- أحاديث رمضان
- /
- ٠11رمضان 1425هـ - ومضات ايمانية
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
الشيء المتفوق يحتاج إلى مرحلة إعداد :
أيها الأخوة الكرام ، من لوازم إيمان المؤمن أن يكون صابراً ، ولكن قبل شرح حقائق الصبر لابد من مقدمة .
لو أن رئيس جامعة وزع على الطلاب أوراق الإجابة ، وقد كتبت عليها الإجابة كاملة ، كتب أيضاً مئة علامة ، وما على الطالب إلا أن يكتب اسمه ، هل لهذا النجاح قيمة في المجتمع عند الناجح وعند إدارة الجامعة ؟ لا قيمة لهذا النجاح إطلاقاً ، لأنه من دون جهد، إذاً لا قيمة له ، أحياناً ملك له ابن ، لو أن هذا الابن طلب من أبيه قصراً لكانت القضية سهلة جداً ، لو طلب طائرةً خاصة القضية سهلة ، لو طلب يختاً في البحر أيضاً القضية سهلة جداً ، لو أن هذا الابن طلب أن يكون أستاذاً جامعياً ، ماذا يقول له الأب ؟ هذه عليك ، ليست عندي ، احصل على دكتوراه ، وتسلم هذا المنصب .
إذاً أن تتمتع بمرتبة علمية عالية لابد من جهد ، الآن في حياتنا الدنيا إذا ما أعدّ الإنسان نفسه للمستقبل عاش على سجيته ، يأكل ، ويشرب ، وينام ، مصيره أين ؟ عامل بسيط ، أو إنسان يمد يده للناس ، أما من أجل أن يأتيك دخل كبير بجهد يسير ، وبوقت قليل فلابد من إعداد لهذا المستقبل المشرق .
يتضح من هذه الأمثلة أن الشيء المتفوق يحتاج إلى مرحلة إعداد ، هذه سنة الله في خلقه .
الآن الله عز وجل حينما خلق النفوس في عالم الأزل عرض عليها الأمانة ، وعرض على هذه النفوس المجردة قبل عالم الصور أن تأتي إلى الدنيا ، وأن تودع فيها الشهوات ، وأن تعطى العقل ، وأن تعطى المنهج ، وأن تعطى حرية الاختيار من أجل أن تتعرف إلى الله بجهد كبير ، ومن أجل أن تحمل نفسها على طاعته بجهد أكبر ، ومن أجل أن تتقرب إليه بجهد أكبر وأكبر ، فإذا حقق الإنسان هذا استحق جنة ربه إلى أبد الآبدين ، فهذه الجنة لها ثمن كبير ، من لم يدفعه لا ينالها .
الصبر من لوازم الإيمان :
الآن جاء موضوع الصبر ، الله عز وجل أودع في الإنسان شهوات ، وسمح له بقناة نظيفة وزاوية محددة ، فإذا مارس هذه الشهوات وفق هذه الزاوية ، وضمن هذه القناة استحق جنة ربه بالآخرة ، وإذا مارس هذه الشهوات بلا ضابط ، وبلا قيمة ، خسر الدنيا ، وخسر الآخرة ، إذاً الصبر أصل في الدين ، أودع فيك حب النساء وسمح لك بالزواج فقط ، أما مئة علاقة مع مئة امرأة خارج الزواج فهذا العمل يخسر صاحبه الآخرة .
إذاً ديننا مبني على الصبر ، الدين كله صبر ، ضبط العين يحتاج إلى صبر ، ضبط الأذن يحتاج إلى صبر ، ضبط اللسان يحتاج إلى صبر ، ضبط الحركة يحتاج إلى صبر ، ضبط الدخل يحتاج إلى صبر ، قد تأتي صفقة فيها ربح فلكي ، لكن فيها مادة محرمة، الذي آثر الشهوة على طاعة الله يأخذ هذه الصفقة ، ويأتيه دخل كبير ، ويخسر الآخرة ، أصل الدين فيه صبر ، الصبر من لوازم الإيمان ، في الأصل أودعت فيك الشهوات، وسمح لك بحيز محدود منها ، هذا الحلال ، وما سوى ذلك هو الحرام ، فمن أوقع حركته وفق هذا الحيز نجح عند الله عز وجل .
شيء آخر : الإنسان يأكل ، ويشرب ، لكن حينما يمارس الحياة بلا ضابط ينشأ عنده آفات ، قد تنشأ آفة في جسمه ، تحتاج إلى حمية ، والحمية صعبة جداً ، محروم من الطعام الطيب ، لأنه لو أكل الطعام باعتدال لما احتاج إلى هذه الحمية ، وقد يدخن ، فيحتاج إلى عملية استئصال نصف الرئة ، والعملية فيها صعوبة بالغة ، لو ضبط حركته في الحياة ، وعلم أن هذا الدخان يؤذي رئتيه لما احتاج إلى هذه العملية .
الصبر أصل ، هناك شهوات الحركة فيها واسعة جداً ، وأنت مسموح لك بزاوية محددة ، فإيقاع الحركة وفق هذه الزاوية نوع من الصبر ، أو أن هناك خللاً يقتضي المعالجة، أي خلل يحتاج إلى دواء ، ومن قال لك : إن الدواء طيب ، الدواء مر ، فمادام ثمة خلل في الدواء فأنت تصبر مرتين ، تصبر على طاعة الله ، وتصبر على مداواة الله ، تصبر على طاعته ، وتصبر على مداواته ، لذلك الصبر من لوازم الإيمان ، بل إن النبي عليه الصلاة والسلام يقول :
(( الإيمان نصفان نصفٌ صبرٌ ونصفٌ شكرٌ ))
ورود الصبر في القرآن الكريم :
والصبر في القرآن الكريم ورد في تسعين موضعاً ، لكن هذه المواضع أدرجت في ستة عشر نموذجاً .
أولاً : أمر الله بها ، أنت مأمور بالصبر ، قال تعالى :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ﴾
من قال لك إن مقعد الدراسة مريح جداً ، غير مريح ، مقعد خشبي ، زاويته قائمة، والجو ليس دافئاً جداً ، ليس هناك مسليات ، لكن تصور إنسانًا في قاعة درس له مقعد كمقعد الطائرة ، يمكن أن يكون سريراً ، وأمامه كل المسليات ، والمقبلات ، والعصائر ، والشطائر ، والموالح ، ويشاهد الأفلام ، يمكن أن يوجد مقعد في درس بهذا الشكل ؟ إذاً مقعد الدرس يقتضي الخشونة ، نحن في دنيا إعداد للآخرة ، مادامت الدنيا إعداداً فإياك عبد الله والتنعم ، فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين ، ليس معنى ذلك أنك لا تتنعم ، لكن معنى ذلك أنه لا ينبغي أن يكون النعيم في الدنيا قصداً كبيراً لك ، أنت في مرحلة إعداد ، أنت في دار عمل ، أنت في دار ابتلاء ، أنت في دار صبر ، فلذلك الله عز وجل أمر بالصبر ، قال تعالى :
﴿ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ﴾
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾
﴿ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ ﴾
أما أن يتوهم الإنسان أن الأمور تأتي في الدنيا كما يشتهي ، فإذا انتقل إلى رحمة الله دخل الجنة ، هذا من سابع المستحيلات ، الإمام الشافعي سئل : "أندعو الله بالابتلاء أم بالتمكين ؟ قال : لن تمكن قبل أن تبتلى "
الله تعالى أمر بالصبر ونهى عن ضده وأثنى على الصابرين :
ثم نهى عن ضده ، قال تعالى :
﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ﴾
لو أنك استعجلت لهم معنى ذلك أنك لم تصبر ، ولا تبطلوا أعمالكم ، ولا تهنوا ، ولا تحزنوا ، معنى ذلك أنك لن تصبر ، أمر بالصبر ، ونهى عن ضده ، وأثنى على الصابرين ، قال تعالى :
﴿ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ ﴾
أثنى على كل الصابرين .
الله مع الصابرين بالتأييد و الحفظ و النّصر :
وحينما تقرأ قوله تعالى يحدثنا ربنا عن سيدنا أيوب :
﴿ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾
﴿ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴾
ألا تتمنى أن يحبك الله ؟ الإنسان الذي يصبر يحبه الله عز وجل ، بل فضلاً عن محبته هو معك إن كنت صابراً ، ومعنى هو معك أي هو معك بالتأييد ، والنصر ، والحفظ ، والتوفيق ، هذه المعية الخاصة ، قال تعالى :
﴿ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾
ونصحك بأنك إن صبرت فهو خير لك ، قال تعالى :
﴿ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ﴾
كلّ شيء له عند الله جزاء إلا الصابر فالجزاء مفتوح :
﴿ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ ﴾
وكافأك على صبرك بأنه يجزيك بأحسن أعمالك ، لك مئة موقف ، أحد هذه المواقف رائع جداً ، يجعل هذه الموقف الرائع هو مقياساً لك ، فيجزيك بأحسن أعمالك ، قال تعالى :
﴿ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾
وكل شيء له عند الله جزاء ، إلا الصابر فالجزاء مفتوح ، قال تعالى :
﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾
وبشر الله الصابرين ، قال تعالى :
﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾
النصر مع الصبر :
وبين الله جل جلاله أن النصر مع الصبر ، قال تعالى :
﴿ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ ﴾
والصابرون هم أصحاب العزائم ، هم المتفوقون ، قال تعالى :
﴿ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾
وأصحاب الحظوظ العالية ، أصحاب المقامات الرفيعة ، لا ينالونها إلا بالصبر ، قال تعالى :
﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ ﴾
﴿ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾
الصابر وحده ينتفع بالآيات والعبر :
والصابر وحده هو الذي ينتفع بالآيات والعبر ، قال تعالى :
﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ﴾
ونيل المطلوب والفرار من المحذور لا يكون إلا بالصبر ، قال تعالى :
﴿ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ ﴾
الدنيا كلها لخصت بكلمة واحدة ، قال تعالى :
﴿ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ﴾
الدين كله صبر :
أصل حياتك في الدنيا الصبر ، صبر عن المعاصي ، وصبر على الطاعات ، وصبر على قضاء الله وقدره ، بل إن درجة الإمامة وهي أعلى درجات المؤمنين قال تعالى عنها :
﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴾
أيها الأخوة الكرام ، عَنْ صُهَيْبٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ))
والحديث عن الصبر طويل جداً ، لكن يجب أن تعتقد أن الدين كله صبر ، غض البصر صبر ، ضبط اللسان صبر ، ضبط الأذن صبر ، المعاصي المحببة للإنسان أودع الله فيها رغبةً عند الإنسان ، وأمرك أن تجتنبها ، ولم يحرمك ، بل سمح لك بحيز نظيف طاهر ، فإذا أوقعت حركتك في الحياة بهذا الحيز الطاهر النظيف فقد صبرت ، وإذا صبرت استحققت جنة الله عز وجل التي خلقنا من أجلها .