وضع داكن
09-12-2023
Logo
محفوظات - موضوعات لغير الدكتور: 32 - الشيخ كمال خطيب - أيها المقهورون صبراً
رابط إضافي لمشاهدة الفيديو اضغط هنا
×
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونَعوذُ بالله من شُرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدي الله فهو المُهتد، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، القائل في مُحكم آياته:
بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)﴾ 

[ سورة الفتح ] 

وأشهد أنَّ سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، بَلّغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأُمة، وكشف الغُمَّة وتركها على المَحجّة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنه إلا هالك:

(( لقَد ترِكْتُكُم على مثلِ البَيضاءِ ، ليلُها كنَهارِها لا يَزيغُ عنها إلَّا هالِكٌ )) 

[ أخرجه ابن ماجه وأحمد ] 

أيُّها المسلمون يا عباد الله: 

(( صَبرًا آلَ ياسِرٍ؛ فإنَّ مَوعِدَكم الجنَّةُ. )) 

[ أخرجه الطبراني والحاكم وأبو نعيم ] 


العذاب الذي ناله آل ياسر وصبرهم على أذى قريش:


مَن مِن المسلمين صِغاراً أو كباراً، رجالاً أو نساءً، عَرباً أو عَجماً، في الماضي وفي الحاضر مَن مِن المسلمين لم يسمع بهذه العبارة؟ نَطق بها الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم:( صَبراً آل ياسِرٍ، فإنَّ مَوعِدَكُم الجنّة) ، الكُل سمع وحفِظ هذه العبارة، هذه العبارة الجملة قيلت في أسرةٍ مُباركة، من فقراء المسلمين في مكة، أسرةٌ تكونت من الزوج ياسر، ومن الزوجة سُمية، ومن الابنين الولدين عمار، وعبد الله، العائلة المُباركة الفقيرة كلها أسلمت، وكلها اختارت أن تكون على هديّ ودين محمد صلى الله عليه وسلم، لكن هذا لم يكن أمراً سهلاً، هذا القرار بل هذه الكرامة الرَبانيّة لم تكن سهلةً لأن لها ثمناً سيُدفع، أي ثمنٍ هذا؟ أن يُخرَج كل يومٍ بهؤلاء الأربعة مع بعضهم البعض، الأب، الأم، الولدين، إلى الرَمضاء في عزّ الظهيرة، حيث الحرُّ الشديد، والرمل، والحصى، يصبح كله كأنه جمر، حَرُّ الأرض وحَرُّ السماء يُلقى بهم فيُعذبون، يُعذبون أشدّ ما يكون العذاب ضَرباً، وجَلداً.
 كان النبي صلى الله عليه وسلم يمرُّ عليهم وهم يُعذَّبون، وليس بمقدوره فعل شيء، لم يكن يملك القوة بها يُنقذهم، أو يدافع عنهم، أو ينتصر لهم، ما كان منه أبداً إلا أن يقول: ( صَبراً آل ياسِرٍ، فإنَّ مَوعِدَكُم الجنّة) ، أما ياسر فقد مات تحت العذاب رضي الله عنه، وأما سُمية فبينما كانت ذات يومٍ مُمددةً على الأرض تُعذَب، وتُجلَد، فمرَّ بها أبو جهل لعنه الله، فسبَّ عليها وشتم عِرضها، فردَّت عليه وهي مُلقاةٌ على الأرض تُعذَّب، ردّت عليه، وإذا به يأخذ حربته ويُسدد لها طعنةً في رحمها، في قُبُلِها في الرحم،  فماتت على الفور، فكانت أول شهيدةٍ في الإسلام، أول شهيدة في الإسلام مَن؟ سُمية زوج ياسر، أمُّ عمار.
عمار بن ياسر كان كذلك يُعذَّب، حتى أنَّ عمر بن الحكم يقول: كان عمار يُعذَّب حتى يصبح يَهذي، يعني يُخطئ في الكلام، يعني يكاد عقله يطير، يعني لا يعرف ماذا يقول من شدّة العذاب! كان عمار يُعذَّب حتى لا يدري ما يقول، ويقول آخر اسمه أبلج بن ميمون يقول: كان عمار يُعذَّب تحت حرِّ الشمس ولَظى الأرض، فيَمُرُّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولا شيء يستطيع فعله، سوى أن يمسح على رأسه ويقول، النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يا نار كوني بَرداً وسَلاماً على عمار كما كُنتِ بَرداً وسَلاماً على إبراهيم، هذا ما يستطيع أن يفعله.
 عمار يأتي يوماً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيرى الرسول صلى الله عليه وسلم في وجهه أمراً جَللاً، قال: ما ورائك يا عمار؟ قال: شراً يا رسول الله، يا رسول الله والله ما تُرِكتُ حتى نِلتُ منك وذَكرت آلهتهم بخير، لم يتركوني من العذاب إلا لمّا شتمتك يا رسول الله، وذَكرتُ آلهتهم بخير، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول له: كيف تجدُ قلبك؟ ليس مهم ما ذكرته كيف تجدُ قلبك؟ قال: مُطمئنٌ بالإيمان يا رسول الله، قلبي عامرٌ بالإيمان، أنا فقط تكلّمت بلساني من العذاب، قال: يا عمار إن عادوا فعُد، إن مرة أُخرى فعلوا ذلك ولم تستطيع تَحمُّل العذاب إلا أن تشتمني، إلا أن تنال مني فعُد، صلى الله عليه وسلم، لتنزل آياتٌ من السماء:

﴿ مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا  فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)﴾ 

[ سورة النحل ] 


الله تعالى كافأ عمار بن ياسر بأن تظلَّ قصته في القرآن:


آيات تنزل لتُدافع عن عمار، ولتُبيِّن أن عمار لم يَكفُر بقلبه، هل كانت الآيات بحاجة فعلاً إلى أن تُدافع عن عمار؟ وعمار يقول عنه النبي صلى الله عليه وسلم، كان كلما يدخل عمار على النبي صلى الله عليه وسلم يُوسّع له بجانبه ويقول له: مرحباً بالطيب ابن الطيب، بعمار بن ياسر، ويقول جملته المشهورة صلى الله عليه وسلم يقول:

(( عمارٌ مُلِئَ إيمانًا إلى مشاشِه )) 

[ أخرجه الطبراني وأبو نعيم ] 

عمار مَليء إيمان حتى مُشاشه، ما معنى مُشاشه؟ المفسرون قالوا: المُشاش هي عظمة الكتف، يعني إلى الكتف مليء، آخرون قالوا أن المُشاش هو الرأس، يعني مليء إلى رأسه إيمان، ومنهم من قالوا: المُشاش هي أصل العظام، يعني الإيمان مُتشرِّب به حتى العظم، عمار مليءٌ إيماناً حتى مُشاشه فهل كانت الآيات بحاجة؟ أم أنها كرامة الله، وحُب الله لعمار من أجل أن تظلَّ قصته تُذكر كلما  قُرِأت هذه الآية الكريمة.
 يُسأَل يوماً حذيفة بن اليمان، وحذيفة بن اليمان رضي الله عنه كان النبي عليه الصلاة والسلام قد استأمنه على أسماء المنافقين، موجودون بين المسلمين لكن ليس الكُل يعرفهم، لكن النبي أخبَر حُذيفة بأسماء هؤلاء المنافقين، فكان لا يقول لأحد أسمائهم ولا يُفشي سرَّ النبي، يأتي إليه بعض الصحابة ويسألونه، يسأله الصحابي: يا حُذيفة هل أنا منهم؟  هل النبي ذَكرني منهم؟ يقول: لا أُفشي سرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيسألوه: يا حذيفة بمن تأمرنا إذا اختلف الناس، إذا الناس اختلفوا وحدثت فتنة بين المسلمين إلى من نذهب؟ مع من نكون؟ ماذا تتوقعون أن يكون جوابه؟ فقال لهم: عليكم  بابن سمية، يعني عمار، عليكم بابن سمية فإنه لن يُفارق الحقَّ حتى يموت، عمار ابن سمية بن ياسر، ابقوا معه لن يُفارق الحقّ حتى يموت، رضي الله عنه وعن أبيه وأمه وأخيه، ( صَبراً آل ياسِرٍ، فإنَّ مَوعِدَكُم الجنّة) .
 عمار منذ طفولته أسلم ونشأ على الدين، كَبَر به العُمر نعم، لكن مَثَل عمار مَثلُ كثيرين من أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم، مِمن عُذبوا وأوذوا، وسمعنا قصة صُهيب، القائمة طويلة بأسماء الشرف الذين بسبب حُبِنا لهم، نُسمّي أبنائنا بأسمائهم، نُسمّي أحفادنا بأسمائهم، عمار، ياسر، سُمية، رُقيّة، زينب، أم كلثوم، صُهيب، بلال، مُعاذ، كل هذه القائمة قائمة الشرف مِمن نَالها العذاب ودفعت ضريبة الانتماء لهذا الدين، منهم من أمدَّ الله بِعُمره، ومنهم كان عمار عاش تسعين سنة، لكن كُثرٌ منهم ممن ماتوا ولم يروا عزّ الإسلام، ماتوا والغُصة بقلوبهم، ماتوا وأثر الضرب على جلودهم، ماتوا وأثر الحروق على أجسادهم، ماتوا وأثر الإهانات لا ينسوها أبداً، ماتوا ولم يروا ليظلَّ الأمل عندهم ما كان يقوله بلال رضي الله عنه، لمَّا كان يقول: يا ربِّ متى ألقى الأحبّة مُحمداً وصحبه؟ متى سأجتمع مع رسولي حبيبي محمد ومع أصحابه يا رب؟

من الصحابة من ماتوا ولم يروا عِزَّ الإسلام وأنه أصبح له عظمة وهيبة:


ماتوا ولم يعيشوا عِزّ الإسلام، ماتوا ولم يعيشوا، للإسلام أصبح دولة، وهيبة، وصوت عالي، وراية، وجيوش! ماتوا دون أن يروا هذا بأعينهم، ماتوا بِغِصة العذاب، والألم، والجِراح، والإهانات، ولم يَحظوا بحضور مراسم أن يَؤتى لعمر بن الخطاب رضي الله عنه بتاج كسرى وسواريه، الذي وعدهم النبي لسُراقة بن مالك في رحلة الهجرة، ارجع يا سُراقة ولك علينا أن نُلبسك تاج كسرى وسواريه، لم يروا المسلمين وقد فتحوا بلاد الفرس، وفتحوا المدائن عاصمتهم، ودخلوا القصر الأبيض قصر كسرى، وأخذوا كُنوزه وبَعثوها إلى عمر في المدينة وفيها تاج كِسرى وسواريه! لم يروا هذا الاحتفال.
لم يَروا ولم يَحضروا مراسم أن يستلم عمر رضي الله عنه مفاتيح بيت المقدس من سفرونيوس بطريرك الروم فيها، لم يحضروا الاحتفال الذي فيه يبكي سفرونيوس على ضياع مُلكِه، ويوقّع على العُهدة العُمرية وقد أصبح للإسلام عَظَمة وهيبة.
 ماتوا ولم يسمعوا بعمر رضي الله عنه وقد أتته الأخبار بأنَّ الروم يتجمعون في بلاد الشام، وإذا به يُرسل إلى الجبهة الفارسية، وفيها كان خالد بن الوليد أبو سليمان، يأمره بالانتقال إلى الشام بعد أن أذلَّ الفرس في القادسية يأمره بالانتقال إلى الشام، ويقول جملته المشهورة عمر رضي اهيب عنه: والله لأُنسيّنَ الروم وساوس الشيطان بخالد، الشيطان الذي يوسوس لهؤلاء الروم سأُنسيهم إياه بخالد بن الوليد، وكانت اليرموك، ونَسوا وساوس الشيطان وأذلَّهم الله.
 لم يحضر هؤلاء الصحابة هذا العزّ، وهذا المجد، وهذه العَظَمة، لم يحضروها ماتوا ورحلوا، لم يشهدوا قصة ربعيّ بن عامر يدخل على قصر رستم قائد جيوش الفُرس، ويدخل بحصانه إلى كرسي القيادة، ويربط رسن الحصان بالكرسي، مشهد لا أحد يتخيله! والصدمة أصابت رستم فيقول: ما الذي جاء بكم يا عرب؟! بالأمس كنتم تتسولون منا، بالأمس كنتم تترجوننا أن نعطيكم خبز ولباس!  ما الذي جاء بك؟ ماذا تفعل؟ قال: نحن قومٌ ابتعثنا الله لنُخرِج من شاء من العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سَعَة الدنيا والآخرة، ومن جَور الأديان إلى عدل الإسلام، لم يَروا هذا المشهد.
 ماتوا ورحلوا بآلامهم، وبعذاباتهم، وجراحاتهم، ولم يَحظَوا برؤية مشهد عُقبة بن نافع، يقف على ظهر حصانه، ويُدخل الحصان في مياه المحيط الأطلسي عند المغرب، بحر الظُلمات، ويتكلم مع البحر، مع المُحيط، ويقول له: اللهم ربَّ محمد صلى الله عليه وسلم، لو أني أعلم أنَّ وراء هذا البحر أرضاً لخضّتُ البحر لإعلاء كلمتك يا ربَّ العالمين، لم يحضروا هذا المشهد، مشهد العز وقد فُتحت كل إفريقيا ووصلوا إلى بحر الظُلمات لم يشهدوا.
 رحلوا بعذاباتهم، بدموعهم، بآلامهم، ولم يشهدوا، ولم يسمعوا، ولم يحضروا، هارون الرشيد يَخرج يوماً على أطراف بغداد فيرى غَمامةً في السماء، فيقول لها: يا غمامة أمطري، أنزِلي غيثك وخيرك، ومطرك علينا يا غيمة، أمطري أو لا تُمطري فحيث ما تُمطري فإنَّ خراجك آتٍ إلي، أينما ذهبت فهذه بلادنا، إلى شمال إفريقيا هذه بلادنا، إلى حدود الهند بلادنا، إلى القوقاز هذه بلادنا، إلى أين؟! عَظَمة واتساع وفتوحات وشموخ، يُخاطب الغَمام!
 ماتوا بعذاباتهم، وجِراحهم، وآلامهم، ولم يسمعوا، بل ولم يقرأوا نص رسالة، يُرسل بها المُعتصم إلى ملك الروم هِرقل، وقد أتاه استغاثة امرأة مسلمة سُبيت تستجير وتقول: وامعتصماه، وإسلاماه، وإذا بالمعتصم يَخطُّ رسالة: <<من خليفة المسلمين المُعتصم إلى كلب الروم هِرقل، اسمع يا ابن الكافرة، عِزَّ! اسمع يا ابن الكافرة، فإذا وصلك كتابي هذا فأطلِق سراح المرأة المسلمة، أطلِق سراح الأسير الذي عندك، وإلا فو الذي بعثّ محمداً بالحقّ لأُسيرنَّ لك جيشاً أوله عندك وآخره عندي>> .
 انتهى ليس بحاجة إلى رسالة ثانية يُطلق سراحها وكانت أبيات الشعر التي قالها أبو تمام:

السَيفُ أَصدَقُ أَنباءً مِنَ الكُتُبِ             في حَدِّهِ الحَدُّ بَينَ الجِدِّ وَاللَعِبِ

[ أبو تمام ] 

ماتوا، رحلوا بِعَذَاباتهم وآلامهم ولم يُشاهدوا ولم يحضروا صلاح الدين رحمه الله، وفي مجلسه يُؤتى ملك بريطانيا، وملك فرنسا، وملك النمسا، وملك ألمانيا، مُقيدين بالحديد بعد إذ خابوا في معركة حطين ووقعوا أسرى بين يدي صلاح الدين، ملوك مَن؟ ملوك بريطانيا، وفرنسا، والنمسا، وألمانيا، وإيطاليا إلى آخره! هؤلاء الذين جاؤوا يُدنّسوا بلاد المسلمين ويحتلوا القدس والأقصى، ويمنعوا الأذان فيه، ويشربوا الخمر على محرابه، ويُهينوا ويُدنّسوا أسرى بين يدي صلاح الدين!
 لم يحضروا هذا المشهد، لم يروا عَظَمة صلاح الدين في النهاية يُطلِق سراحهم، يُطلِق سراح الملوك، وهؤلاء الرُؤساء، لكن يقول: إلا أرناط هذا لن أُطلق سراحه، من هذا أرناط؟ أمير الكَرَك من أُمراء الصليبيّن، والكَرَك كانت تقع على طريق الحج، الذين يأتون من الشمال إلى الجنوب من الحُجاج كانوا يَمروا قريباً من الكَرَك، فكان يقطع عليهم الطريق، ويَقتل الرجال، ويَغتصب النساء ويقول لهم: أين مُحمدكم ينتصر لكم؟ يدافع عنكم، هذه الكلمة وصلت لصلاح الدين، كيف له أن يُطلق سراحه، قال: يا أرناط أأنت فعلت؟ أأنت قتلت؟ أأنت اغتصبت؟ أأنت قلت أين مُحمد؟! أنا اليوم يا أرناط نائبٌ عن محمد، صلى الله على محمد، أنا أسدُّ عنه اليوم، وسلَّ سيفه وأطاح برأسه، لم يروا هذا المشهد، لم يروا مشهد ما قاله الشاعر:

بـمَـعَـابِـدِ الإفْــرِنـْجِ كَـان أذَانُـنـَا          قَـبْـلَ الكَتَـائِبِ يـَفْتَــحُ الأمْــصَـارَا

لَمْ تَنْسَ أفْرِيقيَا و لا صَـحْرَاؤُهَـا          سَـجَـداتِنَـا و الأرْضُ تَقْـذِفُ نَـارَا

كـُنَّــا نَـرَى الأصْـنَـامَ مِــنْ ذهــبٍ           فَنَـهْدِمَهـَا و نَهْـدِمَ فَوْقَهَا الكُفَّـارَا

نَـدْعُـوا جِهَارَاً لا إلَهَ سِوَى الَّـذِي         صَـنَعَ الـوُجُـودَ و قَــدَّرَ الأقْــدَارَا

[ محمد إقبال ] 

لم يشهدوا هذا المشهد ولم يحضروه ورحلوا رضيَّ الله عنهم. 
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فيا فوز المُستغفرين استغفروا الله.
الحمد لله رب العالمين، اللهم صلِّ على سيدنا محمدٍ وعلى آل سيدنا محمد، كما صلّيت على سيدنا إبراهيم، وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد.

يجب أن يكون همّنا كيف نثبت على طريق الإيمان:


أيُّها المسلمون يا عباد الله، ما أكثرها وما أطولها قائمة الأسماء، قائمة الشرف، قائمة العِزّ، قائمة الوفاء، قائمة الثبات، لِصحابةٍ وصحابيات رضي الله عنهم جميعاً، رحلوا، ماتوا، وفي صدورهم زَفرات الألم، وفي دموعهم وفي عيونهم دموع، رحلوا ولم يتركوا خلفهم إلا بَصماتٍ مُباركة من عَطاءٍ للإسلام، وخدمةٍ للإسلام ونُصرةٍ للدين، وعملاً من أجل أن تكون كلمة الله هي العُليا، وكلمة الذين كفروا هي السُفلى، رحلوا ولم يعيشوا أيام مجدٍ، أيام عزّ، رحلوا رضي الله عنهم دون أن يَسألوا متى تكون نهاية الطريق، لأنَّ هَمَّهُم كله كان كيف لنا أن نَثبُت على الطريق؟ وهذا ما يجب أن يُشغلك يا مسلم اليوم، ما يجب أن يُشغلك ليس كيف ستكون النهاية، النهاية الله طمأنك عليها:

﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا  (28)﴾ 

[ سورة الفتح ] 

النهاية وَعَدك بها محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن اسأل عن نفسك أنت خلال الطريق، هل ستبقى في موكب الإيمان؟ هل ستبقى في قافلة الخير؟ أم ستنكس على عاقبيك؟ أم ستزيغ؟ أم ستنحرف؟ أم يمكن أن تكون قد نسيت وصية حبيبك محمد صلى الله عليه وسلم الذي يقول:

(( خُذوا العطاءَ ما دام عطاءً، فإذا صار رِشوةً على الدِّينِ، فلا تأْخُذوه، ولَسْتُم بتاركيهِ، يَمنَعُكم مِن ذلك المَخافةُ والفقْرُ. ألَا وإنَّ رَحى الإيمانِ دائرةٌ، فَدُوروا مع الكتابِ حيث يَدورُ. ألَا وإنَّ السُّلطانَ والكِتابَ سيَفْترقانِ، ألَا فلا تُفارِقوا الكتابَ. ألَا إنَّه سيكونُ عليكم أُمراءُ، إنْ أطعْتُموهم أضلُّوكم، وإنْ عصَيْتُموهم قتَلُوكم. قالوا: كيف نصنَعُ يا رسولَ اللهِ؟ قال: كما صنَعَ أصحابُ عيسى ابنِ مرْيمَ؛ حُمِلوا على الخشَبِ، ونُشِروا بالمناشيرِ، موتٌ في طاعةِ اللهِ خيرٌ مِن حياةٍ في مَعصيةِ اللهِ. )) 

[ أخرجه الطبراني وأبو نعيم ] 

الرحى الطاحونة، ابقوا مع القرآن أين يدور ابقوا معه، يقول النبي: أن يوم سيأتي السلطان، الملوك، الرؤساء، والزُعماء، المسلمين سيكونوا بجهة، والكتاب القرآن سيكون بجهة، يعني لا يَعملون به، فماذا قال عليه الصلاة والسلام؟ ( فلا تُفارِقوا الكتابَ) ، لا تمشوا وراء هؤلاء، وتقولوا هؤلاء هم العنوان، ( فلا تُفارِقوا الكتابَ) ، إذا كنت علمت بهذا يقيناً ستظلّ على الطريق، وإلا فإن سِرت خلف السلطان ستضل كما ضَلّوا،  إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال لآل ياسر: ( صَبراً آل ياسِرٍ، فإنَّ مَوعِدَكُم الجنّة) ، اليوم نقول للأُمة كُلِها صَبراً، نعم صَبراً، ليس أنَّ موعدنا الجنَّة فقط إن شاء الله في الآخرة، ولكن موعدنا في الدنيا عِزٌّ، وشَرفٌ، وشُموخٌ، وتَمكينٌ، ودولةٌ، وهيبةٌ، وعَظَمةٌ، صبراً ليس وعد الآخرة بالجنَّة الذي نسأل الله أن يكون، وإنّما وعدُ الله في الدنيا.

قهر الرجال عظيم ولكن الله لن يخذلنا: 


صَبراً أيها المسلمون، أيُّها المقهورون، أيُّها المظلومون، الذين تَكالب عليكم الأعداء، الذين خَذلكم الأشقاء، الذين تَطاول عليكم السُفهاء، صبراً أيُّها المقهورون، صبراً، وثِقةً، ويقيناً، بأنَّ الله عز وجل لن يَخذُلكم، بزمانٍ أحوج ما نكون فيه وإليه بأن نُوصي بعضنا البعض بِصبراً، نعم صبراً، بزمن القهر، وزمن الهوان وزمن الخُذلان.

كـبـيـرٌ أنــت يـا قـهـري

كـبيـرٌ قـهري واقتـداري

كبيرٌ أنت يا قهر الرجال

قهر الرجال كبير وصَعب..

  وكـنتُ أقـول للـدُّنيا إذا مـا          أتتني بالمصـائبِ: لا أُبالي

  فكانَ فِراقُ من يهواهُ قلبي          أشـدَّ علـيَّ مِـن وقْـعِ النِّبالِ

  ولــكــنّــي أصــبِّـرُهُ بِــرَبٍّ          رمَيتُ على محامِلهِ حِمـالي

نحن اليوم يا رب نُلقي حِملنا على بابك، لأنَّ قَهَر الرجال عظيم، نحن الذين نقول إليك ما قاله رسولك:

(( <<إليك أشكو ضَعف قوتي، وقِلَّة حيلتي، وهواني على الناس يا أرحم الراحمين، أنت ربُّ المُستضعفين وربُنا>> )) .

 قهرنا عظيم لكننا نُلقي حِمالنا على الله وعلى باب الله، فيا أيُّها المقهورون صبراً، إنَّ بعد الليل فَجراً، أيُّها المقهورون صبراً، إنَّ بعد العُسر يُسراً، أيُّها المقهورون صبراً، إنَّ بعد الكَرب فَرَجاً.
 اللهم فرجاً منك، فرجاً منك لأمة حبيبك محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم فرِّج عنا ما نحن فيه، اللهم فرِّج عنا ما نحن فيه، اللهم فرِّج عنا ما نحن فيه، يا غفور ويا ودود، يا ذا العرش المجيد يا فعالٌ لِمَا يُريد نسألك بعزتك التي لا تُرام، وقدرتك التي لا تُضام يا مُجير أجرنا، يا مُجير أجرنا، يا مُجير أجرنا، اللهم ألّف بين قلوب المسلمين، وأصلح ذات بين المسلمين، واحقن دماء المسلمين، واهدهم سُبل السلام، وأخرجهُم من الظُلمات إلى النور يا ربَّ العالمين، اللهم انصر من نصر الدين، واخذُل من خذل الدين، ولّي أمورنا خيارنا ولا تولي أمورنا شِرارنا، من أراد أن يكيدنا فكِدهُ، ومن أراد أن يخذلنا فاخذله اللهم ابعث فينا قائداً ربّانيّاً يقودنا لطاعتك، والعمل بشريعتك يا ربَّ العالمين، اللهم ابعث في أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، من يُجدِّد لها أمر دينها، اللهم واجعلنا من خاصة جنده يا رب العالمين، إلهنا ومولانا لا تكلنا إلى أنفسنا ولا إلى أحدٍ من خلقك طرفة عين ولا أقل من ذلك يا رب العالمين، إلهنا ومولانا لا تدع لنا في هذا اليوم العظيم ذنباً إلا غفرته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا همّاً إلا فرجته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا غائباً إلا رددَّته، ولا أسيراً إلا فككت أسره، ولا مسجوناً إلا أطلقته، ولا مظلوماً إلا نصرته، ولا ظالماً إلا قَسمته، ولا ضالاً إلا هَديته، ولا طالب عِلم إلا إلى كل خير وفقته يا رب العالمين.
 اللهم كُنَّ لأطفال غَزَة يا رب العالمين، اللهم كُنَّ لنساء غَزَة يا رب العالمين، اللهم كُنَّ لشيوخ غَزَة يا رب العالمين، اللهم كُنَّ لمرضى غَزَة يا رب العالمين، اللهم كُنَّ لمُشردي غَزَة يا رب العالمين، اللهم إنهم جياع فأطعمهم، إنهم عطشى فاروهم، إنهم حُفاة فاحملهم، إنهم خائفون فآمنهم وأنزل السكينة على قلوبهم يا ربَّ العالمين، عباد الله إنَّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القُربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يَعِظكم لعلكم تَذَكّرون.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

إخفاء الصور