وضع داكن
25-04-2024
Logo
الدرس : 10 - سورة غافر - تفسير الآيات 29 ـ 33 مؤمن آل فرعون-2
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس العاشر من سورة غافر، ومع الآية التاسعة والعشرين، ولكن قبل أن نمضي في الحديث عن الآية التاسعة والعشرين، لا بد من وقفة قصيرةٍ مرةً ثانية عند قوله تعالى:

﴿ وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ(28)﴾

[ سورة غافر ]


وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ


1 ـ كتمان للإيمان:

 الله سبحانه وتعالى وصف هذا المؤمن بأنه يكتُمُ إيمانه، والإنسان قد يكتم إيمانه من خلال ثيابه، فيرتدي ثياباً عادية، وقد يكتم إيمانه من خلال سكوته أحياناً، من خلال أثاث بيته، أو أثاث مكتبه، فهناك مظاهر إسلامية، وهناك بيت لا يوجد فيه أي مظهر إسلامي، تجد مكتباً أو محلاً فيه آيات وأحاديث، وتجد مكتباً آخر أو محلاً لا يوجد فيه أي مظهر إسلامي، فكتمان الإيمان يكون تارةً بالسكوت، وتارةً بالثياب، وتارةً بوضع مقر العمل، أو مقر السكنى من دون أي مظهر، هذا كتمان للإيمان.

 على كلٍّ، هذا المؤمن هل كتم إيمانه إلى ما لا نهاية؟ لا لم يكتم إيمانه أبدًا، بلْ صرَّح بإيمانه وأظهره. 

2 ـ متى ينبغي أن نكتم الإيمان، ومتى ينبغي أن نجهر به ؟

  السؤال إذًا: متى ينبغي أن نكتم الإيمان، ومتى ينبغي أن نجهر بالإيمان؟

 إن الإنسان إذا كتم إيمانه إلى ما لانهاية فأين إيمانه؟ وما قيمة إيمانه؟ هناك من يقول: أنا مسلم من ثلاثين عامًا، أو من خمسين عامًا، بعض النصارى أحياناً يقولون: نحن مسلمون، فلمَ لم تظهر إيمانك؟ لا بد من إظهار الإيمان، هذا الذي يعمل من دين آخر كيف يستطيع أن يهدي الآخرين؟ أن يدفع الآخرين إلى الإيمان؟

 إذاً: هذا المؤمن مؤمن آل فرعون كتم إيمانه في مرحلة، ثم أعلن عن إيمانه في مرحلةٍ أخرى، فإذا كان كتمان الإيمان يجر الإنسان إلى معصيةٍ فينبغي أن يظهر إيمانه، وإذا كان كتمان الإيمان يجره إلى تضييع حقٍ فينبغي أن يظهر إيمانه، إذا كان كتمان الإيمان يؤدي به إلى اقتراف معصية ينبغي أن يظهر إيمانه؛ أما إذا كان إظهار الإيمان يسبِّب لك متاعب كثيرة من دون أن تحرز أية مكاسب فلا داعي لإظهاره.

 ففي مجال العمل أحياناً لو أظهرت إيمانك ما كسبت شيئاً، على العكس قد يجرّ ذلك إلى متاعب لا نهاية لها، فنحن نكتم إيماننا حينما لا يكون في إظهار الإيمان أي ثمن أو أي مكسب، أما إذا كان كتمان الإيمان يؤدِّي إلى معصيةٍ، أو إلى انحرافٍ، أو إلى هضم حقٍ، أو إلى مجاراة مُبطِلٍ، أو إلى مداراة مبتِدعٍ، أو إلى تطمين منحرفٍ، هذا ليس كتمان إيمان، بل هذا عدم إيمان، الإيمان لا بد من أن يظهر.

 كل إنسان مؤمن لا بد من أن يظهر إيمانه بشكلٍ أو بآخر، من خلال حركاته، من سكناته، من بيته، من عمله، من علاقاته، من ورعه، من غض بصره، من صدق لسانه، من نعومته، لا بد من إظهار الإيمان، ولكن أحياناً الإنسان يظهر إيمانه دون أن يكسب شيئاً، على العكس يدفع ثمنه باهظاً، فلا داعي حينها؛ فإذا كان الإنسان منكر، بعيد عن الدين بعد الأرض عن السماء، ولو علم أنك على شيء من التدين لأقام عليك الدنيا ولم يقعدها، لا مانع أن تظهر إيمانك دونك أن تحقق أي مكسب، اما لو أن كتمان الإيمان أدى بك إلى هضم حق، أو إلى إقرار باطل، أو إلى تشجيع مبتدع، أو إلى الانسياق إلى معصية عندئذ لا بد من أن يظهر الإيمان. 

 إذاً: هذا المؤمن، مؤمن آل فرعون، كتم إيمانه في بادئ الأمر، فلما رأى أن فرعون سيتَّجه إلى قتل موسى هل بقي ساكتاً؟ عندئذٍ لم يسكت، وأعلن عن إيمانه، إذاً أن تتكتم على إسلامك وإيمانك إلى ما لانهاية، وأن يكون كتمان إيمانك سببًا لاقتراف معصيةٍ، لترك صلاةٍ، لمماراة مبتدعٍ، لمصانعة قويٍ، لمداهنةٍ، لهضم حقٍ، لعدوانٍ على حقوقٍ أخرى، لئلا يظهر أنني مؤمن سأفعل كذا، لا، فمؤمن آل فرعون في بادئ الأمر كتم إيمانه، ثم لم يلبث أن أظهر إيمانه.

سُقْتُ هذا الكلام لأنك تستمع أحياناً كثيرة إلى رجل من دينٍ آخر يقول لك: أنا من ثمانين عاماً مسلم، كنت أخاف أن أعلن إسلامي فيقوم علي بنو قومي، هذا كلام غير مقبول، لأن بعض العلماء قال: إن لم تبدِ إيمانك فلست مؤمناً، ومن علامة الإيمان أن تنطق بالشهادة، أن تقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، الحق وسط بين طرفين، أن تمضي إلى ما لا نهاية في كتمان الإيمان على حساب ورعك، على حساب فرائضك، على حساب واجباتك الدينية، على حساب إحقاق الحق، فمثلاً إذا كان هناك إنسان مظلوم مؤمن، وأنت مؤمن ومركزك قوي، لئلا يعرف الناس أنك مؤمن هذا الإنسان ظُلِم، وبقيت ساكتاً، كتمان الإيمان إذا أدى إلى معصية أو انحراف أو تقصير، أو ترك واجب، أو ممالأة قوي، أو مداهنة مبتدع، هذا الكتمان ليس مقبولاً، والدليل هذا المؤمن الكريم الذي وصفه الله عز وجل بأنه مؤمن وهو يكتم إيمانه حينما رأى أن فرعون سيقتل موسى بادر وأعلن إيمانه.


السكوت عن المنكر سبيل الهلاك:


 لقد آمنت إذًا، وإذا أعلنت أنك لا تشرب الخمر لأن هذا محرَّم، لعلك تقوّي بعض الآخرين في مجال الإيمان، إذا قمت إلى الصلاة لعل كثيرين يقومون معك إلى الصلاة، أما إذا أنا سكتُّ، وهذا سكت وذاك سكت تُرٍكت الصلاة، ليس هذا المطلوب، قال تعالى:

﴿ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ(79)﴾

[  سورة المائدة ]

 سبب إهلاك بعض الأقوام أنهم: ﴿كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ﴾ والله سبحانه وتعالى حينما قال:

﴿ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ(110)﴾

[  سورة آل عمران ]

 خيرية هذه الأمة بأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المُنكر: ﴿تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ﴾ فلو تركتْ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لفقدتْ خيريتها، ولأصبحت أمةً مثل بقية الأمم، لا ميزة لها إطلاقاً عند الله عزَّ وجل، فهذه الخيرية معللةٌ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هذا يدعونا إلى أن نُؤمن أنه لا إله إلا الله، وأن الله بيده الأمر كلُّه، وإليه يرجع الأمر كله، بيده ملكوت السماوات والأرض، وكلمة الحق لا تقطع رزقاً ولا تقرِّب أجلاً.

﴿  اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ(62)﴾

[  سورة الزمر  ]

﴿ مِن دُونِهِ ۖ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ (55)إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم ۚ مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ۚ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (56)﴾

[  سورة هود  ]

 تتعقّل إلى حد، وتتوكّل إلى حد، تتعقل وتكف عنك الأذى، ولا تسبب لنفسك متاعب لا حصر لها من دون أن تكسب شيئاً، التعبير الدقيق فلا داعي لأن تسبب لنفسك متاعب لا حصر لها من دون أن تكسب شيئاً، ولا داعي أن تسكت عن إيمانك إلى درجة أنك تذوب في مجتمع الكفر، تذوب وينسى الناس أنك مسلم، كلما تجاوزوا حدودهم معك سكتَّ لئلا يُعرَف أنك مسلم، لا.

 أردت من هذا التعليق أن يقف المؤمن موقفاً متوازناً، متى ينبغي أن يظهر إيمانه، ومتى ينبغي أن يكتم إيمانه، إذا كان في إظهار إيمانه متاعب لا حصر لها دون أن يكسب شيئاً إطلاقاً، دون أن يُحِقَّ حقاً، دون أن يُبْطِلَ باطلاً، دون أن يهدي إنساناً، دون أن يُزيل منكراً، دون أن يأمر بمعروف، دون أن ينهى عن منكر إطلاقاً، فلا يوجد أي مكسب، لكن بإظهار الإيمان ربما وقعت بإشكالات لا حصر لها، وقد قيل: "ليس بحكيم من لم يدارِ من لا بد من مداراته". 

(( إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا، وَهَوًى مُتَّبَعًا، وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْكَ بِنَفْسِكَ، وَدَعْ عَنْكَ الْعَوَامَّ، فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ، الصَّبْرُ فِيهِ مِثْلُ قَبْضٍ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِمْ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْهُمْ؟ قَالَ: أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ. ))

[  سنن أبي داود عن أَبي أُمَيَّةَ الشَّعْبَانِيُّ  ]

 هذا مقياس دقيق.

 إذاً: كتمان الإيمان مقبول إذا كان في إظهار الإيمان متاعب دون تحقيق مكاسب، وكتمان الإيمان مرفوضٌ إذا جَرَّ إلى معصيةٍ، أو مداهنةٍ، أو معاونةٍ، أو تضييع حقٍ، أو ترويج بدعةٍ، أو توقير منحرفٍ، إذا أدَّى الكتمان إلى السلبيات فلا خير في كتمان الإيمان، وأكبر شاهد هذا الرجل المؤمن الذي ذكره الله عزَّ وجل في القرآن الكريم، إذ كتم إيمانه في مرحلة، فلما رأى خطراً يتهدد هذا النبي الكريم انطلق، وأفصح عن إيمانه، ولم يبقَ إيمانه في حَيِّز الكتمان.

 إذاً: دائماً الحق وسط بين طرفين، التطرُّف الأول أن تكتم إيمانك إلى ما لا نهاية، إلى درجة أن الناس ينسوا أنك مسلم، كلما تجاوزوا حدودهم، وكلما ضغطوا عليه خنعت، ورضيت حفاظاً على كتمان إيمانك، فليس هذا من أمر الشريعة في شيء، الله سبحانه وتعالى قال:

﴿  وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(139)﴾

[  سورة آل عمران  ]

 وإذا كان الله معك فمن عليك؟

﴿  فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ(79)﴾  

[  سورة النمل  ]

 لا تأخذك بالله لومة لائم.

﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا(39)﴾

[  سورة الأحزاب ]

 الأمر إذا وصل إلى تضييع حق، إلى ترويج باطل، إلى دعم مبتدع، إلى توقير مُنحرف، إلى تعظيم مُلحد، إلى تضييع حق، لا خير في كتمان الإيمان عندها، أما إذا أعلنت إيمانك، وسببت لنفسك متاعب لا حصر لها من دون أن تكسب شيئاً إطلاقاً، ليس بحكيم من لم يدار من لا بد من مداراته، فالحكمة ضالة المؤمن، والمؤمن الصادق يهتدي إلى ربه، قال عليه الصلاة والسلام: 

((  إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي. ))

[  صحيح البخاري عن عَبْدِ اللَّه  ]

 صدقك في طلب رضوان الله عزَّ وجل يهديك إلى الطريق الصحيح، وحينما تتحرَّك وفق منهج الله، ووفق تعليمات النبي عليه الصلاة والسلام، فإن الله سبحانه وتعالى يتولَّى أمرك، ولا يضيُّعك، ولا يتركك، ولا يسلمك لخصومك.

 مؤمن آل فرعون لكلماته معانٍ دقيقة، ولنُطقه عِظاتٌ بليغة، يقول:

﴿ يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِن جَاءَنَا ۚ قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)﴾

[ سورة غافر ]


يَا قَوْمِ لَكُمْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا


1 ـ المؤمن لا خوفٌ عليه ولا هو يحزن:

 المعنى الضمني: أن الإنسان إذا كان قويًا، إذا كان غنيًّا، إذا أكرمه الله عزَّ وجل بمنصب رفيع، أو بدخل كبير، أو بمكانة اجتماعية عالية، فهذا الشيء الذي تفَضَّلَ الله به عليه لن يدوم إلى الأبد، فلا بد من يومٍ يزول عن صاحبه.

 ولكن المؤمن -هذه النقطة مهمة جداً- إذا آتاه الله شيئاً من الدنيا فحظه من الآخرة أوفر، المؤمن خَطُّهُ البياني في صعودٍ مستمر، حتى لو جاء الموت، هو ما بعد الموت أسعد منه مما قبل الموت، لأن الله سبحانه وتعالى يقول:

﴿ قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ(51)﴾

[  سورة التوبة ]

 فالمؤمن لا خوفٌ عليه ولا هو يحزن، لا خوفٌ عليه مما هو قادمٌ عليه، ولا هو يحزن على ما فاته، لكن غير المؤمن ﴿يَا قَوْمِ﴾ ، طبعاً كلمة ﴿يَا قَوْمِ﴾ تعني أن مؤمن آل فرعون من القبط، من آل فرعون، يؤكد هذا قوله: ﴿يَا قَوْمِ لَكُمْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ﴾ أي هل هذا الملك إلى ما لانهاية؟ لا، فهناك الموت، سبحان من قهر عباده بالموت.

هنا نقطة دقيقة، القوي يموت، والغني يموت، والمنحرف يموت، والمستقيم يموت، فالموت يلغي كل شيء، يلغي غنى الغني، وفقر الفقير، وقوة القوي، وضعف الضعيف، وحكمة الحكيم، وصحة الصحيح، ومرض المريض. 

﴿لَكُمْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا﴾ هنا المعنى الثاني الدقيق بيَّنه النبي عليه الصلاة والسلام، والحديث يحث على العمل الصالح، فقال:  

(( بادِرُوا بالأعمالِ سبعًا؛ ما تنتظِرونَ إلَّا فقرًا مُنسِيًا، أوْ غِنًى مُطغِيًا، أوْ مرضًا مُفسِدًا، أوْ هَرَمًا مُفنِدًا، أوْ موْتًا مُجهِزًا، أوِ الدَّجَّالَ؛ فإنَّهُ شرُ مُنتظَرٍ، أوِ الساعةَ، والساعةُ أدْهَى وأمَرُّ. ))

[ ضعيف الجامع ]

اغتنموا، سابقوا، فماذا ينتظر أحدكم بعد الموت؟

2 ـ كسبتَ كلَّ شيء، ثم ماذا ؟

 تقول مثلاً: مرة كانت بعض الدروس تدور على محور "ثم ماذا"؟ فأنت عملت عملاً عظيمًا، ونلت مبالغ طائلة، ثم ماذا؟ الموت بعد ذلك، سوف تُحاسَب عن كل ما فعلته، هذا المال من أين اكتسبته وفيمَ أنفقته؟ سوف تُحاسَب عليه، ولو بلغت أعلى منصب ثم ماذا؟ لابد من الموت بعدها، إنك ميتٌ وإنهم ميتون، ولو تمتّع الإنسان بكل مباهج الحياة، لم يدعْ شهوةً إلا ومارسها، لكن ثم ماذا؟ بعد ذلك الموت، لو تمتع بمجد رائع جداً، ثم ماذا؟ بعد ذلك الموت، لهذا قال عليه الصلاة والسلام: (بادِرُوا بالأعمالِ سبعًا؛ ما تنتظِرونَ) ماذا ينتظر أحدكم من الدنيا؟ 


هل تنتظرون إلا...


 ماذا في الدنيا؟ انظروا إلى الناس، الإنسان في أول حياته له اهتمامات، اهتماماته مدرسية، بعد ذلك اهتمامات عمل، بعد ذلك زواج، بعد ذلك سكن، بعد ذلك تزويج أولاده وبناته، بعد ذلك صحة، بعد ذلك عظَّم الله أجركم، وهي مرحلة لا بد منها، الحياة تمضي، والإنسان يتحرك نحو مصيره المحتوم، ماذا ينتظر أحدكم من الدنيا؟ يقول عليه الصلاة والسلام: (ما تنتظرون إلا فقرا منسياً) فهناك آلاف الأشخاص الذين هم على غنًى عريض، فجأةً فقدوا كل أموالهم، فصاروا يتكففون الناس (ما تنتظرون إلا فقرا منسياً) ينيسك أيام الرخاء كلها، ينسيك المباهج كلها، ينسيك المسَرَّات كلها. 

(فقرا منسياً، أو غنى مطغياً) والغنى المطغي مصيبة من أكبر المصائب، فالإنسان غالبا من دون غنى مستقيم، فإذا اغتنى أصبح عاصياً لله عزَّ وجل. 

(أو غنى مطغيا، أو مرضا مفسداً) مرض يجعل حياة الإنسان جحيماً. 

(أو هرما مفنداً) تقدم في السن مع الخرف، مع أرذل العمر مال إلى النسيان، صار حشَرياً، أعاد القصة مئات المرَّات، تدخَّل فيما لا يعينه، انفضَّ الناس من حوله، تركوه في غرفته وحده، اختل توازنه، صاح بأهله، شكاهم لزوَّاره، أصبح وجوده عبئاً على أهله، هذا مرض مفنِّد. 

(أو موتاً مجهزاً) كان إنساناً وفجأةً صار خبراً، كان ملء السمع والبصر فصار حديث الناس، كان فوق الأرض، فصار تحتها، كان متربّعاً على مكانةٍ عليّةٍ في بيته وفي عمله، فصار مُلقىً تحت التراب، بات خبرًا.

 إذاً: (ما تنتظِرونَ إلَّا فقرًا مُنسِيًا، أوْ غِنًى مُطغِيًا، أوْ مرضًا مُفسِدًا، أوْ هَرَمًا مُفنِدًا، أوْ موْتًا مُجهِزًا، أوِ الدَّجَّالَ؛ فإنَّهُ شرُ مُنتظَرٍ، أوِ الساعةَ، والساعةُ أدْهَى وأمَرُّ) .

 مؤمن آل فرعون أدرك أن الأمور تتحول، كل حالٍ يزول.

 هناك ملِك قال لوزيره: قل لي كلمةً إن كنت فرحاً أحزن، وإن كنت حزناً أفرح، قال له: "كل حالٍ يزول" ، انظر إلى أي مكان، فإنك ترى خلائف، فالناس خلائف، هذه البيوت سكنها قبلنا أناس، وسيسكنها بعدنا أناس، وهذه المحلاَّت التجارية استعملها قبلنا أناس، وسيديرها بعدنا أناس، الإنسان شيء طارئ حادث.

﴿  هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا(1)﴾

[  سورة الإنسان  ]


يوم مفقود و يوم مشهود و يوم موعود و يوم مورود و يوم ممدود:


 فقال: ﴿يَا قَوْمِ لَكُمْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ﴾ هناك يوم مفقود، هذا الماضي، ولن يعود، والحديث عنه تضييع وقت، وهناك يومٌ مشهود نعيشه الآن، هذه الساعة التي نحن فيها، وهناك يومٌ موعود، الموت، وهناك يومٌ مورود، يوم القيامة، وهناك يومٌ ممدودٌ إلى أبد الآبدين، فأنت بين يومٍ مفقودٍ ومشهودٍ وموعودٍ ومورودٍ وممدود، أخطر هذه الأيام اليوم المشهود، الساعة التي أنت فيها، لأن الماضي انتهى، المستقبل متعلِّق بالحاضر، فإن كنت في يومك المشهود مطيعاً لله عزَّ وجل، يومك الموعود إن أتى فهو استمرار لطاعتك، وإن لم يأتِ لا تندم على عدم مجيئه، هذا أكمل موقف، لذلك هلك المسوِّفون.

 فهذه إشارة دقيقة، أي أنتم يا آل فرعون لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض، لكن هل هذا الملك إلى ما شاء الله؟ لا، هناك موت، الحياة تنقطع وتنتهي، فإذا انقطعت الحياة، ولم نكن نعرف الله عزَّ وجل، وفعلنا ما فعلنا، وأكلنا ما أكلنا، وانتهكنا ما انتهكنا، واعتدينا ما اعتدينا، وجاء أمر الله عزَّ وجل ليحاسبنا عن كل صغيرةٍ وكبيرة.


فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا


﴿فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا﴾ هذه مناقشة منطقية، وكل واحد منا إذا ناقش نفسه نقاشًا منطقيًا، حاور نفسه حوارًا عقلانيًا، وتأمَّل حياته، وتأمل مصيره، وتأمَّل تاريخه، تأمل حركته في الأرض، تأمَّل رسالته، تأمل مهمته، يهتدي إلى الحق.

﴿  بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ(14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ(15)﴾

[  سورة القيامة  ]

 كلمة بالغة: ﴿يَا قَوْمِ لَكُمْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ﴾ لا عبرة لهذا اليوم، بل العبرة لما بعده، والغنى والفقر بعد العرض على الله، البطولة لا أن تكون في شبابك قوياً، أن تكون في شيخوختك محفوظاً من متاعب الدنيا، من الخرف، من أرذل العمر، بل العبرة في أن تكون في قبرك سعيداً، كأنه روضة من رياض الجنة، وأن تكون يوم القيامة حميداً، هذه البطولة.  


قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى


1 ـ الفراعنة كانت لهم حضارة:

 ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى﴾ لو ذهب الإنسان إلى مصر، ورأى متاحفها، لرأى العجب العُجاب، أين كان هؤلاء الذين أشادوا الأهرامات، نحتوا الأصنام، جعلوا هذه المقابر تحت الأرض فيها كل شيء، فيها من الذهب بكمياتٍ مذهلة، طعامهم، خبزهم، لحمهم كان تحت الأرض، لعقيدةٍ فاسدة أنهم يَحْيَوْنَ بعد الموت، لذلك فإنك ترى آثارًا من الخبز المحنَّط حتى الآن من ستة آلاف عام، من اللحم المحنط حتى الآن، أدواتهم، مركباتهم، سلاحهم، حليُّهم، ذهبهم، شيء لا يصدق، إنها حضارةٌ تحت الأرض بأكلها، أين هم الآن؟

﴿يَا قَوْمِ لَكُمْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا﴾ معنى ذلك أن كل واحد منا يحذر أن يغتر بشبابه، بمكانته، بدخله الكبير، باسمه المتألِّق، لينظر يوم يأتي ملك الموت ويقول له: تفضل معي؟ إلى أين؟ إلى قبر مساحته متران مربعان فقط، كل شيء يتركه في ثانيةٍ واحدة، لا يستطيع أن يأخذ معه شيئاً أبدًا، والعوام يعبرون عن هذه الحقيقة فيقولون: "إنَّ الكفن ليس له جيوب" ، أي لا تجد جيباً له لتَضع فيها دفتر الشيكات، لا يأخذ إلا عمله الصالح أو الطالح، فهذه إشارة، أي أنتم الآن يا آل فرعون ملوك، ولكن نريد أن نعرف ما مصيركم بعد الموت؟ 

﴿لَكُمْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾   

2 ـ لا يكون الاتباع المطلق إلا للنبي عليه الصلاة والسلام:

 الإنسان العاقل لا يمكن أن يكون مطية خطأ لإنسان، ولا يمكن أن يكون ضحيةً لإنسان، ليس على وجه الأرض إلا إنسان واحد يمكن أن تكون مُتّبعاً له، هو النبي عليه الصلاة والسلام لأنه نبي، ولأنه معصوم، ولأنه رسول، ولأنه لا ينطق عن الهوى، ولأنه من عند خالق الكون، ولأن الله أمرك أن تتبعه، وأمرك أن تنتهي عما عنه نهاك، والذين يعلّمون الناس من بعده إذا اتبعوا سنته وشفّوا عن حقيقته.

 أي أننا إذا قلنا لك: اسمع كلام هذا المرشد، أو هذا العالم، أو هذا الداعية، لا يمكن أن يأتي من عنده بشيء، هو يشفُّ عن سنة رسول الله، فمن بعد النبي الصحابة والتابعون، والعلماء العاملون، والفقهاء والمحدثون، والدعاة والمرشدون، والمربون والأساتذة، هؤلاء الذين جاؤوا من بعد النبي عليه الصلاة والسلام، والذين ينوبون عن النبي صلى الله عليه وسلم في تبليغ الناس هؤلاء لا يستطيعون أن يأتوا من عندهم بشيء إطلاقاً، إنما أنا متبع، ولست بمبتدعٍ، والنبي عليه الصلاة والسلام هو المشرِّع، وهو الذي يُوحَى إليه، وهو المعصوم، إذاً أنت بإمكانك أن تتبع إنساناً واحداً وأنت مغمض العينين، ومع ذلك قال تعالى:

﴿ قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ(108)﴾

[ سورة يوسف ]

 عَلَى بَصِيرَةٍ، لكنه معصوم ويُوحَى إليه، وقد أُمِرْنَا أن نتبعه بنص القرآن الكريم، أمّا أيُّ إنسان نقل لنا بأمانة سنة النبي علينا أن نتبعه، وهذا ليس اتباعاً له إنما هو اتباعٌ للنبي، فليس على وجه الأرض إنسان يمكن أن تتبعه لذاته، إن فعلت هذا كنت ضحيةً له، كنت أحد أخطائه.

﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ إن كانت رؤيته غير صحيحة، إن كان في عمىً، إن كان في ضلال، إن كان في متاهة، إن كان في انحراف، هل يستطيع هذا الذي اتبعته أن يخلّصني؟

 ألم تسمعوا قصة أصحاب النبي عليهم رضوان الله، حيث أمَّر عليهم أحدهم، وأمَّرهم بسريةٍ بمهمةٍ، فلما غادروا المدينة تغاضبوا، ولحكمةٍ بالغةٍ بالغة كانت هذه القصة، فقال أميرهم ":ألست أميركم؟ قالوا: "بلى" ، قال: "أليست طاعتي من طاعة رسول الله؟" ، قالوا: "بلى" ، قال: "فأضرموا ناراً عظيمة" فأضرموها، قال: "اقتحموها" ، وقفوا، تأملوا ملياً، حكَّموا عقولهم، قالوا: إنما آمنا بالله ورسوله فراراً من النار، كيف نقتحمها؟" ، اختلفوا، بعضهم قال: "نقتحمها، لأن طاعَة الأمير طاعةٌ لرسول الله" ، بعضهم قال: "والله لا نقتحمها" ، لما رجعوا، رفعوا أمرهم إلى النبي عليه الصلاة والسلام، ماذا قال عليه الصلاة والسلام؟ قال: 

((  لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ. ))

[  البخاري ومسلم عن علي  ]

 ماذا قال سيدنا الصديق؟ قال: <<وُلِّيت عليكم ولست بخيركم، إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوِّموني>> ، أي راقبوني، أي أنه طلب من كل فردٍ من أفراد رعيته أن يراقبه، إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، إذاً: هذه سنة النبي.


لا يزاد في الدين ولا يُنقص منه:


 عندنا في حياتنا إنسان واحد يمكن أن نطيعه من دون مراجعة، هو النبي عليه الصلاة والسلام، لأنه جاء بهذا القرآن، ولأن هذا القرآن فيه إعجاز، إذاً هو كلام الله، والله يأمرنا أن نتبعه، وهو المعصوم عن أن يخطئ في أقواله وأفعاله وأحواله، وأي إنسانٍ بعد النبي عليه الصلاة والسلام ينقل لك سنة النبي كما هي من دون زيادة أو نقصان، أو تحريف أو تأويل، أو تكلُّف، فعليك أن تطيعه، وحينما تطيعه أنت بالتأكيد لا تطيعه، ولكنك تطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعبارة بسيطة أقول: العلماء من بعد النبي يجب أن يكونوا كلوح الزجاج يشفّون عن سنة النبي، دون أن يكون لهم أي تدخل، لا بزيادة ولا بنقصان.

﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ۚ ذَٰلِكُمْ فِسْقٌ ۗ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ۚ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ۚ فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ ۙ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(3)﴾

[  سورة المائدة ]

 هكذا، بهذه الطريقة يستمر الإسلامُ كما بدأ، أما لو رأيت نهراً في منبعه صافيَ الماء، عذب الماء، ثم جاءته الروافد، إلى أن يصل في نهايته إلى مستوى يصبح الماء فيه أسود اللون، ولذلك نحن الآن نحتاج إلى أن نعود إلى ينابيع الدين، إلى أصل الدين، إلى الكتاب والسُنَّة، ولا نرضى إلاّ بإنسان متبعٍ للنبي عليه الصلاة والسلام يشفّ عن حقيقة النبي، وعن حقيقة الشرع، لأن الله عزَّ وجل يقول: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا﴾ أيَّةُ زيادةٍ مرفوضة، في العقائد ليس هناك زيادة ولا نقصان، العقائد موقوفة، والعبادات موقوفة، هناك مجال واحد فقط، بالاجتهادات، بالأحكام الفقهية، يجتهد الفقهاء أحكاماً فرعيةً تفصيليةً من أدلةٍ كليةٍ، هذا المسموح به فقط، لذلك: "وُلِّييت عليكم ولست بخيركم، إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم"، معناها راقبوني، وقال: "الحمد لله الذي جعلني في قوم إذا ملت عدلوني" ، بهذا وصل الدين لأطراف الدنيا، بهذه العقيدة الصحيحة، بهذا الإخلاص الشديد، بإنكار الذات، الذات تحت قدم الإنسان، أنت في سبيل الحق، إذا عزّ أخوك فهُنْ أنت، أما حينما نضيف على الدين أشياء، ونحذف أشياء، ونجرّ النصوص إلى مصالحنا عندئذ يصبح الدين أدياناً، والإسلام أنواعاً منوعة، وانحرافات كثيرة.

قال ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ يعني إياك أن تكون ضحية لأحد، إياك أن تكون خطيئة لأحد:

(( يا ابن عمر، دينك، دينك، إنما هو لحمك ودمك، فانظر عمن تأخذ، خذ الدين عن الذين استقاموا، ولا تأخذ عن الذين مالوا. ))

[ الألباني بسند ضعيف ]

(( إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم. ))

[  الجامع الصغير بسند ضعيف ]

لا تقبل شيئاً إلا بالدليل من كتاب الله، وسنة رسوله، ولا ترفض شيئاً إلا بالدليل، اقبل بالدليل، وارفض بالدليل، ولولا الدليل لقال من شاء ما شاء، إن كنت ناقلاً فالصحة، مُبتدعاً فالدليل، إذا فعلت شيئاً لم يفعله أحد قبلك فأنت مبتدع، هل لديك دليل على أن هذا العمل يقاس على عمل مشروع بالقياس أو بالإجماع؟ إن كنت ناقلاً فالصحة، إن كنت مبتدعاً فالدليل، عوّد نفسك أن تقبل الأشياء بأدلتها، فهذا الفكر إذا قبل الأشياء دون أدلة انطمست بصيرته، أما إذا ناقش الأدلة، صار إنساناً واعياً:

(( فَقِيهٌ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ ))

[ ابن ماجه بسند ضعيف ]

ماذا يقول فرعون ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى﴾ إن قال أحدهم أنا هذا الذي أراه صحيحاً، ومن أنت؟ 

يقولون هذا عندنا غير جائز    ومن أنتم حتى يكون لكم عند؟

[ ابن دقيق العيد ]

فرد عليهم: ومن أنتم حتى يكون لكم عند؟ من أنتم؟ نحن ليس لدينا إلا الله عز وجل ورسوله فقط، أكثر من ذلك لا يوجد عندنا، 

يقولون هذا عندنا غير جائز    ومن أنتم حتى يكون لكم عند؟

أنت محور العالم؟ أنت مشرع؟ كأن يقال: هذه لم تعجبني، ومن أنت؟ هذه لم أقتنع بها، ومن أنت؟ هذه غير معقولة، فيها شرع إلهي، مثلاً إنسان سئل سؤال عن موضوع، فقال: هذا الموضوع لاينبغي أن يُطرح كسؤال، قيل: لماذا؟ لأن الله عز وجل أنزل فيه حكمه: 

﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا (36)﴾

[ سورة الأحزاب ]

انتهى الأمر. 


على الإنسان إلا يكون ضحية وخطيئة أحد:


يُستشَف من هذه الآية ألا يكون الإنسان ضحية لأحد، ألا يكون خطيئة أحد، ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى﴾ .

﴿ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَىٰ(79)﴾

[ سورة طه ]

﴿ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ۗ إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8)﴾

[ سورة القصص ]

هذه متى عرفت؟ بعد فوات الأوان، تمشي مع إنسان يدعوك إلى معصية وترك الدين ومعاداة أهل الحق، ثم يأتي ملك الموت فإذا أنت الضحية، تقول: يارب فلان قال لي ذلك، يقال: أنت أين عقلك؟ 

﴿ يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ(88 (إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)﴾

[ سورة الشعراء ]

نحن يا بني هكذا نشأنا وهكذا تربينا، اسمع كلامي لا تخطئ، ضعها على عاتقي، هذا كله كلام فارغ يجعلك ضحية لإنسان، خطأً لإنسان.

﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى﴾ أنت إنسان لهذا الكون خالق، ولهذا الخالق كتاب ومنهج، ولهذا الكتاب تفسير، هذه كل القصة، هذا الكون العظيم له خالق يدل عليه، وهذا الخالق له كتاب أنزله، والدليل إعجازه، وهذا الكتاب له نبي فسّره، فهذا الكتاب الذي بين أيدينا هو كلام خالقنا، وشرحه النبي عليه الصلاة والسلام وانتهى الأمر، فكل شيء جاء في الكتاب والسنة على العين والرأس، أما إذا عارض الكتاب والسنة لك أن تركله بقدمك، ولا تثريب عليك، فالإنسان إذا سمع كلام الناس يضلونه.

﴿ وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ(116)﴾

[ سورة الأنعام ]

﴿ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا ۚ إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)﴾

[ سورة يونس ]

﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ القرآن لا ينبغي أن يكون كتاب تاريخ، فإذا قال لك شخص أقوى منك لا تخف، وضعها على عاتقي، هكذا أنا أرى، وأنا أعرف مصلحتك أكثر منك

(( لا طاعَةَ لمخلوقٍ في مَعصيةِ الخالقِ ))

[ صغير الجامع ]

اجعل هذه الكلمة شعاراً لك، (لا طاعَةَ لمخلوقٍ في مَعصيةِ الخالقِ) قصة أرويها كثيراً؛ الحسن البصري كان عند والي البصرة، الحسن البصري تابعي، كان عند والي البصرة، وهو عنده جاء البريد، توجيه من يزيد بن معاوية، توجيه لو فعله الوالي لسخط الله عليه، ولو لم يفعله لسخط الخليفة عليه، وقع في حرج شديد، عنده الحسن البصري سأله ماذا أفعل؟ أجابه إجابة تُكتَب بماء الذهب، قال له: "إن الله يمنعك من يزيد، ولكن يزيد لا يمنعك من الله"

كل إنسان أقوى منك وضغط عليك اعلم علم اليقين أن الله يمنعه منك، ولكنك إذا اتبعت توجيهه لا يمنعك من الله مهما بدا لك قوياً، الله لديه أمراض وبيلة تجعل حياة الإنسان جحيماً، ماذا نفعل؟ أمرك بيد الله، صحتك بيد الله، الدسامات بيد الله، الشريان الأبهر التاجي بيد الله عز وجل، الكليتان بيد الله؛ الفشل الكلوي مخيف جداً، ولا حلّ له، عملية زرع الكلية تكلف مليون ليرة على الأقل، ونسبة نجاحها 30%، الأمور كلها بيد الله عز وجل، دخلك بيد الله، عملك بيد الله، أهلك بيد الله. 

﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)﴾

[  سورة هود  ]

لذلك (لا طاعَةَ لمخلوقٍ في مَعصيةِ الخالقِ) مهما تم الضغط عليك: 

﴿ قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ۖ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ ۖ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَىٰ (71 (قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا ۖ فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ ۖ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72)﴾

[ سورة طه  ]

انتهى الأمر، هذا هو المؤمن، (لا طاعَةَ لمخلوقٍ في مَعصيةِ الخالقِ) ، قالت: يا بني إما أن تكفر بمحمد وإما أن أدع الطعام حتى أموت، قال: "يا أمي لو أن لك مئة نفس فخرجت واحدة واحدة ما كفرت بمحمد، فكلي إن شئت أو لا تأكلي" ، فأكلت بعد هذا.

 فالأساس(لا طاعَةَ لمخلوقٍ في مَعصيةِ الخالقِ) ، لك رب يجب أن تطيعه وحده، لكن لما يطيع الله وحده لا ينبغي أن يكون فظاً غليظ القلب، بالتلطف بالحسنى

﴿ وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(15)﴾

[ سورة لقمان ]

﴿ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30)﴾

[ سورة غافر ]

هؤلاء الذين تحزّبوا على الأنبياء وقاموا لهم، وحاربوهم، وأخرجوهم، وكذبوهم، وسخروا منهم، وائتمروا على قتلهم، هؤلاء الأحزاب الذين تحزّبوا على الأنبياء صلوات الله عليهم هؤلاء مُنوا بهزيمة منكرة، وأهلكهم الله عز وجل، النبي عليه الصلاة والسلام في أعقاب معركة بدر خاطب القتلى من كفار قريش بأسمائهم: 

(( عن أنس بن مالك أن رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، تَرَكَ قَتْلَى بَدْرٍ ثَلَاثًا، ثُمَّ أَتَاهُمْ فَقَامَ عليهم فَنَادَاهُمْ، فَقالَ: يا أَبَا جَهْلِ بنَ هِشَامٍ يا أُمَيَّةَ بنَ خَلَفٍ يا عُتْبَةَ بنَ رَبِيعَةَ يا شيبَةَ بنَ رَبِيعَةَ أَليسَ قدْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فإنِّي قدْ وَجَدْتُ ما وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا فَسَمِعَ عُمَرُ قَوْلَ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فَقالَ: يا رَسولَ اللهِ، كيفَ يَسْمَعُوا وَأنَّى يُجِيبُوا وَقَدْ جَيَّفُوا؟ قالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ ما أَنْتُمْ بأَسْمع لِما أَقُولُ منهمْ، وَلَكِنَّهُمْ لا يَقْدِرُونَ أَنْ يُجِيبُوا ثُمَّ أَمَرَ بهِمْ فَسُحِبُوا، فَأُلْقُوا في قَلِيبِ بَدْرٍ. ))

[ صحيح مسلم ]

هذه الساعة عصيبة.


إياك أن تكون في خندق مُعادٍ لأهل الحق:


﴿ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30)مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ ۚ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ (31)﴾

[ سورة غافر ]

انظر دقة الآية، فالله عز وجل نفى عن نفسه إرادة الظلم، عندك إرادة وحدث، الإنسان أحياناً لا يظلم، ولكنه يريد أن يظلم إلا أنه لم يُتح له، لكن الله عز وجل ﴿وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَاد﴾ِ حذّرهم من مغبّة أن يحاربوا هذا النبي الكريم، فإن كل من حاربه وكل من تحزّب ضده وهو رسول الله، فهو إنسان أحمق إلى درجة غير معقولة، ومن الغباء أن يكون الإنسان ضد الحق، ويتورط ورطة كبيرة، أن يقف لإطفاء نور الله! هذه نقطة مهمة جداً، إياك أن تكون في خندق مُعادٍ لأهل الحق، انجُ بجلدك، تحارب من؟ تحارب الله ورسوله أنت، هذا الدين العظيم لولا أنه دين الله لهلك من مئات السنين ولانتهى، ولكن لأنه دين الله بقي صامداً، شامخاً كالطود، هناك مؤامرات على هذا الدين لا يعلمها إلا الله، ومع ذلك كلها باءت بالإخفاق؛ لأنه دين الله "إن الله ناصر نبيه" إن للبيت رباً يحميه، فأغبى إنسان من وضع نفسه في خندق معادٍ لأهل الحق، معادٍ لهذا الدين، فهو عندئذ يحارب الله ورسوله، وهل بإمكان مخلوق أن يطفئ نور الله عز وجل!؟ وهل بإمكان مخلوق أن ينهي دين الله عز وجل؟! ينتهي ولا ينتهي دين الله، هل بإمكان مخلوق أن يلغي هذا الدين؟ الذين أرادوا إلغاءه تهاوَوا كبيت العنكبوت تحت سمعنا وبصرنا، من سبعين سنة قلعة من قلاع الأرض ترفع شعار "لا إله" فلما أراد الله أن يخزيهم أصبحوا في أسفل سافلين اقتصادياً، وفكرياً، واجتماعياً، عسكرياً.

الإنسان العاقل لا يمكن أن يكون في خندق معاد للحق، إن فعل هذا فإنما هو يحارب الله ورسوله، لا يوجد أي داعٍ إلى النصر، تحارب الله! يُقاس على ذلك ألا يطعن الإنسان بالدعاة إلى الله، ولا ينتقصهم، ليبقَ بعيداً عن ذلك أفضل؛ لأن لحم العلماء مسموم، إنسان يستفيد منه الناس إياك أن تحاول تحطيمه، إياك أن تحاول الطعن به؛ لأن هذا عمل غير أخلاقي، وغير ناجح، ولا يُجدي، هؤلاء الذين استفادوا من شخص دعهم يستفيدون منه، ولا تكن حجر عثرة، ولا تكن عدواً للحق، ولا تكن سبباً في إزاحة الإيمان عن قلوب الناس.

 ﴿إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ﴾ هؤلاء الذين تحزّبوا على الأنبياء، وانتقصوا منهم، وكذبوهم، وسخروا منهم، واتهموهم بأنهم مجانين، أو أنهم كهان أو شعراء، وأخرجوهم من ديارهم، وألّبوا عليهم الناس، وحاربوهم، ماذا فعل أبو سفيان؟ حارب النبي لعشرين سنة، لما دخل النبي المكة المكرمة نظر إليه وقال: "ما أعقلك وما أحكمك وما أرحمك وما أوصلك" كبار زعماء قريش عرفوا الحقيقة بعد فوات الأوان، أريد من هذا الكلام أن أقول لك: إياك ثم إياك ثم إياك ثم إياك أن تحاول إطفاء نور الله، أن تقف في خندق معادٍ للدين، إياك أن تحاول أن تفسد بين متعلم ومعلم، إياك أن تحاول أن تلغي إنساناً، هذا فوق طاقتك.


يوم التناد كل إنسان ينادي الطرف الآخر فلا يستجيب له 


﴿ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ ۚ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ (31)وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32)﴾

[ سورة غافر   ]

يوم القيامة، حذّرهم من مغبّة الخِزْي والهزيمة في الحياة الدنيا إذا هم ناهضوا وعادوا الأنبياء،  وحذّرهم من يوم القيامة الذي سماه الله عز وجل يوم التّناد.

سألت السيدة عائشة سيدنا النبي عليه الصلاة والسلام فقالت: 

(( فهَل تَذكُرون أهليكُم يومَ القِيامةِ؟ فقال: أمَّا في ثلاثةِ مواطنَ فلا يذكرُ أحدٌ أحدًا: عِندَ الميزانِ، حتَّى يَعلمَ أيخفُّ ميزانُه أم يثقُلُ، وعند تطايُرِ الصُّحُفِ، حتَّى يعلمَ أينَ يقعُ كتابُه في يمينِهِ أم في شِمالِه أم وراءَ ظهرِه، وعِندَ الصِّراطِ إذا وُضِعَ بين ظهرَيْ جهنَّمَ، حتَّى يَجوزَ. ))

[ ضعيف الترغيب ]

فلو أن إنساناً وقعت عينه على عين أمه هل يعرفها؟ وقعت عينها على عين زوجها هل تعرفه؟ وقعت عينه على عين أخيه، وقعت عينه على عين ابنه هل يعرفه؟ فقالت: (فهَل تَذكُرون أهليكُم يومَ القِيامةِ؟ فقال: أمَّا في ثلاثةِ مواطنَ فلا يذكرُ أحدٌ أحدًا: عِندَ الميزانِ، حتَّى يَعلمَ أيخفُّ ميزانُه أم يثقُلُ، وعند تطايُرِ الصُّحُفِ، حتَّى يعلمَ أينَ يقعُ كتابُه في يمينِهِ أم في شِمالِه أم وراءَ ظهرِه، وعِندَ الصِّراطِ)

يوم التناد تنادي الأم ابنها فلا يستجيب لها، ينادي الابن أمه فلا تستجيب له، ينادي الأخ أخاه فلا يستجيب له، ينادي التابع المتبوع فلا يستجيب له، ينادي الضعفاء الأقوياء فلا يستجيبون لهم، يوم التناد كل إنسان ينادي الطرف الآخر فلا يستجيب له.


الإنسان يضل باختياره:


﴿  يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ ۗ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)﴾

[ سورة غافر ]

الإنسان إذا أضل نفسه عن الله عز وجل، أي إذا ضل ضلالاً اختيارياً فاستحق الإضلال الجزائي، كقوله تعالى:

﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ۖ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)﴾

[ سورة الصف ]

هذه الآية بعضهم يراها مشكلة، وهي واضحة تماماً، وأوضح مثل عليها: طالب جامعي لا سجل في الجامعة، ولا داومَ، ولا قدّم امتحاناً، ولا اشترى كتباً، فأُرسِل له إنذار تلو الإنذار، فلما يئست إدارة الجامعة من استجابته أصدرت قراراً بترقين قيده، متى أصدرت هذا القرار؟ بعد أن اتخذ ذلك الموقف، فهل قرارها ظالم؟ لا والله، هذا معنى قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ فأي إضلالٌ عُزِيَ إلى الله عز وجل -كما قال العلماء- هو الإضلال الجزائي المبني على ضلال اختياري، فحينما أصدرت إدارة الجامعة قراراً بفصل هذا الطالب وترقين قيده، ليس هذا ظلماً إطلاقاً، إنما هو نتيجة طبيعية تجسيد لرغبة الطالب في الخروج من الجامعة ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ فلما ضلوا أضلهم الله، فلما أرادوا المعصية مكّنهم الله منها، وهكذا؛ لأن الإنسان مخير، ﴿وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ إذا ضل الإنسان باختياره، والله سبحانه وتعالى بأفعاله جسّد هذا الاختيار فأضلَّه الله عز وجل عندئذ لا يستطيع أحد هدايته:

﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ(56)﴾

[ سورة غافر ]

والحمد لله رب العالمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور