وضع داكن
03-08-2025
Logo
الخطبة : 1188 - خ 1- الظلم ظلمات يوم القيامة خ2- حقائق متعلقة بالحوار..
رابط إضافي لمشاهدة الفيديو اضغط هنا
×
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:

الحمد لله، ثم الحمد لله، الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكلي إلا على الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً -صلى الله عليه وسلم- رسول الله سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغُرّ الميامين أمناء دعوته وقادة ألويته، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين، اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

أنواع الظلم:


أيها الإخوة الكرام؛ موضوع هذه الخطبة "الظلم ظلمات يوم القيامة" ، فالظلم أنواع ثلاثة: 

1 ـ ظلم الإنسان لربه:

النوع الأول: ظلْم الإنسان لربه، وذلك بأن يكفر بالله تعالى، وفي القرآن الكريم:

﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَٰكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَٰعَةٌ ۗ وَٱلْكَٰفِرُونَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ (254)﴾

[  سورة البقرة ]

ويكون بإنكار وجوده أو بالشرك في عبادته، وذلك بصرف بعض عبادته لغيره -سبحانه وتعالى-، قال عزَّ وجلَّ:

﴿ وَإِذْ قَالَ لُقْمَٰنُ لِٱبْنِهِۦ وَهُوَ يَعِظُهُۥ يَٰبُنَىَّ لَا تُشْرِكْ بِٱللَّهِ ۖ إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)﴾

[  سورة لقمان ]

هذا النوع الأول.

2 ـ ظلم الإنسان نفسه:

أما النوع الثاني: ظلْم الإنسان نفسه، وذلك باتباع الشهوات، وترك الواجبات، واقتراف الذنوب والسيئات، قال -عزَّ وجلَّ-:

﴿ وَعَلَى ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ ۖ وَمَا ظَلَمْنَٰهُمْ وَلَٰكِن كَانُوٓاْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)﴾

[  سورة النحل ]

3 ـ ظلم الإنسان لغيره من عباد الله ومن مخلوقاته:

النوع الثالث: ظلْم الإنسان لغيره من عباد الله بل ومن مخلوقات الله، وذلك بأكل أموال الناس بالباطل، وظلمهم بالضرب والشتم والتعدي، والاستطالة على الضعفاء، والظلم يقع غالباً بالضعيف الذي لا يقدر على الانتصار، ويقع في رأس الظلم سفك دم إنسان بريء بغير حق، كيف يُسفَك دم الإنسان بحق؟ 

﴿ وَلَكُمْ فِى ٱلْقِصَاصِ حَيَوٰةٌ يَٰٓأُوْلِى ٱلْأَلْبَٰبِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)﴾

[ سورة البقرة ]

القاتل يُقتَل، فولي الأمر حينما يقتل قاتلاً هذا بالحق.
أيها الإخوة الكرام؛ يقول أحد العلماء: "ما من قطرة دم تُراق في الأرض من آدم إلى يوم القيامة إلا ويتحملها إنسان في ذلك اليوم" ، لذلك ورد أن المسلم يظل بخير مالم يسفك دمًا، وهذا كلام موجه لكل الأطراف.

الشرك هو السبب الأول للظلم:


أيها الإخوة الكرام؛ والشرك في أوسع معانيه هو السبب الأول للظلم، فحينما يتوهم الإنسان أنه قوي، وأن بإمكانه أن يوقع الأذى بالآخرين، أو أن يسفك دماءهم من دون أن يُحاسَب، ثم يُفاجأ -بعد فوات الأوان- أنه ضعيف، وأنه فقدَ في لحظة واحدة كل أسباب قوته، وأنه في قبضة الله، وأنه لن يُترَك سدىً؛ عندئذ يدرك أعمق الإدراك معنى قوله تعالى:

﴿ يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ۚ وَخُلِقَ ٱلْإِنسَٰنُ ضَعِيفًا (28)﴾

[  سورة النساء ]

ويدرك أيضاً أعمق الإدراك معنى قوله تعالى:

﴿ كَلَّآ إِذَا بَلَغَتِ ٱلتَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنۡۜ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ ٱلۡفِرَاقُ (28) وَٱلۡتَفَّتِ ٱلسَّاقُ بِٱلسَّاقِ(29) إِلَىٰ رَبِّكَ يَوۡمَئِذٍ ٱلۡمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّىٰ (31) وَلَٰكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦ يَتَمَطَّىٰٓ (33) أَوۡلَىٰ لَكَ فَأَوۡلَىٰ (34) ثُمَّ أَوۡلَىٰ لَكَ فَأَوۡلَىٰٓ (35)﴾

[   سورة القيامة ]

الشاهد:

﴿  أَيَحْسَبُ ٱلْإِنسَٰنُ أَن يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيّٖ يُمْنَىٰ (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ (38) فَجَعَلَ مِنْهُ ٱلزَّوۡجَيْنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلْأُنثَىٰٓ (39) أَلَيْسَ ذَٰلِكَ بِقَٰدِرٍ عَلَىٰٓ أَن يُحْـِۧيَ ٱلْمَوْتَىٰ (40)﴾

[   سورة القيامة ]

منتهى الغباء ألّا تُدخِل الله في حساباتك، منتهى الغباء أن تفعل ما تفعل وتتوهم أنك لن تُحاسَب، وحينما تغيب عن المرء حقيقة التوحيد الذي هو أصل الدين، ومن أبرز مُسلَّمات التوحيد أن كل شيء وقع أراده الله، لكن أريد أن أؤكد لكم معنى "أراده": أي سمح بوقوعه، وقد يكون هذا الذي وقع، والذي سمح الله بوقوعه، أو الذي أراد الله وقوعه لم يأمر بوقوعه، ولم يرضَ عن وقوعه، ولكنْ اقتضت حكمته أن يقع لحكمة بالغة بالغة عرفها مَن عرفها، وجهلها من جهلها، لأنه لا يليق بمقام الألوهية أن يقع في ملكه ما لا يريد، كالأب الطبيب تماماً الذي يسمح بإجراء عمل جراحي لابنه الحبيب، وكان يتمنى ألّا يحتاج ابنه لهذا العمل الجراحي، معنى "أراد" أي سمح فقط، لم يأمر ولم يرضَ، ولكن هذا من مقتضيات حكمة الله -عزَّ وجلَّ-، قال تعالى:

﴿ فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍۢ وَٰسِعَةٍۢ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُۥ عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْمُجْرِمِينَ (147)﴾

[ سورة الأنعام ]

أي تقتضي رحمته أن يسوق لعباده بعض الشدائد لينوبوا إليه، ليُرجِعهم إليه، هذه حكمة بالغة، وأن الذي وقع لو لم يقع لكان عدم وقوعه نقصاً في حكمة الله، قال تعالى:

﴿ وَلَوْلَآ أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌۢ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لَوْلَآ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ ءَايَٰتِكَ وَنَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ (47)﴾

[  سورة القصص ]

أي الشدائد التي يسوقها الله -عزَّ وجلَّ- هي لصالح المؤمنين، وقد قيل: "كل شِدّة تصيب المؤمنين بعدها شَدّة إلى الله –إن شاء الله- وكل مِحْنة تصيب المسلمين بعدها مِنْحة من الله" ، متى كان الإسراء والمعراج؟ بعد أن بلغت قريش من أذى النبي ما بلغت، فجاء الإسراء والمعراج رداً إلهياً لهذا النبي الكريم الذي جفاه أهل الأرض فجاء تكريم السماء، هذه قاعدة للمؤمنين؛ كلُّ شِدّة تعقبها شَدّة إلى الله، وكل مِحنة تعقبها منحة من الله، ﴿وَلَوْلَآ أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌۢ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لَوْلَآ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا﴾ في الآية معنى دقيق جداً؛ أن المصيبة رسالة من الله، والبطولة أن تفهم هذه الرسالة، ﴿وَلَوْلَآ أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌۢ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لَوْلَآ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ ءَايَٰتِكَ وَنَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ﴾
أيها الإخوة؛ والمقولة التي هي أصل في العقيدة: أن كل شيء وقع أراده الله، بمعنى سمح الله به، لم يأمر ولم يرضَ، وكل شيء أراده الله وقع، وإرادة الله متعلقة بالحكمة المطلقة، والحكمة المطلقة متعلقة بالخير المطلق، والفهم التوحيدي للظلم الذي يقع على عباد الله يلغي الشعور بالحقد، ويلغي الشعور بالقهر، لكنه لا يلغي مطلقاً وجوب دفع الظلم بالطرق التي شرعها الله -عزَّ وجلَّ-، والدليل على ذلك حادث الإفك الذي اتهمت فيه السيدة عائشة أم المؤمنين، العفيفة، الحَصَان، اتُّهِمَت بأثمن ما تملكه المرأة المؤمنة، فماذا قال الله -عزَّ وجلَّ-؟

﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ جَآءُو بِٱلْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ ۚ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم ۖ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۚ لِكُلِّ ٱمْرِئٍۢ مِّنْهُم مَّا ٱكْتَسَبَ مِنَ ٱلْإِثْمِ ۚ وَٱلَّذِى تَوَلَّىٰ كِبْرَهُۥ مِنْهُمْ لَهُۥ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)﴾

[ سورة النور ]

هذه المصيبة التي لا تقوى على حملها أية امرأة مؤمنة، قال: ﴿بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۚ لِكُلِّ ٱمْرِئٍۢ مِّنْهُم مَّا ٱكْتَسَبَ مِنَ ٱلْإِثْمِ﴾ ، الآن دققوا: ﴿وَٱلَّذِى تَوَلَّىٰ كِبْرَهُۥ مِنْهُمْ لَهُۥ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ أي الفهم التوحيدي للمصيبة لا يلغي عقاب فاعلها، ﴿وَٱلَّذِى تَوَلَّىٰ كِبْرَهُۥ﴾ الله -عزَّ وجل- وصف حديث الإفك بالخير، ﴿بَلْ هُوَ خَيْرٌ﴾ ، ثم قال ﴿وَٱلَّذِى تَوَلَّىٰ كِبْرَهُۥ مِنْهُمْ لَهُۥ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ معنى ذلك أن التوحيد لا يلغي المسؤولية.
أيها الإخوة الكرام؛ مرة ثانية: والفهم التوحيدي للظلم لا يلغي مسؤولية الظالم -كما مر في هذه الآية- ولا يلغي مشروعية مقاومة الظلم، ولا يلغي معاقبة الظالم ﴿وَٱلَّذِى تَوَلَّىٰ كِبْرَهُۥ مِنْهُمْ لَهُۥ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ ، لذلك قال تعالى:

﴿ وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ ٱلۡبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ (39) وَجَزَٰٓؤُاْ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَاۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُۥ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلظَّٰلِمِينَ (40) وَلَمَنِ ٱنتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا ٱلسَّبِيلُ عَلَى ٱلَّذِينَ يَظْلِمُونَ ٱلنَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي ٱلۡأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّۚ أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ٱلْأُمُورِ (43)﴾

[   سورة الشورى ]

أيها الإخوة الكرام؛ الفهم التوحيدي للظلم يلغي مرارة الشعور بالقهر، ويلغي الحقد المدمر، ويلغي الانتقام العشوائي، لأن الإيمان قيد الفتك، ولا يفتك مؤمن، ولأن قوله تعالى:

﴿ أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَىٰ (36) وَإِبْرَٰهِيمَ ٱلَّذِي وَفَّىٰٓ (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ(38)﴾

[   سورة النجم ]

ينبغي ألا تُحمّل إنساناً بريئاً ذنب إنسان مذنب، ﴿أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ﴾ وهذه الآية أصل في التفاعل مع الأحداث: 

﴿ وَأَن لَّيۡسَ لِلْإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ (39) وَأَنَّ سَعْيَهُۥ سَوْفَ يُرَىٰ (40) ثُمَّ يُجْزَىٰهُ ٱلْجَزَآءَ ٱلۡأَوْفَىٰ(41) وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلْمُنتَهَىٰ (42) وَأَنَّهُۥ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ (43) وَأَنَّهُۥ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44)﴾

[   سورة النجم ]

هذا الفهم التوحيدي للظلم يمنع الثأر العشوائي، ويدفع إلى المطالبة بالحق الذي شرعه الله في محكم كتابه: ﴿وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ ٱلْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ *وَجَزَٰٓؤُاْ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَاۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُۥ عَلَى ٱللَّهِ﴾ قال علماء التفسير هناك ملمح؛ إذا غلب على ظنك أنك إذا عفوت عن هذا المسيء تُقرّبه من الله، اعفُ عنه وأجرك يا عبدي عندي، ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ﴾ أي عفا وغلب على ظنه أنّ عفوه يُصلحه ﴿فَأَجْرُهُۥ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلظَّٰلِمِينَ* وَلَمَنِ ٱنتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ* إِنَّمَا ٱلسَّبِيلُ عَلَى ٱلَّذِينَ يَظْلِمُونَ ٱلنَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي ٱلۡأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّۚ أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ* وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ٱلْأُمُورِ﴾

الله -عزَّ وجلَّ- عليم بكل شيء:


ولو سأل سائل، أليس الله يعلم بما يجري؟ فالجواب بلى، سؤال آخر: أليس الله يقدر على أن يمنع القوي من إيقاع الأذى بالضعيف؟ فالجواب: بلى، قال تعالى:

﴿ فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ ٱلْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَٱنتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَٰلَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ ٱلْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَٰلَهُمْ (8)﴾

[   سورة محمد ]

السؤال الثالث: وهل يُعقل أن الله -عزَّ وجلَّ- لا يعنيه ما يجري؟ والجواب: مستحيل وألف ألف مستحيل، قال تعالى:

﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ ٱلْأَمْرُ كُلُّهُۥ فَٱعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ(123)﴾

[  سورة هود ]

متى أمرك أن تعبده؟ بعد أن طمأنك أن الأمر كله راجع إليه ﴿وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ 

القوي المعتدي لا يستطيع أن يتفلت من عقاب الله -عزَّ وجلَّ-:


سؤال آخر: والقوي هل يستطيع أن يعمل عملاً ما أرداه الله؟ والجواب: لا، وألف لا، وأما قوله تعالى –والآية دقيقة جداً-:

﴿ وَلَا يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُوٓاْ ۚ إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59)﴾

[  سورة الأنفال ]

معنى ﴿سَبَقُوٓاْ﴾ : أي أن القوي لا يستطيع أن يفعل شيئاً ما أراده الله، معنى ﴿سَبَقُوٓاْ﴾ أيضاً أن القوي المعتدي لا يستطيع أن يتفلّت من عقاب الله، ومعنى ذلك أن خطة الله استوعبت خطة القوي، ووظفها للخير المطلق، فالشر المطلق -وهو الشر للشر- لا وجود له في الكون؛ لأنه يتناقض مع وجود الله، هذا معنى قوله تعالى:

﴿ قُلِ ٱللَّهُمَّ مَٰلِكَ ٱلْمُلْكِ تُؤْتِى ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّن تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ ۖ بِيَدِكَ ٱلْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌ (26)﴾

[  سورة آل عمران ]

لم يقل: والشر، ومعنى ذلك أن إيتاء الملك خير، ونزعه خير ﴿بِيَدِكَ ٱلْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌ﴾
أيها الإخوة الكرام؛ والمعنى أن القوي الظالم لا يمكن أن يفعل شيئاً ما أراده الله، ولا أن يتفلت من عقاب الله، ولكن الله -جلَّ جلاله- يطمئن الضعيف المظلوم فيقول:

﴿ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ فِى ٱلْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ ٱلْوَٰرِثِينَ(5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وَهَٰمَٰنَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُواْ يَحْذَرُونَ (6)﴾

[ سورة القصص ]

والإمام الحسن البصري -وهو من كبار التابعين- يرى أن ظلم القوي نوع من ابتلاء الله لعباده، وأن هذا الابتلاء لا يُدفَع بالسيوف وحدها إنما يُدفَع بالتوبة والإنابة أولاً، ثم بإعداد القوة المتاحة ثانياً، كما فعل صلاح الدين الأيوبي حينما أزال المنكرات أولاً، وبعدها واجه جيوش الفرنجة وانتصر عليهم، وهذا درس بليغ في مواجهة العدو الإسرائيلي، وغيره من الأعداء وما أكثرهم، وقوله تعالى:

﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ۚ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِۦ ۖ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَٰهَدَ عَلَيْهُ ٱللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)﴾

[  سورة الفتح ]

وقوله تعالى:

﴿ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ ۚ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ ۚ وَلِيُبْلِىَ ٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَآءً حَسَنًا ۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)﴾

[  سورة الأنفال ]

فالإنسان خُلِق ضعيفاً ليفتقر في ضعفه فيسعد بافتقاره، ولو خُلِق قوياً لاستغنى بقوته وشقي باستغنائه. 

التصورات الخاطئة التي يقع بها الإنسان تتناقض مع مسلمات إيمانه:


أيها الإخوة الأحباب؛ ينطلق الإنسان مرة ثانية إلى إيقاع الظلم بأخيه الإنسان حينما يتصور مخطئاً أن جهةً لن تحاسبه، وأنه لن يدفع ثمن ظلمه غالياً، وأن القوي الظالم هو الفائز، وأن الضعيف المظلوم هو الخاسر، هذا التصور يوقع الإنسان في حالة نفسية خطيرة يُخشى معها ألا يموت مؤمناً، يموت على غير الإيمان، قال تعالى:

﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَٰفِلًا عَمَّا يَعْمَلُ ٱلظَّٰلِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍۢ تَشْخَصُ فِيهِ ٱلْأَبْصَٰرُ (42)﴾

[  سورة إبراهيم ]

وقال أيضاً: ﴿أَيَحْسَبُ ٱلْإِنسَٰنُ أَن يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيّٖ يُمْنَىٰ * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ * فَجَعَلَ مِنْهُ ٱلزَّوۡجَيْنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلْأُنثَىٰٓ * أَلَيْسَ ذَٰلِكَ بِقَٰدِرٍ عَلَىٰٓ أَن يُحْـِۧيَ ٱلْمَوْتَىٰ﴾
أيها الإخوة الكرام؛ هذا التصور يتناقض مع مسلمات الإيمان، بل يتناقض مع وجود الله، قال تعالى:

﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّىَ ٱلْفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَٱلْإِثْمَ وَٱلْبَغْىَ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِۦ سُلْطَٰنًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)﴾

[  سورة الأعراف ]

حرّم الفواحش، والإثم، والبغي، والشرك، وجعل على رأس هذه المحرمات ﴿وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ ، ﴿وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ فوق الفواحش، والآثام، والبغي، لماذا؟ لأنك حينما تقول على الله ما لا تعلم وتُيَئِّس الناس من رحمة الله، ومن نصر الله، ماذا فعلت؟ أوقعت الناس في اليأس، أوقعت الناس في طريق مسدود، وفي قنوط من رحمة الله، ويأس من نصره، وهذا كفرٌ بأسماء الله الحسنى وصفاته الفضلى، لذلك ورد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:

(( إنّ حُسْنَ الظَّنِّ بِالله مِنْ حُسْنِ عِبادَةِ الله ))

[ أخرجه الترمذي عن أبي هريرة  ]

وهذا حديث صحيح، (إنّ حُسْنَ الظَّنِّ بِالله مِنْ حُسْنِ عِبادَةِ الله) معنى ذلك يجب أن يتفاءل كل مؤمن بأن الله -سبحانه وتعالى- لا بد أن ينصره، وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال عليه الصلاة والسلام:

(( انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، فقال: رجل يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنصره إذ كان مظلوماً، أفرأيت إذا كان ظالماً كيف أنصره؟ قال: تحجزه أو تمنعه من الظلم، فإن ذلك نصره  ))

[ أخرجه البخاري عن أنس بن مالك  ]


العصبية:


هناك موضوع آخر متصل بالظلم؛ موضوع العصبية، لقد عرّف النبي -صلى الله عليه وسلم- العصبية حينما سُئل عنها فقال:

(( قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ ما العصبيَّةُ؟ قالَ: أن تعينَ قومَكَ على الظُّلمِ. ))

[ رواه أبو داود عن واثلة بن الأسقع (ضعيف) ]

ثم نفى النبي أشدَّ النفي أن يكون من دعا إلى عصبية، أو قاتل على عصبية، أو قُتِل على عصبية نفى انتماءه إلى المسلمين، وهذه العبارة في الحديث النبوي من أشد أنواع الوعيد في منهج النبي -عليه الصلاة والسلام-، قال -عليه الصلاة والسلام-:

(( ليس منّا مَن دعا إلى عصبيَّة، وليس منّا مَن قاتل على عصبيّة، وليس منّا مَن مات على عصبيّة. ))

[ رواه أبو داود عن جبير بن مطعم (ضعيف) ]

وفي حديث آخر:

(( عن عبد اللَّهِ بن مسعودٍ، عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال: يَجيءُ الرَّجلُ آخذًا بيدِ الرَّجلِ، فيقولُ: ياربِّ هذا قتلني، فيقولُ اللهُ له: لمَ قتلتَه؟ فيقولُ: قتلتُه لتكونَ العزَّةُ ل، فيقول إنِّي لها ويَجيءُ الرَّجلُ آخذًا بيدِ الرَّجلِ يقولُ: إنَّ هذا قتلني؟ فيقولُ اللهُ له: لم قتلتَه؟ فيقولُ: لتكونَ العزَّةُ لفلانٍ، فيقولُ: إنَّها ليست لفلانٍ، فيبوءُ بإثمِه  ))

[ صحيح النسائي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ]

وحكم رجال الحديث على هذا الحديث بأنه صحيح، وعن واثلة بن الأسقع -رضي الله عنه قال: سألت النبي -صلى الله عليه وسلم-: 

(( أَمِنَ الْعَصَبِيَّةِ أَنْ يُحِبَّ الرَّجُلُ قَوْمَهُ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ مِنْ الْعَصَبِيَّةِ أَنْ يَنْصُرَ الرَّجُلُ قَوْمَهُ عَلَى الظُّلْمِ. ))

[ ضعيف ابن ماجه عن واثلة بن الأسقع  ]

هذا التعريف النبوي للعصبية، لذلك: (ليس منّا مَن دعا إلى عصبيَّة، وليس منّا مَن قاتل على عصبيّة، وليس منّا مَن مات على عصبيّة) .

تحريم الظلم بكل أنواعه:


أيها الإخوة الكرام؛ والإسلام من خلال الكتاب والسنة يحرم أشد التحريم الظلم بكل أنواعه ومستوياته، ومسبباته، ونتائجه:

(( عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيمَا رَوَى عَنْ اللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّهُ قَالَ: يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ، يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَد اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ ))

[ أخرجه مسلم عن أبي ذر الغفاري ]

أيها الإخوة الكرام؛ لقد توعد النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته من بعده أن تقع في الظلم فقال:

(( اتَّقُوا الظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاتَّقُوا الشُّحَّ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ، وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ. ))

[ أخرجه مسلم عن جابر  ]

وفي حديث آخر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:

(( إِيَّاكُمْ وَالظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِيَّاكُمْ وَالْفُحْشَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَالتَّفَحُّشَ -أي الحرص على تملك القوة، ومع القوة المال، ومع المال الشهوة، القوة والمال والشهوة-،  وَإِيَّاكُمْ وَالشُّحَّ فَإِنَّهُ دَعَا مَنْ قَبْلَكُمْ فَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ وَسَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَقَطَّعُوا أَرْحَامَهُمْ  ))

[ صحيح ابن حبان عن عبد اللَّه بن عمرو  ]

(( وعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أنه قال: قال عليه الصلاة والسلام: إِيَّاكُمْ وَالظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْفُحْشَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَلَا التَّفَحُّشَ، وَإِيَّاكُمْ وَالشُّحَّ فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، أَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا، وَبِالْبُخْلِ فَبَخِلُوا، وَبِالْفُجُورِ فَفَجَرُوا، قَالَ: فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ أَنْ يَسْلَمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِكَ وَيَدِكَ، قَالَ ذَلِكَ الرَّجُلُ أَوْ رَجُلٌ آخَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَيُّ الْهِجْرَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: أَنْ تَهْجُرَ مَا كَرِهَ ربك ))

[ صحيح ابن حبان عن عبد اللَّه بن عمرو  ]


تطابق منهج الله -عزَّ وجلَّ- مع فطرة الإنسان:


والحقيقة الصارخة أن منهج الله ينطبق أتم التطابق مع فطرة الإنسان، قال تعالى:

﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِى فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ٱللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)﴾

[  سورة الروم ]

فالله -جلّ جلاله- حينما وصف هذه الأمة بالخيرية بيّن علة هذه الخيرية، وهي أنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، قال تعالى:

﴿ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ ۗ وَلَوْ ءَامَنَ أَهْلُ ٱلْكِتَٰبِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ ٱلْفَٰسِقُونَ (110)﴾

[  سورة آل عمران ]

والمعروف سُمّي كذلك؛ لأن الفِطَر السليمة تعرفه بَداهةً، وسُمِّي المنكَر منكراً لأن الفِطَر السليمة أيضاً تعرفه بداهة، وهذا ما حدا بالعلماء أن يُسمّوا الدين الإسلامي دين الفطرة؛ لأن الحق ما جاء به النقل الصحيح، وقبِلَه العقل الصريح، وارتاحت إليه الفطرة السليمة، وأكده الواقع الموضوعي، فأمتنا الإسلامية إن لم تأمر بالمعروف، وإن لم تنهَ عن المنكر فقدت خيريتها، وحينما تفقد خيريتها تصبح أمة كأيّة أمة خلقها الله لا شأن لها عند الله، أي هان أمر الله عليها فهانت على الله، والله –تعالى- ردّ على الذين قالوا:

﴿ وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ وَٱلنَّصَٰرَىٰ نَحْنُ أَبْنَٰٓؤُاْ ٱللَّهِ وَأَحِبَّٰٓؤُهُۥ ۚ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم ۖ بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ ۚ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ ۚ وَلِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ (18)﴾

[  سورة المائدة ]

ردّ عليهم فقال: ﴿قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم ۖ بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ﴾
أيها الإخوة الكرام؛ الذي يؤكد أن دين الإسلام دين الفطرة هو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما سأله أحد أصحابه:

(( بأبي أنت وأمي يا رسولَ اللهِ، أفْتنا عن أمر نأخذهُ عنكَ من بعدكَ، قال صلى الله عليه وسلم:  لتُفتِكَ نفسكُ، قلت: وكيف لي بذلكَ؟ قال صلى الله عليه وسلم: دَعْ ما يُريبُكَ إلى ما لا يُرِيبُكَ، وإن أفْتاكَ المُفتونَ، قلت: وكيف لي بعلمِ ذلك؟ قال صلى الله عليه وسلم: تضعُ يدكَ على فؤادكَ، فإن القلبَ يسكنُ إلى الحلالِ، ولا يسكُنُ للحرامِ، وإن ورعَ المسلمِ أن يدعَ الصغير مخافةَ أن يقعَ في الكبيرِ. قلت: فمنِ الحريصُ؟ قال: الذي يطلبُ المكسبَ في غيرِ حلها، قلت: فمن الوَرِعِ؟ قال صلى الله عليه وسلم: الذي يقفُ عند الشبهة، قلت: فمن المُؤمنِ؟ قال: من أمِنهُ الناسُ على أموالهِم ودمائهم، قلت: فمن المُسلمُ؟ قال صلى الله عليه وسلم: من سَلِمَ المسلمونَ من لسانهِ ويدِهِ. قلت: فأيّ الجهادِ أفضلُ؟ قال صلى الله عليه وسلم: كلمةُ حقٍ عند إمامٍ جائرٍ ))  

[ أخرجه الطبراني، وأبو يعلى عن واثلة بن الأسقع ]

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم، فيا فوز المستغفرين.

الخطبة الثانية: 

الحمد لله، ثم الحمد لله، الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكلي إلا على الله.

الظلم ثلاثة: ظلم لا يغفره الله وظلم يغفره الله وظلم لا يترك الله منه شيئًا:


أيها الإخوة الكرام، لقد صنّف النبي -صلى الله عليه وسلم- الظلم في أنواع ثلاثة، فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:

(( الظلمُ ثلاثةٌ، فظُلمٌ لا يغفرُهُ اللهُ، وظلمٌ يغفرُهُ، وظلمٌ لا يتركُهُ، فأمّا الظلمُ الذي لا يغفرُهُ اللهُ فالشِّركُ، قال اللهُ: إِنَّ الْشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ، وأمّا الظلمُ الذي يغفرُهُ اللَّهُ فَظُلْمُ العبادِ أنفسُهمْ فيما بينهُمْ وبينَ ربِّهمْ، وأمّا الظلمُ الّذي لا يتركُهُ اللهُ فظُلمُ العبادِ بعضُهمْ بعضًا حتى يَدِينَ لبعضِهِمْ من بعضٍ  ))

[ الألباني عن أنس بن مالك  ]

﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِۦ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱفْتَرَىٰٓ إِثْمًا عَظِيمًا (48)﴾

[  سورة النساء  ]

(وأمّا الظلمُ الذي يغفرُهُ اللَّهُ فَظُلْمُ العبادِ أنفسُهمْ فيما بينهُمْ وبينَ ربِّهمْ، وأمّا الظلمُ الّذي لا يتركُهُ اللهُ فظُلمُ العبادِ بعضُهمْ بعضًا حتى يَدِينَ لبعضِهِمْ من بعضٍ) هذه الأنواع الثلاثة، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:

((  يُغْفَرُ للشهيد كلُّ ذَنْب إلا الدَّيْنَ ))

[ أخرجه مسلم عن عبد الله بن عمرو  ]

من أجل تعظيم حقوق العباد، (يُغْفَرُ للشهيد كلُّ ذَنْب إلا الدَّيْنَ) لذلك كان النبي -عليه الصلاة والسلام- إذا مات أحد أصحابه يسأل: أعليه دين؟ فإن قالوا: نعم، يقول: صلوا على صاحبكم. 
أيها الإخوة؛ آخر فكرة في هذه الخطبة، هل تصدقون أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وصف المجتمع الإسلامي من بعده في آخر الزمان بالمجتمع الكافر حينما يضرب بعضه رقاب بعض، فقال عليه الصلاة والسلام:

((  لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ  ))

[ صحيح البخاري عن عبد الله بن عمر ]

وعودٌ على بدء، يظل المسلم بخير ما لم يسفك دماً.

الدعاء:


اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك و نتوب إليك، اللهم هبْ لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا، اجعل خير أعمالنا أواخرها، وخير أيامنا يوم نلقاك، نلقاك وأنت راضِ عنا، وصلِّ الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين. 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

نص الدعاة

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور