وضع داكن
29-03-2024
Logo
الدرس : 3 - سورة الصف - تفسير الآيات 10- 14
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الإخوة الكرام، مع الدرس الثالث والأخير من سورة الصف، ومع الآية العاشرة، وهي قوله تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾

( سورة الصف )

 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾

 1 ـ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

 الخطاب موجَّه للمؤمنين، أي يا من آمنتم بي، يا من آمنتم بي خالقاً، يا من آمنتم بي رباً، مسيراً، آمنتم بي موجوداً، كاملاً، واحداً، هذا هو المنهج، والارتباط دائماً هو أن الإنسان حينما يؤمن بالله يبحث عن طريقةٍ يتقرب فيها إليه، وما من شيءٍ يقربك من الله عزَّ وجل إلا أن تطيعه.

﴿ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾

( سورة الأحزاب )

 مَن هو الوليُّ ؟

 التقرُّب إلى الله بطاعته والتزام أمره، قال بعض العارفين بالله: " ليس الولي الذي يمشي على وجه الماء، ولا الذي يطير في الهواء، ولكن الولي كل الولي الذي تجده عند الأمر والنهي "، " أن يراك حيث أمرك، وأن يفتقدك حيث نهاك "..
 التعريف البسيط الواضح للولي:

﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ(63) ﴾

( سورة يونس )

 إن آمنت بالله، واتقيت أن تعصيه، إن آمنت به، وأطعته فأنت وليٌ لله عزَّ وجل، وإذا كنت ولياً لله حقاً فلا خوف عليك، ولا أنت تحزن، لا خوف عليك مما سيأتي، ولا تحزن عما مضى، لأن خطك البياني صاعد صعودا مستمرا، حتى لو أن الإنسان إذا أصابته الوفاة، فالوفاة نقطة على خطٍ صاعد، والصعود مستمر.
 العلاقة بين:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾

 وبين ما بعد يا أيها الذين آمنوا: أنه إن كنت آمنت بالله فلا تبحث عن طريقةٍ تتقرب فيها إليه إلا بطاعته.
 أحياناً أنت تؤمن بإنسان، فتتقرب إليه بطريقة لا ترضيه، بتمجيده دون أن تطيعه، بتعظيمه دون أن تطيعه، فإذا أردتم التقرُّب من الله عزَ وجل فلا سبيل إلى التقرُّب إليه إلا بطاعته، من هنا جاء قوله تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾

 2 ـ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ

 إلا أن هذا الآية فيها شيء لطيف، هذه الآية فيها:

﴿ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ ﴾

( سورة الصف: الآية 10 )

 أولاً:

 

﴿هَلْ أَدُلُّكُمْ ﴾

 فيها استفهام، استفهام تشويقي، أتريد أن تكون في بحبوحة ؟ تقول له: نعم، أتريد أن تكون غنياً ؟ تقول له: نعم، وكلمة تجارة محببة، التجارة مظنة ربح، والتجارة مظنة غنى، والتجارة مظنة سعادة، والتجارة مظنة فَوز، والتاجر له رأس مال، وله أرباح، فالله سبحانه وتعالى استخدم العبارة المحببة إلى معظم الناس.

 

﴿ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ ﴾

 شيء آخر، التجارة فيها رأس مال وفيها ربح، لكن التجارة المألوفة، الربح بالمائة عشرون أو ثلاثون، أربعون، خمسون، ستون، سبعون، لكن لا يوجد في الأرض تجارة تقدِّم فيها ليرة فتأخذ مليارا، هذه التجارة مع الله فقط، فالله سبحانه وتعالى يقول:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ ﴾

 النِّعم مِن رأس مال تجارة المسلم:

 رأس المال حياتك، رأس المال الصحة، رأس المال الفراغ، رأس المال نعمة الأمن، رأس المال نعمة الكفاية، عندك ما يكفيك، ما يكفيك فقط، حاجاتك مُغَطَّاة، وعندك صحة، وعندك فراغ، وعندك أمن، لذلك لما قال ربنا عزَّ وجل:

﴿ أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوْنَهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ ﴾

( سورة التكاثر )

 العلماء قالوا: النَّعِيمِ هو الغنى، والنعيم هو الفراغ، والنَّعِيمِ هو الأمن، والنَّعِيمِ هي الصحة، هذه النِعَم التي أعطانا الله إياها في الدنيا لتكون رأس مالٍ لنا نتاجر به مع الله، فأنت لا تشكو من شيء فلست مضطراً لإجراء تحليل، ولا تخطيط، ولا أشعة معينة، ولا شيء من هذا القبيل، ولا زرع كلية، ولا زرع دَسَّام، ولا تغيير شريان، ولا سفر إلى الخارج، فالأجهزة تعمل بانتظام، الأعضاء سليمة، فهذه الصحة التي تتمتع بها ماذا فعلت بها ؟ للنوم، للتسلية، للسهرات، للكلام الفارغ، للقاءٍ لا يُرضي الله، للغيبة والنميمة ؟

﴿ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ ﴾

( سورة التكاثر آية: 8 )

 رأس مالك الصحة، عندك فراغ، عندك عمل إلى الساعة الثانية ظهراً، تأكل طعام الغداء، وتنام قليلاً، ماذا تفعل بعد أن تستيقظ إلى الساعة الثانية عشرة ؟ هذا فراغ، يا ترى هل حضرت مجلس علم ؟ هل عُدتَ مريضاً ؟ هل زرت أخاً في الله ؟ هل رعيت يتيماً ؟ هل رعيت أرملةً قريبةً لك ؟ هل أمرت بالمعروف، نهيت عن المنكر ؟ هل درست باباً في الفقه ؟ هل تلوت القرآن ؟ هل تعلَّمت تجويده ؟ هل تعلَّمت معانيه ؟ هل علَّمته للناس ؟ ماذا فعلت في وقت الفراغ، وفي الصحة، وفي الأمن، ولست ملاحقاً ؟ فالملاحق لا ينام الليل، بل ينتقل من بيت إلى بيت، قلبه هواء، وأنت ليس عليك مذكرة بحث، ولست محكوما بجرم، بل أنت طليق آمن، عندك وقت فراغ، صحيح، عندك قوت يومك، هذه النعم الأربعة هي رأس مالك، كيف تاجرت بها ؟ لذلك:

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾

 هذه الآية تُذَكِّرُنا بآية مشابهة، وهي قوله تعالى:

 

﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ﴾

( سورة التوبة: الآية 111 )

 الله اشترى منك.

﴿ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ ﴾

( سورة التوبة: آية 111 )

 والثمن هو الجنة، وهناك مشترٍ وهو الله جلَّ جلاله، وبائع وهو أنت، وثمن وهو الجنة.

﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾

( سورة التوبة )

 أيها الإخوة الكرام، هذه آية دقيقة جداً، ينبغي أن تتاجر مع الله، لأن تجارة الأرض ربحها قليل، وأمدها قصير، والنتائج مُحْزِنَة أحياناً، يقول لك أحدُهم: ثلاث سنوات ولم أربح شيئاً، أو ربحنا ربحا لا يوازي حاجتنا، ثم ربحنا، ثم أخذت منا ضرائب كثيرة.

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ ﴾

 أول ثمن، أو أول ربح.

 

﴿ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾

 3 ـ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ

 لأن الحركة بلا منهج، الحركة بدافع الشهوات والغرائز، هذه الحركة تنتهي إلى عمل سيئ، والعمل السيئ ينتهي إلى عذاب، فأول ربح، أو أول دفعة من حساب الأرباح هي أن المؤمن الذي تاجر مع الله نجا من عذابٍ أليم.

﴿ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾

 الربح هو النجاة.

﴿ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾

( سورة آل عمران )

 كلُّ شيء يبدو جليًّا حين العرض على الله:

 انظر إلى كلمة زحزح، الشيء ثقيل تزحزحه، أما الشيء الخفيف فتنقُلُهُ، النقل سهل، أما الطاولة الكبيرة والثقيلة جداً تزحزحها، لأن الزحزحة هذا فعل ثنائي مضعف، للشيء الثقيل.

﴿ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾

 أيها الإخوة الكرام، في الدنيا الأوراق متداخلة، والآن في أي حي تجد أُناسًا كثيرين يسكنون البيوت، يأكلون ويشربون، ويتمتعون، وينامون، ويسافرون، ويتاجرون، ويربحون، ويقيمون الولائم والحفلات والأعراس، إلخ، بعضهم مؤمن، بعضهم منافق، بعضهم يعصي الله، بعضهم مؤمن بالآخرة، الأوراق متداخلة، أما حينما يُفْرَزُ الناس إلى فريقين مؤمنٍ وكافر، مستقيمٍ ومنحرف، طائعٍ وعاصٍ، محسن ومسيء، مخلص وخائن، حينما يفرزون، وحينما يتعذَّب أهل النار بالنار، وحينما ينعم أهل الجنة بالجنة، قال عليه الصلاة والسلام لرجل:

 

((كيف أصبحت يا زيد ؟ قال: أصبحت مؤمناً ورب الكعبة، قال: إنَّ لكل شيءٍ حقيقة، فما حقيقة إيمانك ؟ قال: أصبحت وكأني بأهل الجنة يتنعَّمون، وبأهل النار يتصايحون، فقال عليه الصلاة والسلام: عبدٌ نور الله قلبه بالإيمان عرفت فالزم))

 

[ ورد في الأثر ]

 إدراكه الدقيق والعميق نقله إلى المصير، فإذا رأيت إنسانا يسرق ويرتكب الجرائم، تقول: هذا نهايته إلى حبل المشنقة، هذا ليس علم غيب، ولكن علم بالقوانين، فهذا الصحابي الجليل رأى أهل الجنة في الجنة يتنعَّمون، فشاب يحضر مجلس علم، يضبط جوارحه، يضبط عمله، ضبط لسانه، يصدق ولا يكذب، يتحرَّى الحلال، ينفق ماله في طاعة الله، يبحث عن امرأةٍ صالحة ينجب منها أولاداً طيبين، هذا الشاب الذي يتحرَّى الحلال هذا مصيره إلى الجنة، فكأني بأهل الجنة يتنعمون ؛ وإنسان من ملهى إلى ملهى، ومن معصية إلى معصية، ومن فجور إلى فجور، يأكل ما ليس له، يعتدي على الناس بلسانه، ينهش أعراضهم، هذا إلى النار مصيره، فلذلك ليست هناك تجارة على وجه الأرض تربح كالتجارة مع الله عزَّ وجل.
 إن الإنسان لما يطلب على عمله الصالح أجرا يكون قد أخذ أبخس الأجور، فإذا خدمت إنسانا، خدمت مؤمنا، علمته القرآن، علمته شيئا، وتقاضيت أجراً، هذا الأجر إذا قيس بما أعدَّه الله لك فهو أبخس الأجر، فكلما كان إيمانك بالله أكثر تدخره عند الله عزَّ وجل، فتجد المؤمن يبني حياته على العطاء، حياته كلها عطاء، لأنه يطمع برحمة الله، يرجو ما عند الله، المؤمنون يرجون رحمته، ويخافون عذابه.

﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾

( سورة القصص: الآية 61 )

 لو لاحظت إنسانا إيمانه بالآخرة ضعيف، أو إيمانه بالآخرة معدوم، لا يتحرك حركة بلا أجر، لا ينطق بكلمة بلا نسبة، بلا عمولة، بلا مكسب، أما المؤمن فيخدم الناس جميعاً، ويبتغي بخدمتهم وجه الله عزَّ وجل، ويبتغي بخدمتهم القُرب من الله عزَّ وجل.
 محور درس اليوم: التجارة مع الله، رأس مالك الصحة، والأمن، والفراغ، والكفاية، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مِحْصَنٍ الْخَطْمِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

 

((مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا ))

 الدنيا بحذافيرها، ولا تندم على شيءٍ فاتك من الدنيا، لأنك إذا أردت الخير بحذافيره فكن مع الله.
 " ابن آدم اطلبني تجدني،ىفإذا وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء ".

 

 العمل الذي ينتهي عند الموت لا قيمة له:

 هذه التجارة مع الله رأس مالها معروف، بقي على الإنسان يتحرك برأس ماله حركة ينتج عنها ربح فائض على رأس المال، فما قولك بإنسان ينفق من رأس ماله !! كالذي معه مليون ليرة يمكن بتجارة معقولة لرأس مال ينتج له مئة ألف مثلاً، أما لو بدأ ينفق من رأس ماله إلى أن انتهى ؟! لكن هذه الحالة أن تنفق من رأس مالك كيف نفهمها ؟ فالإنسان يعيش، ويأكل، وينام، دخل إلى مركز عمله، حقق ربحا، اشترى طعاما، لبس الثياب، ذهب في نزهة، أقام وليمة، هذا الوقت يستهلكه، هذا الذي ينفق الوقت استهلاكاً هو يأكل من رأس ماله، لأن رأس مالك هو الوقت، والوقت محدود، والإنسان بضعة أيام، كلما انقضى يومٌ انقضى بضعٌ منه، فما هي إلا أيام تمضي، سنوات تمضي، عقود تمضي، فإذا نعيه على الجدران، انتهى رأس ماله، استهلك عمره استهلاكا رخيصا، يقول لك: أكلنا وشربنا ولبسنا، وسكنا، وعمَّرنا، وتاجرنا، وربحنا، وزوجنا أولادنا، ثم انتهى، فماذا فعلت للآخرة ؟ فهذا الذي يمضي الوقت في المباحات، دعك من المعاصي والآثم، أنا أتحدَّث عن المباحات، لم تقترف معصية، إلا أن هذا الوقت استخدمته، وأمضيته فيما لا يعود عليك خيره بعد الموت، فالموت حد، وأيّ حركة في الأرض إن عملتها تنتهي عند الموت فهذه من الدنيا، وأي حركة إن استمرَّت بعد الموت هذه للآخرة.
 لو تعلمت القرآن لِما بعد الموت، لو أمرت بالمعروف، ونهيت عن المنكر، لو علمت القرآن، لو ضبطت كل جوارحك، لما بعد الموت.
 عندنا قاعدة: العمل الذي ينتهي عند الموت من الدنيا، ولا قيمة له مهما كان جليلاً، والعمل الذي يستمر أثره إلى ما بعد الموت هو من الآخرة، من هو الرابح ؟ هو الذي يعمل عملاً يستمر أثره إلى ما بعد الموت.
 لذلك التجارة مع الله أن تنفق الوقت إنفاقاً استثمارياً، لا إنفاقاً استهلاكياً، أن تنفق الوقت بعملٍ يعود عليك خيره بعد انقضاء الزمن، وحينما يموت الإنسان ينتقل فجأةً من بيتٍ فخمٍ إلى حفرةٍ صغيرة، من كل شيء إلى لا شيء، هذا لا شيء مبدئياً، أما ينتقل من كل شيء إلى المحاسبة على كل شيء، من هنا العلماء فرَّقوا بين الرزق والكسب، الرزق ما انتفعت به فقط، والكسب ما كان في حوزتك، ولم تنتفع به، وسوف تحاسب عليه.
 أيها الإخوة الكرام، لا تسمحوا للدنيا أن تستهلكم، لأن الله عزَّ وجل قال:

﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا ﴾

( سورة الفرقان: الآية 63 )

 أحياناً عمله يستهلكه، من عمل إلى عمل، من صفقة إلى صفقة، من تجارة إلى تجارة، جاءه خبر مؤلم جداً فأصابه بجلطة ومات، من تشعبت به الهموم لم يبال الله بأي أوديتها هلاك، تجده يموت بسبب تافه جداً، أما المؤمن الذي اقتطع من وقته الثمين وقتاً لمعرفةً الله هو الذي يمشي على الأرض هوناً، لا يسمح للدنيا أن تستهلكه، لا يسمح لهموم المعاش أن تسحقه، لا يسمح لمتاعب الدنيا أن تصرفه عن الآخرة، إن لله عملاً في الليل لا يقبله في النهار، فلذلك العبد المؤمن يمشي على الأرض هوناً، يتأمَّل، يفكر، وتجد شخصا مسحوقا بالهموم، الهموم كابوس سحقته حتى العَظْم، أما المؤمن فيعرف الله عزَّ وجل، يرضى من الدنيا بالقليل، لكن يطمع في الآخرة بالكثير، ما هي التجارة ؟

﴿ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ ﴾

 رأس مالها عمركم، رأس مالها الوقت الذي أنتم فيه، ظرف أعمالكم، رأس مالها الصحة، رأس مالها الفراغ، رأس مالها الأمن، رأس مالها الكفاية، هذا رأس المال.
 الربح الأولي:

 

﴿ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾

 هناك دفعة ثانية تأتي بعد قليل.
 لكن ما هذه التجارة ؟ قال تعالى:

 

﴿ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾

( سورة الصف: الآية 11)

 تُؤْمِنُونَ بِاللَّه

 1 ـ الإيمان مرتبة عالية:

 بربكم، الإنسان ما فكر لحظة في حياته أن يؤمن بالله ؟ هذا الشيء الذي يأتيك عفو الخاطر.
 كنت أحضر عقد قِران، وسمعت كلمة من خطيب: حضرت خطبة الجمعة، ولحقت بالركعة الأخيرة، هذا السلوك لا يصنع إيماناً، هل هناك إنسان في الأرض صار طبيبا من دون جامعة، من دون دوام، من دون قراءة، من دون متابعة، من دون مذاكرة، هذا مستحيل، مرتبة الإيمان مرتبة عالية جداً، وهناك مَن يدرس ثلاثا وثلاثين أو أربعين سنة، حتى يضاف لاسمه حرف الدال، دكتور، أحياناً ينسون أن يضعوها فينزعج أشد الانزعاج، يقولون له: الأستاذ فلان، فيقول: أنا دكتور، وليس أستاذا، كأنهم أهانوه، ثلاث وثلاثون دراسة لكي يضاف إليه حرف الدال، وهذه تنتهي عند الموت، أما لكي تكون مؤمنا فهذه مرتبة إلهية، هذه تنفعك إلى أبد الآبدين، هذه مرتبة أخلاقية، هذه مرتبة علمية، مرتبة جمالية، المؤمن أسعد الناس، والمؤمن عالم، وما اتخذ الله ولياً جاهلاً، والمؤمن أخلاقي، فاسعَ من أجل أن تسعى إلى مرتبةٍ تنفعك إلى أبد الآبدين، أما مرتبة الدنيا فيقولون لك: ثلاث وثلاثون سنة، سبع سنوات الدكتوراه، الأطروحة في ألف صفحة، ناقشوني فيها بسنة، من أجل أن يقال لك في الدنيا: دكتور، وعند الموت ينتهي كل شيء، أما كلمة مؤمن:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾

 فهذه مرتبة قرآنية، هذه مرتبة يمنحها الله لعباده الصالحين، هذه مرتبة تنفعك بعد الموت إلى أبد الآبدين، ألا تحتاج إلى وقت ؟
 يقول لك بعضهم: ليس عندي وقت، إذاً عندك وقت لأي شيء ؟ إذا لم يكن عندك وقت تعرف ربك فيه، ما عندك وقت لكي تعرف كلامه، تعرف منهجه، تعرف سنة رسوله، تعرف سير رسوله، تعرف أحكام الفقه، إذا لا وقت عندك لكي تعرف دينك.

 

((ابن عمر، دٍينك، دينك، إنه لحمك ودمك ))

 

[ كنز العمال عن ابن عمر ]

 2 ـ الإيمان يحتاج إلى علم وجهد ومذاكرة:

 كيف تنجو من عذاب الله ؟ كيف تعرف الحق من الباطل والخير من الشر ؟ وما ينبغي، وما لا ينبغي ؟ هل يمكن لإنسان أن يتقن شيئًا من دون جهد ؟ هل يمكن لإنسان لكي يلقي كلمة أمام ألف شخص، أو مئة شخص، ولا يكون متقنا للغة العربية ؟ يقول لك: إلى أن أخذنا الليسانس كذا سنة، وما مِن إنسان يصل إلى شيء إلا وقد بذل جهدا كبيرا، كيف قنع الناس في الإيمان بالسماع، سماع عشوائي، حضور عشوائي، تلقي عشوائي بلا تركيز، بلا متابعة، بلا تدقيق، بلا تأمُّل، فالله عزَّ وجل قال:

﴿ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾

 هناك جلسات لابد أن تجلسها، جلسات تفكر، جلسات تأمل، جلسات مذاكرة، أن تجلس على ركبتيك في مجلس علم، أن تقرأ القرآن، أن تفهم القرآن، أن تعمل بالقرآن، أن تنطق بالقرآن، أن تفهم شرح النبي الكريم لهذا القرآن، أن تعرف سنته، سيرته، أحكامه الشرعية، هذا وقت أساسي جداً، ولا شيء يعلو على هذا الهدف أبداً.
 أحياناً إنسان مشغول جداً غارق في أعمال لا تنتهي، لا سمح الله ولا قدر يصاب بمرض، يحتاج إلى مداواة، إلى تصوير، إلى تحليل، إلى أن يستشير أطباء، أو إلى أن يسافر، تجده قد ترك كل أعماله، وجَمَّد كل مواعيده، وألغى كل برامج أعماله، يقول لك: هذا جسم، عين، قلب، يترك كل أعماله من أجل الحفاظ على سلامة قلبه، أو على سلامة عينيه، أو على سلامة عضو من أعضائه الأساسية، فتجده قد ألغى كل مواعيده، ألغى كل برامج أعماله، ألغى كل لقاءاته، ومن أجل أن تحافظ على آخرتك التي لا تنقضي إلى أبد الآبدين ألا يحتاج أن تقتطع من وقتك وقتا لمعرفة الله ؟ فلا يكفي أن تحضر مجلس علم، يجب أن تتابع، يجب أن تذاكر الدرس.
 الإنسان يتلقى أحياناً، وليس هناك امتحان، ولا مسؤولية، فينسى، أما لو أنك جلست بعد الدرس مع أهلك، مع أصدقائك، مع إخوانك، راجعت ماذا قيل في هذه الآيات حتى ترسخ، من أجل أن تملكها، أنت الآن لا تملكها، كل شيء تستمع إليه من دون جهد لا تملكه، وقد يحضر الإنسان ثلاثين سنة، ويسمع ثلاثين سنة دروسًا، يقول لك: والله لا أذكر شيئاً، والله دروس جميلة، وليس متذكرا منها شيئًا، لكن لو اضطر أن يتكلم كلمة، فليس عنده شيء ليقوله، أما لو راجع الدرس، يقرأ الآيات، يتذكر ماذا قيل في هذه الآيات، يكتب كلمتين، سمع حديثا كتبه، سمع آية كتبها، هذا عنده شيء يتكلم به، جلس في المجلس فتكلم كلاما أثر في الآخرين، شعر أنه عمل عملا، فالإيمان يحتاج إلى وقت، وإلى جهد، وإلى مركز علمي، وإلى منهل علمي، وإلى مصدر علمي، وإلى كتاب تقرأه، وإلى إنسان تذاكر معه، هذا معنى:

 

﴿ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾

 تجده يؤمن بالله، وليس في سلوكه ما يشير إلى ذلك، وإبليس يؤمن بالله، قال:

 

﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾

( سورة ص )

 لكنه هو إبليس، أنا أريد إيماناً بالله يرقى بك إليه، إيماناً بالله يحملك على طاعته، إيماناً بالله يسعدك بقربه، إيماناً بالله يبعدك عن معصيته، هذا الإيمان مطلوب.

﴿ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾

 وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ

 الآن هناك شيء ثان:

﴿ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ﴾

( سورة الصف: الآية 11 )

 1 ـ مواطن المجاهدة:

 المجاهدة فيها بذل جهد، صلاة الفجر في جماعة، غض البصر والنساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، والنفس تشتهي أن تنظر، وضبط لسان، وضبط دخل، الدخل مضبوط، أحياناً يأتيك المال وفيراً من طريقٍ حرام فتقول: معاذ الله إني أخاف الله رب العالمين، تؤْثر دخلاً قليلاً نظيفاً طاهراً حلالاً على دخلٍ كثيرٍ مشبوه، ففي هذا جهد، فالجنة لها ثمن باهظ، ولا تجد إنسانا ينام إلى الساعة الثانية عشرة فيستيقظ ومعه الدكتوراه، يقول لك: متنا، ولا يوجد إنسان يصبح تاجراً كبيراً وهو نائم، بل الناجحون في الحياة بذلوا جهدا كبير جداً، هذا في الدنيا، فكيف في الآخرة.

﴿ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾

 لابد من وقت لتطلب فيه العلم، تقتطع من وقتك وقتا ثمينا، والآن أكثر الناس يحضر درس علم إذا كان لديه وقت فراغ، والأصل وجود برنامج في الحياة، أما المؤمن فبالعكس، يبرمج حياته وفق مجالس العلم، هذا الوقت لله، درس الجمعة لله، درس الأحد لله، درس الاثنين لله، الخطبة، يبرمج حياته، مواعيده، لقاءاته، حتى نزهاته، يبرمجها وفق مجالس العلم، لأنه يطلب سلسلة، آية وراء آية، حديثا وراء حديث، موضوعا وراء موضوع،.
 أولاً:

 

﴿ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾

 هل عرفت رسول الله ؟ هل عرفت أمره ونهيه ؟ لما يقول ربنا لك:

 

﴿ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾

( سورة الحشر: آية 7 )

 هل عرفت أمره ونهيه ؟ كيف تطبق هذه الآية إن لم تعرف أمره ونهيه ؟

﴿ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾

 يجب أن تؤمن بالله خالقاً، بالله رباً، بالله مسيِّراً، بالله موجوداً، بالله واحداً، بالله كاملاً، أن تؤمن بأسمائه الحُسنى، وصفاته الفضلى.
 هذه الآية دقيقة جداً إخواننا الكرام، تحتاج إلى وقت، إلى جهد، إلى مكان، إلى منهل علمي، إلى مصدر موثوق..

 

﴿ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾

 

( سورة الصف: آية 11)

 يجب أن تعرف الله، وأن تعرف رسول الله، لأنه أخبرك عن الله، وبيَّن لك آيات الله، وبيَّن لك أحكام الشرع، افعل ولا تفعل، والآن هناك جهد، وإيمان، وسماع، وتأَمُّل، وتفكُّر، ودراسة، ومتابعة، ومذاكرة، ووقت، ومكان، ومعلِّم.

﴿ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾

 وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ

 2 ـ المجاهدة حركة تكليفية منتقضة للطبع:

 الآن هناك حركة.. 

﴿ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ ﴾

( سورة الصف: الآية 11)

 دفع زكاة، وغض بصر، وصدق، وضبط لسان، وضبط جوارح، هذه هي المجاهدة، وأحكام التكليف دائماً تتناقض مع طبع الإنسان، فالطبع يدعوك إلى أن تنام، والتكليف يأمرك أن تستيقظ كي تصلي، والطبع يدعوك إلى أن تنظر، والتكليف يأمرك أن تغض البصر، والطبع يأمرك أن تتحدث عن قصص الناس، والتكليف يأمرك أن تسكت، فكل التكاليف تتناقض مع الطبع، وهذا من أجل أن ترقى.
 أحياناً التكليف يأمرك بأن تكسب الحلال، والحلال صعب وقليل، بينما الطبع يدعوك إلى أن تكسب الحرام الكثير، فجأةً تشتري بيتا فخما، ومركبة فخمة، وبيتا في المصيف، وتعمل، وتلبس أرقى اللبس، فتبدو أمام الناس عظيما، غنيا، لكن مِن دخل حرام، هذا الطبع يدعوك إلى ذلك، أما التكليف فيأمرك بتحري الحلال:

 

((من بات كالاً مِن طلب الحلال بات مغفوراً له ))

 

[ الجامع الصغير عن أنس، وفي سندع ضعف ]

 لما تخالف طبعك، وتتقي الله عزَّ وجل فهذا السلوك يتوافق مع الفطرة، فترتاح، وتسعى.
 الطبع بادئ ذي بدء يناقض التكليف، والتكليف يوافق الفطرة، فتجد المؤمن سعيدا، دخل الامتحان فنجح فيه، عندئذٍ يؤتيك الله الدنيا والآخرة معاً.

﴿ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ﴾

( سورة الصف: آية 11 )

 3 ـ الجمع بين المجاهدة بالمال والنفس:

 أحياناً الإنسان يجاهد بماله، فيعطي مئة ألف للجامع الفلاني، ومئتي ألف للمحل الفلاني، وللميتم خمسمئة ألف، شيء جميل، بارك الله بك، وكَثَّرَ من أمثالك، ونفع بك، نقول له: الآن غض بصرك، يقول لك: هذه صعبة، والله لا أقدر عليها، هذه فوق طاقتي، معنى ذلك أنه ما جاهد بنفسه، لكنه جاهد بماله، ولم يجاهد بنفسه وهواه.

﴿ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ﴾

 العمل الصالح مقبول، وله عند الله شأن كبير، لكن ما أجمل أن يجمع الإنسان بين بذل المال وطاعة الله في النفس، قال تعالى:

﴿ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾

( سورة الصف )

 ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ

 إن رأيتم هذا هو الخير فأنتم علماء، وإلا فأنتم جُهَلاء، إن رأيتم التجارة مع الله هي أربح تجارة، إن رأيتم حمل النفس على طاعة الله هو العمل الصحيح، هو الخير المُطْلَق، إن رأيتم إن طاعة الله من يفعلها يفوز فوزاً عظيماً فهذا هو الذي يعلم، ومن رأى أن في معصية الله فوزاً فهو الذي يجهل، أنت بكل بساطة لو أن إنسانا يحمل أعلى شهادة في العالم يرى المغنم في المعصية فهو مدموغ بالغباء والجهل، وإنسان آخر يرى أن طاعة الله عزَّ وجل هي الفوز العظيم، وأن القرش الحلال هو الشيء السليم، وأن ضبط الجوارح هو أعظم ما عند الله عزَّ وجل، هذا هو العالم، لذلك:

﴿ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾

 الآن ثمن آخر لهذه التجارة مع الله، أول ربح.

 

﴿ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾

 

( سورة الصف: الآية 10 )

 التجارة:

 من أثمان التجارة مع الله:

﴿ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(11)يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾

( سورة الصف )

 إذاً: نجاةٌ من عذابٍ أليم، ومغفرةٌ للذنوب جميعاً، ودخول جنةٍ عرضها السماوات والأرض فيها ما لا عين رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

 وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ

 شيء آخر في الدنيا قبل الآخرة..

﴿ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ ﴾

( سورة الصف )

 فصار الثمن مؤَجَّلا ومُعَجَّلاً، فالنصر في الدنيا ثمن معجل، وفتحٌ قريب، وفي الآخرة نجاةٌ من عذابٍ أليم، ومغفرة الذنوب، ودخول جنةٍ عرضها السماوات والأرض، هذا إذا كنتم:

 

﴿ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾

 

( سورة الصف )

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ ﴾

( سورة الصف: الآية 14 )

 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ

 معنى: نصرة الله:

 الله عزَّ وجل غنيٌ عن أن ننصره، لكن نصرة دينه نصرٌ له، أن تنصر دينه، إذا طبَّقت أمره نصرت دينه، إذا أمرت بالمعروف نصرت دينه، إذا أقمت الإسلام في بيتك نصرت دينه، إذا أقمته في عملك نصرت دينه، إذا تواصيتم بالحق نصرتم دينه.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ ﴾

( سورة الصف: الآية 14 )

 فحسب السؤال:

﴿ مَنْ أَنصَارِي ﴾

 ينبغي أن يكون الجواب: نحن أنصارك، لكم الله قال:

﴿ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ ﴾

( سورة الصف: الآية 14 )

 لأنك إذا نصرت النبي نصرت الله، وإن خذلته وقعت في إثمٍ كبير، لأن الأنبياء والمرسلين والدعاة الصادقين ليس لهم نفسٌ يعملون لها، هم يبتغون وجه الله عزَّ وجل، فلذلك:

 

﴿ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ ﴾

 

 فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ

 آمنت طائفة بسيدنا عيسى عليه السلام ونصرته، وكفرت به طائفة.

 فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ

﴿ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ ﴾

( سورة الصف )

 محور الدرس:

 إخواننا الكرام... محور هذا الدرس:

 1 ـ المتاجرة مع الله:

 أولاً: أن نتاجر مع الله، لأنها أربح تجارةٍ على الإطلاق، ورأس مالها بين أيدينا، والآن إذا قال لك واحد: هناك ربح طائل، ولكن لا يوجد معنا رأس مال، فأي مشروع يحتاج إلى خمسة أو ستة ملايين، عشرة ملايين، مئة مليون، فيه ربح، ولكن هل معك مئة مليون رأس مال ؟ لكن هنا يوجد رأس مال، ألا تعيش ؟ ألست سليماً معافى ؟ أليس لديك وقت فراغ ؟ هل أنت ملاحق ؟ لست ملاحقاً، بل تتمتع بنعمة الأمن، ونعمة الصحة، ونعمة الفراغ، عندك قوت يومك فقط ؟ نعم، والصحة والفراغ، والأمن، هذا هو رأس مالك، وتعيش.

 2 ـ الربح:

 الربح: النجاة من عذابٍ أليم، ومغفرة الذنوب جميعاً، ودخول جنةٍ عرضها السماوات والأرض.

﴿ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ ﴾

 هذا كلام ربنا، كلام خالق الكون.

﴿ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ ﴾

( سورة التوبة: الآية 111 )

﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثًا ﴾

( سورة النساء )

﴿ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾

( سورة التوبة )

 3 ـ نصرةُ الله:

 شيء آخر، يجب أن تكون نصيراً لله عزَّ وجل، فإن صلَّيت نصرت الله، أذَّنَ المؤذن فدخلت وصليت، شيء جميل جداً، كنت صادقاً، أمرت بالمعروف، نهيت عن المنكر.
 توفي عالم في منطقة الزبداني، ولم يبق في كل هذه البلدة وما حولها إنسان إلا وخرج في جنازته، ماذا فعل ؟ هذا العالم أي إنسان أجرى عُرسا مختلطا يقاطعه مقاطعةً تامة، إلى أن ألغى هذه البدعة في المنطقة، ذكروا لي عنه أشياء لطيفة جداً، كان صادقا ومخلصا مع الله عزَّ وجل، فأنت انصر الحق، لا تجامل إنسانا منحرفا منحلا أخلاقياً، ولا تعظمه أمام الناس، ولا تمدحه.
 أحياناً يكون لأحدنا أخ بعيد عن الدين بعدا كبيرا، لا يزال يثني عليه، وعلى لطفه، وعلى ذكائه، وعلى غناه الشيء الكثير، ضاع الناس، " إن الله ليغضب إذا مُدِحَ الفاسق "، انصر دين الله عزَّ وجل، أقم حدود الله، أقم الإسلام في بيتك، وإذا نصرت رسول الله فقد نصرت الله..

﴿ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14) ﴾

 خاتمة:

 أيها الإخوة الكرام هذه السورة مباركة، ويمكن أن تحفظ، وأن تتلى في الصلاة، والإنسان دائماً يذكر هذه التجارة، وكل يوم يحاسب نفسه حسابا دقيقا، ماذا فعلتُ من تجارتي مع الله ؟ فالرأس المال معك موجود، الرأس المال معك تملكه، صحتك وفراغك، وأمنك وكفايتك، ماذا تفعل بهذا الوقت ؟ ماذا تفعل بهذه الصحة ؟ هل صلَّيت بها ؟ هناك إنسان يسترخي، يتمتع، يفعل ما لا يرضي الله، يستخدم صحته، وفراغه، ونعمة الأمن، وكفايته فيما لا يرضي الله عزَّ وجل، فلذلك الإنسان بضعة أيام، كلما انقضى يومٌ انقضى بضعٌ منه، والإنسان زمن، والزمن إما أن ينفق استهلاكا، وإما أن ينفق استثمارا.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور