وضع داكن
20-04-2024
Logo
الدرس : 3 - سورة الطور - تفسير الآيات 29-49 - الدعوة إلى الله فرض عين على كل مسلم
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

أمر الله عز وجل للنبي الكريم بتذكير الناس مهما استخفوا بدعوته:


 أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس الثالث من سورة الطور، ومع الآية التاسعة والعشرين، وهي قوله تعالى:

﴿ فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31)﴾

[ سورة الطور  ]

أولاً فذكِّر أمرٌ من الله عز وجل للنبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ما مسوِّغ هذا الأمر؟ أي مهما أساؤوا إليك، ومهما استخفوا بدعوتك، ومهما عارضوك، ومهما كذبوك، أنت عليك أن تُذكِّر. 

﴿ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22)﴾

[ سورة الغاشية  ]

أنت لا تملكهم، لكن ذكِّرهم، ذكَّر أي فعل أمر موجه إلى النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمكن أن ينسحب إلى المؤمنين، وأنت أيها المؤمن فذكِّر، ذكِّر مَن حولك، الإنسان مهيأ للهدى، مهما رأيته متلبساً بمعصية عليك أن تذكره، لا تدري لعل كلمة تقع موقِعاً حسناً في قلبه، لعل قضية تعالجها تفعل فيه فعل السحر، ﴿ فذكر﴾ المؤمن يُذكّر لذلك: 

(( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو  : أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً ، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائيلَ وَلا حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ».))

[ صحيح البخاري ]

  

التدين فطرةٌ في الإنسان يحتاج إلى تذكرة:


ذكرتُ اليوم أن الدعوة إلى الله تكون تارة فرض عين، وتارة فرض كفاية، فرض العين فيما أنت تعلم، في حدود ما تعرف، دون أن تزيد، لا يوجد إنسان مسلم إلا ويحضر خطبة الجمعة، لأنها فرضٌ عيني على كل مسلم. عن أبي الجعد الضمري:

(( مَن ترك ثلاثَ جُمعٍ تَهاونًا بِها طبعَ اللَّهُ علَى قلبِه. ))

[ صحيح النسائي ]

إذًا لابد من أن تلتزم خطبة الجمعة، في هذه الخطبة أليس فيها آية؟ حديث؟ حُكْم؟ موعظة؟ لا يمكن، لو أنك حفظت تفسير آية، أو شرح حديث، أو موقف صحابي، وفي خلال الأسبوع في أي لقاء، في أي اجتماع، في سهرة، في ندوة، في سفر، في وليمة، ذكّر، يريد القرآن الكريم أن يكون في حياتنا، الله عز وجل وجَّه النبي عليه الصلاة والسلام أن يذكِّر، لكن كلمة (ذكّر) ماذا تعني؟ أنت إذا رأيت منظراً، ثم ذُكّرت به، ما معنى ذُكّرت به؟ رأيته من قبل، وهذا الكلام هو تذكرة، يذكرك بشيءٍ رأيته، أغلب الظن أن التدين مودع في الإنسان في فطرته، يحتاج إلى تذكرة، النفس مصممة على الإيمان، مصممة على أن تعرف الله، تحتاج إلى تذكير. 

 

صلح الإنسان مع الله أساسه كلمة طيبة:


صدقوني أيها الإخوة أن هناك حالات من الإيمان والتوبة تلفت النظر، إنسان غارق في كل المعاصي، كلمة صادقة من إنسان صادق قلبته رأساً على عقب، حملته على التوبة، فلو استمعت إلى أيّ أخ كيف تعرف إلى الله، كيف تاب إلى الله، كيف اصطلح مع الله، لا تعجب أن يكون صلحه مع الله أساسه كلمة طيبة، كلمة طيبة صادقة، مخلصة، قال لك: فذكِّر، لك ابن ذكِّر، لك أخ ذكِّر، لك جار ذكِّر، لك شريك ذكِّر، صديق سفر ذكِّر: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ﴾ الله سبحانه يأمر النبي عليه الصلاة والسلام أن يذكِّر، وأنت يجب أن تقتدي بالنبي عليه الصلاة والسلام وتذكر، نحن في شهر المولد، والشام كلها احتفالات في عيد المولد، شيء جميل جداً، لكن الأجمل من ذلك أن تقتدي برسول الله، وأن تقتفي أثره، لأن الله سبحانه وتعالى لا يقبل إدعاء حبه إلا بطاعة رسوله:

﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)﴾

[ سورة آل عمران ]


من أراد بعمله وجه الله امتد أثر عمله لما بعد الموت:


من اتباع النبي عليه الصلاة والسلام أن تذكِّر، أن يكون لك لسان صدق، طبعاً ما من إنسان إلا له أخ، أو ابن، أو جار، أو قريب، أو صاحب، أو شريك، إلا وله صاحبٌ عابر في سفر، ليس له اجتماع، سهرة، دور كما يقولون، ندوة، نزهة، وليمة، حفلة، لك أقرباء، ولك أصدقاء، وهناك مناسبات كثيرة، بدل أن يكون الحديث عن الدنيا فذكِّر، النبي عليه الصلاة والسلام أُمِر أن يذكِّر، وأنت كمؤمن أُمرت أن تذكر، لكن لما تذكِّر ويجري اللهُ عز وجل على يديك الخير، ويقدر على يديك هداية إنسان، هذه التجارة الرابحة، هذا معنى قوله تعالى: 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11)﴾

[ سورة الصف ]

دائماً عندنا نقطة؛ اجعل الموت هو الحد الفاصل، أي عمل يستمر إلى ما بعد الموت، هذا العمل العظيم، هذا العمل الرابح، هذا العمل المجدي، هذا العمل الذي تسعد به، هذا العمل الذي يدل على عقل راجح، هذا العمل الذي ترقى به، هذا العمل الذي تطمئن به، وأيّ عمل ينتهي عند الموت هذا للدنيا، الإنسان عمله المهني لو أراد به وجه الله، وخدمة المسلمين، وكفاية نفسه، امتد أثره إلى ما بعد الموت.


  النية محصلة إيمان الإنسان:


أما النية فقضية معقدة جداً، النيةُ محصلة إيمانك، النية محصلة توحيدك، النية محصلة جهودك التي بذلتها في طريق الإيمان، كلما كنت متفوقاً في الإيمان ارتقت نواياك، إذا ارتقت نواياك صارت المباحات عند المؤمن عبادات، صار عمله عبادة، ظروفه مع أهله عبادة، لقاؤه مع إخوانه عبادة: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ﴾ والله عز وجل قال: 

﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)﴾

[ سورة البقرة ]

(( عنْ أَبي هُريرةَ، أنَّ رسُولَ اللَّه قالَ:  يقُولُ اللَّه تَعالى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعهُ إِذَا ذَكَرَني، فَإن ذَكرَني في نَفْسهِ، ذَكَرْتُهُ في نَفسي، وإنْ ذَكَرَني في ملأ، ذكَرتُهُ في ملأ خَيْرٍ منْهُمْ. ))

[ متَّفقٌ عليهِ ]

إذاً: إذا قال الله عز وجل: يا أيها النبي اتق الله، أيْ أيها المؤمن اتق الله، إذا قال الله عز وجل: وتوكل على الله، أي أيها المؤمن توكل على الله، وإذا قال الله عز وجل: فذكّر يا محمد، أنت أيضاً ذكِّر، لكن أنت يجب أن تذكر كفرض عين، في حدود ما تعلم، أما الله عز وجل فقد قال:  

﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)﴾

[ سورة آل عمران ]

هذا الفرض الكفائي.

 

كل إنسان يحتاج إلى تذكرة صادقة مخلصة:


الأمة بحاجة إلى دعاة كبار، إلى متخصصين، إلى متبحرين، هذا فرض كفاية، أما فرض العين في حدود ما تعلم، يجب أن تُذكر في حدود ما تعلم، دون أن تزيد على ما تعلم، ذكِّر، والإنسان إذا ذكّر، وعُلِم الله منه الصدق، ليس بعيداً أن يجري الله على يده الخير، وكلمة (ذكّر) تعني أن الإنسان بفطرته وبأصل تكوينه مؤمن بالله، لا يحتاج إلا إلى تذكرة.

مثلاً إذا رأى إنسانٌ مدينة معينة، سافر إليها، ثم غاب عنها ثم أريناه صورتها، يقول: نعم، نعم زرتها، أعرفها، الإنسان يحتاج إلى تذكرة صادقة، مخلصة، منيبة. 

 

دعوة الله النبي الكريم بأن يُذكّر الناس رغم الاتهامات التي اتهموه بها:


﴿ فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29)﴾

[ سورة الطور ]

﴿الكاهن﴾ هو الذي يتلقى عن الجن، والشياطين أحياناً يؤذون الإنس فيصابون بالجنون، الشيطان في هاتين الكلمتين قاسم مشترك، إما أن الكاهن يتلقى عن الجن، وإما أن شياطين الجن تؤذي هذا الإنسان فيصبح مجنوناً، فالله سبحانه وتعالى يسلِّيه أنْ يا محمد لو أنهم قالوا لك: كاهن، وذكِّر، لو قالوا: مجنون، ذكِّر، لو قالوا: شاعر، ذكِّر، لو قالوا: ساحر، ذكِّر، لذلك المؤمن لا تلين قناته، ولا يُغير مواقفه، لأن هدفه الله عز وجل: ﴿فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ﴾ ضربت مثلاً، لو كان معك خمس كيلوات من الذهب الخالص، والناس قالوا: هذا ليس بذهب، هذا معدن خسيس، فمن الرابح؟ أنت الرابح، ولو قالوا عن هذا المعدن ما قالوا، أنت عندك خمس كيلوات من الذهب الخالص، هم يدّعون أنه معدن خسيس، كلامهم لا يجعله خسيساً، كلامهم لا يبدل ولا يغير، لو أنك لا تملك إلا المعدن الخسيس وبذكاء بارع أوهمت الناس أنه معدن نفيس فأنت الخاسر الوحيد، أي أنت الرابح إذا كان معك الذهب الخالص، وأنت الخاسر إذا كان معك المعدن الخسيس، لا إقناعك للناس بأن ما عندك من الذهب الخالص يجعله ذهباً خالصاً ولا اتهام الناس لك بأن ما عندك من معدن هو معدن خسيس يجعله خسيساً، أنت الرابح، وأنت الخاسر.

 

لا يقطف الإنسان ثمار الدين إلا إذا طبقه كله:


﴿فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ﴾ إذا كان الإنسان يسكن في بيتٍ مريح جداً، وقال أحدهم: هذا البيت صغير، وهو كبير، كلمة صغير تجعله صغيراً؟ لو أنكَ تأكل أطيب الطعام، وقال لك: هذا الطعام طعمه غير مستساغ، هل هذه الكلمة تجعل الطعام غير مستساغ؟ الكلام لا يصنع شيئاً، الكلام يُعبر عن حقيقة، أو عن وهم، الكلام الخبري يقال لصاحبه: صادق أو كاذب، فأنت حينما أمر الله النبي عليه الصلاة والسلام أن تذكِّر عليك أن تذكر: ﴿فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ﴾ .

في الحقيقة الإنسان إذا قطف ثمار الدين لا يتأثر بأقوال الناس إطلاقاً، لكن متى يتأثر؟ يتأثر بتصغير الناس لشأنه، يتأثر بتشكيك الناس في صدقه، يتأثر بطعن الناس له، إذا كان هو ليس يقطف ثمار الدين، أي إذا كان هناك خلل ثمار لا يوجد، من خصائص هذا الدين أنه ينبغي أن تأخذه كله، حتى تقطف ثماره، إن أخذت بعضه قد لا تستفيد، فلذلك: خذ بعضه وأتمم بعضه الآخر، لا نقول لمن يأخذ بعض الدين: دع هذا البعض، هذا كلام غير شرعي إطلاقاً، نقول: أتمم أتمّ الله عليك.

 

اتهام الناس النبي الكريم بأنه كاهن أو مجنون أو شاعر:


﴿ فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30)﴾

[ سورة الطور ]

الشاعر أيضاً في التصور الجاهلي له شيطان يقتبس منه، الشاعر نفسه، وقالوا: شياطين الشعر، والشعراء حينما يبدعون تارة، ويتلكؤون تارة أخرى، هذا الإبداع والتلكؤ سببه فيما يظنون ويتوهمون أن الشاعر جاءه شيطانه فأبدع، فلما غاب عنه شيطانه تلكأ، لأنه يوجد عند الشعراء وكل أصحاب الأعمال الفنية ساعة إبداع، وساعة تلكؤ، فالعرب بالجاهلية تصوروا أنّ لكل شاعر شيطانًا، فإذا كان معه أبدع، وإذا غاب عنه تلكأ: ﴿أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ﴾ أي يأتي الموتُ ويريحنا منه.

 

من نشأ في طاعة الله تألق في آخر عمره:


جاء الجواب الإلهي: ﴿قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ﴾ وأنا أتربص بكم، وسوف ترون لمن العاقبة، ولمن المستقبل. الله عز وجل يقول:  

﴿ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)﴾

[ سورة الأعراف ]

(( عن سهل بن سعد الساعدي:  إنَّ العبدَ ليعمَلُ فيما بينَ الناسِ -وقال ابنُ عبدِ الباقي: فيما يَبْدو للناسِ-بعمَلِ أهلِ الجنَّةِ، وإنَّه لمِن أهلِ النارِ، وإنَّ العبدَ ليعمَلُ فيما بينَ الناسِ بعمَلِ أهلِ النارِ، وإنَّه لمِن أهلِ الجنَّةِ، وإنَّما الأعمالُ بالخواتيمِ. ))

[ أخرجه البخاري ]

والعبرة لمن يضحك أخيراً، والعاقل من يهتم بخريف عمره، لا بمقتبل عمره، قد يستوي الناس جميعاً في شبابهم، أما التفاوت الكبير في خريف حياتهم، من لم تكن له بداية محرقة لم تكن له نهاية مشرقة، من لم ينشأ في طاعة الله ويشكل حياته تشكيلاً إسلامياً ربما تعب كثيراً في خريف عمره، وأفضل شيء لدى الإنسان أنْ يطبِّق أوامر الله في سن مبكرة، عندئذ في الأعم الأغلب سيختار زوجة مسلمة صالحة، وسيختار عملاً شريفاً، فلو جاء إيمانه وصلحه مع الله متأخراً، وقد شكّل حياته تشكيلاً غير إسلامي، هناك متاعب لا تحصى، لذلك هنيئًا لمن نشأ في طاعة الله، هذا له خريف عمر متألق. 

 

العاقبة للمتقين:


﴿ فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31)﴾

[ سورة الطور ]

 لو درسنا تاريخ الإسلام في بدايته، أصحاب النبي الذين آزروه، ونصروه، وأيدوه، وقاتلوا معه، ووضعوا أرواحهم على أكفهم، نصراً له، والذين عارضوه، وكذبوه، وائتمروا على قتله، وإخراجه، والتنكيل بأصحابه، قبل أن يأتي يوم القيامة أين هؤلاء الذين عارضوه وكذبوه؟ أين مقاماتهم التي تُزار؟ هل رأى أحد منكم مقاماً لأبي جهل بمكة؟ أين مقاماتهم التي تُزار؟ في مزبلة التاريخ، أما أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام الذين نصروه، وأيدوه ففي أعلى عليين، في مقام رفيع، فالعبرة للخاتمة، العبرة لمن يضحك آخراً، العاقبة للمتقين، دائماً الإنسان عليه أن يضم الآخرة إلى الدنيا، أو عليه أن يضم نهاية الحياة مع بدايتها، أما إذا نظر إلى البداية قد يتوهم أن المتفلت أسعد من المنضبط، وأن الغني الذي جعل غناه من مال حرام أسعد من الفقير الذي تورع عن المال الحرام، أما إذا ضممت آخر الدنيا إلى أولها، أو ضممت الآخرة إلى الدنيا تختلف الموازين. 

 

الخطأ الكبير الذي يرتكبه الناس موازنة حياة الكافر مع حياة المؤمن:


ذكرت مرة أن راكب دراجة يسير على طريق مستوٍ، واجه طريقين، طريقاً نازلاً، معبداً، تحفه الأشجار والورود، والرياحين، وطريقاً صاعداً وعراً، فيه الصخور، وفيه الأكمات، وفيه المتاعب، طبعاً راكب الدراجة يختار الطريق النازل، ويبتعد عن الطريق الصاعد، لو كان في نهاية الطريق الصاعد قصرٌ منيفٌ، لمَن يصله، وفي نهاية الطريق النازلة حفرة سحيقة لمن يصل إليها، والآن نقول لك: اختر، يختلف الأمر، إذا ضممت الحفرة مع الطريق المريحة، وضممت القصر مع الطريق الصاعد، تختار الطريق الصاعد، وهكذا الدنيا، هذه حقيقتها.

الخطأ الكبير الذي يرتكبه بعض الناس أنّهم يوازنون حياة الكفار مع حياة المؤمنين، الحقيقة ينبغي أن تضم إلى حياة الكفار مصيرهم، وينبغي أن تضم إلى حياة المؤمنين مصيرهم الذي وعدهم الله به، نظريا طبعاً، لا على شخص معين، إنسان انضبط، خاف من الله، تعرف إليه، رجا قربه، رجا طاعته، ضبط دخله، ضبط إنفاقه، ضبط جوارحه، ضبط أولاده، زوجته، الذي ضبط وكان في الدنيا قليلَ ذاتِ اليد كما يقولون، والذي تفلت فأصبح غنياً، لا توازن هذا بهذا، إن أردت أن توازن ضُمَّ الآخرة إلى الدنيا ووازن، ضُمّ آخرة المنضبط إلى دنياه ووازن، وضُمّ آخرة المتفلت إلى دنياه ووازن، لذلك قال سيدنا علي: الغنى والفقر بعد العرض على الله.

 

المؤمن خطه البياني صاعد:


﴿أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31)﴾ لذلك الله عز وجل أمر المؤمنين أن يقولوا للكافرين: 

﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)﴾

[ سورة التوبة ]

هل في الآية بشارة؟ نعم البشارة من كلمة ﴿ لنا﴾، ﴿ لنا﴾ تفيد التملك، الشيء الثمين هو الذي يُمَلك، لا تجد إنسانًا يملك عقرباً، يقول: أنا عندي خمسة عقارب، الشيء الثمينُ هو الذي يملك، تُمَلك الذهب، تُمَلك الفضة، تُملك الجواهر، اللآلئ، الله عز وجل قال: 

﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)﴾

[ سورة البقرة ]

الشيء الثمين، الخير، الجيد لها، والوزر، والإثم، والعقاب عليها، فحينما قال الله عز وجل: 

﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)﴾

[ سورة التوبة ]

معنى هذا أنّ المؤمن خطه البياني صاعد، ولو اقتضى التأديب أحياناً والتربية أن ينزل هذا الخط، لكن المحصلة النهائية أنّه صاعد، ينزل ثم يصعد، يتابع صعوده. 

 

إذا أحبّ الله عبداً ضيق عليه ليحاسب نفسه على كل خطأ:


المؤمن مفتون ومبتلى، والله عز وجل يحاسبه، وربما حاسبه حساباً عسيراً، لأنه مظنة صلاح، الإنسان يحاسب المتفوق على خطأ طفيف، إذا أحبّ الله عبده ابتلاه، فإن صبر اجتباه، فإن شكر اقتناه.

(( إذا أراد اللهُ بعبدٍ خيرًا عجّل له عقوبتَه في الدنيا، وإذا أراد به شرًا أمسك عنه عقوبتِه فيردُ القيامةَ بذنوبِه. ))

[ فتح الباري لابن حجر: حكم المحدث: صحيح ]

‏إذا أحبّ الله عبده عاتبه في منامه، إذا أحبّ الله عبداً ضيق عليه. قال النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أنزل الله جبريل في أحسن ما كان يأتيني في صورة فقال: إن الله تعالى يقرئك السلام يا محمد، ويقول لك: إني أوحيت إلى الدنيا أن تمرري وتكدري وتضيقي وتشددي على أوليائي كي يحبوا لقائي" .

أنت مخلوق للآخرة؛ فإذا كنت في الدنيا مرتاحاً راحة تامة كرهت لقاء الله عز وجل، الحكمة تظهر لك بعد حين: ﴿قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ﴾ .

 

الإنسان حينما يطغى لن يستجيب للحق:


لا تنتظر أن يأتي العقاب لمؤمن، انتظر أن يأتي العقاب لغير المؤمن، لأن الله سبحانه وتعالى يقول: 

﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)﴾

[ سورة الجاثية ]

العرب أو قريش بالذات مشهورة في جاهليتها أن زعماء قريش أصحاب عقول راجحة، يقول الله عز وجل: هذا التكذيب، وذاك الرد، وهذا الاتهام بأن النبي ساحر، وشاعر، وكاهن، ومجنون، هذا الاتهام من صنع عقولهم الراجحة؟ هكذا تأمرهم عقولهم؟ ﴿أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ﴾ هل تستنبطون من هذه الآية شيئاً؟ لماذا لم تأمرهم أحلامهم أن يؤمنوا؟ أن يصدقوا؟ أن يستسلموا؟ أن يخضعوا؟ قال:  

﴿ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53)﴾

[ سورة الذاريات ]

 

الطاغي يأبى عقله أن يعترف بالحق:


الإنسان إذا طغى، اختلَّ توازنه النفسي، فإذا اختلّ توازنه النفسي، لا يستطيع أن يعيد هذا التوازن إلا برد الحق، لو قَبِل الحق وكان مخالفاً لتعليمات الحق يزداد اختلال توازنه، أما حينما يتهم أهل الحق بالكذب، أو بالجنون، أو بالغيبيات، فهذا الاتهام يُحقق له توازنه، لذلك الإنسان حينما يطغى قد لا يستجيب للحق. 

﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)﴾

[ سورة القصص ]

﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2)﴾

[ سورة الماعون ]

هو نفسه، لذلك لو أنهم لم يكونوا قوماً طاغين لأمرتهم أحلامهم بالإيمان بالله ورسوله، لكن لأنهم قوم طاغون، عقولهم أبت أن تعترف بالحق: ﴿أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ﴾ .

 

اتهام الكفار بأن القرآن الكريم ليس من عند الله بل هو كلام النبي:


الآن الله عز وجل خاطب الفطرة خطاباً رائعاً، أعطى الإنسان كلَّ الافتراضات ورد عليها:

﴿ أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)﴾

[ سورة الطور  ]

أيْ هذا الكلام ليس كلام الله، النبي جاء به من عنده، افتراه على الله، القرآن من صُنع النبي عليه الصلاة والسلام، كان عبقرياً فذاً فكتب كلاماً استحوذ على قلوب الناس به: ﴿أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ أي لم أجد مثلاً أوضح لهذه الآية مما لو أَطلعت إنسانًا على قطعة ماس من أعلى مستوى، قال لك: هذه بلور، كيف يقول عن الماس إنه بلور؟ لأنه لا خبرة له إطلاقاً في هذا الموضوع، ما قال هذه الكلمة إلا لأنه عديم الخبرة، لو كان خبيراً لما قال: هذا الماس بلور.

 

التوضيح والتبيين والتنوير من لوازم الإله الكامل:


﴿أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ﴾ أي اقرؤوا القرآن، لو وقفوا عند صيغته، ونظمه، وإعجازه، ودقة أحكامه، وتوافق أحكامه مع طبيعة النفس، لو تأملوا هذا الكتاب، لما قالوا: تَقَوَّل، ما من شيء في الإنسان أقبح من أن يمزق رسالة قبل أن يقرأها، موقف قبيح وغبي أن تمزق رسالة قبل أن تقرأها، هذا الذي يقول إنّ هذا الكلامَ كلامُ محمدٍ، هل قرأ القرآن؟ هل تدبر آياته؟ هل شاهد إعجازه؟ إعجازه العلمي، والتشريعي، والتاريخي، والبلاغي، واللغوي، والحسابي، هل وضع يده على إعجاز القرآن الكريم؟ ثم يقول: تقَوَّل، ﴿أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ لأنهم ما آمنوا بأن لهذا الكون خالقاً عظيماً، لا يمكن أن يدع الناس من دون هدى.

مثلاً هل تجد أباً يبقى ساكتًا أولاده يتحركون بلا منهج بلا خطة لا يتدخل؟ أب يجلس ويرى ابنه الصغير يقترب من المدفأة، يبقى ساكتًا؟ أي التوضيح، والتبيين، والتنوير، هذا من لوازم الإله الكامل، الإله الكامل الذي خلق فأبدع لابد أنه نوَّر الناس وهداهم إلى طريقة سعادتهم، فلذلك ترى الإنسان حينما لا يؤمن ينكر أن يكون هذا الكلام كلام الله، أما إذا آمن يرى أن هذا الكلام من لوازم الخالق، من لوازم كمال الخالق أن ينذر، وأن يحذر، وأن يبين، وأن يضع منهجاً.

 

تحدي الله عز وجل للناس جميعاً:


شركة محترمة تصنع آلة بالغة التعقيد، النشرة التي ترفق بالآلة من أخطر ما في الآلة، طريقة التشغيل والصيانة، طريقة أن تؤدي الآلة العمل بأعلى مستوى، أن تأخذ منها أعلى مردود، أي الشركة المحترمة لا تُرسل الآلة إلا معها تعليمات، أحياناً تلاحظ كثيراً من الآلات لها تعليمات بالغة الدقة والوضوح، مأخذ الكهرباء مغلق، مختوم، ومكتوب عليه 220، أو 110، لئلا تقع في غلط، فكلما كان رقيٌّ في الصناعة كلما ارتقى التوجيه، كلما ارتفع مستوى الصناعة ارتفع مستوى التعليمات، تعليمات دقيقة جداً، مرة قال لي أخ: برنامج كمبيوتر عادي مؤلَّف من 1100 صفحة، كتاب تعليماته 1100 صفحة، أيُعقل برنامج تعليماته وطرق تشغيله وميزاته بهذا الحجم؟ كلما ارتقت الصناعة ارتقتْ معها التعليمات، فالله عز وجل هو الخالق المبدع، من لوازم كماله أن ينزل على أنبيائه كتباً، ومنهجاً، ودستوراً، وتوجيهاً.


القرآن معجزة مستمرة إلى يوم القيامة:


إذاً: 

﴿ أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34)﴾

[ سورة الطور  ]

لعل أكبر دليل قطعيٍّ على أن هذا كلام الله هو إعجازه، وَاللَّهُ عز وجل تحدى الناس جميعاً.

﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)﴾

[  سورة الإسراء ]

هذا الإعجاز، أي إذا قلت لي: ما الدليل على أن هذا القرآن كلام الله؟ أقول لك: إعجازه، والإعجاز يحتاج إلى تأمل، وإلى تدبر، طبعاً المجال لا يتسع الآن لبيان الإعجاز، هناك إعجاز إخباري من غيب الماضي، وإعجاز من غيب الحاضر، وإعجاز من غيب المستقبل، وهناك إعجاز علمي.

في القرآن الكريم إشارات كل عصر النبي لا يمكن أن يصل إليها إلا بعد ألف عام أو أكثر، بعد أعوام طويلة، بعد مئات السنين، بعد 1500 عام ظهرت حقائق العلم التي تكشف إعجاز القرآن، لذلك القرآن معجزة مستمرة، إذا كانت معجزات الأنبياء حسية كعود الثقاب تألقت مرة واحدة وانطفأت، وأصبحت خبراً، يصدقه من يصدقه، ويكذبه من يكذبه، فإن إعجاز القرآن مستمر إلى يوم القيامة، كلما تقدم العلم كشف جانباً من إعجازه. 


  كل شيءٍ خلقه الله من زوجين:


﴿ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49)﴾

[ سورة الذاريات ]

من كل شيء، ما كان أحد يعرف أن الجماد فيه ذرات، وشحنتها موجبة تارة، وسالبة تارة أخرى، حتى الجماد تجد أنّ بين النواة وبين الكهارب تبايناً في الشحنات، هنا شحنات موجبة، وشحنات سالبة، حتى النبات، كله ذكر وأنثى، والحيوان كذلك، والإنسان كذلك: ﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ﴾ الله عز وجل قال: 

﴿ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)﴾

[ سورة يس ]

كل شيءٍ خلقه الله يَسْبَح في فلك، بدءاً من الذرة وانتهاء بالمجرة، نظام الكون أنّ ذرة تدور حول أخرى في مسار مغلق، هذه الدورة ينتج عنها قوة نابذة تكافئ القوى الجاذبة، ولولا ذلك لاجتمع الكون كله في كتلة واحدة، هذه آية ثانية: 

﴿ وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46)﴾

[ سورة النجم ]

الآن أثبت العلم أنّ كون المولود ذكراً أو أنثى لا يتعلق بالبويضة إطلاقاً، يتعلق بالحوين فقط، أي يتحدد جنس المولد من خصائص الحوين فقط: ﴿وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى(45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى﴾ .

 

القرآن الكريم إعجاز علمي وتربوي وبلاغي:


كذلك: 

﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)﴾

[  سورة الحج ]

لِمَ لمْ يقل الله عز وجل من كل فج بعيد؟ قال: من كل فج عميق؟ لأننا نحن على كرة، وكلما ابتعدنا عن إحدى نقاطها نشأ مع المسافة بعد ثالث، عمق: ﴿وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾  لم يكنْ في عهد النبي ما يسمى بأشعة الليزر التي تقاس بها المسافات بدقة بالغة، قاسوا البُعْدَ بين الأرض والقمر على مستوى المليمترات بأشعة الليزر، الآن ثبت أنّ أخفض نقطة في الأرض على الإطلاق غور فلسطين، والمعركة التي جرت بين الفرس والروم كانت بحسب التاريخ في غور فلسطين، قال تعالى: 

﴿ غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3)﴾

[ سورة الروم ]

﴿فِي أَدْنَى﴾ أي في أدنى مكان من الأرض، ما كان أحد يعرف هذه الحقيقة، إذًا هناك إعجاز علمي، وهناك إعجاز فلكي، وهناك إعجاز تاريخي، وهناك إعجاز بلاغي، وهناك إعجاز تربوي، فلذلك: ﴿أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ﴾


  كل شيءٍ في الكون يحتاج إلى مُحدث:


الآن: 

﴿ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35)﴾

[ سورة الطور  ]

طبعاً ؛ هذه الآية فسَّرها علماء العقيدة؛ أنّ في الكون واجبَ الوجودِ وهو اللهُ، ممكنُ الوجود وهو الكونُ، ومستحيلُ الوجود، ممكن الوجود فلا يمكن أن يكون إلا بمحدث، كل شيءٍ حديث يحتاج إلى محدث قديم، الشيء الذي لم يكن قديماً يحتاج إلى من يوجده: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ﴾ العقل لا يقبل، والفطرة تأبى: ﴿أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾ كيف خلقوا أنفسهم؟ أي كانوا قبل أن يُخلقوا؟ كذلك لا يقبل العقلُ ذلك.  

 

عدم قبول العقل بأن الإنسان خلق نفسه:


﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾ طبعاً هذه الآية تشير إلى واجب الوجود، وإلى ممكن الوجود، وإلى مستحيل الوجود، الإنسان كم حالة؟ كم افتراض يوجد؟ إما أنه خلق من غير شيء، وهذا يرفضه العقل لأنه شيء حادث، والحادث سبقه عدم، وكل شيء سبقه عدم يحتاج إلى محدِث، مرفوضٌ، ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾ إذا كان قد خلق نفسه مخلوق قبل نفسه؟ كيف خُلق ثم خلق نفسه؟‍‍‍! أيضاً العقل لا يقبل هذا.

 

عدم قدرة الإنسان على امتلاك خزائن السماء:


﴿ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ (36)﴾

[ سورة الطور  ]

هل يستطيع أحد الآن في عصر الكفر، والإلحاد، والتفلت، والضلالات، هل هناك جهة في الأرض تدّعي أنَّها خلقت الشمس أو القمر؟ لا أحد يقول هذا، من يستطيع أن يدّعي أنه خلق السماوات والأرض؟

﴿ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ (37)﴾

[ سورة الطور  ]

أي إذا كانت السماء شحت بالأمطار هل يمكن لأكبر لجنة في الأرض أنْ تجتمع وتعقد اجتماعاً هامًّاً وتتخذ قراراً بإنزال مطر؟ قرار موقّع من الجميع، ولا يطعن فيه أحدٌ، لا تقدر، هل عند الناس خزائن السماء؟ 

 

الله تعالى وحده المسيطر على كل شيء:


الله عز وجل سلّط على الناس الآن فيروس الإيدز، العالم كله في حيرة، سبعة عشر مليون إنسان مصاب بالإيدز، والسلسلة ليست هندسية بل انفجارية، والعلم يعجز عن وضع مصلٍ لهذا الفيروس، ثم اكتشفوا أن له سلالات، فإذا صرفوا ألوف الملايين لوضع مصل لهذا الفيروس هناك سُلالة أخرى تحتاج إلى ألوف أخرى، فلذلك على أي شيء الإنسان مسيطر؟ هل يملك الإنسان أن يضمن عدم اهتزاز الأرض؟ خمس درجات على مقياس ريختر يصير كلُّه في الأرض، يقول لك: 5 ريختر، بناء 14 طابقاً صار أنقاضاً، والزلازل موجودة في الأرض، في آسيا، في أوروبا، في إفريقيا، في المغرب، مدينة أغادير على الساحل الأطلسي بثوانٍ معدودة أصبحت تحت الأرض كلها، فندق من30 طابقًا، بقي منه الطابق الأخير، وكأن هذا الطابق الأخير الذي عليه اسم الفندق صار شاهدة لهذا القبر: ﴿أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ﴾ أكبر محطة بترول في بحر الشمال، قالوا عنها: إنّها مدينة، مدينة أنشؤوها في البحر، مهبط طائرات، ومكاتب، حطَّمها موجٌ عاتٍ، ناقلة نفط تحمل مليون طن أحياناً يأتي موج كالجبال فيشطرها شطرين، باخرة تيتانيك قالوا عنها: إن القدر لا يستطيع أن يغرقها، غرقت في أول رحلة لها، ولها قصة مثيرة جداً.

 

الله سبحانه بيده تصريف كل شيء:


﴿أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ﴾ الآن في المغرب يوجد جفاف كبير جداً، وجفاف قبل سنوات في أوروبا، قبل سنوات كان عندنا جفاف، تجد في العالم منطقة تموت من العطش، أين المطر؟ اتّخذوا قرارًا بإنزال المطر؟ منطقة تموت من الفيضانات: ﴿أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ﴾ تملك الرياح؟ إعصار واحد يدمر كل شيء، هناك أعاصير في أمريكا لا تبقي ولا تذر، كان هنا مدينة، كلها أنقاض، لا أشجار ولا أبنية ولا شيء، هل نملك الرياح نحن؟ أحياناً عاصفة رياح واحدة قلعت 130 بيتًا زراعيًا في الساحل، عاصفة واحدة في وقت قصير، أحياناً صقيع يتلف النبات كله، هل نملك الحرارة نحن؟ قبل أعوام على الساحل على البحر بلغ سُمكُ الثلج ثمانية سنتيمترات، والدرجة 9 تحت الصفر، على ماء البحر، لا نملك شيئاً، لا نملك  الحرارة ولا البرودة، موجة حر واحدة مات بسببها 380 شخصًا ألمَّت بأمريكا قبل أسابيع، لا يملك البرد ولا الحر ولا الماء ولا الهواء ولا الجراثيم، أبداً.

﴿أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ﴾ أحياناً تأتي حشرة تقضي على كل المحصول، ذبابة أحياناً، تعجز عنها كل الفئات العلمية أن تكافحها، الذبابة البيضاء، الإنسان ضعيف، إذا اعترف بضعفه صار قوياً.


  عدم قدرة الإنسان الاستماع إلى وحي السماء:


﴿ أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38)﴾

[ سورة الطور  ]

أي أنتم ترفضون هذا الوحي، هل عندكم طريقة لأخذ خبر السماء من غير هذا الطريق؟ هل عندكم من يستمع إلى وحي السماء؟ ﴿فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾ .

 

ادعاء العرب في الجاهلية أن الملائكة هن بنات الله:


ثم إن العرب كانت تحتقر البنات في جاهليتهم ألم يقل الله عز وجل: 

﴿ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)﴾

[ سورة التكوير ]

فكان العرب في جاهليتهم ينسبون الملائكة، ويتوهمون أنهم بنات الله. 

﴿ أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39)﴾

[ سورة الطور  ]

ثم إن هذه الدعوة هل يطالَبَون بأجر عليها؟ الإنسان عند طبيب يدفع، يهيئ الرسم أو الأجرة، عند المحامي يهيئ، عند المهندس يهيئ، لا يجرؤ إنسان أن يدخل إلى محل تجاري أو إلى عيادةَ طبيب أو إلى مكتبَ محامٍ إلا ومعه المال المخصص، لكنه يدخل المسجد من دون رسمِ دخول، ومن دون رسم شهري، ومن دون رسم اشتراك، وليس على المحاضرة أجرةٌ، لا يوجد شيء.

 

الإسلام لا يطالب الإنسان بشيء إلا بحسن العاقبة:


﴿ أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40)﴾

[ سورة الطور  ]

الإنسان أحياناً حتى يعصي الله يؤدّي الكثير من النقود، مثلاً ليلة رأس السنة الميلادية على الشخص 1500 ليرة سورية، للمعصية أجر باهظ جداً، حتى يسمع لهو الحديث يوجد أجر باهظ، أرقام كلها خيالية، أجرة المغني خمسون ألف دولار من بلد أجنبي مثلاً، لكن الإسلام لا يطالبك بشيء من هذا إطلاقاً، كلُّه من غير مقابل. 


الغيب بيد الله وحده:


﴿ أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41)﴾

[ سورة الطور  ]

هل مِن جهة أرضية تستطيع أن تكشف الغيب؟ هذا الذي حصل في شرق العالم، انهيار دول عظمى، مَن كان يتنبأ بهذا؟ والله لو تنبأ أحدٌ بهذا لأُدخل إلى مستشفى الأمراض العقلية، بعد حين هذه القلعة الشامخة من قلاع الكفر أصبحت كبيت العنكبوت، من يتنبأ بهذا؟ 

 

الكافر في قبضة الله لا يتحرك إلا بإذنه:


﴿ أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42)﴾

[ سورة الطور  ]

الكافر لا يصنع الكيد، يقع عليه الكيد، هو موضوع الكيد ليس صانع الكيد، الله جلّ جلاله هو الذي يُدبر، أما الإنسان فيُدبّر له: ﴿أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ﴾ أي الكافر في قبضة الله، أيْ إذا أراد أن يتحرك فبإذن الله، الله سمح له أن يتحرك، في أية لحظة يصبح في قبضة الله، لا يَلْوِي على شيء.  

﴿ أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)﴾

[ سورة الطور  ]

 

سورة الطور الآية الوحيدة التي تطرح كل الشبهات وترد عليها:


لا أعتقد أنّ في كتاب الله مجموعة آيات متتابعة تطرح كل الشبهات وترد عليها كلها مجتمعة.

﴿ أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)﴾

[ سورة الطور ]

 

العاقل من يعدّ العدة ليوم القيامة:


﴿ وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطاً يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ(44)﴾

[ سورة الطور ]

 قد يكون هذا الكسف الساقط بلاء كبيراً، قالوا بسذاجة: سحاب مركوم.

﴿ فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45)﴾

[ سورة الطور  ]

دقق نظرك في هذه الآية: ﴿فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ﴾ العاقل يتهيأ لهذا اليوم، يُعد العدة له، يُعد له استقامة، يُعد له طاعة، يُعد له إنفاقاً، يُعد له شوقاً، يُعد له حباً، العاقل، لكنّ الإنسان إذَا انغمس في الدنيا، وأعرض عن ذكر الله عز وجل حينما يأتي ملك الموت معلناً قرب أجله، يُصعق.


اهتمام الكافر بالدنيا لا ينفعه عندما يأتي ملك الموت:


﴿ فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46)﴾

[ سورة الطور  ]

كل تدبيرهم، واهتمامهم بالدنيا، وعنايتهم بها، والعناية ببيوتهم وأعمالهم، وضبط أمورهم، وتأمين أرصدة كبيرة جداً، للمفاجآت، كل هذا الذي أعدوه لشيخوختهم لا ينفعهم شيئاً عندما يأتي ملك الموت. 

﴿ يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47)﴾

[ سورة الطور  ]

عذاب في الدنيا، لهم عذاب في الدنيا، وعذاب في الآخرة.  

 

المؤمن الحق في أعلى درجات العناية والحفظ والتأييد:


﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48)﴾

[ سورة الطور  ]

هذه الآية خاصة بالنبي عليه الصلاة والسلام، ولكل مؤمنٍ نصيبٌ منها على قدر إيمانه، وعلى قدر استقامته، وإخلاصه، الله عز وجل قال لسيدنا موسى: 

﴿ أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)﴾

[ سورة طه ]

﴿ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)﴾

[ سورة طه ]

وقال للنبي عليه الصلاة والسلام: ﴿فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾ أي في أعلى درجات العناية، أعلى درجات الحفظ، والرعاية، والتأييد، والتوفيق، وكل مؤمن مستقيم، محب لله عز وجل، يشعر أن الله معه، وهو في محنته يشعر أن الله معه، ولن يخيب ظنه، ولن يسلمه لأحد، ولا يتخلى عنه.  

 

طاعة الله ثمنها التأييد والرعاية والحفظ:


﴿فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾ قدِم الطاعة فقط، وانتهى الأمر، قَدِم الطاعة وانتظر أن ينطبق مضمونُ هذه الآية أو بعضها عليك: ﴿فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾ برعايتنا هذا معنى قول الله عز وجل: ﴿أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ قال: هذه معية خاصة، معية بالتأييد، والنصر، والحفظ، والتوفيق: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾ أحياناً الحكم غيرُ واضحٍ، لو كان واضحاً لمَا احتاج إلى صبر.

 

امتحان الله لعبودية الإنسان ليعرف صدقه واستسلامه له:


قد يجلس المريضُ على كرسي طبيب الأسنان، ويعلم علم اليقين أنّ هناك إبرة بنج، وسوف تغرز في لثّة أسنانه، وهناك ألم محقق، لأنه يعلم حقيقة ما سيجري، والحكمة مما يجري، لا يقال لهذا: اصبر، أما يقال لإنسان: اصبر إذا كان الحكُم غيرَ واضحٍ، فاللَّهُ أحياناً يمتحن عبوديتنا له بقدر غير واضح، لأنه غير واضح تظهر عبوديتنا واستسلامنا له، وصدقنا في محبته، لذلك قال سيدنا علي: الرضا بمكروه القضاء أرفع درجات اليقين : ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾ هذه مشيئة الله، هكذا أراد الله، هذا قرار الإله، هذا حكم الله، فالمؤمن الذي يعرف حكمة الله ويعرف أن كل أفعاله حكيمة يصبر.


على الإنسان أن يسبح ربه بكرة و أصيلاً:


﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)﴾

[ سورة الطور  ]

أي إذا قمت من فراشك فسبِّح بحمد ربك، إذا قمت إلى عمل فسبِّح بحمد ربك، وإذا أويت إلى الفراش فسبِّح: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ﴾ وإذا استيقظت إلى صلاة الفجر فسبحه، أي سبحه ليلاً ونهاراً:

﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)﴾

[ سورة الطور  ]

 والحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور