وضع داكن
25-04-2024
Logo
الدرس : 6 - سورة محمد - تفسيرالآيات 24-28 - قراءة القرآن قراءة تعبد وقراءة تدبر
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس السادس من سورة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلَّم.

العاقل من تدبر آيات القرآن الكريم و فهم معانيه:


 مع الآية الرابعة والعشرين وهي قوله تعالى:

﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا(24)﴾

[ سورة محمد ]

 أيها الإخوة تدبّر الشيء: نظرَ إلى عاقبته ومؤدَّاه، أو نظرَ إلى ما ورائه والقُبُل مُقدَّم الإنسان والدُبُر عكس القُبل، فنظر إلى دبر الشيء أي: نظر إلى نتائجه، نظر إلى ما ينتج عنه من نفعٍ أو من ضُر، تدبَّر الأمر نظر إلى عواقبه، تدبَّر آيات القرآن الكريم نظر إلى هذا الأمر ورأى الخير الذي ينتج عن تطبيقه، ونظر إلى هذا النهي ورأى الشر الذي ينتج عن اقترافه، فالإنسان عليه أن يقرأ القرآن، ولكن عليه أن يتدبر آيات القرآن الكريم، إذا كان الله جلَّ جلاله توعَّد المُرابين بحربٍ من الله ورسوله، فكيف يجرؤ عبدٌ على أكل الربا وقد توعَّده الله بحرب؟ ما معنى تدبر هذه الآية؟ إن الله سبحانه وتعالى في قرآنه الكريم، وفي آيةٍ مُحكَمةٍ واضحةٍ قطعية الدلالة تؤكد أنّ من يقترف هذه المعصية فالله سبحانه وتعالى سيدمره.

على الإنسان أن يقرأ القرآن تعبداً و تدبراً:


 التدبر أن تقرأ الأمر وأن تعرف من هو الآمر، وما هي النتائج؟ أن تقرأ النهي وتعرف من هو الناهي وما هي النتائج؟ فانطلاقاً من حبك لذاتك، وانطلاقاً من حبك لوجودك ولسلامة وجودك، ولكمال وجودك، ولاستمرار وجودك تَدَبَّرْ آيات القرآن الكريم، تفحَّصِ الحلال وكيف أن النفس تطيب به، وتدبر آيات الحرام وكيف أن النفس تُحرَم به من السعادة، تدبرْ آيات الأمر وكيف أن الأمر  أصل كل خير، تدبر آيات النهي وكيف أن النهي ضمانٌ من الوقوع في الهلاك، تدبر آيات الكون وكيف أنها السبيل لمعرفة الله عزَّ وجل، تدبّرْ مشاهد يوم القيامة وأن الله سبحانه وتعالى وعد المؤمنين بالجنة ووعد الكفار بالنار.

﴿ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ ۗ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)﴾

[ سورة النساء  ]

 فهذا الكتاب الذي هو من عند خالق الكون ألا يستأهل أن تقرأه قراءة تدبر؟ قراءة تمعُّن، قراءة تبصُّر، قراءة تأمُّل، قراءة فَهْم، قراءة بحث، قراءة درس، فأحياناً الإنسان يتأمل مادة بمرسوم، ماذا يقصد الوزير؟ أيسمح بالاستيراد؟ لا يسمح، لو أنه سُمِح لأصبحنا فوق الريح هكذا يقول، أم لهذا السماح قيد يا ترى؟ من أجل مصالحك الدنيوية تقرأ القرار مرة ومرتين وثلاثاً وتسأل خبراء وأشخاصاً لهم خبرة، وأصدقاء، وزملاء، بعد ذلك تنتظر المرسوم التفسيري، لأن هذا الأمر يتعلق بمصالحك المادية، ولكن مصيرك في الآخرة متعلق بهذا الأمر والنهي.

تأكيد الله عز وجل على قراءة التدبر:


 لذلك فالقرآن الكريم يُقرَأ تعبُّداً، ويُقرَأ تدبُّراً، قراءة التعبد غير قراءة التدبر، قراءة التعبد تشعر براحة نفسية حينما تقرؤه وبسرور، كلام الله من أي بابٍ أتيته تسعد به، لو أنك قرأته تسعد به، حفظته تسعد به، فهمته تسعد به، لكن الله سبحانه وتعالى يؤكِّد على التدبُّر.
﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ إلهٌ في عليائه يأمرك بغض البصر، ليس هذا في الحديث الشريف فحسب بل في نص القرآن الكريم أيضاً، فالإنسان حينما يمشي في الطريق ويملأ عينيه من الحرام، ما موقفه مع الله؟ مكشوف، كيف يتوازن؟ كيف يقدر أن يرتاح نفسياً؟ هل يأمن مكر الله عزَّ وجل؟ هل يأمن عقابه؟ لما الإنسان تمتد يده لمال حرام، والله عزَّ وجل قال:

﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ(188)﴾

[ سورة البقرة ]


التدبر يوصل الإنسان إلى عاقبة كل أمر يريد أن يفعله:


 خالق الكون بآيةٍ واضحةٍ، صريحةٍ، بيّنةٍ، محكمةٍ، قطعية الدلالة يقول: ﴿وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ ورد في الحديث الشريف أنه:

((  مَا آمَنَ بِالْقُرْآنِ مَنِ اسْتَحَلَّ مَحَارِمَه.  ))

[  الترمذي بسند ضعيف ]

 أنت مع كتاب خالق الكون، فضل كلام الله على كلام خلقه كفضل الله على خلقه ، التدبر: هذا الأمر لو أنني طبَّقته ما العاقبة؟ الله عزَّ وجل قال:

﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)﴾

[  سورة النحل ]


من أراد الدنيا و زينتها عاش عيشة ضنكاً:


 قال لك:

﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ(124)﴾

[  سورة طه ]

 أردتَ الدنيا، أردت زينتها، أردت الملاهي، أردت الأصدقاء، أردت الاختلاط، أردت اقتراف الذنوب، أردت المُتَع الرخيصة ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا﴾ خالق الكون الذي بيده كل شيء يقول لك: ﴿فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا﴾ معيشة كلها متاعب، كلها إحباطات، كلها إخفاق، كلها تعسير، كلها ضيق نفسي، ضيق على تعسير على إحباط على قهر على حرمان ﴿فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا﴾

ضيق القلب عاقبة المعرض عن ذكر الله:


 قد يقول قائل: هؤلاء الذين ينعمون بأموالٍ كثيرة ومراتب عالية ما علاقتهم بهذه الآية؟ أجاب المفسرون: ضيق القلب، لو أنك تملك المال الوفير والجاه العريض.
﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا﴾ وإذا أردت فابحث، اذهب إلى هؤلاء الذين هم في نظر الناس في أعلى قِمَم النجاح المادي، المالي، الاقتصادي، ادخُل في صميم حياتهم ﴿فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا﴾ .

التدبر كلمة تتضمن عدة معان منها:


1ـ قراءة القرآن الكريم و فهم معانيه:

 التدبر أن تقرأ كتاب الله، أن تقرأ الآية، أن تفهم معناها الدقيق، أن ترى ما النتيجة التي تتأتّى من تطبيقها، وما الخطر الذي يتأتّى من مخالفتها، فالإنسان قد أعطاه الله عزَّ وجل فكراً، هو أثمن ما في حياة الإنسان، هذا الفكر لماذا يعمل في الدنيا؟ لكسب المال، والإيقاع بين الناس، يعمل في الكيد بين الخلائق، لِمَ لا يعمل هذا الفكر في فهم كلام الله، في التدبر؟ 

2 ـ النظر إلى النتائج:

الله يقول: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾ التدبر أن تنظر إلى النتائج، نتيجة الطاعة، نتيجة المعصية، ماذا بعد الحياة الدنيا، ما معنى أن يدخل الإنسان جهنم؟ الإنسان يتدبَّر الآية، أَيُطيق لهب شمعةٍ على إصبعه، اعمل للدنيا بقدر بقائك فيها، واعمل للآخرة بقدر مُقامك فيها، واتقِ الله بقدر حاجتك إليه، واتقِ النار بقدر صبرك عليها ، التدبر مهم جداً.

من قرأ القرآن قراءة تعبد تمكّن من معرفة أحكام الله تعالى:


 فيا أيها الإخوة الكرام، يجب أن يكون لك حصة تقرأ فيها القرآن قراءة تعبد، أنا والله بشهر أختمه، أو بأسبوعين، أو بأسبوع، أو بأشهر ثلاثة، لا يوجد مانع، ولك حصةٌ تقرأ فيها القرآن قراءة تدبر، يعني تكفيك آية واحدة، فاقرأ آيات الأمر والنهي، اقرأ آيات الوعد والوعيد، اقرأ خبر الماضي، غيب الماضي، وغيب الحاضر، وغيب المستقل، اقرأ وصف ربنا للجنة والنار، اقرأ كيف حَدَّثنا ربنا عزَّ وجل عن نفسه، عن ذاته.

عظمة الله عز وجل تتجلى من خلال فهم الآيات الكونية:


﴿ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ(2)﴾

[ سورة آل عمران ]

﴿ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(24)﴾

[ سورة الحشر  ]

 فاقرأ القرآن قراءة تدبّر، اقرأ القرآن قراءة تمهُّل، قراءة درس، قراءة بحث، قراءة فهْم، قراءة معاينة، قراءة غوص في الأعماق، هل هناك كتابٌ يستحق أن تغوص فيه كالقرآن؟ العجيب أن دارساً للأدب يأخذ قصيدة قيلت في الجاهلية، فلا يزال يدرس أبعاد المعاني، وماذا يريد الشاعر من هذا البيت؟ وما الخلفية التي دفعته لهذا البيت؟ وماذا يعني هذا البيت؟ فهذا الجهد الكبير يُبذَل لفهم كلام إنسان عادي، فالأولى أن تفهم كلام الله بهذا العمق، الأَوْلى أن تقف عند آياته، عند حلاله، عند حرامه، عند محكمه، عند متشابهه، عند وعده، عند وعيده، عند وصف الله للأقوام السابقة، عند مشاهد الجنة، عند مشاهد النار، عند الآيات الكونية الدالة على عظمة الله ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾

الفرق الكبير بين العالم و العابد:


 لذلك من بعض المعاني التي ترد في قوله تعالى:

﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ(1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ(2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ(3)﴾

[  سورة القدر  ]

 من بعض المعاني التي يمكن أن تُستنبَط من هذه الآيات أنك إذا قدَّرت الله حق قدره فهذا الذي حصل خيرٌ لك من ألف شهرٍ تعبده، لأن العلم شيء والعبادة شيء، العابد مهما عبد الله خيره محصورٌ فيه، يسعد لكن لا يستطيع أن ينفع، ويوم القيامة:

﴿ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ ۙ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (32)﴾

[ سورة النحل  ]

 من الممكن أن تقرأ القرآن قراءة تعبد وترتاح وتسعد، لكنك لا تستطيع أن تنقل هذا القرآن للناس شرحاً وإيضاحاً وتبصيراً، العابد لذاته، يعمل لذاته، يعمل لإسعاد نفسه، لكن الجنة تحتاج إلى عمل، ماذا قدمت؟ ماذا فعلت؟ ما العمل الذي فعلته حتى تستحق رضوان الله عزَّ وجل؟ فقراءة القرآن قراءة تعبُّد مريحة جداً ومسعدة، لكنك إذا قرأته قراءة تدبر وفهمت أسراره، ومدلولات كلماته، والقوانين التي يمكن أن تستنبط من آياته الدقيقة ووضحتها للناس فقد ارتقيت بالعلم.. 

((  فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ. ))

[ سنن أبي داود ]

 وكما قال عليه الصلاة والسلام: 

(( فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُم.  ))

[  سنن الترمذي ]


قراءة التعبد تسعد بها لكنك لا ترقى بها و قراءة التدبر تسعد و ترقى بها:


 لذلك قراءة التعبُّد شيء، وقراءة التدبر شيءٌ آخر، قراءة التعبد تسعد بها لكنك لا ترقى بها، ولا تستطيع أن تكسب الدرجات العُلا في الجنة إيضاحاً وتبياناً، ولا تنسَ أن الله سبحانه وتعالى يقول آمراً النبيَّ عليه الصلاة والسلام:

﴿ فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)﴾

[ سورة الفرقان  ]

 جاهِدهم بالقرآن، قف عند آياته، ولو كانت آية واحدة فقط، القضية ليست قضية كم، بل القضية قضية نوع، لو أن آيةً واحدةً عقلتها لكانت سبب سعادتك في الدنيا والآخرة، آية واحدة، ولا تنسى أن القرآن الكريم فيه كل شيء، فيه كل شيء أنت محتاجٌ إليه في علاقتك بالله عزَّ وجل، فيه كل شيء أنت محتاجٌ إليه في سيرك إلى الله عزَّ وجل، كتاب هداية.

من عَقِل معاني الآيات و بلغها للناس شعر بسعادة لا توصف:


﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ لذلك أرجو الله سبحانه وتعالى أن تكون هذه الآية منطلقاً لنا، فما الذي يمنع في أيام الأسبوع أن تقرأ القرآن مرتين، مرة قراءة تعبُّد ومرة قراءة تدبر، لو أنك جعلت من آيات درس الجمعة، آيات التدبر طوال الجمعة، الإنسان يستمع أحياناً ويسعد في الاستماع ويتأثر، فلو أنه بعدما ذهب إلى البيت قرأ الآيات التي فُسِّرَت، ودرس ما قيل في شرح هذه الآيات وحَوْل هذه الآيات، واستعمل عقله، وقلَّب الآية على وجوهها، فإذا عقَلَ معانيها الدقيقة فعليه أن يبلِّغها للناس، كما قال عليه الصلاة والسلام: 

((  بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً. ))

[  من صحيح البخاري ]

 فإذا عقلها وبلَّغها للناس فبدون أن يشعر طبَّقها، صار محرجاً أمام نفسه، والإنسان يحب ذاته، فإذا رأى الخير في تطبيق هذه الآية طبّقها؛ وإذا كانت حياة الإخوة الكرام هكذا نستمع  إلى بعض الآيات في الأسبوع ونطبقها تطبيقاً دقيقاً.

ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً: آية لها عدة معان:


1ـ المعتدي لا يحبه الله و لا يستجيب له:

 اليوم في الخطبة ذكرت:

﴿ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ(55)﴾

[ سورة الأعراف  ]

 هناك معانٍ دقيقة، المعتدي لا أحبه، وبالتالي لا أستجيب له، فالذي يعتدي على أموال الناس، الذي يعتدي على ما في أيديهم، الذي يعتدي على أعراضهم، الذي يبيح لنفسه ما حرَّمه الله عليه هذا لو دعا دعاءً مُنَمَّقاً بصوتٍ عالٍ، لو تشدّق بالدعاء، لو تقعَّر بالدعاء لا يستجيب الله له.
﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ هذا معنى. 

2 ـ على الإنسان أن يدعو ربه تضرعاً و تذللاً:

 هناك معنى آخر: أمرك الله عزَّ وجل أن تدعوه تضرُّعاً، تذلُّلاً، خضوعاً، استكانةً، تعبُّداً، فإذا دعوته مستكبراً فقد اعتديت على شروط الدعاء ولن يستجيب الله لك.  

3 ـ على الإنسان أن يدعو ربه همساً:

 أمرك الله عزَّ وجل أن تدعوه خفيةً همساً بينك وبينه، إنك لا تنادي أصم، إنك تنادي مَن يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فإذا رفعت الصوت في الدعاء رياءً، فقد اعتديت على شروط الدعاء، إذاً لا يستجيب الله لك. 

4 ـ من دعا فأطال كثيراً حمل الناس على الملل و أثقل عليهم:

 إنك إذا دعوت فأطلت كثيراً حتى حملت الناس على السأم والملل فقد اعتديت عليهم، إذا دعوت لنفسك فادعُ الساعات الطِوال، أما إذا دعوت للناس فادعُ الدعاء المختصر الذي لا يثقل عليهم، فإذا عرفت هذه الآية مثلاً بأربعة معانٍ، والشرطين الأساسين، الخفية والتضرُّع وعدم العدوان، إذا فهمت هذه الآية بهذا الفهم الدقيق لك أن تذكرها للناس، هذه الآية أصبحت موضوعاً للدعوة كما أصبحت موضوعاً للحديث في المجالس. 

التدبر هو معرفة النتائج:


 ما أسعد هذا الإنسان الذي يمضي كل وقته في ذكر الله عزَّ وجل أينما جلس، معظم الناس يمضون الساعات الطوال مع بعضهم يتبادلون كلاماً فارغاً لا معنى له إن لم يكن فيه معصية وبُعد عن الله عزَّ وجل، أما إذا ذكرت الله عزَّ وجل:

((  أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم.  ))

[ صحيح البخاري ]

 فأحياناً تجد أن الآية فيها مفتاح سعادتك، مفتاح التوفيق، مفتاح الفوز في الدنيا والآخرة، آية واحدة، كلام خالق الكون..

﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ۖ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ(1)﴾

[ سورة الأنعام ]

﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا ۜ (1)﴾

[ سورة الكهف ]

 أيْ أنّ الكون يوازي هذا القرآن الكريم، الكون خلقه وهذا كلامه، فما الذي يمنعنا من أن نفهم كلام الله فهماً عميقاً، ما الذي يمنعنا من أن نقف عند آياته وقفةً متأنيةً؟ ما الذي يمنعنا من أن نتفحَّص كلام الله عزَّ وجل، أبعاده، الأحكام الشرعية المستنبطة من كلام الله عزَّ وجل؟ ما الذي يمنعنا أن نأتمر بما أمر الله وأن ننتهي عما نهى الله عنه؟ التدبر إذًا: معرفة النتائج.

العاقل من يصل إلى النتائج على صعيد الفكر قبل أن يصل إليها على صعيد الواقع:


 إذا أردت أن تذهب إلى بلدٍ غربي، قد يذهب الإنسان إلى هناك فيُعجَب بالرفاه، والحضارة، والأبنية الفخمة، والمركبات الرخيصة، والحدائق الغنَّاء، والشوارع العريضة فهذا لم يتدبر، أما الذي يتدبر فهو يتصور أنه تزوج هناك، وأنجب أولاداً، ونشأ الأولاد في ظل الإباحية الجنسية، فماذا يفعل؟ إذا أردت إنفاذ أمرٍ تدبَّر عاقبته، لذلك: من هو العاقل؟ هو الذي يصل إلى النتائج قبل أن يصل إليها فعلاً، يصل إليها بعقله قبل أن يصل إليها بجسده، هذا هو التدبر، لذلك دائماً المتدبر لا يندم، لأنه رأى الذي سيكون قبل أن يكون. 
﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ ليس هناك عمل يعلو على أن تفهم كلام الله، الإنسان يدرس حياته، يا ترى عمله، دوامه في وظيفته، كسب رزقه، تجارته، صحته، زواجه، أولاده، فما من عمل على الإطلاق يعلو على أن تفهم المنهج. 

وجود الإنسان لا معنى له من دون منهج يسير عليه:


 الله عزَّ وجل قال:

﴿ الرَّحْمَنُ(1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ(2) خَلَقَ الإِنسَانَ(3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ(4)﴾

[ سورة الرحمن  ]

 أيعقل أنَّ يُعَلَّم الإنسان القرآن قبل أن يُخلَق؟ هكذا الآية: ﴿الرَّحْمَنُ*عَلَّمَ الْقُرْآنَ*خَلَقَ الإِنسَانَ﴾ فالإجابة عن هذا السؤال: أن الترتيب بين الآيتين ليس ترتيباً زمنياً بل هو ترتيب رُتَبِي، بمعنى أن وجود الإنسان لا معنى له من دون منهج يسير عليه، لذلك ليس هناك من عملٍ على الإطلاق مقدّم على فهم منهج الله، كأن يقال لك: أنا أؤسس مشروعاً، لست متفرغاً، عندي امتحان جامعي، امتحان تخرج، أنا في زحمة تأسيس بيت للزواج، ليس هناك عملٌ على الإطلاق يعلو على أن تفهم كلام الله، لأنه منهجك، نجاحك في الزواج نتيجة فهمك لكلام الله، نجاحك بالتجارة من فهمك لكلام الله، نجاحك مع أهلك سببه فهمك لكلام الله، نجاحك في علاقاتك الاجتماعية، نجاحك في صحتك..

من كان حريصاً على سلامته و سعادته عليه أن يفهم آيات القرآن فهماً دقيقاً:


﴿ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ(31)﴾

[  سورة الأعراف ]

 نجاحك في كل شيء أساسه فهم المنهج، مرة ضربت مثلاً قلت فيه: لو فرضنا جهاز حاسوب ثمنه ثلاثون مليون لتحليل الدم، فممكن أن تضع نقطة دم في مكان فيه وخلال ثوانٍ تظهر على الشاشة نتائج سبعة وعشرين تحليلاً، بمجرد الضغط على زر، فلو فرضنا أجرة كل تحليل ألف ليرة، وعندهم مئة زبون، مئة ألف كل يوم، فلو أنك اشتريت هذا الحاسوب ولم يُرسَل إليك معه كتاب التعليمات، تعليمات التشغيل والصيانة، وأنك إذا استعملته من دون كتاب تفقده، ويُصاب بالعَطَب، وإن خفت عليه جَمَّدت ثمنه، أليس هذا الكتاب أثمن منه؟ أنا أعتقد من يشتري هذا الحاسوب بهذا الرقم الكبير، يركب الطائرة ويذهب بنفسه ليأتي بدفتر التعليمات، لأنها أساسيةٌ في استعمال هذا الحاسوب، مصيريةٌ لتشغيله، فأقول لكم: ما من عملٍ على الإطلاق يعلو على أن تفهم منهجك في الحياة، كيف تعامل زوجك، كيف تتقي المصائب، كيف تتقي الهلاك، كيف تسعد بذاتك، فالإنسان آلة معقدة جداً، وهذا الكتاب تعليمات الصانع، ولاحظ نفسك حينما تقتني آلة غالية جداً، تحرص على ترجمة تعليماتها ولو كانت بلغة صينية، هل يوجد أحد هنا يفهم اللغة الصينية؟ أو اللغة الألمانية، وقليل عندنا من يترجم لها فإذا كانت الآلة غالية،غالية الثمن وعظيمة النفع، تحرص على ترجمة تعليمات الصانع مهما كلَّفك الأمر، وهذا القرآن الذي أمامك تعليمات الصانع، فإن كنت حريصاً على سلامتك، وإن كنت حريصاً على سعادتك فعليك بفهم هذه الآيات فهماً دقيقاً دقيقاً ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ .  

القرآن الكريم فيه إشارات إلى أدق الحقائق:


 مرة قال لي أخ: ابني مريض مضى عليه بالمستشفى أسبوع، قلت له: خير إن شاء الله، قال لي: لقد أكل فواكه غير ناضجة، عندنا بستان فقطف من أشجار البستان، فقلت له: هل علَّمته القرآن؟ قال لي: ما علاقة هذه بهذه؟ قلت له: الله قال:

﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ۚ كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ۖ وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)﴾

[ سورة الأنعام ]

 الفواكه الفجَّة تؤذي الجسم، القرآن فيه كل شيء تقريباً، لو قرأتَ القرآن قراءة دقيقة لوجدتَ فيه إشارات إلى أدق الحقائق.

على الإنسان أن يكون في حياته خبيران أحدهما لدنياه و الآخر لآخرته:


 فيا أيها الإخوة الكرام، هذه آية دقيقة جداً: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ أنت أحياناً يغيب عن ذهنك أن إنساناً من بني جنسك أقوى منك، فيصدر قراراً، تتأمل بالقرار ساعات طويلة، ماذا يقصد بهذه الكلمة؟ وماذا يعني بهذه الكلمة؟ وهل يقصد المنع المُطْلق أم المنع المشروط؟ وما رأي مفسري هذا القرار؟ ما رأي كبار الموظفين عنده؟ ألا تستحي من الله أن تأخذ نصّاً بشرياً وتدرسه وتقتله دراسةً وتقلبه على وجوهه وتبحث عن مراميه، وعن أبعاده، وعن دلالاته، وكلام ربك بين يديك ألا تسأل عنه؟ أنت يلزمك أن يكون في حياتك خبيران؛ أحدهما قال تعالى:

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ ۚ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)﴾

[  سورة النحل  ]


كل إنسان بحاجة إلى من يعرفه بالله عز وجل:


 قال:

﴿ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۚ الرَّحْمَٰنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59)﴾

[ سورة الفرقان  ]

 فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً: أنت بحاجة إلى إنسان يدلك على الله، يكون مرجعاً لك، طبعاً يأتيك بالدليل وليس من عنده؟ لا أحد مؤهَّل بأن يعطيك شيئًا من عنده، يقول لك: هذا افعله وهذا هو الدليل، وهذا لا تفعله وهذا هو الدليل، أنت بحاجة إلى من يُعرِّفك بالله عزَّ وجل ﴿فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا﴾ .
وأنت بحاجة إلى إنسان خبير في الدنيا، أردت أن تُقدِم على عمل، على مشروع، اسأل الخبراء المؤمنين، اسأل أهل الخبرة من المؤمنين، لأن من المؤمنين مَن ينصحونك، لو فرضنا أنك التجأت إلى مؤمنٍ غير خبير فلن يفيدك، هو طيِّب لكنه ساذج بهذا الموضوع، ولو كان خبيراً لكنه خبيث يقول لك: أنت لا تحتاج لهذا العمل، يخاف أن تنافسه فيه، في أمر الدنيا اسأل أهل الخبرة من المؤمنين، وفي أمر الآخرة اسأل به خبيراً، أحياناً آية يعسر عليك فهمها.

﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَٰكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ(13)﴾

[ سورة السجدة ]

 هذه الآية ألم تُشكِل عليك؟ اسأل عنها الخبراء فيها، الله عزَّ وجل جعل بعض الآيات تدعو إلى التساؤل حتى يتحرك الإنسان، لينطلق ولا يبقى خاملاً، الأشياء الواضحة جداً تدعو إلى الكسل أحياناً، فهناك آيات تحتاج إلى تأمُّل، إلى تدبر، إلى سؤال مَن هو أعلى منك خبرةً فيها.

حبّ الدنيا و المعاصي تحجب الإنسان عن الله عز وجل:


﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ ما الذي يجعل على قلب الإنسان قِفْلاً؟ حب الدنيا، حبك الشيء يعمي ويصم، وما الذي يجعل على القلب قفلاً؟ المعاصي، المعاصي حُجُب، كل معصية حجاب، الغارق في المعاصي لا يعي على خير، لا يرى شيئاً، غارق في شهواته، هو غارق وفيه عمى، هو في ظلام، وفي ظلماتٍ بعضها فوق بعض، إذا أخرج يده لم يكد يراها ، فربنا عزَّ وجل وصف الشهوات والمعاصي وصفاً مجازياً، فهي قفلٌ على القلب، فلا يظن أحدٌ أن الله عزَّ وجل قفل قلب هذا الإنسان، هذا المعنى لا يليق بالله عزَّ وجل، فالإنسان مخيَّر، حينما اختار الشهوة واختار المعصية جعل من الشهوة والمعصية قفلاً على قلبه، هذا يسمونه تحصيل حاصل، حينما اختار الشهوة الدنيئة والمعصية القبيحة، جعل من الشهوة والمعصية قفلاً على قلبه، المعاصي بريد الكفر، قد ينسى المرء بعض العلم بالمعصية.

علامة إصغاء الإنسان تطبيق ما سمع:


﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ ﴿أفلا﴾ حرف حض، أيْ تدبروا القرآن، فإن لم تفعلوا، فإن لم تستطيعوا فاعلموا أن على القلوب أقفالاً هي المعاصي والشهوات، لذلك فالإنسان بمجرد أن يستقيم يصبح مُصغِياً للحق، فلو فرضنا أنّ واحداً ألقى محاضرة والحضور استمعوا استماعاً دقيقًا جداً إلى درجة أنه لو رميت بإبرةً لسمعت صوتها، يعني أنهم منصتون، فهل هذا هو الإصغاء الذي أراده الله؟ لا والله.

﴿ إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ۖ وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ(4)﴾

[  سورة التحريم ]

 علامة الإصغاء لا أن ترى النفوس مستمعة استماعاً دقيقاً، علامة الإصغاء التطبيق ﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾ .

تدبر آيات القرآن الكريم يبدأ بالتفكر و التأمل و الدرس و ينتهي بالتطبيق:


 لذلك التدبر علامته لا التشدُّق بمعاني الآيات، لكن تطبيقها، إذا طبقتها فقد تدبرتها، علامة الفهم الدقيق التطبيق العملي، وإلا دخلنا في متاهة العلم للعلم، والعلم في الدين ليس هدفاً لذاته، ما أردنا العلم للعلم، لكن العلم للتطبيق، للسمو، للسعادة، المعنى الجديد الآن الذي ينتج عن هذه المعاني، أنك إذا وقفت عند الآية فاهماً، متفَحِّصاً، كُشفت لك الأبعاد، المؤدّى، النتائج، وتعمَّقتَ في فهمها ولم تبادر إلى تطبيق مضمونها فأنت لم تتدبرها، لأن التطبيق علامة الوعي، وعلامة الفهم العميق، فالتدبر يبدأ بالتفكر، والتأمل، والبحث، والدرس وينتهي بالتطبيق، أما إذا لم يشعر الإنسان بحاجة إلى التدبر فالمعنى أن قلبه مقفل، فليبحث عن العقبات.

على الإنسان أن يبعد المعاصي و الشهوات عن قلبه ليتدبر آيات القرآن الكريم:


 لا أحد تتعطل سيارته وهو في سفر فيبقى مكتوف اليدين، فأول عمل يفتح غطاء المحرِّك، ما الذي حصل؟ لماذا توقفت؟ أين العَطب؟ أين الخلل؟ ما السبب؟ فإذا الإنسان لم يرَ بنفسه حاجة ملحَّة إلى التدبر فمعنى ذلك أن على قلبه قفلاً، فلينزِعْ هذه الأقفال من قلبه، والأقفال هي المعاصي، والأقفال هي الشهوات، وهذا المعنى ورد في آيات أخرى، الذي يقترفون المعاصي..

﴿ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ۖ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ۗ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ ۖ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ۚ أُولَٰئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ (44)﴾

[  سورة فصلت  ]

 والآية الثانية:

﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ۙ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)﴾

[ سورة الإسراء ]

 الآية الثالثة: ﴿وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى﴾

الاتجاه إلى غير الله من أخطر الأعمال التي تؤدي بصاحبها إلى الشقاء:


 الإنسان حينما يتلبس بالمعاصي، وينغمس في الشهوات يكون بينه وبين هذا الكتاب حجابٌ سميك، وكلما ازددت استقامةً وإخلاصاً وصفاءً كلما رأيت نفسك تفهم هذا القرآن فهماً دقيقاً عميقاً، قال تعالى:

﴿ إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ(25)﴾

[ سورة محمد ]

 الحركة الطبيعية نحو الأمام، ونحو الله عزَّ وجل، ونحو الحق، ونحو الجنة، أما الحركة المعاكسة لما خُلِقت فهي نحو الشهوات، فربنا عزَّ وجل عبّر عن الحركة المعاكسة للهدف الذي خُلِقتَ من أجله بالارتداد على الأدبار، من هنا طريق الجامعة، أدرت ظهرك للجامعة واتجهت عكس الاتجاه، من هنا طريق الكسب أدرت ظهرك لهذه الجهة واتجهت جهةً معاكسة، فقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ﴾ وهذه هي المصيبة الكبيرة أن الإنسان بعد أن يعرف الحق يتَّجه إلى الباطل، بعد أن يعرف الهدى يتجه إلى الضلال، بعد أن يعرف الطُهْرَ والكمال يتجه إلى الدَنَس والمعصية، بعد أن يعرف الله يتجه إلى ما سواه، هذا من أخطر الأعمال التي تؤدي بصاحبها إلى الشقاء. 

على الإنسان أن يصغي لصوت الحق إن وقع بين وسوسة الشيطان و إلهام الملائكة:


﴿إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ﴾ إنّ الله عزَّ وجل حينما خلق الإنسان رسم له هدفًا وقال: اتجه نحوي يا عبدي، اتجِهْ نحو الحق، اتجه نحو الآخرة، اتجِهْ نحو الإحسان، اتجِهْ نحو الفهم، اتجِهْ نحو العمل الصالح، فإذا سار الإنسان باتجاهٍ معاكسٍ نحو الشهوة، نحو الشيطان، نحو المعصية، نحو المتعة الرخيصة، نحو الدنيا، فكأنه أدار ظهره للحق، إذاً يرتد على أدباره، وَلَّىَ الحق دُبُرَه، واتجه نحو الشهوة. 
﴿إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ﴾ أصغَوا إلى صوت الشيطان، أصغَوا إلى وسوسته، أنت بين وسوسة الشيطان وإلهام الملائكة، الملك يلهمك: أنْ يا عبد الله اتقِ الله، والشيطان يوسوس لك: أنْ يا أيها الرجل التفتْ إلى الدنيا، أما قوله تعالى: ﴿أملى لهم﴾ فبعضهم قال: الإملاء هنا بمعنى أنه منَّاهم بمستقبل رغيد، إن فعلت هكذا سعدت في دنياك، إذا أخذت هذا المال الحرام اشتريت به بيتاً جميلاً وتزوجت أجمل امرأةٍ وعشت في بحبوحةٍ ويُسرٍ وكنت من سعداء الدنيا، أملى لهم الأماني، وبعضهم قال: الشيطان سوَّل لهم والله سبحانه وتعالى أمدَّهم تحقيقاً لاختيارهم، كِلا المعنيَين صحيح.  

﴿ إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ(25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ(26)﴾

[  سورة محمد ]


عدم تعاون الإنسان الكافر مع المؤمن بأي ظرف من الظروف:


 الآن دققوا: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ﴾ فهل من المعقول أن يتعاون إنسان مع كافر؟ ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ﴾ هؤلاء الذين ارتدوا على أدبارهم، هؤلاء الذين أصغوا لصوت الشيطان، ماذا فعلوا حتى ألمّ بهم ما ألمّ بهم؟ قال: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ﴾ هم اليهود، اليهود كانوا يتيهون على العرب بأنه سينزل نبيٌّ منهم هو خاتم الأنبياء، فلما كان هذا النبي الكريم من نسل إبراهيم عليه السلام كرهوا هذه النبوة لأنها ليست منهم. 

من رغب عن الدين احتقر نفسه: 


 قال سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ*ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ﴾ اليهود ﴿سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ﴾ يعلم أنهم كاذبون، أيْ أنّ هؤلاء الذين جاءتهم الرسالة آثروا في طاعتهم وفي تآمرهم الذين كرهوا هذه الرسالة وهم اليهود، ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ﴾ يعلم نواياهم السيئة، يعلم كذبهم، قال: 

﴿ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27)﴾

[ سورة محمد ]

 لماذا وجوههم وأدبارهم بالذات؟ الوجه الذي اتجه نحو الشيطان، أو نحو الشهوة، والدُّبُر الذي أُعطِي للحق، فلان أعطى هذا الشيء دُبُرَهُ، أعطاه ظهره، دليل الإعراض والاحتقار، وبالمناسبة الإنسان أحياناً يحتقر شيئاً ما برفضه، قد تحتقر صديقًا سفيهاً، فاسقًا، بذيء اللسان، تُعرِض عنه، رغبت عنه احتقاراً له، لكن أي إنسانٍ إذا رغب عن الدين فهو في الحقيقة يحتقر نفسه.  

سمو نفس الإنسان مرتبطة بمعرفة و تطبيق منهج الله عز وجل:


﴿ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ۚ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ۖ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ(130)﴾

[  سورة البقرة ]

 في الدين وحده، إذا أدرت ظهرك له فأنت بهذا العمل تحتقر نفسك، تحتقرها وتجعلها سفيهةً لا قيمة لها، لأن الإنسان له حاجات عُليا وحاجات دنيا، الحاجات الدنيا الطعام، والشراب، والزواج، والعُليا معرفة الله، فالإنسان إذا أعرض عن الله عزَّ وجل تخلَّى عن قيمته الإنسانية وبقي على مستوى البهيمة، فكل إنسان يُعْرِض عن الدين يحتقِر نفسه، يجعلها في مصافِّ البهائم، الذي يرفعك عن بقية الحيوانات أنّ الله سبحانه وتعالى أعطاك قوةً إدراكية، أنت بهذه القوة الإدراكية يمكن أن تعرف الله، إذا عرفته وعرفت منهجه، وسمت نفسك إليه، أكَّدت فيك الجانب الإنساني، الإنسان هو المخلوق الأول، والمخلوق المُكرَّم، والمخلوق المكلف.

دُبُرُ الإنسان الذي أَدَارهُ للحق هو مكان ضربه يوم القيامة:


﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ*فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾ لا شك أنّ الإنسان إذا ارتكب جريمة وألقي القبض عليه، فإذا كان أتعب رجال الأمن الجنائي ثم أُلقِي القبض عليه، يتلقّوه بالضربات والركلات الكثيرة إلى أن يصل إلى مكان التحقيق، فيُهان، يُضرَب أمام الناس أحياناً، يضرَب على أي مكان في جسمه، بأي شيء، يرفس بالرجل، بعقب بندقية، مجرم أتعب رجال الأمن ثم ألقي القبض عليه، قال: ﴿فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾ الوجه الذي ولَّيته إلى الدنيا هو مكان الضرب، والدُبُرُ الذي أَعطيته للحق هو مكان الضرب ﴿يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾
 لذلك هذه النتيجة المأساوية، وهذا الهلاك ﴿الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾ فهم في أدنى حالات الإهانة، قال تعالى: 

﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ(28)﴾

[ سورة محمد ]

 هل هناك إنسان على وجه الإطلاق لا يعلم بالفطرة ما الذي يرضي الله، وما الذي يسخطه؟ أبداً، بالفطرة، بر الوالدين يرضي الله، عقوقهما يُسْخِطُ الله، الكذب يُسخطه، الصدق يرضيه، الإحسان يرضيه، الإساءة تُسخِطه، العدل يرضيه، الظلم يسخطه، الرحمة ترضيه، القسوة تسخطه، فبالبديهة ومن دون تعلم، من دون جهد كبير.  
﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ﴾ الذي يُسخِط اللهَ عزَّ وجل فعلوه، والذي يرضيه ابتعدوا عنه، هذه النتائج، هذه النتيجة المأساوية، هذا الهلاك الشديد، دخول النار إلى أبد الآبدين.  

من آثر دنياه على آخرته اتبع ما أسخط الله عز وجل:


﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ﴾ هذا مقياس دقيق، ما الذي يسعدك؛ أن ترضي الله أم أن تسخطه؟ أن ترضي الله أم ألّا تعبأ برضاه؟ لذلك الله عزَّ وجل يضع الإنسان في امتحانات صعبة، كل كلامه لا قيمة له إذا فعل في سرِّه ما يخالف علانيته: ركعتان من ورع خيرٌ من ألف ركعةٍ من مُخَلِّط. 
﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ﴾ إذا آثر الرجل زوجته على والدته، وأهان والدته من أجل زوجته، هذا اتبع ما أسخط الله، إذا كان يغش المسلمين في البيع والشراء ليكسب أموالاً طائلة على حساب استقامته وعلى حساب دينه، فهذا اتبع ما أسخط الله، حينما تاجر ببضاعة محرمة تفسد الناس كأن تنشر إحدى دور النشر كتاباً فيه ضلالات، يقول المسؤول عنها: مبيعاته بلغت أربع طبعات.. فلو كانت مئة طبعة، أنت تربح من وراء إضلال الناس، اتبعت ما أسخط الله، هذا هو الدين، فالدين دخل في كل شيء، دخل بحرفتك، دخل بمهنتك، فلتعلموا إخواننا الكرام أن موضوع الاستقامة موضوع دقيق جداً، فينبغي ألاّ يكون في أعمالك عمل فيه معونة للباطل، وترويج للباطل:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا ۚ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ۚ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا ۘ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)﴾

[  سورة المائدة ]


أول ثمرة من ثمار الدين الاتصال بالله عز وجل:


 حتى تجد الطريق سالكًا إلى الله عزَّ وجل، ومن أجل أن تسعد بهذا الدين، من أجل أن تُقْبِل على الله عزَّ وجل ينبغي ألّا يكون في كل حياتك عمل فيه دعم للباطل، من أعان ظالماً ولو بشطر كلمة، لو أعطاه قلماً، أو قال له: أليس الحق معي؟ أو قال له: لا عليك، لو هزّ برأسه إرضاءً لهذا الظالم..

﴿  مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ مُؤْمِنٍ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّه.﴾

[ ضعيف ابن ماجه ]

 أعمالك، مصلحتك، مهنتك، حرفتك، يا ترى هل فيها غش؟ فيها حرام؟ فيها مجاوزة للحدود؟ حتى تشعر بقيمة الدين، حتى تقطف ثمار الدين الاتصال بالله، توفيق، سعادة، إكرام، طمأنينة، سكينة، شعور بالتفوق، هذا يحتاج إلى استقامة، إلى بذل، إلى تضحية، قال: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ﴾ يا ترى أهذه الرحلة ترضيه أم تسخطه؟ فيها اختلاط مع أناس متحلِّلين من الدين، قد يشربون الخمر أمامك، قد يمزحون مُزاحاً رخيصاً، يعرضون زوجاتهم بأبهى زينة، أرخص رحلة، ارفضها من أساسها إذا كانت تسخط الله عزَّ وجل، يا ترى هل هذه السهرة ترضيه أم تسخطه؟ وهذا الاجتماع يرضيه أم يسخطه؟ يا ترى هذه الأفكار التي تروِّجها من أجل أن تبيع بضاعتك ترضيه أم تسخطه؟ فالمشكلة كبيرة جداً، قد يكون عمل الإنسان مبنياً على معصية واضحة جداً، فلذلك: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ﴾ الله عنده حساب موحَّد، بيتك، وعملك، ونشاطاتك، وأفراحك، وأتراحك كلها بحساب واحد، يقول لك: أنا أصلِّي، الصلاة مع المعاصي ليست لها قيمة، صلِّ طبعاً لا أقول لك لا تصلِّ، لكن هذه الصلاة لا تقدم ولا تؤخر مع المعاصي، هذه الآية دقيقة جداً، هل تشعر أنك ارتكبت جريمةً حينما تفعل ما يسخط الله؟ هذه علامة إيمانك، هل تسعد بطاعة الله؟ بخدمة الخلق؟ بالإنصاف؟ أن تقول الحق ولو على نفسك؟ أحياناً يكون الخلاف بين ابنك وبين ابن الجيران، أنت كمؤمن يجب أن تكون مع الحق، ما الذي يرضي الله؟ أن تكون مع الحق ولو كان مع ابن الجيران، ما الذي يسخطه؟ أن تنحاز إلى ابنك انحيازاً أعمى، عندك صانع بالمحل ما الذي يرضي الله؟ أن تنصفه، أن ترحمه، أن تحسن إليه، ما الذي يسخطه؟ أن تستغلَّه، أن تستغل يُتْمَهُ وضعفه، وأن تعصره عصراً.

الدين سلوك و قيم و صدق و أمانة:


 قال لي شخص يعمل في محل تجاري: طلب من معلمه إجازة ساعة ليومين في الأسبوع ليلتحق بمدرسة ليلية، فقال له: غير ممكن، فكان عنده صديقه وقال له: يترك العمل بالمستقبل إن تعلم، أما إذا أنفق على ابنه أربعين ألف ليرة مقابل دروس خاصة لكي يصبح طبيباً هذا ممكن، فابنه يجب أن يكون متعلماً، أما هذا الصانع إذا أحب أن يأخذ شهادة كفاءَة بالليل لا يتركه يلتحق بمدرسة ليلية ويقول: يترك العمل بعد ذلك، هذا يسخط الله عزَّ وجل، انتبه، فالدين ما هو صلاة وصوم فقط، الدين تعامل يومي، بعث ابنه ليعلمه ميكانيك (مكنسيان)، قال لأبيه: لم يفك صاحب المحل المحرك أمامي ولا مرة واحدة، الأب مقتنع أنه سيتعلم المصلحة فلم يأخذ أجرة من المعلم، فالمعلم صاحب المحل استخدمه في تنظيف المحل، أما وقت فك المحرك يصرفه إلى الخارج، يقول: إن يتعلم فسوف ينافسني، إذًا استخدمته ولم تعلمه ولم تعطه أجراً، فلو صلّى في أول صف لا قيمة لصلاته، فقد خان والد هذا الغلام الصغير، جعلته جاهلاً ولم تعلمه شيئاً أبداً، ولم يأخذ أجره منك أيضاً، فالدين أعمق من أن تصلي وتصوم، الدين أعمق بكثير، الدين سلوك، الدين قِيَم، الدين صدق، الدين أمانة، الدين رحمة.

من فهم الدين فهماً أخلاقياً فتح العالم:


  الشريعة رحمةٌ كلها، عدلٌ كلها، مصلحةٌ كلها، وأية قضيةٍ خرجت من الرحمة إلى القسوة، ومن العدل إلى الجَور، ومن المصلحة إلى المفْسدة فليست من الشريعة، ولو أُدخِلت عليها بألف تأويل وتأويل.
 الصحابة لما فتحوا العالم فهموا الدين فهماً عميقًا، فهموا الدين صدقًا وأمانة، وحُسن جوار، وكفّاً عن المحارم والدماء، انظر إلى قصر العدل، يقال لك: ثمانية آلاف دعوى عقارية، وكذا دعوى مدنية، شخص استأجر بيتاً و تركه مهجوراً وحجزه بأجرة مئة ليرة في الشهر، وصاحب البيت يتحرّق ليزوّج ابنه فيه، فليس لديه بيت آخر، ولكن عنده بيت مؤجر، والمستأجر يحتجزه مهجوراً، فليحذر الإنسانُ قبل أن يقول لك الصلاة والصوم، فليعلم أن الدين استقامة، الدين أداء الحقوق، الدين رحمة، الدين خدمة، الدين إنصاف، فلما الصحابة الكرام فهموا الدين فهماً أخلاقياً فتحوا العالم، لما فهمناه فهماً شعائرياً وطقوساً، غُزينا في عُقْر دارنا، مليار ومئتا مليون مسلم ليست كلمتهم هي العُليا، وأمرهم ليس بيدهم.

الاستقامة أساس تمكين و استخلاف الإنسان في الأرض:


﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ(55)﴾

[  سورة النور ]

 أين التمكين؟ وأين الاستخلاف؟ وأين الأمن؟ هذا وعد الله:

﴿ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ ۗ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)﴾

[  سورة النساء  ]

﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)﴾

[  سورة التوبة ]

 فنحن أيها الإخوة بحاجة إلى استقامة، نحن كفانا كلاماً، فالكلام كثير، والكتب كثيرة، فنحن بحاجة إلى مسلم، ولسنا بحاجة إلى إنسان ثقافته إسلامية، لا أريد مشاعر إسلامية، ولا أريد ثقافة إسلامية، لا أريد فكراً إسلامياً، أريد مسلماً، أريد مسلماً يرى الدنيّة في معصية الله، أريد مسلماً يقيم الإسلام في بيته، في عمله، في أفراحه، في أتراحه، في علاقاته، في كل نشاطات حياته. 

من اتقى الله كان أعبد الناس:


 انظر إلى هذه الآية ما أدقها دلالة ومعنى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ﴾ والله الذي لا إله إلا هو ما من واحدٍ على وجه الأرض إلا ويعلم بالفطرة من دون تعليم ما الذي يرضي الله وما الذي يسخطه، فإذا اتبعت ما يرضي الله وابتعدت عمّا يسخطه نِلْتَ مرادك في الدنيا والآخرة.
 "ليس الولي الذي يمشي على وجه الماء ولا الذي يطير في الهواء ولكن الولي كل الولي الذي تجده عند الحلال والحرام" "اتقِ الحرام تكن أعبَدَ الناس" الدين لا يحتاج إلى دجَل، ولا إلى تنقية، ولا إلى مبالغة، هذِهِ كلها حالات مرضية، اتقِ الحرام تكن أعبد الناس، ترك دانقٍ من حرام خيرٌ من ثمانين حجةً بعد الإسلام. 

((  لأن أمشي مع أخٍ مؤمنٍ في حاجته خيرٌ لي من صيام شهرٍ واعتكافه في مسجدي هذا. ))

[  الترغيب والترهيب عن ابن عباس بسند ضعيف ]

(( قال رجل: يا رسول الله إِنَّ فُلانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا قَالَ هِيَ فِي النَّار. ))

[ صحيح الترغيب ]


 ركعتان من ورع خير من ألف ركعة من مخلِّط: 


((  من لم يكن له ورَعٌ يحجزه عن معصية اللّه إذا خلا بها لم يعبأ اللّه بسائر عمله شيئاً.))

[ الألباني بسند ضعيف ]


على المؤمن أن يتدبر القرآن و يفهم معانيه و يطبق آياته عبادة و سلوكاً:


 كُن مؤمنًا صادقًا وخذ تأييداً وحفظاً ونصراً وتوفيقاً في كل شيء، الله عزَّ وجل يُرينا آياته دائماً، فالله عزَّ وجل خلقنا لِيُسعِدَنا، ويرينا آياته دائماً في تأييد المؤمن وخذلان الفاسق، يرينا آياته في توفيق الذي يرعى منهج الله، وفي التعسير على مَن يخرج عن منهج الله عزَّ وجل. 
فمحور الدرس -إخواننا الكرام- آيتان: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ ليس هناك على وجه الأرض مِن عملٍ أعلى من أن تفهم كلام الله وأن تطبقه.

لا قيمة لعمل الإنسان إن اتبع ما أسخط الله تعالى:


 والشيء الثاني: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ﴾ أي:

﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا(23)﴾

[ سورة الفرقان  ]

 لا قيمة لأعمالهم مهما بلغت ومهما عظمت في الدنيا، لا قيمة لها عند الله عزَّ وجل ولا قيمة لأصحابها.

﴿ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)﴾

[  سورة الكهف  ]

 لهم صَغارٌ عند الله.

الغنى والفقر يكونان بعد العرض على الله:


﴿ إِذَا وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ(1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ(2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ(3)﴾

[  سورة الواقعة  ]

 يوم القيامة يعلو أناسٌ كانوا في مقياس البشر في الحضيض؛ ويصغر أناسٌ كانوا في مقياس البشر في القِمم ﴿إِذَا وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ*لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ*خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ﴾ والغنى والفقر يكونان بعد العرض على الله.

﴿ تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ(83)﴾

[  سورة القصص  ]

والحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور