وضع داكن
28-03-2024
Logo
الدرس : 08 - سورة غافر - تفسير الآيتان 23 - 27 قصة موسى عليه السلام مع فرعون
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.


قصة موسى عليه السلام مع فرعون:


 أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الثامن من سورة غافر، ومع الآية الثالثة والعشرين، وبدءاً من هذه الآية تبدأ قصة سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام مع فرعون، ولهذه القصَّة دلالاتٌ كثيرة، ومَنْ يتوهَّم أن هذه القصَّة تكرَّرت في القرآن كثيراً، فالحقيقة أنها لم تتكرَّر، ففي كل مرَّةٍ وردت فيها هذه القصَّة كانت المناولة -بالتعبير الفني- من زاويةٍ خاصَّة، فربنا جلَّ جلاله من خلال هذه القصَّة أراد أن يُسلّي النبي عليه الصلاة والسلام، وأن يحذِّر أعداءه.

 فالقصَّة كما تعلمون حقيقةٌ مع البرهان عليها، والحقائق المجرَّدة لا تفعل في النفس فعل القصَّة، لأن القصَّة أحداثٌ وقعت، لكن هذه الأحداث تعني شيئاً يُستنبَط منها حقائق، هذه الحقائق لماذا تترسّخ في النفس؟ لأنها مستمدَّة من الواقع، فلذلك قالوا: القصَّة حقيقةٌ مع البرهان عليها، فربنا جلَّ جلاله من خلال قصة موسى عليه الصلاة والسلام مع فرعون أراد أن يثبِّت النبي، وأن يُسلِّيَه، وأن يحذِّر المشركين من مصير فرعون الذي يأخذ بعضهم دوره.

 قال تعالى:

﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (23)﴾

[ سورة غافر ]


وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى


1 ـ مِن رحمة الله بالعباد إرسالُ الرسل:

 الحقيقة لأنّ الله جلَّ جلاله صاحب الأسماء الحسنى، لأنه ذاتٌ كاملة، خلقَ الخلق في أبدع تكوين، ولكن رحمته تقتضي أن يُعْلِمَ الإنسان حينما يغفل.

 تعلمون أيها الإخوة أن الإنسان مكلَّف، الكون كلُّه مسخَّرٌ له، وعقله مسخَّرٌ له، وفطرته مسخرةٌ له، والشهوة التي أودعها فيه من أجل أن تدفعه إلى باب الله عزَّ وجل، وحرية الاختيار التي منحه إيَّاها من أجل أن يكون عمله ثميناً.

الكون والعقل والفطرة والحريَّة والشهوة هذه كلِّها مقوِّمات التكليف، ومع ذلك كلِّه ربَّما ضلَّ الإنسان سواء السبيل، وربما غفل عن ذكر الله، وربما ألهته الدنيا، وربَّما اتَّبع شهوته، فرحمة الله بالخلق تقتضي أن يرسل إليهم رسولاً، أن ينزِّل عليهم كتاباً، ولأن كل إنسان لا يستطيع أن يتلقَّى عن الله وحيَهُ، فتلقي الوحي يحتاج إلى أشخاص قمَّة في الطُهر، وقمَّةٌ في الحُب، وقمَّةٌ في العلم، قال تعالى:

﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ(33)﴾

[ سورة آل عمران  ]

 إذاً: الفكرة هي أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان في أحسن تقويم، وكرَّمه أعظم تكريم؛ منحه الكون، ومنحه العقل، ومنحه الحريَّة، منحه الشهوة، منحه الفطرة، ومع كل هذا قد يغفل الإنسان، قد يسهو، قد تضلُّه أهواؤه، قد يتبع شهواته، قد تطغى عليه الدنيا، قد يُشْغَلُ بالمال فتقتضي رحمة الله عزَّ وجل أن ينبِّه هذا الإنسان الغافل، أن يذكِّره لأنه رب العالمين.

2 ـ لابد للرسول من معجزة دالة على صدق رسالته:

 كيف يذكِّر الله البشر؟ لابدَّ من رسول، أيمكن أن يخاطب الله كل البشر؟ إنهم لا يستطيعون تلقِّي الوحي، لابدَّ من واحدٍ منهم اصطفاه الله عزَّ وجل على عِلم، هذا الذي اصطفاه الله على علم يوحي إليه، فيُنبِئ الناس بأنه رسول من عند الله عزَّ وجل، لأن هذا الرسول معه منهج، معه أمرٌ ونهي، افعل ولا تفعل، هذا المنهج يُعَطِّل على أهل الأهواء أهواءهم، يعطِّل على أهل الشهوات شهواتهم، يحدُّ من حريَّة الفُجَّار والكفَّار، ماذا يفعل الفُجَّار والكفَّار؟ يقولون: لست مرسلاً، أنت كاذب، فكيف يؤكِّد لهم هذا النبي المُرسل أنه رسول؟ لابدَّ من المعجزة.

 إذاً: المعجزة شهادة الله لرسوله بأنه رسوله، يعطيه شيئاً يعجز عنه كل البشر، وشيئاً مما نبغ فيه أهل العصر، كل عصرٍ تفوَّق في موضوع؛ ففي عهد سيدنا موسى عليه السلام كان السحرة هم المتفوِّقون، وفي عهد سيدنا عيسى عليه السلام كان الطبُّ هو المتفوِّق، وفي عهد النبي عليه الصلاة والسلام كانت اللغة، والبلاغة، والفصاحة، والشعر في المحل الأول، إذاً كيف يُثبت الله للبشر أن هذا الإنسان هو رسول الله؟ لابدَّ من أن يعطيه معجزة، وكلمة معجزة تعني أن البشر جميعاً يعجزون عن أن يأتوا بمثلها، إذاً: المعجزة شهادة الله عزَّ وجل لهذا النبي بأنه رسول من عند الله.


بين المعجزة والكرامة:


 بالمناسبة: خرق العادات للأنبياء معجزات، لكن خرق العادات للأولياء ليست معجزات، إنما هي كرامات، الشيء الدَقيق هو أن المعجزة ينبغي أن تُنْشَر، وينبغي أن تُبلَّغ، وينبغي أن يُتحَدَّى بها، لكن الكرامة هذه خاصَّةٌ للولي، ولا يجوز أن يتحدَّث بها، ولا يجوز أن ينشرها، ولا أن يجعلها أساساً لدعوته، هذه نقطةٌ دقيقة، فالكرامة إعلامٌ من الله عزَّ وجل لهذا المؤمن أنك بأعيننا، وهي ردُّ السماء على طاعة المخلوق، لكن الكرامة خاصُّةٌ بالولي لا ينبغي أن يتاجر بها، ولا أن يُتحدَّى بها، ولا أن تُنشَر، لأن كل الناس بإمكانهم أن يكذِّبوها، ولا يستطيعون تصديقها إلا أن تكون بنصٍّ قطعي الثبوت.

 إذاً: قال الله سبحانه وتعالى في الآية الثالثة والعشرين قال: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا﴾

3 ـ بِآيَاتِنَا

 بآياتنا، يمسك العصا، فإذا هي ثعبانٌ مبين، ينزع يده، فإذا هي بيضاء للناظرين، هذه معجزات، ولكن الله سبحانه وتعالى كرَّم أمة محمد صلى الله عليه وسلَّم بمعجزةٍ مستمرَّة، المعجزات السابقات معجزاتٌ حسيَّة، أيْ أنَّها تقع وتنتهي، كعود الثقاب يتألَّق ثمَّ ينطفئ، ويصبح خبراً يصدِّقه مُصدِّق، ويكذِّبه مكذِّب، لكن معجزة النبي عليه الصلاة والسلام معجزةٌ عقليَّةٌ بيانيَّة، منذ أن بُعِثْ وإلى يوم القيامة، كلَّما تقدَّم العلم كشف عن جانبٍ من إعجاز القُرآن العلمي، القرآن معجزةٌ مستمرَّة تؤكِّد للبشر جميعاً أنه كلام الله، وأن هذا الذي جاء به هو رسول الله.

 إذاً: 

﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ(23) إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ(24)﴾

[ سورة غافر ]

 الآيات العلامات، العلامات الدالَّة على أنه رسول، فأن تصبح العصا ثعباناً مبيناً هذه آية، وأن ينزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين هذه آية، وأي دليلٍ، وأي علامةٍ على صدق نبوَّة النبي هي آيةٌ من الآيات.  


أنواع الآيات:


  وتعلمون أن الآياتِ أنواعٌ ثلاث: آياتٌ قرآنيَّة تدلُّ على أن هذا القرآن كلام الله من خلال الإعجاز، وآياتٌ كونيَّة تدلُّ على أن هذا الخلق خلق الله عزَّ وجل، وآياتٌ تكوينيَّة هي أفعال الله عزَّ وجل، نحن دائماً مبهورون بآيات الله، فتارةً الآيات كونيَّة، وتارةً تكوينيَّة، وأخرى قرآنيَّة، ولذلك ما حجَّتنا في عدم توجُّهنا إلى الله؟

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ۚ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ۚ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ ۚ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا ۚ فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ ۚ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ ۖ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ ۚ وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا ۚ وَلَا تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَىٰ أَجَلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَىٰ أَلَّا تَرْتَابُوا ۖ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا ۗ وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ۚ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ ۚ وَإِن تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ۗ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)﴾

[  سورة البقرة ]

 الله جلَّ جلاله يعلِّمنا من خلال آيات الكون، ويعلِّمنا من خلال آيات القرآن، ويعلِّمنا من خلال أفعاله التكوينيَّة. إذاً: معنى الآيات هنا العلامات الدالَّة على نبوَّة النبي عليه الصلاة والسلام. 

4 ـ وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ 

 لابد من العلم:

 ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾ السلطان المبين الحُجَّة، فالله عزَّ وجل أكرم الإنسان بالعقل، والعقل غذاؤه العلم، والعلم أحياناً يغذِّي العقل، ويضعه أمام مسؤولياته، لذلك إذا تعلَّم الإنسان، فكلَّما ازداد علماً ازداد صلاحاً، كلَّما ازداد علماً ازداد قرباً، كلَّما ازداد علماً ازداد انضباطاً، كلَّما ازداد علماً ازداد رُقياً، كلَّما ازداد علماً ازداد سموَّاً، العلمُ أساس كل شيء، "إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم" .

 فسيدنا موسى إضافة إلى الآيات التي أيَّده الله بها، والتي هي معجزات، فلو أنه نزع يده من جيبه فإذا هي بيضاء للناظرين، ولو أنه ألقى عصاه فإذا هي ثعبانٌ مبين، ثم تكلَّم موسى، إضافةً إلى هذه الآيات الحسيَّة كان له حجَّةٌ قويَّة، لذلك قال تعالى:

﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ ۚ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ ۗ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ(83)﴾

[  سورة الأنعام ]

 وما من مؤمنٍ إلا ومعه حُجَّة، ما اتخذ الله ولياً جاهلاً، ولو اتخذه لعلَّمه.

 الإنسان يتصل بالله عزَّ وجل، يتعرَّف إلى كتاب الله، يدقِّق في آيات الكون، ثمَّ لا يكون معه حجَّة قاطعة مقنعة للأشخاص التائهين؟!! فهذا لا يصحُّ أبداً، ما اتخذ الله ولياً جاهلاً، لو اتخذه لعلَّمه.

 لذلك أيها الأخ الكريم لا تكن عابداً فحسب، بل كن عالماً، كن عابداً عالماً، فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 

((  فَقِيهٌ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ. ))

[ ابن ماجه عن ابن عباس بسند ضعيف ]

 العابد مقاومته هشَّة، سريعاً ما ينتكس، سريعاً ما يتراجع، لضغطٍ طفيف يترك دينه، لإغراءٍ قليل ينساق مع شهواته، لكن العالِم لو أن الناس جميعاً كفروا لا يكفُر، لو أن الناس جميعاً أشركوا لا يشرك، لو أن الناس جميعاً ضعفوا لا يضعف. 

﴿ وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ(146)﴾

[  سورة آل عمران ]

 لذلك أيها الأخ الكريم العلم سلاح، قال الإمام عليٌ كرَّم الله وجهه: "يا بني العلم خيرٌ من المال، لأن العلم يحرُسُكَ وأنت تحرس المال، والمال تنقصه النفقة والعلم يزكو على الإنفاق، مات خُزَّان المال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدَهر، أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة" ، والمثل بين أيديكم.

 مرَّة قلت لطلابي: مَن يأتيني باسمِ غنيٍ عاش في دمشق عام ألفٍ وثمانمائة وثلاثٍ وستين، وله مني علامةٌ تامَّة؟ فكَّروا مليَّاً، فلم يفلحوا في الإجابة، قلت لهم: وأنا لا أعرف، لكن من منَّا ينسى الإمام الشافعي، الإمام أبا حنيفة، سيدنا عمر، سيدنا صلاح الدين، هؤلاء الذين قدَّموا علماً، أو قدَّموا جهاداً، أو قدَّموا قيادةً؟ لذلك المال يذهب "مات خزَّان المال وهم أحياء لكن والعلماء باقون ما بقي الدهر" ، من هم العلماء؟ أنتم ينبغي أن تكونوا علماء. 

﴿  أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ(62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ(63)﴾

[  سورة يونس  ]

 القضيَّةُ في منتهى البساطة، فليس في الإسلام كهنوت أبداً، وليس فيه طبقة رجال علم، ليس فيه إلا مؤمن ومسلم، فإذا قرأت القرآن، ووعيت القرآن، وطبَّقت القرآن فأنت وليٌ لله عزَّ وجل ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ*الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ 

 تعرَّف إلى الله، واستقم على أمره، وانتهى الأمر، القضيَّة في منتهى البساطة، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ قَالَ: قُلْتُ: 

(( يا رسولَ اللهِ حدِّثْني بأمرٍ أعتصِمُ به قال :قُلْ :ربِّيَ اللهُ ثمَّ استقِمْ، قُلْتُ: يا رسولَ اللهِ ما أخوفُ ما تخافُ عليَّ؟ قال: فأخَذ بلسانِ نفسِه ثمَّ قال: هذا.  ))

[ صحيح ابن حبان ]

 الإسلام فيه شيئان: فيه معرفة، وفيه تطبيق، فيه عقيدة، وفيه سلوك، فيه إيمان وفيه عمل، والله عزَّ وجل قرن الإيمان والعمل الصالح في أكثر من مئتي آية.

﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَىٰ لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ(29)﴾

[  سورة البروج ]

 الدين لا يحتاج إلى تعقيد، نحن عقَّدناه، الدين بسيط، فهو دين الله، ولأن هذا الدين لكل الناس قاطبةً، يكفي أن تؤمن بالله عزَّ وجل خالقاً، ومربيَّاً، ومسيِّراً، موجوداً، حكيماً، واحداً، عليماً، قوياً، قديراً، وهذا أمره بين يديك، هذا القرآن وتلك السُنَّة، وهذه الأحكام الفقهيَّة، فلذلك الولاية في متناول كل إنسان، وكل إنسانٍ مكلَّفٌ أن يكون ولياً لله، أجل، مكلَّف.

﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ ﴿لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ مما سيأتي ﴿وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ عما مضى، فهي آيةٌ تغطِّي الماضي والمستقبل، لا خوفٌ عليهم من المستقبل؛ لأن الله ناصرهم، وهو آخذٌ بيدهم كلَّما تعثَّروا، وإذا توفَّاهم الله فإلى جنَّةٍ عرضها السماوات والأرض، ولا هم يحزنون على الدنيا الفانية التي: 

((  لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ. ))

[  من سنن الترمذي عن سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ  ]

 هيِّنةٌ على الله، مشى النبي عليه الصلاة والسلام مع أصحابه فرأوا شاةً ميِّتةً، فعَنْ الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ شَدَّادٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ الرَّكْبِ الَّذِينَ وَقَفُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّخْلَةِ الْمَيِّتَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 

((  أَتَرَوْنَ هَذِهِ هَانَتْ عَلَى أَهْلِهَا حِينَ أَلْقَوْهَا؟ قَالُوا: مِنْ هَوَانِهَا أَلْقَوْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَالدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ عَلَى أَهْلِهَا.  ))

[  سنن الترمذي  ]

 ألقوها في الطريق، لا قيمة لها إطلاقاً، لا ثمن لها.


هل لك علمٌ تقف به أمام التحديات والشهوات:


 إذاً: السلطان المبين العلم، والسؤال هو: هل معك دليل يقف كالطَّود الشامخ أمام ملحدٍ، أو أمام فاجرٍ، أو أمام مُشكِّكٍ على أن الله موجود؟ هل معك دليل؟ أيْ هل فكَّرت في الكون؟ هل فكَّرت في خلقك؟ هل فكَّرت في طعامك؟ هل فكَّرت في شرابك؟ هل فكرت في ظاهرة النبات؟ هل فكرت في المخلوقات التي خلقها الله عزَّ وجل؟ هل فكرت في أطيار السماء؟ هل فكرت في أسماك البحار؟ هل فكرت في هذا الهواء اللطيف؟ في هذا الماء العذب السلسبيل؟

 معك دليل على أن الله موجود، وأنه واحد لا شريك له، وأنه كامل له الأسماء الحسنى؟ هذا الإيمان، أما إيمان العجائب، فهذا الإيمان إذا صلح في زمنِ ما، فالآن لا يصلح لكثرة الشهوات، وكثرة الضلالات، وكثرة الشُبهات، وكثرة المبادئ الهدَّامة، وكثرة الفِتَن، وكثرة الانحرافات، فالآن لا يصمد إلا الإيمان القوي، لأن الشهوات كثيرة جداً، وهي كلُّها مستعرة، والفتن يقظة، والطرقات كلُّها موبوءة، والمداخيل كلُّها مشبوهة، والانحرافات كلها على أشدُّها، من الذي يصمد في هذا الزمان؟ فعليكم بالإيمان وعضوا عليه بالنواجذ تُفضوا إلى النعيم الدائم.

 إذاً: السلطان المبين هو العلم، ولكن هل من الممكن لك أن تتعلَّم من دون مجلس علم؟ هل من الممكن أن يقول إنسان: أنا طبيب، وهو لم يدخل الجامعة أبداً؟ فالعلم إذًا من أجل أن تستقيم، من أجل أن تعرف الحق من الباطل، من أجل أن تعرف الخير من الشر، من أجل أن تعرف الحلال من الحرام، من أجل أن تعرف الخير من الشر لابدَّ من أن تعلم، والعلم يحتاج إلى وقت، لذلك أنا أَعْتَبُ على أخ قَبِلَ عملاً، وألغى كل وقت فراغه، هذا العمل خسارةٌ كبيرة، العمل الذي لا يسمح لك أن تطلب العلم هذا ليس عملاً، هذا استعباد، كيف تتعرَّف إلى الله، إذا خرجت قبل الشمس وعدت بعد منتصف الليل؟ أين أولادك؟ وأين زوجتك؟ وأين طلب العلم؟ وأين مهمَّتك في الحياة؟

 أيها الإخوة الأكارم، لا ينبغي للأعمال أن تمتصَّ كل وقتنا، لا ينبغي لأعمالنا أن تأكلنا، وأن تستهلكنا، وأن تلقينا فتاتاً بعد أن نُستهلَك، انظر إلى إنسانٍ استهلكه العمل حتَّى قارب الموت، ماذا لديه من رصيد؟ عندئذٍ يتحسَّر على هذه الأيام الطويلة التي أمضاها في جمع الدرهم والدينار، الإنسان يغادر الدنيا، وليس معه شيء، هكذا شاءت حكمة الله عزَّ وجل أن نغادرها كما دخلناها حفاةً عُراةً.

 إذاً: ما من أخ كريم إلا وينبغي أن يكون له مَشْرَب، مشربٌ يشرب منه، منهلٌ ينهل منه، مصدرٌ يتعلَّم منه، وليكن مصدرًا موثوقًا تتعلم منه أمر دينك.

((  إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم. ))

[  الجامع الصغير بسند ضعيف ]

((  يا ابن عمر، دينك، دينك، إنما هو لحمك ودمك، فانظر عمن تأخذ، خذ الدين عن الذين استقاموا، ولا تأخذ عن الذين مالوا. ))

[ الألباني بسند ضعيف ]

 وجودك، مصيرك الأبدي متوقِّف على فهمك لكلام الله عزَّ وجل، سعادتك في البيت أساسها المعرفة، توفيقك في التجارة أساسه الاستقامة، فالإنسان مهما كان ذكياً، مهما كان خبيراً، يُؤتى الحذِر من مأمنه، لا ينفع حَذَرٌ من قدر ولكن ينفع الدعاء، لذلك من أجل أن تسعد في بيتك، ومن أجل أن تنجح في عملك، ومن أجل أن تطمئنَّ نفسك، ومن أجل أن تجد ذاتك، من أجل أن تعرف الحق من الباطل، والخير من الشر، والحلال من الحرام لابدَّ من طلب العلم.

 فالأنبياء معهم سلطانٌ مبين، وأنت هل معك سلطان مبين؟ لا أقول لك على مستوى الأنبياء، ولكن أليس لك نصيب من هذه الآية؟ معك حجَّة؟ لو أن صاحب بدعةٍ ناقشك، أو صاحب شبهةٍ أفحمك هل معك الحجَّة؟ هل أنت مطمئنٌ إلى ما أنت معتقدٌ به؟ هل أنت مطمئنٌ وموقنٌ بأنه لابدَّ من جنَّةٍ أو نار؟ لابدَّ من حياةٍ أبديَّةٍ فيها نعيمٌ أو شقاء؟ هل تعلم أن الإنسان بلا منهج لا قيمة له؟ وأن الله عزَّ وجل حينما قال: 

﴿  الرَّحْمَنُ(1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ(2) خَلَقَ الإِنسَانَ(3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ(4)﴾

[  سورة الرحمن  ]

 قدَّم تعليم القرآن على خلق الإنسان ليشعرنا بأن الإنسان لا قيمة لوجوده بلا منهج، لا أحد يسعد بلا منهج إلا الدابَّة، أما المؤمن فسعادته معرفة الحلال والحرام، علم ما يجوز وعلم ما لا يجوز، شيء مستحب وشيء مكروه، شيء مندوب وشيء مكروه كراهية تحريميَّة، فالإنسان بلا منهج إنسان ضائع، حتى لو جعل مبدأ اللذَّة مبدأً له، ينقلب مبدأ اللذَّة إلى مبدأ للشقاء، وهؤلاء الذين أطلقوا لشهواتهم العنان أين هم؟ في النهاية ينتحرون، الإنسان لو تبع شهوته إلى أقصاها يشعر بتفاهته، لكن لا يحس بقيمته الإنسانيَّة إلا إذا عرف ربَّه، عندما يعرف الإنسان ربنا عزَّ وجل، ورفعنا لك ذكرك، قد يكون إنسانًا تافهًا، سخيفًا، في هامش الحياة فإذا استقام على أمر الله، وأقبل عليه، وتعرَّف إليه رفع الله مكانته، وجعله علماً من أعلام الدنيا، جعله شخصيَّةً مرموقة تهفو إليها القلوب، أليس هذا حاجةً أساسيَّةً عند الإنسان؟ أن يكون ذا أهميَّة، أن يشعر بقيمته في مجتمعه، هناك من يشعر بقيمته من خلال البطولات، وهناك من يؤكِّد ذاته من خلال التجاوزات، المؤمن من خلال البطولات؛ أما غير المؤمن من خلال التجاوزات. 


إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ


قال: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ*إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ﴾ فرعون معروف، قال:

﴿ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى(24)﴾

[  سورة النازعات  ]

 ادَّعى الألوهيَّة، وأمر الناس أن يعبدوه من دون الله، وهامان هو المنتفع الأول من فرعون، فالمنتفع يُحاسَب كما يُحاسَب الأول، وفي أكثر الآيات ذُكِرَ هامان مع فرعون، ما دام قد انتفع من فرعون فليلقَ نفس المصير، ما دام قد انتفع مع فرعون فعليه من وِزْرِ فرعون.

﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ*إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ﴾ قارون ليس له علاقة، قارون أحد كبار الأغنياء في عصر فرعون، لكن الإنسان إذا أراد الدنيا، وأرادها من طريق المال، طبعاً حريَّته كما يراها في اقتناص الشهوات تتناقض مع المَنْهَجِ الإلهي، لذلك تجد الأقوياء والأغنياء غير المؤمنين هؤلاء كتلةٌ واحدة، طبعاً الأغنياء أحياناً يفجرون، لكن الغني المؤمن هو المثل الأعلى، فالغنى ربَّما كان قوَّةً للمؤمن، لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: 

((  الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ. ))

[  مسلم  ]

 إذا اللهُ عزَّ وجل آتى الإنسان المال، بهذا المال ممكنٌ أن يتقرَّب إلى الله، ممكن أن يحل مشكلات كبيرة جداً، ممكن أن يسهم في إسعاد آلاف الأُسَر، لكن إذا تحدَّثنا عن الأغنياء في مجالس العلم فالمقصود بهم الأغنياء غير المؤمنين، المنحازون إلى شهواتهم، الغارقون في ملذَّاتهم، الذين إذا أنفقوا المال أنفقوه إسرافاً وتبذيراً، فهل يعقل أن يكلِّف عرسٌ خمسةً وعشرين مليونًا في ليلة واحدة، هل هذا معقول؟ وآلاف الشباب يجرون بحثًا عن غرفةٍ يسكنونها، إن أنفقوه أنفَقوه إسرافاً وتبذيراً، وإن أمسكُوه أمسكوه بخلاً وتقصيراً.

 تعجبُ لسلوك الغني غير المؤمن، ينفق مئات الألوف، ألوف الألوف، الملايين على ملذَّاته، أما إذا دعي إلى عملٍ صالحٍ قدَّم عشر ليرات، إن أَنفقوه أنفقوه إسرافاً وتبذيراً، وإن أمسكوه أمسكوه بخلاً وتقتيراً.

 لذلك قارون في خندق فرعون، فرعون وهامان وقارون في خندقٍ واحد، هذه كتلةٌ تعارض الحق، لأن الحق يتناقض مع شهواتهم، يتناقض مع طموحاتهم الدنيويَّة، شيءٌ طبيعيٌ جداً أن يكذِّبوه. 


فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ


 ﴿فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ﴾ فالإنسان بدل أن يصغي إلى الحق ويستوعبه، ويحاكم هذه الحقائق، ويحكم عليها بأنها حقائق، بدل ذلك يقول: هذا كلام فيه سحر، هذا كلام غَيْبِي.

 لو عرضت الحق على أهل الدنيا، أو عرضت الحق على الأقوياء أو الأغنياء غير المؤمنين لقالوا عنه قولاً باطلاً، إنه دفاعٌ عن أنفسهم، يتَّهمون الحق بأنه سحر كي يتخلَّصوا من المسؤوليَّة.  


لماذا أثبت الله عزَّ وجل تُهَم أعداء أنبيائه في القرآن:


﴿فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ﴾ بهذه البساطة، وقد يسأل سائل: لماذا أثبت الله عزَّ وجل هذه التُهَم لأنبيائه في القرآن؟ فالكفار قالوا: ساحرٌ كذَّاب، فلماّذا أثبت الله في القرآن هذه التهم الموجّهة لأنبيائه، وأصبحت قرآناً يتلى إلى يوم القيامة؟ والنبي قالوا عنه: ساحرٌ مجنون، وقالوا عنه: شاعر، وقالوا عنه: كاهن، وقالوا عنه ما قالوا، فلماذا أثبت الله كلامهم في القرآن الكريم؟

 قال بعض العلماء: إنما أثبت هذا الكلام ليكون النبي قدوةً لمن بعده من الدعاة، فإذا عُورِض الإنسان، أو جوبِه، أو نوقش، أو انتُقِص من قدره، أو اتُّهم اتهاماتٍ باطلة، له في النبي عليه الصلاة والسلام أسوةٌ حسنة.

﴿ فلَمَّا جَاءَهُم بِالْحَقِّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ ۚ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25)﴾

[ سورة غافر ]


فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ


 لمَّا جاءهم موسى بالحق من عندنا ﴿قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ .

1 ـ فرعون يقتل ذكور بني إسرائيل:

 لأن فرعون فيما مضى رأى في الرؤيا -كما تروي الكتب- أن طفلاً من بني إسرائيل سوف يقضي على مُلْكِهِ، لأنه جبَّارٌ في الأرض، ولأنه علا علواً كبيراً فأمر بقتل أطفالهم كلهم، أية امرأةٍ من بني إسرائيل لابدَّ من أن تحضر ولادتها قابلةٌ تنتمي لفرعون، فإذا كان غلاماً ذبحته، وكُتب ضبط بالموضوع: لقد تمَّ ذبحه، يبدو أن هذا الأمر انتهت فورته، وتراخى، وخفت متابعته مع مرور الزمن، لكن العبرة أن الطفل الذي سيقضي على فرعون ربَّاه في قصره، وهذه موعظةٌ كبيرة، الإنسان ضعيف، والإنسان في قبضة الله.

﴿ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ۚ وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)﴾

[  سورة يوسف  ]

 ففرعون قتل أبناء بني إسرائيل لئلا تُحقَّق الرؤيا، لكن الطفل الذي سيقضي على ملكه ربَّاه في قصره، من أجل أن تكون هذه موعظةً بليغةً لنا، فموسى لمّا كبر وأرسله الله إلى فرعون، ودعاه إلى الإيمان بالله قال: ﴿اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ أعاد الكَرَّة، كأن هذا الأمر جُمِّد، ثمَّ أُعيد العمل به مرَّةٌ ثانية قال: ﴿قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ﴾ .

2 ـ فرعون يستحيي نساء بني إسرائيل:

 وأما النساء من بني إسرائيل فأبقوهُنَّ أحياءً للخدمة، هذا معنى استحياء النساء، أن تبقى المرأة حيَّةً من أجل أن تُسْهِمَ في خدمة فرعون.


وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ


 ﴿وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ﴾ هذه الآية من آيات القوانين، من كلمات الله التي لا يتبدَّل ولا يتغيَّر.

1 ـ خطة الكفار مآلُها الفشل:

﴿وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ﴾ مهما رسم الكافر من خطَّةٍ، ومهما دَبَّرَ من مؤامرةٍ ليقضي بها على الدين، إن هذه الخطَّة سوف تبوء بالفشل، لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يحمي دينه، وهذا الإسلام العظيم لولا أنه دين الله لكان ينبغي له أن ينقْرِض من مئات السنين، لكن لأنه دين الله عزَّ وجل فلن تستطيعَ قِوى الأرض مجتمعةً أن تقضي عليه، والآن تقريباً قوى الأرض كلها تتجه للقضاء عليه، وأنا أبشِّركم أنهم لن يستطيعوا، وأن هذا الدين من عظمته أنه كلَّما ضغطوا عليه ازداد قوَّةً، والحديث في العالَم كله هذه الأيام عن الدين الإسلامي، في القارات الخمس، أرادوا أن يكيدوا له فقوَّى الله مكانته في النفوس.

 أنت تريد، وأنا أريد، لكن الله يفعل ما يريد، ولا يقع في ملكه إلا ما يريد، ولا يُحَقَّقُ من خطط الكفَّار إلا بالقدر الذي يتوافق مع خطة الله عزَّ وجل.

 ربنا عزَّ وجل يوظِّف الشر للخير، هذه الحقيقة أساسيَّة، فهناك إنسان شرير يريد أن يوقع أشدَّ الأذى بالآخرين، هذا الإنسان الشرير يُسمَح له بأن يعبِّر عن الشر الذي في نفسه، لكن هذا الشر الذي في نفسه يوظِّفه الله للخير، لذلك الظالم سوط الله ينتقم به ثم ينتقم منه، وأوضح آية:

﴿  إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ(4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ(5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ(6)﴾

[ سورة القصص ]

  إذا قوَّى الله الكافرَ على المؤمن، فذلك من أجل أن يقوّي إيمان المؤمن، وأن يرقى به إلى مستوى رفيع، هذا قانون، لذلك اطمئنوا.

 قال تعالى: ﴿وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ﴾ أيْ أنَّ كيدهم لا يُحقَّق، ويضل عن هدفه، لو أنك أطلقت سهماً على هدف، فانحرف هذا السهم ولم يصب الهدف، نقول: ضلَّ السهم، فكأن كيدهم سهمٌ أخطأ الهدف ﴿وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ﴾ .

2 ـ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا

﴿  إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا(15) وَأَكِيدُ كَيْدًا(16) فَمَهِّلْ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا(17)﴾

[  سورة الطارق  ]

﴿ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ(46)﴾

[  سورة إبراهيم  ]

 خطط محكمة منسَّقة، قِوى لا نهاية لها، كلها من أجل أن تقضي على الإسلام ﴿وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ﴾ .

﴿  ولا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ(42)﴾

[  سورة إبراهيم  ]

 هنيئاً لمن كان مع الله، هنيئاً لمن كان مع المؤمنين، هنيئاً لمن كان مع الحق، والويل لأعداء الدين، لا لشيء إلا لأن الله جلَّ جلاله سوف يمحقهم.

﴿ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)﴾

[  سورة الإسراء  ]

﴿  أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا(78) وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا(79) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا(80) وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا(81)﴾

[  سورة الإسراء  ]

 لكن أيها الإخوة، ادعوا الله عزَّ وجل أن يقوِّينا على أنفسنا، حتَّى نستحقَّ أن ينصرنا على أعدائنا، لأن الله عزَّ وجل يقول:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ(7)﴾

[  سورة محمد ]

﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَىٰ قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا ۖ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)﴾

[ سورة الروم  ]

 كونوا مؤمنين، وانتظروا نصر الله عزَّ وجل، كونوا كما يريد الله عزَّ وجل ليكون الله لكم كما تريدون.

"عبدي، كن لي كما أريد أكن لك كما تريد، كن لي كما أريد ولا تعلمني بما يصلحك، أنت تريد وأنا أريد، فإذا سلَّمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد، وإن لم تسلِّم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد، ثمَّ لا يكون إلا ما أريد".

 إذاً: هذه الآية مُطمئِنة: ﴿وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ﴾ احفظ هذه الآية: ﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا*وَأَكِيدُ كَيْدًا*فَمَهِّلْ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا﴾ ﴿وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ﴾ .

﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ۖ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26)﴾

[ سورة غافر ]


وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ


جرأة فرعون على الله ورسله:

 يبدو أنّ مَنْ حول فرعون نصحوه بألَّا يقتله، لعلَّه رسول، ولعلَّه يدعو ربَّه، فيأتيك عذابٌ يا فرعون، قال: أنا لا أخاف.

﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ﴾ ففرعون ادَّعى أنه إله، وقال: ﴿أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى﴾ وأمرهم أن يعبدوه، فهذا موسى سينغِّص عليه هذه الدعوى، فيشتِّت الناس عنه، لذلك قال: ﴿إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ﴾ .


إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ


1 ـ الفساد بمنظور فرعون:

 الفساد في نظر فرعون أن ينصرف الناس عنه، إذا انصرف الناس عن عبادته فهذا هو الفساد، أما إذا التفتوا إلى ربهم هذا لا شأن له به.

2 ـ كيف يتغطرس الإنسان وهو ضعيف في قبضة الله:

 طبعاً الكافر لا يرى الله عزَّ وجل، لا يرى أنه في قبضة الله، يرى نفسه أنه قوي، وكلَّما تعمَّق الإنسان في العِلم شعر بضعفه، وشعر بافتقاره، وشعر أنه في قبضة الله، وشعر أنه عبدٌ ضعيف، هذا الذي يقول: أنا، هل علم هذا الإنسان أن خثرةً صغيرةً صغيرة من الدم لو تجمَّدت في إحدى أوعية الرأس لَشُلَّت حركته، أو لأُصيب بالعمى، أو لاختلَّ توازنه، أو لذهبت ذاكرته، كيف يقول الإنسان: أنا، وهو ضعيف؟

﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ﴾ فكل إنسان يتفلسف أحياناً، حتى لو كان على باطل، حتى لو كان ضالاً مُضِلاًّ، حتى لو ادَّعى الألوهيَّة يتفلسف، يقول: ﴿إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ﴾

3 ـ الإنسان يفلسف كفره وفلسفته:

 الإنسان منطقي، واللهُ أعطى الإنسان فكرًا ليتعرَّف به إلى الله، فإذا كفر بالله يستخدم فكره ليُفلسف كفره، واللهُ عز وجل أعطى الإنسان فكرًا ليكون أداة لمعرفة الله، فإذا أراد الإنسان أن يكفر، أو أن يشرك استخدم الفكر نفسه الذي هو أداة لمعرفة الله استخدامًا آخر لغير ما خُلِق له، استخدمه للبحث عن حججٍ واهيةٍ لكفره وفِسْقِهِ، وهذا معنى المجادلة التي وردت في القرآن الكريم.

﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ ۚ وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54)﴾

[  سورة الكهف  ]

 مرَّة قلت لكم: آلة تصوير ملوَّنة غالية جداً، يمكن أن تُستخدَم استخداماً جيداً فيغتني صاحبها اغتناءً كبيراً، ويمكن أن يستخدمها لتزوير العملة فتنتهي به إلى السجن، والآلة واحدة، إن استخدمها في المخطَّطات والتصميمات، لمع نجمه في سماء البلدة فاغتنى واشتهر؛ أما إن استخدمها لتزوير العملة، وكُشِفَ أمره ألقي في غياهب السجن، عن طريق هذه الآلة الواحدة الملوَّنة.

 وكذلك الفكر يمكن أن ترقى به، فتتعرَّف إلى الله من خلاله، وتزداد به قرباً وله طاعةً، فتسعد وتُسعِد، وإما أن يُستخدَم الفكر نفسه لفلسفة الشرك، والكفر، والنفاق، فيكون الفكر سبباً لهلاك الإنسان. 

﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ﴾ إذاً: الكافر، أو مدعي الأُلُوهيَّة، أو المشرك كل منهم يتفلسف، ويقول لك: أنا على حق، وهذه مبادئ، وهذا تقدُّم، وهذه إنسانيَّة، وهذه مبادئ العدل، وهذه قيم، وهذه مُعْطَيَات، وهذه بيئة، عنده فلسفة لكنها فلسفة باطلة، لأن الله عزَّ وجل يقول: 

﴿ فَذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ ۖ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ۖ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ(32)﴾

[  سورة يونس ]

 فلا يوجد إلا حق واحد، إن لم تكن مع الحق فأنت مع الضلال، إذا لم تكن أفكار الإنسان ومعتقداته وتصوُّراته وفق القرآن فهو ضالّ، قولاً واحداً، بكل تأكيد، بالحجَّة الدامغة، ليس مِنْ حلٍّ وسط، إمّا أن تكون مع الحق، وإما أن يكون الإنسان ضالاً، فإذا دعا إلى ضلاله صار مُضِلاً، فهذا إذًا إمّا أن يكون ضالاًّ أو مضلاًّ، فاسدًا مفسدًا، فليس هناك مبدأ آخر، فالله واحد، والحق واحد، والقرآن واحد، والدين واحد، والمبادئ واحدة، أما إذا اعتنق أفكارًا ليست في كتاب الله فهي ضلال قولاً واحداً.

 والمؤمن إذا هُدِّد، وإذا تآمر عليه المتآمرون، وإذا توعَّده المتوعِّدون ليس له إلا الله، يا رب ليس لي إلا أنت، أنت قصدي، إني مغلوبٌ فانتصر، أحد الملوك الصالحين وهو نور الدين الشهيد، الذي أجرى الله على يديه النصر، سجد لله عزَّ وجل وقال كلمةً لولا أنها وردت عنه لمَا كنت أقولها لكم، قال له: "يا رب من هو نور الدين الكلب حتَّى تنصره؟ انصر دينك" أنا لا شيء، انصر دينك يا رب، إني مغلوبٌ فانتصر، فانتصر لدينك، والله سبحانه وتعالى أجرى على يده النصر المؤزَّر، نصراً عزيزاً، فالمؤمن ليس له إلا الله عزَّ وجل إذا كان ضعيفًا مستضعفًا، وأعداؤه أقوياء وتوعَّدوه، وهدَّدوه ﴿ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ﴾ ماذا يفعل سيدنا موسى؟  

﴿ وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ(27)﴾

[ سورة غافر ]


وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ


الطاغية المتكبر لا يؤمن باليوم الآخر:

 لو أن الإنسان آمن بيوم الحساب لاستقام على أمر الله، من المستحيل أن تجد إنسانًا يؤمن أن بعد الموت حياةً أبديَّة، وأن الله سبحانه وتعالى لابدَّ من أن يحاسبه، ثمَّ لا يستقيم على أمر الله! فهذا شيء مستحيل، ذكرت هذا كثيراً في هذه الدروس: أنت إزاءَ شرطي لا يمكن أن تخالف أمره إذا أيقنت أنه يراك وسيحاسبك، إزاءَ إنسان من أضعف الناس لن تخالف أمره، إذا أيقنت أنه يعلم وسيحاسب، إذا أيقنت أن الله يعلم وسيحاسب لا يمكن أن تعصيه. 

لذلك: ﴿وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ﴾ لذلك فالطغاة دائماً مُلْحِدون، لا يمكن أن يكون طاغية كفرعون مؤمنًا، لو آمن لاستقام، إنسان ضعيف وأمامه قوي فهل يتحداه؟ يكون أحمق، ويكون مجنونًا، لكن لأنه لم يؤمن بالله أصلاً، ولم يؤمن بالآخرة إطلاقاً تراه متكبِّرا،ً متجبِّراً، بَطَّاشاً، قهَّاراً. 


خاتمة:


  بقيت قصَّةٌ مهمَّةٌ جداً أُرجِئُها إلى الدرس القادم، هي قصَّة مؤمن آلِ فرعون، وله كلامٌ أيها الإخوة، هذا الرجل من آل فرعون، لم يؤمن بموسى عليه السلام من آل فرعون إلا زوجته، ومؤمن آل فرعون، وهذا المؤمن له كلماتٌ هي منهجٌ في الدعوة إلى الله، أجل منهج.

 إن شاء الله تعالى في الدرس القادم نقف عند كلماته مليَّاً، ونحاول شرحها بتوفيق الله عزَّ وجل، وجعلها قواعد في الدعوة إلى الله، وقف الموقف الحكيم من فرعون وآله، وأبلغه الحق بطريقةٍ مُثْلَى، فلعلَّ الله سبحانه وتعالى ينفعنا بها في الدرس القادم، في الدرس القادم إذاً قصَّة رجلٍ مؤمنٍ من آل فرعون يكتم إيمانه.

والحمد لله رب العالمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور