وضع داكن
29-03-2024
Logo
الدرس : 6 - سورة الحديد - تفسير الآيات 21-26
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 السباق إلى الجنة

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.

 بسم الله الرحمن الرحيم

 أيُّها الإخوة الكرام، مع الدرس السادس من سورة الحديد، ومع الآية الحادية والعشرين، وهي قوله تعالى:

﴿ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾

[ سورة الحديد ]

 الإنسان زمن
 إن كلمتا (سابقوا) و (سارعوا) تُشْعران أنّ الإنسان في أصْله زمن، وأنَّ الزَّمن يمْضي، فلو كان الإنسان مُخلَّداً لما احتاج أن يُقال له: سابق أو سارع ! ولكن الإنسان ذو عُمُر محدود، والزَّمن يمضي، ومُضيّ الزَّمن يستهلك الإنسان، فهو في كلّ ثانية يقترب من نهايته، لذلك قال تعالى في هذه الآية: (سابقوا)، و قال في آيات أخرى: (سارعوا)، والإنسان في حقيقته زمن، فهو بضْعة أيَّام، كلَّما انقضى يومٌ انقضى بضعٌ منه، وإنّ أثْمَنَ شيءٍ تملِكُهُ على الإطلاق هو الزَّمن، لأنّ كلّ شيءٍ لا معنى له من دون زمن، فإذا انتهى الزَّمن بطلت قيمة كل الإنجازات و لم يعد للمال معنى، فأنت زمن، ورأس مالك زمن، و أثْمنَ شيء تملكُهُ هو الزَّمن.
 نوعا إنفاق الزمن: استهلاكي و استثماري:
 وهذا الزَّمن- أيها الإخوة -هو أخطر شيء على الإطلاق، فإما أن تنفقه اسْتِهلاكاً،أو أن تنفقَهُ اسْتِثمارًا، فالإنفاق الاستهلاكي للزَّمن يعني أنْ تفعَل كلّ المباحات التي لا علاقة لها باليوم الآخر، أما الإنفاق الاستثماري فهو أن تعمل عملاً في هذا الزَّمن ينفَعُكَ بعد انقضاء الزَّمن ! فالإيمان بالله تعالى ومعرفة منهجه، وطاعته، والعمل الصالح، والدَّعوة إلى الله، و كلّ نشاط بشري يستمرّ أجرُه وفائدته بعد انْقِضاء الحياة يُعدّ اسْتثماراً للزَّمن، فلو أنَّ الإنسان تنبَّه إلى خطورة الزَّمن لما نام الليل، فعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْهما قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

 

(( لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا ))

 

[ رواه البخاري ]

 والإنسان دائماً يعدّ حياته بالطريقة التَّصاعدِيَّة، فيقول مثلاً: عمري خمسون عاماً، فلو أنَّه قال: بقيَ لي عشر سنوات لانْخلَعَ قلبهُ ! فكيف مضَتْ هذه الخمسون؟ وكيف مضَت الأربعون ؟ عن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

 

(( أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى السَّبْعِينَ وَأَقَلُّهُمْ مَنْ يَجُوزُ ذلك ))

 

[ رواه الترمذي ]

 فكلّ إنسان عاقل يعدّ عمرهُ عدّاً تنازلياً، لا عدّاً تصاعديّاً، فيسأل هل بقِيَ بِقَدْر ما مضى ؟ فإذا أنت لم تدخل ساعة مغادرة الدنيا في حِساباتك اليوميَّة فإنك لن تنجو لا من عذاب الدنيا ولا من عذاب الآخرة ! لقد ذكرتُ أنَّ مرةً طالباً نال الدَّرجة الأولى، فقيل له: بِمَ نِلْتَ هذا ؟ فقال: لأنّ لحظة الامتحان لم تُغادِر مخيِّلتي ساعةً واحدة !!! والإنسان المؤمن لا تُغادر ذِهنَه إطلاقاً لحظةُ مُغادرته الدنيا، ووقُوفه بين يدي الله، وسؤاله عن كلّ أعماله، فهو دائِماً يسعى للآخرة، قال تعالى:

 

﴿ وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا(19) ﴾

 

[ سورة الإسراء ]

 تصوَّر مثلاً أنَّ هناك شريطاً يمشي الناس عليه، وقد كنت تمشي على هذا الشريط، فلو نزلت لحظة لسبقك كلّ من عليه ! لأنَّ الحركة مستمرَّة، فينبغي عليك أن تتحرَّك وأنت فوق هذا الشريط، لذا قال: (سابقوا) و(سارعوا): وهذا يعني أنّ الإنسان له عمر محدود، وهذا العمر ينقضي، فهناك حركة الليل والنهار، و حركة الأسابيع، والأعوام، وفجأةً يُغادر الإنسان الدنيا، فالزَّمَن يمضي و مُضِيُّ الزَّمن يستهلك الإنسان.
 هناك آية أخرى تُفيدنا في فهْم هذه الآية، قال تعالى:

 

﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمْ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(148)﴾

 

(سورة البقرة )

 فأنت في الدنيا تتمتَّع بِمَا يُسَمَّى الآن بِحُريَّة الاختيار، فالدنيا دار عمل ودار توبة ومغفرة، واصطلاح مع الله، وعمل صالح، أما إذا انقَضَت فكلّ هذه الفُرَص أُغْلِقَت، قال تعالى:

 

﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمْ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(148) ﴾

 

[ سورة البقرة ]

 أي: أينما تكونوا يلحقكم الموت ! قال تعالى:

 

﴿ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا(78) ﴾

 

[ سورة النساء ]

 الإنسان نقطة متحركة إلى هدف ثابت...
 النِّهاية محدّدة، وأنت الآن مُتحرِّك، أيْ: هناك نقطة تتحرك إلى هدف ثابت ! ومُضيّ الزَّمن يُقرِّب المسافة، فلو أنَّ الإنسان ركب سيارته واتَّجَهَ بها إلى حمص و نظر إلى حركة عقرب الثواني في ساعته لرأى أن كلّ حركة تدلّ على الاقتراب من حِمص ! فالنِّهاية ثابتة، ولكل إنسان أجل مسمَّى لا يزيد ولا ينقص، والمسافة تتناقص إلى أن تصل إلى الصِّفر.
 هناك وَهمٌ يدخل على بعض الشباب، فيقول: أنا لا زلتُ شابًّا !! فنقول رداً عليه: هناك من يموت في الثلاثين أو في الخامسة والثلاثين، وهناك من يموت في العشرين، والأَجل إذا جاء لا يعرف شابًّا ولا طِفلاً ولا وليداً ولا شيخاً، قال تعالى:

 

﴿ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ(61) ﴾

 

[ سورة النحل ]

 ويقول الله عز وجل:

 

﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ(102) ﴾

 

[ سورة آل عمران ]

 قد تقول: كيف يُخاطبني الله عز وجل ويقول لي: لا تمُت إلا وأنت مسلم ؟! الموت ليس بيدي ! إنه بيد الله عز وجل ! و الإجابة عن ذلك أنَّ الموت ليس بيَدِ الإنسان، فهو يأتي فجأةً، فاحرَص على أن لا يأتِيَك الموت إلا وأنت مسلم، وكُن مستعِداً دائِماً للِقاء الله عز وجل، فإذا جاء الموت فجأةً كنتَ مسلماً لله خاضِعاً لأمرِهِ، ومنقاداً لِمَنهجه.
 فالسِّباق يعني أنَّ هناك هدفاً ثابت يتحرك إليه الإنسان، لكن الناس اليوم يتسابقون لا إلى مغفرة و جنَّة، لكنهم يتسابقون إلى الدنيا، وإلى جمع الدِّرْهم والدِّينار، قال تعالى:

 

﴿ وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ(32) ﴾

 

[ سورة الزخرف ]

 يظل الإنسان يفكر في النموّ ومضاعفة الأرباح، ويظن هذا سِباقاً، ولكنه يُفاجأ بأنه سيخسر هذه الدنيا التي اكْتسبها بِجُهدٍ جهيد في ثانية واحدة، فالذي يضع آماله كلَّها في الدنيا يُعدُّ مُقامِراً ! لأن الموت ينسف كلّ هذه الآمال، أما إذا تعامل مع الله وكان كسبه عملاً صالحاً، عندها تبدأ سعادته عند الموت، والشيء الذي يبدأ بعد الموت هو الشيء الثَّمين النفيس، أما الشيء الذي ينتهي مع الموت فهو الشيء التافه الخسيس، والعاقل من يعمل لما بعد الموت، و كما قال عليه الصلاة والسلام:

 

(( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث ))

 فعندما تحدث عما بعد الموت غيّر الحديث عن مضيّ الزَّمن والمسارعة والمسابقة، يقول الإمام عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: "الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما!" فالإنسان عندما ينظر إلى صوره القديمة يرى الفرق واضِحاً في خطوط وجهه، وفي شَكل ملامِحِه، فمعنى ذلك أنَّ الليل والنهار عملا فيك، فمن أجل أن لا تكون ضَحِيَّة مُضِيّ الزَّمَن فاعْمَل فيهما العمل الصالح الذي ينفعُك بعد مضيّ الزَّمن ! و هذا كلُّه في قوله تعالى:

 

 

﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾

 

[ سورة الحديد ]

 المغفرة والجنة هدفا الإنسان المؤمن:
 إن الأهداف المشروعة التي أرادها الله لنا هي المغفرة والجنَّة، فالمغفرة هي أن يشفى الإنسان من أمراضه الدُّنيَوِيَّة، فالإنسان رُكِّبَت فيه الشَّهوات فإذا بَعُد عن منهج الله، وكان ضعيف الاتِّصال به ولدت هذه الشَّهوات عنده أمراضاً تحْجُبه عن الله تعالى، فالمؤمن يُسارع ويُسابق لِيَشفى منها، وهذه الأمراض لا تشفى إلا بِطاعة الله تعالى والإقبال عليه، فالهدف الأوَّل هو المغفرة، فالجنَّة طيِّبة لا يدخلها إلا طيِّب، والله سبحانه وتعالى طيِّب لا يقبل إلا طيِّبًا، فأوَّل عمليَّة في الصُّلح مع الله تعالى أن تشفى هذه النَّفس من أمراضها، فهذا هو الهدف الكبير الذي ينبغي أن نسعى إليه، قال تعالى:

 

﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾

 

[ سورة الحديد ]

 فالمغفرة شِفاء وتَطهير، فهي تعالج كلّ الأمراض النَّفسيَّة التي تحجب الإنسان عن الله عز وجل وتجعله خاسراً بعد الموت.
 أيها الإخوة الكرام.. إن أمراض الجسد تنتهي عند الموت، وأمراض النفس تبدأ بعد الموت، فمهما كان المرض عُضالاً فإنه ينتهي إذا مات صاحبه ! ولكنّ أمراض النَّفس تبدأ عند الموت، فإذا كان الإنسان مستقيمًا ووقَّافًا عند حدود الله تعالى يسعدُ سعادةً أبديَّة، ومن كان عاصياً ومنافقاً، بدأ حسابه بعد الموت، لذا قال تعالى:

 

﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ(88)إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ(89) ﴾

 

[ سورة الشعراء ]

 و قال تعالى:

 

﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ(133) ﴾

 

[ سورة آل عمران ]

 "عرضها كعرض السماوات والأرض":
 من أجل أن تعرف ماذا يعني قوله تعالى:

﴿عرضها كعرض السماء والأرض﴾

 عليك أن تعلم أن المسافة بيننا و بين القمر تعدل ثانية ضَوْئيَّة واحدة ؛ أي: ثلاثمائة وستُّون ألف كيلومتر، و أن بيننا وبين الشَّمس ثماني دقائق ؛ أي: مائة وستٌّة وخمسون كيلومتر، كما أن بيننا وبين نجم القطب أربعة آلاف سنة ضَوْئيَّة، وبيننا وبين مجرَّة المرأة المسلسلة مليون سنة ضوئيَّة، وبيننا وبين بعض المجرَّات أربعة وعشرين مليون سنة ضوْئيَّة، هذا كله و نحن لازلنا في الكون، والله تعالى قد قال:

﴿عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾

 و قال:

 

﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا(20) ﴾

 

[ سورة الإنسان ]

 فهل يمكن لأحد أن يزهد في ِجَنَّة عرضها كعرض السماء والأرض ؟ ويجب على الإنسان أن يعرف أن هذه الجنَّة هي أعظم عطاءٍ على الإطلاق، فهي العطاء الأبدي السرْمدي، قال تعالى:

 

﴿ لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ(48) ﴾

 

[ سورة الحجر ]

 فقد يكون الإنسان في حالة جيّدة، ويقال عنه: إنه في قلق عميق ! فلا بد له من أن يترك هذا البيت ! ولا بدّ لأحد غيره أن يأخذه هذا المكتب الفخم ! أما هذه المركبة الفارغة فإنه لن يستطيع أن يتمتَّع بها إلى ما لانهاية، فكلّ شيء في هذه الدنيا مؤقَّت، لذا نجد عند الإنسان قلق عميق، ناتج عن خوف الفناء لكنَّ الإنسان إذا دخل لم يخرج منها الجنَّة، فقد قال الله تعالى:

 

﴿ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ(48) ﴾

 

[ سورة الحجر ]

 فالبقاء في الجنَّة أبدي والسعادة فيه متنامية...
 ثمن الجنة:
 قال تعالى:

﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾

[ سورة الحديد ]

 وثمن هذه الجنَّة يملكُهُ كلّ إنسان، فأنت إن آمنْتَ بالله تعالى خالقًا، ومُربِّيًا، ومُسيِّراً، وآمنتَ بِرُسله، وبما جاؤوا به من منهَج قويم ملكت ثمن الجنة، قال تعالى:

 

﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62) ﴾

 

[ سورة يونس ]

 فالإيمان بالله والاستقامة على منهج، هما ثمن الجنَّة، قال تعالى:

 

﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا(20) ﴾

 

[ سورة الإنسان ]

 لقد زار أحد أصدقائي بلداً صِناعِياً، فدعاهُ مُدير شّركة هناك إلى بيته، فقال هذا الصديق: إن بيْتُهُ كان قصْراً في غابة، وهو ذو مساحته لا تُقدَّر، وحوله بساتين، فإن كان الأمر هكذا في الدنيا فما بال الجنَّة إذاً ؟! لقد أعدّ الله لنا ما عين رأتْ ولا أُذن سَمِعت، ولا خطر على قلب بشر، وهذه الجنَّة العظيمة لا يزْهد بها إلا أحمق وغبيّ مُعطّل القلب، وهي ليْسَت لِفئةٍ محدودة، ولا لطبقة محدودة ولا لأناس لهم صفات محدودة، إنما أُعدَّت كما قال تعالى:

﴿ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾

[ سورة الحديد ]

 (من يشاء): تُشير إلى الاختيار، فمن أراد الآخرة وسَعى لها سَعيَها وطلب رِضاء الله ودفع ثمنه نال الجنة، و الله يؤتي فضل الله من يشاء ؛ أيّ: من يشاء الجنَّة، وإن من تعرَّف إلى الله عز وجل، وتعرَّف إلى كتابه وسار على منهج الله تعالى وصَل إلى الجنَّة، فَمِن رحمة هذا الدِّين أنه مَيسّر، فهو بِاستطاعة كل إنسان، والإنسان أحياناً قد يمضي وقته في كلام فارغ ولقاءات سخيفة، أفلا تستدعيه الجنّة ليحضر مجالس العلم كي تعرَّف فيها إلى الله و كتابه وسنَّة نبيِّه، ويتعرف فيها إلى سِرّ وُجوده والحكمة منه، وإلى أثْمن شيءٍ ينبغي أن يفعَلَهُ في هذا الوُجود، فَثَمَن الجنَّة هو أن تعرف الله وأن تُطيعهُ، و كلنا يستطيع أن يكون صادقاً وأمينًا، وعفيفاً، لأنَّ الله سبحانه وتعالى يقول:

 

﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾

 

[ سورة البقرة ]

 كما أنه بإمكانك أن لا تشتري كثيراً من الأشياء التي تُبعِدُك عن الله تعالى، فهناك أشياء اقتنيتها جعلتك تسَهِر إلى ما بعد منتصف الليل وأنت في المعاصي، أليس بِإمكانك أن تمتنع عن المعصيَة ؟ فالجنَّة ثمنها طاعة الله والاستقامة على أمره، وأن تتقرَّب إليه بالعمل الصالح، وهذا مُتاحٌ لِكُلّ إنسان.
 عدالة الله:
 لولا أنَّ الجنَّة مُتاحة لكل إنسان لما كان الله تعالى عادِلاً ! قال تعالى:

 

﴿ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾

 

[ سورة الحديد ]

 قال عليه الصلاة والسلام:

 

(( الناس سواسية كأسنان المشط! والخلق كلهم عِيال الله))

 

 وهذه المبادئ تُلغي كلّ التَّمييز الطَّبقي والعنصري والفِئوي والعشائري، وهذا كلها تقسيمات
شيطانيَّة ما أنزل الله بها من سلطان.
 عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ فَقَالَ:

(( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَعَاظُمَهَا بِآبَائِهَا فَالنَّاسُ رَجُلَانِ بَرٌّ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللَّهِ، وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ، وَخَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ، قَالَ اللَّهُ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير﴾ٌ))

[رواه الترمذي]

 فهناك إنسان عرفَ الله ومنهجه، واستقام على منهج فاتَّصَل به واكتسب الكمالات فسَعِد بما فعل، وآخر جهل هذه الحقيقة وانقطع عن الله عز وجل وأساء لِخَلق الله تعالى، وسقط من عَين الله ومن عين الناس، فشَقِيَ في الدنيا والآخرة، وهذا هو التقسيم الطبيعي.

 

(( َالنَّاسُ رَجُلَانِ بَرٌّ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللَّهِ وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ وَخَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ قَالَ اللَّهُ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ ))

 

[رواه الترمذي]

 والتقسيم القرآني تقسيم آخر، ففيه إنسان آمن بالله ورسله وأطاع الله تعالى، وإنسان كفر وتفلَّت من منهج، و هناك إنسان رحماني، وآخر شيطاني، وإنسان مؤمن وآخر غير مؤمن، وإنسان مسيء، وآخر مُحسن، وإنسان مستقيم وآخر منحرف، وإنسان صادق وآخر كاذب، وهكذا...قال تعالى:

 

﴿وَسـَارِعُوا إِلَى مَغْفـِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجـَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ(133)﴾

 

[ سورة آل عمران ]

 فالله يقول عن نفسه أنَّه عظيم، وهذه الكلمة لا يمكن أن نعرف أبعادها إلا إذا تفضَّل الله على إنسان ودخل الجنَّة، قال تعالى:

 

﴿ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنْ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ(74) ﴾

 

[ سورة الزمر ]

 فإذا أذن الله للمؤمن بِدُخول الجنَّة نشأت في نفسه من مشاعر الامتنان والحمد ما لا يوصَف، فلو كانت حياته كلّها عذاب لقال: لم أر شرًّا قطّ ! أما الذي دخل النار فلو كانت حياته كلّها نعيم لقال: لم أر خيرًا قطّ ! فالخير الذي بعده النار ليس بِخَير، والشرّ الذي بعده الجنَّة ليس بِشَرّ، وكلّ نعيم دون الجنَّة حقير، وكلّ بلاء دون النار عافيَة، وإنَّ أسعد الناس في الدنيا أرغبهم عنها، وإنَّ أشقاهم أرغبهم فيها !
 حقيقة المصائب:
 يقول الله عز وجل:

 

﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾

 

[ سورة الحديد ]

 المصيبة دائماً هي عِلاج إلهي، فما سُمِّيَت المصيبة مصيبةً إلا لأنَّها تُصيب الهدف، فالذل مصيبة وهو إهانة للكِبر، و الإفقار مصيبة وهو إهانة للإسراف، و الخروج عن منهج الله مُصيبته هي دَفْعُ الثَّمَن الرادِع.
 أيها الإخوة الأكارم، لا وُجود في الكون لشرّ مطلق، وكلّ ما يُسمِّيه الإنسان شراً إنما هو شَرٌّ نِسْبيّ هَدَفُه المُعالجة.
 قصة أصحاب الجنة:
 أصحاب الجنَّة الذين ورَدَتْ قِصَّتهم في القرآن الكريم في سورة القلم، كان عندهم بساتين وثِمار يانعة وإنتاج وفير، فاتَّفقوا على أن لا يُعطوا منها مسكيناً ولا فقيراً قال تعالى:

 

﴿ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ(19) ﴾

 

[ سورة القلم ]

 فلمَّا انطلقوا لِيَحصدوا هذه الثِّمار ويقطفوها قالوا: (إنَّا لضالون)، فهذه ليْسَت بساتيننا ! ثمّ تأكَّدوا منها فقالوا: (بل نحن محرومون !!) لقد أقْسموا ليْصرمُنَّها مصبحين، ولا يستثنون أحداً في العطاء، فطاف عليها طائف من ربِّك وهم نائمون، قال تعالى:

 

﴿ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ(26)بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ(27)قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ(28) ﴾

 

[ سورة القلم ]

 أوسطهم ؛ أي: أقربهم لله تعالى، فقال: لو اتِّصلْتم بالله لَشُفيتم من مرض الشحّ والبخل، ولأنفقتم بعض هذه الثِّمار للفقراء والمساكين، ولما تلفت هذه الثِّمار، قال تعالى:

 

﴿ قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ(29) ﴾

 

[ سورة القلم ]

 و القصَّة معروفة في كتاب الله ولكني ذكرتُها لكم لذكر هذه الآية:

 

﴿ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ(30)قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ(31)عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ(32)كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ(33)﴾

 

[ سورة القلم ]

 أي كلّ أنواع العذابات في الدنيا من هذا النوع، فهناك مُصيبة تكون مُعالجة رادعة وهناك مصيبة كاشفة، كما أن هناك مصيبة رافعة، لذا قال تعالى:

 

﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾

 

[ سورة الحديد ]

 المصيبة هنا جاءت نكرة، وهذا التَّنكير تنكير شُمول، وكلمة (مِن): تُفيد استغراق أفراد النَّوع،أي: إن أيَّة مصيبة ؛ صغيرة كانت أو كبيرة،جليلة أو حقيرة، مادِّيّة أو معنوِيَّة، جِسْمِيَّة أو نفسيَّة، ماليَّة أو بدنيَّة، ومهما يكن حجمها أو نوعها، ومهما تكن شِدَّتها، هي علاج من الله تعالى، فالله تعالى قال:

 

﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾

 

[ سورة الحديد ]

 فإذا جفَّت الينابيع مثلاً و ماتَتْ النباتات، و انْقرَضَت الحيوانات، و جفَّت الأنهار، حدث الوباء، قال تعالى:

 

﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ(65) ﴾

 

[ سورة الأنعام ]

 (من فوقكم): كالبراكين و الصواريخ، (من تحت أرجلكم): كالزلازل، (يلبسنا شيَعاً ويذيق بعضكم بأس بعض): إن وُحوش الأرض كلّها لا تُساوي وحْشيَّة البشر، فوُحوش الأرض تفْترِس لِتَشْبع فإذا شبِعَت كفَّتْ عن الافتِراس، أما الإنسان فإذا كان جبَّاراً في الأرض وبطَّاشًا فإنه لا يرْتوي إلا بالدِّماء، لذا قال تعالى:

﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾

[ سورة الحديد ]

 أيُّ كتابٍ هذا ؟ قالوا: هذا كتاب العمل، و مِن باب التقريب والتَّوضيح أود أن أضرب هذا المثل:
 إذا كان هناك طبيب وقف على سرير مريض فقرأ لائحة المرض، فرأى فيها أن الضَّغط مرتفع جداً، فقرَّر منْعَ نفسه عن المِلح، وربما رأى أن الضَّغط منخفض جداًُ فيتناول ملحاً زائداً، و هذا القرار مَبنيّ على لائحة المرض، فكلّ إنسان له عند الله تعالى كتاب أعماله، فإذا كان هناك انحراف كانت هناك مصيبة رادِعة، وإذا كانت هناك استقامة كانت هناك مكافأة، وإذا كان هناك علوّ تأتي المصيبة لتُهين المتعالي، وإذا كان إسراف تأتي المصيبة لِتُفقِرَ المسرف... فيا أيها الإخوة، إن لكل شيء حقيقة، ولا يبلغ الإنسان حقيقة الإيمان حتَّى يعلم أنَّ ما أصابه لم يكن ليُخطئه، فَكُلّ مصيبة تُصيبُ الإنسان لا بدّ أن تصيبهُ، فلا يوجد عند الله تعالى فجأة أو طيش أو خطأ، و أخطاء البشر تُوظَّف في القضاء والقدر، قال تعالى:

 

﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾

 

[ سورة الحديد ]

 فقوله:

﴿ نَبْرَأَهَا ﴾

 يعني أن هناك تقديراً حكيماً يسبق مجيء المصيبة، والإيمان بالقدر نِظام التوحيد كما أنه يُذْهب الهمّ والحزن، فالعشوائية غير موجودة، فسواء كانت المصيبة صغيرة أو كبيرة فلا بد أنها موجودة في كتاب أعمالنا، كما أنها متعلِّقة بأعمالنا، والإنسان أحياناً يكون جاهلياً فيقول: تطيَّرنا ! فما هو التَّطيّر ؟ هو أن تتشاءم من طَيرٍ طار على شِمالك، أو أن تتفاءَل من طائرٍ طار عن يمينك !! و هذه خرافة، إنَّما طائركم عند الله ! فالإنسان يتشاءم إذا كان عمله سيِّئاً، ويتفاءَل إذا كان عملهُ طيِّباً، فمَبْعث التشاؤم التفاؤُل هو سوء العمل، أو حُسن العمل ! قال تعالى:

 

﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ(51) ﴾

 

[ سورة التوبة ]

 وقال تعالى:

﴿ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ(179)﴾

[ سورة آل عمران ]

 لذا قال تعالى

 

﴿ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾

 

[ سورة الحديد ]

 أي نخلقها، قال تعالى:

﴿ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾

[ سورة الحديد ]

 إنزال المصيبة أمر يسير على رحمة الله:
 ونحن نؤمن قطعاً أن كل شيء يسير على الله، لكن المعنى هنا: أن إنزال هذه المصيبة شيء يسير على رحمة الله عز وجل ! فالأب الطبيب يُوافق على إجراء العمليَّة الخطيرة مباشرةً، ولا يتردَّد في ذلك، فأحياناً يُوافق على بتْر يد ابنه في أقصر وقت، فالرَّحمة مع العِلم تقتضي المُعالجة، أما الرحمة من دون علم فتقتضي الشَّفقَة الحمقاء ! فلو ترك الله الشارد اللاهي المنغمس في المحرَّمات على شروده لهلك ودخل النار، فيُنْزل ربُّنا به عقوبة رادعة، وقد تكون قوِيَّة طاحنة ومؤلمة، فتحدث هذه المصيبة له من أجل أن يرجع إلى الله ويستقيم على أمره و ينتهي عن اقْتِراف الذُّنوب والآثام والمعاصي، لذا قال تعالى:

 

﴿ لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾

 

[ سورة الحديد ]

 لا تقل: لو، قال عليه الصلاة والسلام:

 

(( لا تقل: لو أنني فعلت كذا وكذا))

 واستثنى العلماء لو الإيجابيَّة كأن تقول: لو لم آكل هذا المال الحرام ما تلف مالي ! أو تقول: لو لم أنحرِف عن منهج الله لما خسرتُ كذا وكذا ! فالمؤمن يؤمن أنَّ كلّ شيء بِقَضاء وقدر من الله عز وجل، فلا ييئَس على ما فات، ولا يفرح بما هو آت ! لأنَّ الذي فات لا بدّ أن يفوت عند الموت، أما الذي هو آت فلن يستمرّ إلا إلى حين، لهذا ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:

 

 

(( من عرفها لم يفرح لِرَخاء، ولم يحْزن لِشَقاء))

 فكلاهما مؤقَّت، فالموت يُنهي كلّ شيء، فهو يُنهي غِنى الغنيّ وفقْر الفقير، وقوَّة القويّ، وضَعف الضعيف، وصِحَّة الصحيح ومرض المريض، لذا قال تعالى:

 

 

﴿لا تأسَوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم ﴾

 وشُعور الإنسان أن الدنيا ستَمضي، وأن العبرة في الآخرة شُعور مُريح يمْتصّ كلّ متاعب الحياة، فقد حدَّثني صديق لي يعمل قاضياً فقال: هناك عشرات الدَّعاوى بل مئات تُشْطب لِمَوت أحد الخصْمين !!
 المختال الفخور:
 قال تعالى:

 

﴿ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾

[ سورة الحديد ]

 فالمختال جاهل، والمفتخر بما ليس له أجْهل، والمختال هو الذي يزْهو بِمَا عنده، وينسى فضل الله عليه، فعلى الإنسان أن يحمد الله على النِّعمة، والمؤمن دائماً ينتقل من النِّعمة إلى المنْعِم، أما غيره فيقف عند النِّعمة ويزْهو ويفتخر بها على الناس، قال تعالى:

﴿ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾

[ سورة الحديد ]

 فهؤلاء المختالون يبخلون ويأمرون الناس بالبخل، وإن نفسُ المؤمن مَبنيَّة على العطاء، والبخل يتناقض مع الإيمان، وهما لا يجتمعان في الإنسان إطلاقاً، فهذا الذي يبْخل لا يعرف ما عند الله تعالى من خَيرات، قال تعالى:

 

﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِـنْدَنَا خَزَاِئـنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ(21) ﴾

 

[ سورة الحجر ]

 كمية الحديد في الأرض:
 في الدرس القادم إن شاء الله سنَصِل إلى موضوع متعلِّق بالحديد، ولكني سأتعجل في ذكر أمر حول موضوع الحديد، ففي عام ألف وتسعمائة وعشرة عُقِدَ مؤتمر لِدِراسة مخزون الحديد في الأرض، فَشُكِّلَت لِجانٌ، ودرسَت كلّ أماكن التَّعدين في الأرض خِلال أشهر، فصدر ِتَقرير من المؤتمر يقول: إن مخزون الحديد في الأرض يكفي سِتِّين عاماً ! ثمّ اكْتُشِفَ أنَّ كميَّة الحديد في الأرض تُساوي خمساً بالمائة من وزْن القِشرة الأرضِيَّة ؛ أي: خمسة وسبعين ألف مليون مليونِ طنّ !! قال تعالى:

 

﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ(21) ﴾

 

[ سورة الحجر ]

 فالكلام عن نفاذ المعادن أو غيرها كلام مضحِك، فالله تعالى عنده تقنين تأديب، أما الإنسان فعنده تقنين نقص، قال تعالى:

 

﴿ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ(27) ﴾

 

[ سورة الشورى ]

 فالإنسان إذا قنَّن كان تقنينه تقنين عَجز، و الذين يبخلون لا يرَون ما عند الله من خيرات قال لي شَخص مرة: نحن على وشَك جفاف مهْلك في حوض دمشق ! و في العام التالي هطَل ثلاثمائة وخمسون مليمتراً من الأمطار!! فالمؤتمرات واللِّجان كلَّها كلام ! وليس كل ما يُقال يُصَدَّق، فالذي خلق هذا الإنسان خلق له طعام، والأصل طاعة الله تعالى، قال تعالى:

 

﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(96) ﴾

 

[ سورة الأعراف ]

 والإنسان إذا أقبل على الله تعالى كان هذا الإقبال لِصالحه، قال تعالى:

 

﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ(46) ﴾

 

[ سورة فصلت ]

 في درس قادم نتابع الآيات، وهي قوله تعالى:

 

﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾

 

[ سورة الحديد ]

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور