وضع داكن
20-04-2024
Logo
الدرس : 8 - سورة محمد - تفسيرالآيات 36-38 قيمة الأنسان عند ربه
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 أيها الإخوة المؤمنون مع الدرس الثامن والأخير من سورة محمد صلى الله عليه وسلم.


الله عز وجل نهى عبده المؤمن عن الاستكانة و الضعف:


 مع الآية الخامسة والثلاثين وهي قوله تعالى: 

﴿ فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ(35)﴾

[ سورة محمد ]

 هذه الآية وحدها تملأ قلب الإنسان المؤمن رضاً وثقةً بالله عزَّ وجل، فالله سبحانه وتعالى ينهانا عن أن نستكين، عن أن نستخذي، عن أن نضعف، عن أن تضعف معنوياتنا، عن أن نستسلم لمصيبةٍ دون أن نتحرك، الله سبحانه وتعالى لا يرضى لنا هذه الحالة لأننا عباده، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول:  

((  إِنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ فَإِذَا غَلَبَكَ أَمْرٌ فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.  ))

[ ضعيف أبي داوود ]

 هذا الحديث أيها الإخوة وحده لو تدبّره المسلمون اليوم لكانوا في حالٍ غير هذه الحال: (إِنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ) 


على الإنسان أن يبذل كل ما في وسعه قبل أن يستسلم و يضعف:


 الإنسان قد يستسلم لمصيبة، يخضع لظالم، يستخذي، يخنع، يقول: هذا حظي، هذا ما أراده الله لي، لن تقوم لي قائمة (إِنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ) يلومك.

﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ(39)﴾

[  سورة الشورى  ]

(وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ) التدبير، دبِّر أمرك، اتخذ الأسباب، اسأل، ارفع قضيتك لمن تثق بعدله، تحرَّك، لا تستسلم، لا تيأس. 

(إِنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ) التدبير، قال: (فَإِذَا غَلَبَكَ أَمْرٌ) عندئذ (فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) .

 لا يُقبَل منك أن تقول: حسبي الله ونعم الوكيل إلا عندما تبذل كل ما في وسعك من أسباب، والله سبحانه وتعالى لحكمةٍ بالغة يشاء لك أن تكون هكذا، فلذلك يقول الله عزَّ وجل: ﴿فَلَا تَهِنُوا﴾ 


آيات التوحيد تملأ القلب طمأنينة و ثقة:


 أنت غالٍ على الله، أنت مؤمن، والأمر بيد الله، لا يوجد إله آخر.

﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَٰهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَٰهٌ ۚ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84)﴾

[  سورة الزخرف  ]

﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ۚ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)﴾

[  سورة الفتح ]

﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)﴾

[  سورة هود  ]

﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ ۗ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)﴾

[  سورة الأعراف  ]

﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ۚ وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ۚ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ(41)﴾

[  سورة الرعد ]

﴿ قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا ۖ لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ۚ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)﴾

[  سورة الكهف  ]

﴿ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)﴾

[  سورة الشورى  ]

 هذه آيات التوحيد احفظها عن ظهر قلب، آيات التوحيد تملأ القلب طمأنينة، تملأ القلب ثقة، تملأ القلب راحة، آيات التوحيد، ليس إلا الله، ليس في الكون إلا الله، وكل ما تراه صورٌ بصور.


من توكل على الله كان أقوى الناس:


﴿فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ﴾ أن تتنازل عن حقوقك، وأن تتنازل عن كرامتك، وأن تبذل ماء وجهك، وأن تصير خطيئة لإنسان، وأن تصير مستضعفًا.

﴿فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ﴾ بربكم طفلٌ صغير أبوه ملك البلاد أليس أقوى من أقوى قويٌ في هذه البلاد؟ الطفل قوي بقوة أبيه، والطفل غني بغنى أبيه، والطفل يعلم بعلم أبيه.  

﴿وَاللَّهُ مَعَكُمْ﴾ القوة الوحيدة في الكون معكم إذا كنتم مؤمنين، إذا أردت أن تكون أقوى الناس فتوكل على الله، المؤمن قوي جداً، لا لأنه قوي، بل لأنه مستقيمٌ على منهج الله، والله لا يتخلى عنه، هذه قوته فقط، قوته ليست ذاتيةً، قوته من تأييد الله له، من توفيق الله له، من حفظ الله له، من نصر الله له، هذه قوته، ليست قوته ذاتيه، لكن باتصاله بالله، واستقامته على منهجه، وإقباله عليه، فهو يستمد قوته من الله سبحانه. 


المؤمن الحقيقي لا يستسلم إلا لله عز وجل:


 الآية دقيقة المعنى والدلالات: ﴿فَلَا تَهِنُوا﴾ لا تخشع لغير الله عزَّ وجل، لا تذل نفسك لغير الله عزَّ وجل، لا تبذل ماء وجهك لسبب تافه، لا تضيِّع كرامتك، لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه.

(( اطلبوا الحوائِجَ بعِزَّةِ الأنفُسِ؛ فإنَّ الأمور تجري بالمقادير. ))

[ الألباني بسند ضعيف ]

﴿فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ﴾ تتخلى عن حقوقك، تتخلى عن كرامتك، تتخلى عمّا هو لك لأنك تظن أنك أضعف من الكافر، فالكافر من أين أتته قوته؟ الذي أعطاه القوة يعطيك أمثالها وأضعافها. 


المؤمن عال بمنهجه و قيمه و عقيدته:


﴿وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾ تصميم، أنتم الأعلون بعقيدتكم، أنتم الأعلون بمنهجكم، أنتم الأعلون بقِيَمكم، أنتم الأعلون بأخلاقكم، أنتم الأعلون بتأييد الله لكم. 

﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ﴾ وإذا كان الله معك فمن عليك؟ وإذا كان الله عليك فمن معك؟ تصور: مجنَّد غِرّ هدده عرِّيف في الجيش، ووالده قائد الجيش، فانخلع قلبه من الخوف أليس هذا غبياً وجاهلاً؟ 


عمل الإنسان محفوظ ويحاسب عليه يوم القيامة:


 لذلك: ﴿وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾ مهما عملت عملاً دقيقاً، قليلاً، صغيراً فالله سبحانه وتعالى يحفظه لك. 

﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه(7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه(8)﴾

[  سورة الزلزلة  ]

﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ (47)﴾

[  سورة الأنبياء  ]

﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه*وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه﴾ جئتَ إلى مجلس العلم من مكان بعيد، استغرق الطريق ساعة، فعملك محفوظ، أدَّيت الصلوات في أوقاتها، أنفقت من مالك الحلال الذي كسبته بكدِّ يمينك وعرق جبينك، عملك محفوظ، أمضيت الساعات الطِّوال في طلب العلم عملك محفوظ، كظمْتَ الغيظ في سبيل الله عملك محفوظ، رضيت بقضاء الله وقدره عملك محفوظ، بذَلت جهداً كبيراً في خدمة الآخرين عملك محفوظ، دعوت إلى الله عملك محفوظ. 


الله عز وجل مع المؤمن يؤيده بنصره:


 ﴿وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾ أنت تتعامل مع خالق الكون، مع رب العالمين، أيُعقل أن يضيِّعَ عليك عملك؟ هذا يتنافى مع كمال الله، يتنافى مع رحمته، يتنافى مع عدالته، والتاريخ أمامكم، الباطل له جولات لكن الحق هو المنتصر، الإنسان المنحرف ربما تاهَ على عباد الله لكن الله مع المؤمنين؛ ينصرهم ويحفظهم، ويؤيدهم، ويوفقهم، ويُعلِي قدرهم، ويعلي شأنهم، ويرفع ذكرهم، وهذا التاريخ أمامك، هؤلاء الذي آمنوا برسول الله هم في العلياء، والذين حاربوه في مزبلة التاريخ، أين أبو لهب؟ أين أبو جهل؟ أين أمية بن خلف؟ هؤلاء صناديد الكفر، أقوياء مكة أين هم؟ وأين سيدنا الصديق؟ سيدنا عمر؟ سيدنا عثمان بن عفان؟ سيدنا علي؟ هؤلاء الأصحاب الكرام هم في أعلى عليين، وتاريخ البشر يشِفُّ عن هذه الحقيقة ﴿فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾


الله سبحانه وتعالى لا يضيِّع أجر من أحسن عملاً:


 واللهِ أيها الإخوة، زوال الكون كله أهونُ على الله من أن يضيِّع على المؤمن عمله الصالح، اعتنيتَ بأولادك تعبك محفوظ، صبرت على زوجتك صبرك محفوظ، كظمت غيظك كظمك محفوظ، عُرِضَت لك الدنيا من طريقٍ مشبوه فعففت عنها، وقلت: حسبي الله ونعم الوكيل، الله الغني، عُرِض عليك مبلغٌ ضخم أنت في أمسِّ الحاجة إليه لكنه من طريقٍ مشبوه فعففت عنه وبقيت على دخلك القليل، عملك محفوظ، فالله سبحانه وتعالى لا يضيِّع عمل المؤمنين.

(( البِرُّ لا يَبْلَى، والذنبُ لا يُنْسَى، والدَّيَّانُ لا يموتُ، اعْمَلْ ما شِئْتَ، كما تَدِينُ تُدَانُ. ))

[ ضعيف الجامع ]

 البر لا يبلى والذنب لا ينسى والديان لا يموت، السعيد من أمضى حياته في الأعمال الصالحة، في خدمة الخلق، في معرفة الحق، في الأمر بالمعروف، في النهي عن المنكر، في إقامة شرع الله عزَّ وجل، في نصر دين الله، لأن كل هذه الأعمال سوف يُكافأُ عليها المؤمن أضعافاً مضاعفة، وقد يُكافَأ عليها بغير حساب، فالزوج إن يضع اللقمة في فم زوجته فهي له صدقة، إن يتصدق باللقمة من الطعام، يرَها يوم القيامة كجبل أحد، الله كريم خلقنا لنربح عليه، خلقنا لتكون تجارتنا معه أربح تجارة، فلا تجد تجارة تربح بالمئة مليون.


الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان ليربح الدنيا و الآخرة:


 أرباح التجارة في الدنيا لا تتجاوز بالمئة ثلاثين، خمسة وعشرين، خمسة وثلاثين، خمسة وخمسين، يقول لك: ربحنا بالمئة مئة، وهذا ربح خيالي، لكن الله سبحانه وتعالى خلقك كي تتاجر معه:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ(10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(11)﴾

[  سورة الصف  ]

 إذاً فهذه الآية إذا تدبرها الإنسان، وقرأها بعناية، وطبق مضمونها، وكان كما يريد الله عزَّ وجل إيماناً واستقامةً وعملاً وإخلاصاً تأتي هذه الآية بلسماً له.


من أحبه الله ألقى محبته في قلوب الخلق:


﴿فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾ تجد ربنا عزَّ وجل في الوقت المناسب أنقذك، بالوقت المناسب حفظك، قد يهيّئ لك عدوّاً يدافع عنك، وقد يهيئ لك خصماً يدعمك، أو قد يسوق لك شخصاً فاجراً يكون حصنًا لك أحياناً، إذا كان الله معك فمن عليك؟ أماّ إذا كان عليك فمن معك؟ فقد يهينك أقرب الناس لك، يتخلى عنك ابنك، تتخلى عنك زوجتك، يتخلى عنك أقرب الأصحاب إذا كان الله عليك، أمّا إذا كان معك ألقى حبك في قلوب الخلق، ألقى مهابتك في قلوب الخلق، وإذا تخلى عنك تنكَّر لك أقرب الناس إليك، لذلك: 

كُنْ معَ اللهِ تَرَ اللهَ معَك    واترُكِ الْكُلَّ وحاذِرْ طَمعَك

وإذا أعطاكَ فمَنْ يمنعُـهُ    ثمَّ مَنْ يُعطِي إذا مَا مَنعَــك

[ عبد الغني النابلسي ]


من طلب العلم أكدّ إنسانيته ومن تخلى عن طلب العلم هبط إلى مستوى البهيمة:


 ثم يقول الله عزَّ وجل:

﴿ إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ(36)﴾

[ سورة محمد ]

 أما كلمة ﴿إنما﴾ أداة قصر وحصر، وللإيضاح أذكِّر بالمثل المعروف في كتب البلاغة: شوقي شاعر، وقد يكون كاتباً، أو حقوقياً، أو موظفاً، أما إذا قلنا: إنما شوقي شاعر، قصرنا شوقي على الشِعْر، وإذا قلنا: إنما الشاعر شوقي قصرنا الشعر على شوقي مثلاً، فكلمة ﴿إنما﴾ دقيقة جداً في القرآن الكريم يجب أن تفهمها فهماً بلاغياً صحيحاً، فهماً أصولياً، إذا قال لك الله عزَّ وجل:

﴿ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ ۗ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ(28)﴾

[  سورة فاطر ]

 أيْ أنّ العلماء وحدهم وليس أحدٌ سواهم يخشون الله؛ وحدهم يخشون الله، هذه الآية معناها: الطريق الوحيد الذي لا ثاني له لخشية الله هو أن تكون عالماً، لذلك "كن عالماً أو متعلماً أو مستمعاً أو محباً ولا تكن الخامسة فتهلك" فالإنسان إذا طلب العلم أكّد إنسانيته، وإذا تخلى عن طلب العلم هبط إلى مستوى البهيمة.


من عمل عملاً انتهى عند الموت أضاع دنياه و آخرته:


﴿إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ أيْ أنَّ الحياة الدنيا تعريفها الحصري والقصري ﴿إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ﴾ ، ما هو اللعب؟ العمل الذي ليس أي نفعٍ وراءه، إذا شخص انتسب للجامعة ودرس أول سنة، والثانية، والثالثة، والرابعة، صار يحمل إجازة، فإذا تابع ودرس دبلوم، ماجستير، صار دكتوراً، تعيَّن بشهادته، صار له دخل، ارتفعت مكانته الاجتماعية، فالوقت الذي أمضاه في الدراسة كان من نتائجه هذا المنصب وهذا الدخل، إنسان أسس محلاً تجارياً، بعد أيام، بعد أشهر، بعد سنوات، اشتهر هذا المحل، وصار له زبائن ثابتون، وتعاظم دخل صاحبه، فأيام التأسيس ليس استهلاكاً للوقت، بل استثمارٌ له، أيام فالدراسة ليست استهلاكًا للوقت بل هي استثمارٌ للوقت.

 أما إذا الإنسان لعب بالنرد (الطاولة) فيقول مزهواً: بعد ثمانية غلبته، خير إن شاء الله، شيء ليس له طائل، هذا اللعب، عمل عابث ليس له هدف، لا هدف، ولا نتيجة، ولا مردود، ضياع للوقت، فتعريف اللعب: عمل ينتهي بانقضائه، أما هناك أعمال خطيرة جداً تبقى آثارُها إلى يوم القيامة، وأعمال النبي اللهم صلِّ عليه آثارها إلى أبد الآبدين، جاء الحياة الدنيا ودعا إلى الله عزَّ وجل، فعمّ الهُدى بقاع الأرض، وهذا الدرس ووجودنا في المسجد من آثار دعوته، سوريا من فتحها؟ أصحاب رسول الله، من فتح مصر؟ من فتح العراق؟ من فتح بلاد الهند والسند؟ من فتح شمال إفريقيا؟ الأعمال التي لها ما وراءها، التي لها نتائج كبيرة، التي تُسعِد إلى أبد الآبدين هذه أعمال جليلة، خُلِقْتَ أنت لهذه الأعمال، أما أن تعمل عملاً ينتهي كله عند الموت فهو لعب. 


أي عمل ينتهي عند الموت هو لعب و لهو:


 وبعد، دققوا النظر: أي عمل ينتهي عند الموت هو لعب، لو زينت بيتك بأعظم زينة، فهذا العمل لعب، السبب؟ أن كل هذا العمل الضخم ينتهي عند الموت، أنت ابحث عن عمل تبدأ نتائجه بعد الموت، ابحث عن عمل تقطف ثماره بعد الموت، هذا العمل المُجدي، فدائماً عندك خط هو خط الموت، كل عملٍ تستمر آثاره بعد الموت، احرص عليه، وكل عملٍ تنتهي آثاره عند الموت فهذا من اللعب، وقد يكون عملاً كبيراً، قد يكون عملاً فخماً جداً، قد يكون عملاً جليلاً جداً، كأن يؤسس الإنسان مزرعة ويبذل فيها ثلاثين مليونًا، حتى أصبحت قطعةً من الجنة مثلاً؛ المسابح، والماء الساخن، والملاعب، والورود، والفيلات، هذه المزرعة تنتهي كل ثمارها عند الموت، إذاً لعب، أما الأنبياء الذين دعوا إلى الله عزَّ وجل فإلى الآن آثار دعوتهم، الصحابة الكرام الذين فتحوا هذه البلاد إلى الآن آثار فتوحاتهم، مقياس دقيق، كل عملٍ ينتهي عند الموت هذا لعب، كل عملٍ يبدأ بعد الموت فهذا عمل صالح.


العمل الصالح هو كل عمل يبدأ بعد الموت:


 لذلك فالإنسان حينما يأتيه ملك الموت لا يندم إلا على شيءٍ واحد.

﴿ حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ(99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ۚ كَلَّا ۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ۖ وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)﴾

[ سورة المؤمنون ]

 أيْ أنت هنا في الدنيا من أجل العمل الصالح، فإذا فعلته حققت المُراد من خلقك، وإذا أضعت الأوقات كلها في عملٍ لا طائل منه فهو في لعب، بالنسبة للذين ذهبوا إلى القمر، قرأت تعليقًا قال: هذا العمل ليس تقدماً لكنه تحرك، وصلنا إلى القمر ودفعنا أربعة وعشرين ألف مليون دولار، وهذا المبلغ أنهكَ العالم كله، وأُخذ من سكان العالم كله فرق أسعار وتعويم دولار، ماذا فعلنا؟ إنسان وقف على سطح القمر لساعات معدودة ورجع، العالم كله دفع ثمن هذه الرحلة، فهذا لعب.

 أما الأنبياء الذين جاؤوا إلى الأرض، ونشروا الحق والهدى فهذا عمل عظيم.


قيمة الإنسان عند ربه تتعلق بقيمة عمله:


 أنت قيمتك من قيمة عملك، فإما أن يكون العمل لعباً، أو يكون نفعاً و خيراً، إنّ كلمة لعب توحي بأننا صغار، فقد يكون شخص يتمتع بأعلى مكانة اقتصادية، مدير أكبر شركة في العالم، تصنع أجهزة كهربائية دقيقة جداً وحساسة جداً، يقول: نقلنا الصورة عبر الأقمار، ونقلنا معها الأفلام الإباحية، فهذا عمل، لكنه عمل لعب، لأن عند الموت تنتهي كل أرباحه، فهل هناك أخطر من اللعب؟ العمل الأخطر من اللعب الذي تستمر آثاره السيئة بعد الموت، هذا أخطر من اللعب، الآن دققوا؛ الله عزَّ وجل قال: ﴿إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ﴾ لو فرضنا أنّ إنسانًا في العطلة الصيفية، طالب مثلاً ليس لديه واجبات دراسية، وليس لديه دوام في الجامعة، ولا فحص، بلا مسؤولية في عطلته الصيفية، وأمضى أربع ساعات بلعب الورق مثلاً، فهذا اسمه لعب، وليس له فائدة، لكن تصور أنه أمضى أربع ساعات في أيام الامتحان بلعب الورق فهذا اسمه لهو، فاللهو يعني التلهي بالخسيس عن النفيس، صار هناك معنى آخر، فاللهو شيءٌ خسيس، سخيف، دنيء، حقير، شغلك عن شيءٍ ثمينٍ عظيم، هذا هو اللهو، إن فعلت فعلاً لا طائل منه، لا فائدة منه، لا نتيجة له، لا أثر له، انقضى بانقضائه هذا لعب، أما إذا عملت عملاً لا فائدة له، ولا جدوى، ولا مردود، ولا نتيجة، لكنه في الوقت نفسه شغلك عن عملٍ عظيم، عن كسبٍ كبير، عن رسالةٍ عظمى، فهذا اسمه لهو، اللهو أن تتلهّى بالخسيس عن النفيس.


كل عمل ليس له نتائج لا فائدة منه:


﴿ أَلْهَىٰكُمُ التَّكَاثُرُ(1) حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ(2) كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ(3) ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ(4)﴾

[  سورة التكاثر  ]

 فربنا عزَّ وجل يبيِّن لنا أنما الحياة الدنيا لعبٌ ولهوٌ، أي عمل ليس له نتائج؛ أكلْنا، شربنا، سكنّا في بيوت، قمنا بنزهات، سهرنا، دعونا الناس لولائم، انطلقنا في سياحة حول العالم، شاهدنا البلاد، والعباد، والجبال، والبحار، والجُزر، في المصايف، وفي المشاتي، وركبنا الطائرات، والبواخر، والبوارج، وركبنا اليخوت، وركبنا السيارات، وأكلنا ما لذّ وطاب، واستمتعنا بكل مباهج الدنيا، ثم جاء ملك الموت، هل لهذه المتع كلها أثر بعد الموت؟ فمثلاً إذا الإنسان حضر أكثر من ثلاثين دعوة وآلمه ضرسُه، فإذا أراد أن يستدعي أول أكلة أكلها في أول يوم هل تنسيه وجع ضرسه؟ أو التي قبلها؟ لو استدعى بذاكرته كل ألوان الطعام التي أكلها لا يغنيه عن هذه الآلام المبرحة التي يَئِنّ منها.


اللهو هو التلهي بالخسيس عن النفيس:


 لذلك: ﴿إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ﴾ لعب: عمل لا طائل منه، أما اللهو عمل دنيء يصرفك عن النفيس، تصور -من باب التقريب- طالب أُرسِل إلى بلد غربي لينال دكتوراه، باختصاص نادر، فإذا تخرج وعاد إلى بلده شغل أعلى منصب في الجامعة، وكان هناك إغراء شديد: يُعطى" فيلا" وسيارة مع منصب رفيع ودخل كبير جداً، لكنه إذا ذهب إلى هناك وأعجبته لعبة كرة القدم مثلاً فأمضى وقته في مشاهدة مبارياتها هناك، ومضى الشهر والشهران والعام والعامان وعاد بعد أربع سنوات بخُفّي حنين لا شهادة ولا علم، فماذا فعل بنفسه؟ التهى بهذه اللعبة عن دراسة اختصاصه النادر الذي سيعود عليه بالنفع الكبير، فصار مفهوم اللهو واضحاً، واللعب واضحاً، قال: ﴿إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا﴾.


الهدف من وجود الإنسان في الدنيا هو معرفة منهج الله و تطبيقه:


 البديل: ﴿وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا﴾ الإيمان أمر فكري والتقوى سلوك، الدين عقيدة وعمل، إيمان وعمل، أيْ نشاط ذهني، ونشاط سلوكي.

﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَىٰ لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ(29) ﴾

[ سورة الرعد ]

 هذه الآية وردت مئتي مرة في القرآن الكريم ﴿وَإِنْ تُؤْمِنُوا﴾ أيْ بالله، بخالق الكون، برب الكون، بالإله المسيِّر، تؤمنوا به خالقاً مربياً مُسيّراً موجوداً كاملاً واحداً، تؤمنوا بأسمائه الحسنى كلها، تتعرفوا إلى منهجه، تطبقوا منهجه.  

﴿وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا﴾ هذا الهدف من وجودنا في الدنيا، هذه مهمتنا الأساسية، إن لم نعرف هذه المهمة خسرنا خسارةً كبرى.. 

﴿ فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ ۗ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ(15)﴾

[  سورة الزمر ]


من عمل عملاً صالحاً كافأه الله عليه أضعافاً كثيرة:


 إذًا: ﴿إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ﴾ أيْ أن كل عملٍ عملته سوف تُكافَأُ عليه أضعافاً كثيرة لا تعد ولا تحصى. 

﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(261)﴾

[  سورة البقرة  ]


وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ: آية لها عدة معان:


1ـ الله عز وجل لا يسألكم أموالكم كلَّها لتنفقوها في سبيله:

 أما الآية الكريمة: ﴿وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ﴾ أول معنى: ولا يسألكم أموالكم كلَّها، عند الله لا يوجد مصادرات، المال كله لا يأخذه منك، قال لك: ادفع ربع العشر، واحد بالأربعين، فالزكاة اثنان ونصف بالمئة، واللهُ ما سألك أموالك كلها، تكاليف الدين ليست مرهقة، لم يقل لك: صلِّ ألف ركعة في اليوم، قال لك: خمس صلوات، لم يقل لك: صم خمسة أشهر، صم شهراً واحداً، لم يقل لك: اترك النساء كلياً، لا بل تزوج، لكن إياك أن تطلق بصرك في الحرام، لم يقل لك: لا تشتغل، اقعد بالبيت وتعبّد، لا، بل قال لك: اشتغل لكن وفق منهج الله عزَّ وجل، فالشرع واقعي، الإسلام دين الفطرة، دين الواقع، لا تطرُّفَ في الإسلام، قال: ﴿وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ﴾ طبعاً يُقاس عليها كل شيء، أولاً ما سألك مالك كله، والنبي عليه الصلاة والسلام حينما دعاكم إلى الله ما سألكم أموالكم، فالدعوة إلى الله من دون مقابل، لا يقدر إنسان أن يدخل عند طبيب إلا ومعه خمسمئة ليرة احتياطًا، المحامي كذلك، المهندس كذلك، لكنه يقدر أن يدخل إلى أي مسجد ويسمع الدرس دون رسم دخول، ودون رسم خروج، بالمجان، النبي عليه الصلاة والسلام حينما دعا إلى الله لم يسألكم أموالكم، هذا المعنى الثاني.  

2 ـ الله عزَّ وجل إذا سألكم أموالكم فهذه ليست أموالكم هي أمواله:

  ثم إن الله عزَّ وجل إذا سألكم أموالكم فهذه ليست أموالكم هي أمواله، هذا ماله، لله ما أعطى وله ما أخذ، إذًا المعنى الثالث: ما سألك مالك سألك ماله، مالك الذي بين يديك هو مال الله عزَّ وجل، لم يقل له: أعطني من مال الله، أعرابي قاسٍ قال: "أعطني يا محمد من مال الله فهذا المال ليس مالك ولا مال أبيك " ، فقال النبي: "صدق إنه مال الله" فقد تلقَّاه بالحلم، فأول معنى: ما سألك مالك كله، والمعنى الثاني أن النبي حينما دعاكم ما سألكم أموالكم.  

3 ـ الله عز وجل حينما سألكم أموالكم ما سألكم مالكم ليأخذه بل ليعود عليكم ثواباً وأجراً:

 والمعنى الثالث هو حينما سألكم أموالكم ما سألكم مالكم ليأخذه، بل ليعود عليكم ثواباً وأجراً وسعادة أبدية، فهذه كلها معانٍ تُلمح من كلمة: ﴿وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ﴾


الشرع واقعي ويراعي فطرة الإنسان دائماً:


﴿ إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ(37)﴾

[ سورة محمد ]

 لو أنه سألكم مالكم كله، وكلّفكم صيام السنة كلها، ومنعكم من الزواج، ومنعكم من العمل، قال: ﴿إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ﴾ بإلحاحٍ ومبالغةٍ ﴿تَبْخَلُوا﴾ عندئذٍ.  

﴿تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ﴾ فالإنسان متعلق بالمال، متعلق بالزوجة، ولو قال الله لك: لا تتزوج، لا تشتغل، لا تكسب مالاً، هات مالك كله، فالإنسان عندئذٍ يضطر مُرغَماً انسجاماً مع فطرته وطبيعته أن يبخل، وأن يكره هذا الدين الذي يأخذ كل ماله، فالنبي الكريم لما أمر أحد ولاته بأخذ الزكاة قال: 

((  وإياك وكرائم أموالهم.  ))

[ صحيح الترمذي ]

 هو يعطيك، لا تنتقي أنت فتأخذ أجمل ناقة منه كزكاة، فالدين واقعي، الدين يكلفك واحداً بالأربعين، ربع العِشْر، قال لك: صلِّ خمس أوقات، قال لك: صم شهراً، قال لك: إذا كنت مريضاً أفطر ولا حرج عليك، مسافر أفطِر، أيضاً أباح لك أن تتزوج، كما أباح لك أن تشتغل، اكسب مالاً، فالشرع واقعي، ما سألك مالك كله، ولا وقتك كله، ولا كلّفك بعبادة تستغرق كل وقتك. 


الدين الإسلامي دين الفطرة:


 قال: ﴿إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ﴾ أيْ إذا سألكم إياها بشدة عندئذٍ تبخلون، لأنكم تكرهون ديناً يأخذ كل مالكم، تكرهون ديناً يأخذ كل وقتكم، تكرهون ديناً يمنعكم من شهوةٍ أُودِعت فيكم بالفطرة، فالدين الذي يمنع الزواج مكروه، وأتباعه كرهوه وكفروا به، لأنه ليس معقولاً، ولئن قبلوه ظاهراً فقد وقعوا في انحرافات خطيرة، هؤلاء الذين اتخذوا هذه الرهبانية ابتدعوها، وما كتبناها عليهم، هم حينما كتبوها على أنفسهم ما رعوها حق رعايتها، أما دين الفطرة فقد قال لك: تزوج.  

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ(172)﴾

[  سورة البقرة ]

 وقال لك اعمل، واكسب مالاً، وادفع منه بالمئة اثنين ونصف، صلِّ خمسة أوقات، صم ثلاثين يوماً، فالإسلام واقعي، ولو أنه فرضاً ﴿إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا﴾ كلها بإلحاح، وبقصر ﴿فَيُحْفِكُمْ﴾ إذا سألكم إيَّاها مع المبالغة في السؤال فعندئذٍ تبخلون، وتكرهون هذا الدين.


الدين الإسلامي لو كلف الإنسان فوق ما يطيق لكرهه:


﴿وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ﴾ الكراهية عندئذ تظهر واضحة لهذا الدين لأنه غير واقعي، فربنا عزَّ وجل حكيم، لأن كل شيء يتحمل ضغطًا معينًا ولدرجة معينة، لو رفعنا الضغط لانكسر الشيء، فالله حكيم. 

﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (258)﴾

[ سورة البقرة ]

لو كلَّفنا فوق ما نطيق لكرهنا هذا الدين انسجاماً مع فطرتنا، لكن هذا الدين يتوافق مع الفطرة. 


على الإنسان أن يتعامل مع الله بعكس ما يتعامل مع الناس:


 ﴿إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا﴾ طبعاً: ﴿إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا﴾ فعل الشرط ﴿فَيُحْفِكُمْ﴾ معطوف عطف بيان، أيْ كيف السؤال؟ بإلحاح، وجواب الشرط: ﴿تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ﴾، لذلك إذا أردت أن يحبك الناس فلا تسألهم ما في أيديهم أبداً، كلهم يحبونك، إذا أردت أن يحبك الله فاسأله كل ما عنده، بالعكس.  

لا تَسْأَلَنَّ بنِي آدمَ حَاجـــــــةً   وسَلِ الّذي أبوابُه لا تُحْجَـب

اللهُ يغضبُ إنْ تركتَ سؤالَهُ   وبنِي آدمَ حينَ يُسأَلُ يَغضَبُ

[ الإمام الشافعي ]


المؤمن الصادق يدعو إلى الله دون أجر أو مكافأة:


 دلني على عملٍ إذا عملتُه أحبني الناس؟ قال: "ازهد بما في أيدي الناس يحبك الناس، وارغب بما عند الله يحبك الله" ، فالمؤمن الصادق يدعو إلى الله، لا يطلب لا أجرًا ولا مكافأة، ولا مادياً، ولا معنوياً، إطلاقاً.

﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا(9)﴾

[  سورة الإنسان  ]

 لا يذوق معنى الإخلاص إلا من كان مخلصاً، لا تبتغِ من وراء عملك الصالح شيئاً عندئذ يحبك الناس جميعاً، فإذا نظرت إلى ما في أيديهم، وطمعت بما في أيديهم، ولمَّحْتَ لهم، وصرَّحْتَ لهم كرهك الناس، لو أن الدين الذي هو دين الله سألك كل مالك لكرهته، ولو سألك كل وقتك لكرهته، ولو منعك من تلبية شهوات أودعها الله فيك لكرهته. 


الإسلام دين واقعي وازن بين الدنيا و الآخرة:


 قال تعالى: 

﴿ إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ(37) هَا أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ ۖ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ ۚ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ ۚ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم(38)﴾

[ سورة محمد ]

 قال العلماء: الإنفاق هنا إنفاق الزكاة، أو إنفاق الصدقة، أو الإنفاق من أجل الجهاد، هذا السؤال واقعي، والدين ينسجم مع الفطرة، والله عزَّ وجل ما كلَّفك فوق ما تطيق، كلفك الشيء اليسير القليل "إن الله أمر عباده تخييراً، ونهاهم تحذيراً، وكلَّف يسيراً، ولم يكلف عسيراً، وأعطى على القليل كثيراً، ولم يُعصَ مغلوباً ولم يُطع مكرهاً" .. لذلك فالنبي الكريم اللهم صلِّ عليه قال:  

(( أما واللهِ إني أخشاكم للهِ  وأتقاكم له، لكني أصومُ وأُفطِرُ، وأُصلِّي وأرقدُ، وأتزوَّجُ النِّساءَ، فمن رَغِب عن سُنَّتي فليس مِني. ))

[ صحيح الجامع ]

 لم يقل لك: لا تنم، بل قال: نم.  

((  إِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا.))

[  سنن البخاري ]

(لكني أصومُ وأُفطِرُ، وأُصلِّي وأرقدُ، وأتزوَّجُ النِّساءَ، فمن رَغِب عن سُنَّتي فليس مِني) دين الإسلام واقعي متوازن، وازنَ بين الدنيا والآخرة، بين حاجات الجسد وحاجات الروح، بين القيم والحاجات، بين الحاضر والمستقبل، بين ما ينبغي أن تفعله وما أنت فيه، هناك موازنات دقيقة، لذلك ديننا دين الحق، دين فيه مقومات استمراره.


التقصير بالعمل الصالح لا يضر إلا صاحبه:


 أما الآن أيها المسلمون: ﴿هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ النفقةَ الشرعية، تُدعَون لتنفقوا زكاة أموالكم، فالزكاة فرض، تُدعَون لتنفقوا صدقاتكم، تُدعَون لتنفقوا في سبيل نشر هذا الدين. 

﴿هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ﴾ إنّ الإنسان عندما يعرف أن عمله الصالح له، وتقصيره في العمل الصالح عليه، عندئذٍ يبادر بالعمل الصالح، قال: ﴿وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ﴾

((  يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَهُ. ))

[  صحيح مسلم ]


النبي عليه الصلاة والسلام كان في رمضان أجود ما يكون:


﴿هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ﴾ نحن على أبواب شهر رمضان الكريم، والنبي عليه الصلاة والسلام كان في رمضان أجود ما يكون، كان جواداً وكان أجود ما يكون في رمضان، كان أجود من الريح المُرْسَلة، في الشدة في السخاء وفي الشمول، قال: ﴿وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ﴾


كل مَن أنفق في سبيل الله بإخلاص عُوَّض عليه أضعافاً كثيرة:

 

عندما يقرأ المؤمن القرآن يجد فيه ثماني آيات حصراً تَعِد المنفق بالتعويض والخُلف.

﴿ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ ۚ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ(39)﴾

[ سورة سبأ ]

 وكل مَن أنفق في سبيل الله بإخلاص يتحسس هذه الآيات، يجد أن الله سبحانه وتعالى عوَّض عليه أضعافاً كثيرة، ورزقه من حيث لا يحتسب ﴿وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾


من أنفق ماله مخلصاً في سبيل الله لن يضيع الله عمله:


 فإذا زهدت فيما عند الله عز وجل، فهناك من لا يزهد فيما عنده، وإذا بخلت بإنفاق المال على عباده الفقراء هناك من ينفق بسخاء، والله عزَّ وجل هو الغني وهو الكريم.

(( أَنْفِقْ بِلَالُ وَلَا تخش مِنْ ذِي الْعَرْشِ إِقْلَالًا ))

[ الطبراني بسند ضعيف ]

(( يا ابْنَ آدَمَ أنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ. ))

[ صحيح مسلم ]

 وما ذاق لذة الإنفاق، وما ذاق لذة العطاء إلا من أنفق مخلصاً في سبيل الله، فالصدقة تقع في يد الله قبل أن تقع في يد الفقير، قال النبي الكريم: 

((  باكروا بالصَّدقة، فإن البلاء لا يتخطاها. ))

[  رواه البيهقي بسند ضعيف ]

((  صدقة السر تطفئ غضب الرب. ))

[ رواه الطبراني ]

 وإذا الإنسان أنفق من ماله فيما بينه وبين الله إنفاقاً مخلصاً وأراد به وجه الله، فالله سبحانه وتعالى لن يضيِّعَ عمله، وأحياناً يقال (وهذا مثل عامي): "يروح الزاهد فيأتي ألف عاشق" . واسمع قوله تعالى ففيه تهديد ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾

والحمد لله رب العالمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور