله للإنسان أن يحاط بمن هو على شاكلته، يقدرهم ويقدروه، ويحبهم ويحبوه، ويعينهم ويعينوه، لذلك قال تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾

( سورة التوبة ).

 أي أنكم لا تستطيعون أن تتقوا ربكم إلا إذا كنتم مع المؤمنين، مع الصادقين ، والحمية عن أهل الشرك والكفر ضرورية، لكن البعد عن أهل الصلاح والتقوى خطأ كبير.

﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ﴾

( سورة الكهف ).

(( وَالْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ، وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ ))

[ رواه أحمد عن النعمان بن بشير بسند حسن]

 وإن الله مع الجماعة، ويد الله مع الجماعة.
عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

 

(( إِنَّ اللَّهَ لَا يَجْمَعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ، وَيَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ، وَمَنْ شَذَّ شَذَّ إِلَى النَّارِ ))

 

[رواه الترمذي]

(( فَمَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ بَحْبَحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمْ الْجَمَاعَةَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ، وَهُوَ مِنْ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ ))

[ أحمد]

 عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

 

(( إِنَّ الشَّيْطَانَ ذِئْبُ الْإِنْسَانِ كَذِئْبِ الْغَنَمِ، يَأْخُذُ الشَّاةَ الْقَاصِيَةَ وَالنَّاحِيَةَ، وَإِيَّاكُمْ وَالشِّعَابَ وَعَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ وَالْعَامَّةِ ))

 

[ أحمد]

 أيها الإخوة الكرام، تآمرت قريش على حياة الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن علم المشركون بما تم بين النبي صلى الله عليه وسلم والأنصار في العقبة الثانية، ورأوا المسلمين يهاجرون إلى يثرب جماعات وأفرادا، وقد أرّخ الزهري لهجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم فقال:
 " مكث عليه الصلاة والسلام بعد الحج بقية ذي الحجة، ومحرم، وصفر، ثم إن المشركين اجتمعوا يعني على قتله، وقد تواترت الأخبار بأن خروج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة كان يوم الاثنين، وكان دخوله المدينة يوم الاثنين أيضاً، وحادثة تآمر قريش على قتل النبي نأخذها بالتفصيل إن شاء الله في درس قادم.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور