وضع داكن
29-03-2024
Logo
الدرس : 6 - سورة الجاثية - تفسير الآيتين 23 - 25 ثمن الجنة مخالفة الهوى
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

الإله الذي ينبغي أن يُعبد هو الله لأن الأمر كله بيده:


أيها الإخوة الكرام، مع الدرس السادس من سورة الجاثية، ومع الآية الثالثة والعشرين، وهي قوله تعالى:

﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)﴾

[ سورة الجاثية ]

الإله الذي يُعْبَد، الإله الذي يُطاع، الإله الذي يُحَب، الإله هو الذي بيده مصيرك، بيده رزقك، بيده حياتك، بيده موتك، بيده سعادتك، بيده شقاؤك، بيده إعزازك، بيده إذلالُك، بيده أن يطمئنك، بيده أن يخيفك، هذا الإله، لذلك لا معبود بحقّ إلا الله، فالإله الذي ينبغي أن يُعبد هو الله، لأن الأمر كله بيده، لأن مقاليد السماوات والأرض كلها بيده.

إذا عبد الإنسان إنساناً، أي أطاعه، وأحبه، وتوهم أن هذا الإنسان بيده مصيره، يرفعه أو يخفضه، يقربه أو يبعده، يعزه أو يذله، هذا الإنسان ليس إلهاً، إنسان ضعيف يموت، لكن المُشْرِك عامَله كما يعامَل الإله هنا، لا يعقل إنسان ضعيف يأكل ويشرب وينام ويتألَّم ويمرض ويبكي أحياناً ويخاف، لا يعقل أن يكون هذا الإنسان إلهاً، لكن حينما يقول فلان ألَّهَهُ جماعةٌ من الناس، هو ليس إلهاً، ولكنهم عاملوه كما يعامل الإله، أحبوه، وأطاعوه، أطاعوه، وعصوا ربَّهم، خافوه، رجوه، عقدوا آمالهم عليه، إذاً حينما يرد أن الإنسان اتخذ جهة ما إلهاً من دون الله ليس معنى ذلك أن هذه الجهة هي إله لكنها عوملت كما يعامل الإله.

 

التعجب في اتخاذ الناس آلهة غير الله:


قال: ﴿أَفَرَأَيْتَ﴾ وكأن في هذا التركيب وتلك الصيغة إبداء العَجَب، أيعقل أن يتخذ الإنسان هواه إلهاً؟! أي يتحرك وفق أهوائه، وفق نزواته، وفق ملذَّاته، وفق شهوته، شهوته مقدسة، لابدَّ من أن يرويها ولو على حساب قيمه أو مبادئه، معنى: ﴿اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾ أي جعل شهوته هي الموجِّهَة لحركاته وسكناته، والإنسان يتحرك بباعثين ولهدفين، إما الباعث مصلحته، أو الباعث طاعة ربه، ولهدفين، إما إرضاء الله أو إرواء شهواته، فسلوك الإنسان له باعثان، وله هدفان.

الباعث الأول: مصالحه ، الهدف إرواء شهواته. 

الباعث الثاني: طاعة ربه ، الهدف السعادة في الدنيا والآخرة، فكل إنسان يتخذ هواه أي شهوته، شهوة النساء، كيف تتخذ إلهاً من دون الله؟ الإنسان حينما يقيم علاقة مع امرأة خارج نطاق الزوجية، خارج نطاق المنهج الإلهي، إذاً هذه الشهوة عبدها من دون الله، أي روَّاها بخلاف منهج الله.

حبه للمال، لك أن تكسبه من طريقٍ مشروع، أما حينما لا يعنيك إلا أن تأخذ المال من أي سبيل اتخذت المال إلهاً من دون الله، أي هو الذي يحرِّك سلوكك؛ يحلف يميناً كاذباً، يبيع دينه، يبيع أهله، يبيع ذمته وأمانته، الهدف أن يقبض المال فقط، إذاً حينما يُتَّخَذ الهوى إلهاً ليس معنى ذلك أن الهوى إله، لكنه عومل معاملة الإله.

 

الله تعالى هو الإله المستحق للعبادة والتعظيم:


من الإله؟ الذي بيده حياتك، وموتك، ورزقك، وعزتك، وصحتك، وسعادتك، ورفعتك، هو الذي يعطي، والذي يمنع، الذي يرفع، والذي يخفض، الذي يعز، والذي يذل، الذي يجمع، والذي يفرِّق، الذي يمنح الحياة، ويأخذ الحياة، يقدِّر الموت، هو الإله، هذا الذي ينبغي أن تعبده، هناك تناسب بين صفاته وأسمائه وبين العبادة له، فأنت لا يليق بك أن تعبد إنساناً من دون الله، إنه ندّ لك، إنه عبدٌ فقير، قد لا يعلم ما أنت عليه، وإذا علم قد لا يستطيع أن ينقذك مما أنت فيه، إذاً ليس إلهاً، ولا يليق بك أن تعبده من دون الله، فالعبادة شيء خطير جداً.

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)﴾

[ سورة الذاريات  ]

العبادة علة وجودك على وجه الأرض، لكن ينبغي أن تتوجه العبادة إلى الله عزَّ وجل الذي منحك الوجود:

﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1)﴾

[  سورة الإنسان ]

الذي خلق الهواء كي تتنفسه، ولأن الهواء ضروري جداً لا يستطيع أحدٌ أن يتمَلَّكَهُ، أبداً، لو تملّك الناس الهواء عندك فاتورة هواء آخر الشهر، تستنشق الهواء في أي مكان، الماء، الطعام، الشراب، خلق لك من نفسك زوجةً تسكن إليها، جعل منك ومنها طفلاً صغيراً يؤنس وحدتك، هذا الذي تعبده، الذي منحك السمع والبصر، الذي منحك العقل، الذي أعطاك القلب والشرايين، والرئة والتنفُّس، الأجهزة المتعددة، وأنت لا تدري.

نقطة ماءٍ أصبحت كائناً سوياً، في الدماغ مئة وأربعون مليار خلية، وفي شبكية العين مئة وثلاثون مليارًا، في الشعر ثلاثمئة ألف شعرة، العضلات، العظام، الكليتان، لو تعطلت الكلية تصبح الحياة جحيماً، لو استؤصل المستقيم لمرضٍ خبيث، وأصبحت الفتحة خارجية، وأكياس ومتاعب، لا أحد يعرف قيمة المستقيم، المثانة، التوازن تمشي على قدمين.

الذي منحك نعمة الوجود، أمدك بالهواء والماء، أمدك بالطعام والشراب، خلق لك من نفسك زوجةً، منحك أولاداً يملؤون بيتك سروراً، هذا الذي تعبده، هذا الذي تحبه، هذا الذي تطيعه، هذا الذي تخشاه، هذا الذي تعلِّق عليه الآمال، هذا الذي ترجو رضاه، هذا الذي تخشى غضبه، إنسان ولو كان قويًا جداً، إذا أحببته، وعصيت الله من أجله، وظننت أنه يقربك، ويرفعك، ويغنيك، ويقوّي مركزك، هو ليس إلهاً، هو بشر من جنسك، ولكنك عاملته كما يعامل الإله.

 

ما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد:


إذا قلنا: اتخذته إلهاً، هو ليس إلهاً، لكنك عاملته كما يعامل الإله، أي أطعته على حساب طاعة الله.

مرة ذكرت لكم أن الحسن البصري، وهو من كبار التابعين، كان مرة مع والي البصرة للخليفة يزيد، وقد أرسل يزيد توجيهًا لهذا الوالي بالذَّات، توجيه يتنافى مع الحكم الشرعي، وهذا الوالي وقع في صراع، ماذا يفعل؟ أينفذ أمر الخليفة فيُغضب الله عزَّ وجل أم لا ينفِّذَهُ فيغضب الخليفة وقد يعزل من منصبه؟ فكان عنده وقتها التابعي الجليل الحسن البصري، قال له الوالي: "يا إمام، ماذا أفعل أنا في حيرةٍ من أمري؟" ، القضية عند الحسن البصري واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، فقال له كلمةً تكتب بماء الذهب قال له: "يا فلان، إن الله يمنعك من يزيد، ولكن يزيد لا يمنعك من الله" .

أنت حينما تتخذ زيداً إلهاً، وتطيعه من دون الله، فإذا أراد الله بك سوءًا لا يستطيع زيد أن يمنع عنك هذا السوء، أما إذا أراد زيدٌ سوءًا فإن الله يستطيع أن يمنعه عنك، هذا التوحيد، ما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد، لذلك الدرس اليوم حول الهوى لا حول الأشخاص، ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾ .

 

معاني اتخاذ الهوى إلهاً:


الحقيقة هناك مجموعة من الأحاديث الشريفة يجب أن ندرسها جميعاً.

أولاً: ماذا قال الصحابة والتابعون بهذه الآية؟ قال ابن عباس والحسن وقتادة: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾ ذلك الكافر اتخذ دينه ما يهواه، أليس هناك أشخاص غارقون في الطَرَب؟ غارقون في الملذَّات الحسِّية؟ غارقون في تتبع أخبار النساء؟ غارقون في مغامراتٍ لا ترضي الله عزَّ وجل؟ أناس تعلَّقوا بالنساء، أناس تعلقوا بجمع الدرهم والدينار، أناس تعلقوا بالمظاهر، أناس تعلقوا بالقوة في الأرض، أناس تعلقوا بأشياء كثيرة، قالوا: "الكافر اتخذ دينه ما يهواه" ، دينه هواه، وهذا ما يفعله العالم الكافر اليوم، ما الذي يسعده في نظره؟ أن تكون امرأةٌ إلى جانبه دائماً، اتخذ سكرتيرة، ما الذي يسعده؟ أن تكون كل اللقاءات مختلطة ليمتع عينيه، ويدافع عن هواه، يقول لك: هذا رقي وهذه حضارة، هو يعبد هواه من دون الله، أي شيء مهما بدا مخالفاً للفطرة، مخالفاً للقيم، مخالفاً للمبادئ السامية، يفعله، لأنه يُروي شهوته، ويحقق غريزته، ويدغدغ نزواته.

قال سعيد بن الجبير: "كان أحدهم يعبد الحجر، فإذا رأى ما هو أحسن منه رمى به وعبد الآخر" .

وقال بعض التابعين: المعنى: "أفرأيت من ينقاد لهواه ولمعبوده تعجيباً لذوي العقول" أي يا أيها العقلاء، يا أيها المفكِّرون، أيعقل أن يفعل إنسان هذا العمل؟!

وقال: "إنما سمي الهوى هوىً لأنه يهوي بصاحبه" .

هناك تناسب بين الهوى وبين الهَوِي، سمّي الهوى هوىً لأنه يهوي بصاحبه، يوجد مظالم، يوجد ظلمات بعضها فوق بعض، يوجد متاهات، يقول لك: فلان سقط، انتهى، لأنه تبع هواه فسقط، وكل إنسان إما أن يتبع الهوى بقبض المال، بكسب المال، بالملذة المحرمة.

بالمناسبة إخواننا الكرام؛ هناك حقيقة أقولها دائماً آلاف المرات: ما من شهوةٍ أودعها الله في الإنسان وإلا وجعل لها قناةً نظيفةً يمكن أن تروى بها، أبداً، ليس في الإسلام حرمان، في الإسلام تنظيم، وكل إنسان يروي شهوته المشروعة وفق المنهج الإلهي لا شيء عليه، ليس في الدين رهبانية، قال عليه الصلاة والسلام: 

(( عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ   قَالَ: جَاءَ ثَلاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِ؟ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلا أُفْطِرُ، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا. فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: «أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» . ))

[ صحيح بخاري ]

هذا هو الهوى.

 

ورود الهوى في القرآن في سياق الذم:


الآن أيها الإخوة؛ ما وردت كلمة الهوى في القرآن الكريم إلا وذَمَّها الله عزَّ وجل:

﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)﴾

[ سورة الأعراف ]

وقال تعالى:

﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)﴾

[  سورة الكهف  ]

ذمٌّ آخر، قال تعالى:

﴿ بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29)﴾

[ سورة الروم  ]

وقال تعالى:

﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)﴾

[  سورة القصص ]

وقال تعالى:

﴿ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)﴾

[ سورة ص ]

 

أمام الإنسان طريقان لا ثالث لهما؛ طريق الحق وطريق الهوى:


الملخص أمامك أيها الإنسان طريقان لا ثالث لهما: طريق الحق وطريق الهوى، طريق الرحمن وطريق الشيطان، طريق إرضاء الله عزَّ وجل وطريق دغدغة نوازع الإنسان، طريق السمو وطريق اللذات، طريق اللذة العابرة وطريق السعادة الأبدية، طريق الشهوة وطريق العقل، طريق السماء وطريق الأرض، طريق الملائكة وطريق الشياطين، هذه الاثنينية في الحياة،  طريقان لا ثالث لهما: العقل، والخلق، والقِيَم، والمبادئ، والأهداف النبيلة، والسعادة الأخروية، والاستقرار، ورضاء الله عزَّ وجل في طريق الإيمان؛ الشهوة العابرة مع الشقاء، والاكتئاب، والضياع، والتشعُّب، والتشرذم، والخوف، والقلق، والخنوع، والقهر والنفاق، كله في طريق الشهوة.

حينما يروي الإنسان شهوته بمعصية الله يضعف، لذلك أعداء المسلمين همّهم الأول إفساد أخلاق المسلمين، أي حينما يتبرَّعون بمحطات فضائية لإفساد أخلاق الشباب ما هدفهم؟ حينما تفسد أخلاقُ الإنسان ينتهي كإنسان، بقي حيواناً، هذا الحيوان يخاف، شديد الخوف، شديد القلق، شديد الخنوع، لأنه اتبع شهوته، لأنه أخلد إلى الأرض، واتبع هواه، فمثله كمثل الكلب، اسمعوا أيها الإخوة ماذا قال النبي عليه الصلاة والسلام، قال النبي عليه الصلاة والسلام: عن عبد الله بن عمرو:

(( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به. ))

[ معارج القبول : صحيح ]

من حقِّ الإنسان أن يتزوج، لكن ليس من حقه أن ينظر إلى زوجات الآخرين، هن أجنبيات، لذلك: ((لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)) من حقه أن يكسب المال، ولكنه ليس من حقه أن يعتدي على كسب الآخرين، عدوان، حينما تقنع بالدخل الحلال، وحينما تقنع بزوجتك التي سمح الله لك بها هذا الذي قاله أحد الأنبياء:

﴿ بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)﴾

[ سورة هود ]

يوجد خمسون طريقاً لإرواء الشهوات، يوجد طريق مشروع نظيف يرضي الله، ويسعد هذه الإنسان، طريق الزواج، فأنت بقي لك من علاقتك بالنساء الزواج، هذا هو الخير.

ألف طريق لكسب المال، بقي لك من كسب المال البيع والشراء، العمل المشروع، أما الهبة، أو الإرث، أو العمل، أو الكسب، إلخ.. هذا مشروع لك أن تأخذه، إذاً: ((لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)) .

وقال أبو أمامة: قيل: ما عُبِدَ تحت السماء إلهٌ أبغض إلى الله من الهوى ، أكثر الناس الضالين، المنحرفين، التائهين، الشاردين، المقطوعين عن الله، يحركه الهوى فقط، يقسم أيماناً كاذبة، ينقض نظرية لأن مصلحته بنقض هذه النظرية، يكابر بالمحسوس لأن هواه يتوافق مع هذه المكابرة، يرضى بالباطل لأن هذا الرضا يجلب له الهوى، يغضب بغير حق، لأن هذا الغضب يجلب له الهوى، يتكَلَّم بما ليس قانعاً به تحقيقاً لأهوائه ومصالحه، يفند الأقوال وهي حق من أجل أن يحافظ على مكانته، فهذا الإنسان الذي يتبع الهوى إنسان شقي، أحياناً إنسان يسخّر قلمه، يسخِّر فكره، يسخّر لسانه، يسخّر ذكاءه، يسخّر مكانته، يسخّر علمه، خبراته من أجل الهوى، وهذا هو الشقي الحقيقي، الإنسان أرقى من أن يكون مسخرًا للهوى.

 

من يُعطّل عقله يعيش لحظته وواقعه:


أحياناً تبالغ في توضيح قضية، وأنت في الأصل لست مؤمناً بها، ولكن إرضاءً لزيد أو عبيد، تسخّر ذكاءك، تسخّر عبقريتك من أجل مدح شيء أو ذم شيء، مدح هذا الشيء يُرضي زيدًا، ذم هذا الشيء يرضي عبيدًا، تمدح وتذم لا عن قناعة، ولا عن رفض، ولكن اتباعاً للهوى، تبالغ في مودة إنسان ليس حباً له، اتباعاً للهوى، تعادي إنسانًا وهو من أكمل الناس اتباعاً للهوى، فعندما تكون علاقة الإنسان، صلته، قطيعته، رضاؤه، غضبه، عطاؤه، منعه، زيارته، مجافاته بدافع الهوى فهو أشقى الناس، أي إن اتباع الهوى هوان، أي عدوك الأول هو الهوى، وسمي الهوى هوى لأنه يهوي بك، والحديث المعروف: عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ، وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ. ))

[ الترمذي : حكم المحدث : صحيح ]

عندما يعطل الإنسان عقله يعيش لحظته، الإنسان حينما يعطل عقله يعيش واقعه، يقول لك: هكذا الناس، هكذا يريدون، هكذا تريد الخانم، بناتي لا أريد أن أزعجهن، بناته يطلِق لهن العنان، يفسدن الشباب، وهو يدري أو لا يدري، يُطْلِق لزوجته العنان، يقبض الأموال من دون حساب، حلال، حرام، شبهة ربا، غش، فساد، عليه أن يأخذ المال الوفير حتى ينفق هذا المال على شهواته المنحرفة، إنسان هوائي أو شهواني أو والحمد لله رحماني.

الرحماني يمشي على المنهج، الرحماني لا يتحرك قبل أن يعرف حكم الله في هذا الشيء، يفعله ولو دفع الثمن باهظاً، ويمتنع عن فعله ولو فوَّت عليه أرباحاً طائلة، الله أغلى عليه من المال كله.

قيل: "من علامات قيام الساعة اتباع الهوى" ، كما قيل: "إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا، وَهَوًى مُتَّبَعًا، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ" ، هَوًى مُتَّبَعًا أي شهوته كلها في هذه البرامج المنحرفة، تجده يشتري ويركب على السطح ويوجه، هذه شهوته، إنّ اتباع الهوى، هنا الأهواء، تجد العلم بالكتب، العلم في مجالس العلم، العلم على يد العلماء، العلم في الكتاب والسنة، هناك ليس العلم، هناك الهوى، المناظر، لذلك: إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا، وَهَوًى مُتَّبَعًا، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ ، لذلك: فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ، وَدَعِ الْعَوَامَّ.

 

المهلكات والمنجيات:


قال صلى الله عليه وسلم:

(( عن أنس بن مالك  ثلاثةٌ مهلكاتٌ وثلاثةٌ منجياتٌ فالثلاثةُ المهلكاتُ: شُحٌّ مطاعٌ، وهوًى متَّبعٌ، وإعجابُ المرءِ بنفسِه، والثلاثةُ المنجياتُ: خشيةُ اللهِ في السرِّ والعلانيةِ، والقصدُ في الفقرِ والغنَى، والعدلُ في الغضبِ والرضا. ))

[  السفاريني الحنبلي : شرح كتاب الشهاب: خلاصة حكم المحدث : وإن كان إسناده ضعيفا فإن كل جملة أتت في حديث صحيح .  العقيلي في ((الضعفاء الكبير)) ]

ثلاث منجيات، وثلاث مهلكات، المهلكات شحّ مطاع، بخل، ينفق الألوف، مئات الألوف، بضع الملايين على احتفالات، على مظاهر، على ثياب، يؤتى بها من باريس، يقول لك: الزهور بمليونين، فإذا دُعي لمساعدة أسرة مقطوعة يتيمة، أو أرملة، أو مشروع خيري يبخل، لذلك: إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا، وَهَوًى مُتَّبَعًا، وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ ، كل واحد يعتقد نفسه قطبًا، يقول لك: رأيي كذا، من حضرتك؟ هل أنت مشرع؟ أنت إنسان.

يقولون هذا عندنا غير جائز                فمن أنتم حتى يكون لكم عندُ؟

[ ابن دقيق العيد ]

* * *

شيء جميل، من أنت؟ هناك إله شَرَّع، كتاب من الله أنزل، نبي فَسَّر، يقول لك: أنا لست مقتنعاً بهذا الشيء؟ من حضرتك؟ ما صفتك؟ أنت مشرع؟ من أعطاك الصلاحية لتقيّم الشرع أساساً؟  فلذلك: إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا، وَهَوًى مُتَّبَعًا، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، عندئذٍ:

(( عن عبد الله بن عمرو : إذا رأيتَ النَّاسَ مرَجتْ عهودُهم وخفَّت أماناتُهم وكانوا هكذا وشبَّك بين أصابعِه , قلتُ هكذا فما تأمرُني؟ فقال: الزَمْ بيتَك، واملِكْ عليك لسانَك، وخُذْ ما تعرِفُ ودَعْ ما تُنكِرُ، وعليك بأمرِ الخاصَّةِ ودَعْ عنك أمرَ العامَّةِ. ))

[  العراقي : تخريج الإحياء للعراقي: خلاصة حكم المحدث : إسناده حسن  ]

أولادك، أولاد أخيك، بناتك، بنات أخيك، أصدقاؤك الخُلَّص، جيرانك، من تمون عليه، ومن تلي عليه، هذه خاصَّة نفسك، ((وَدَعْ عَنْكَ أَمْرَ الْعَامَّةِ)) ، يا أخي الناس كلهم منحرفون؟ لا علاقة لك بهم:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)﴾

[ سورة المائدة ]

 

العبرة بالأقلية مع الحق لا بالأكثرية:


هناك أشخاص من ضعف تفكيرهم يؤخذون بالكثرة، أخي الناس كلهم على غلط؟! قال تعالى:

﴿ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)﴾

[ سورة يونس ]

قال سبحانه:

﴿ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116)﴾

[ سورة الأنعام ]

قال:

﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)﴾

[ سورة يوسف ]

فأنت كن مع الأقلية المؤمنة، مع الأقلية الواعية، مع الأقلية المتبصِّرة، مع الأقلية المستقيمة، مع الأقلية التي عرفت ربها، لا تؤخذ بالأكثرية.

وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: "إذا أصبح الرجل اجتمع هواه وعمله وعلمه، فإن كان عمله تبعاً لهواه فيومه يوم سوء - إذا كان عمله متبعاً لهواه فيومه يوم سوء- وإن عمله تبعاً لعلمه فيومه يومٌ صالح" ، هذا العمل، هذه الحفلة، هذه النزهة، هذه السباحة وفق الهوى أم وفق الشرع؟ وفق الشرع يكون هناك لباس معيَّن، مكان معيَّن، لا تُكْشَفُ العورات، ولا يرى أحدنا عورة أخيه، هذه سباحة وفق الشرع، وهناك سباحة وفق الهوى، هناك نزهة وفق الشرع، مكان جميل من دون اختلاط، من دون موسيقى، من دون غناء، من دون كلام بذيء، وهناك نزهة في أماكن عامة، مقاصف، وغناء، ونساء كاسيات عاريات، وطاولات الخمر حولك، هذه نزهة غير شرعية، هناك نزهة شرعية وهناك نزهة غير شرعية.

هناك زواج شرعي، وهناك زواج غير شرعي، نساء كاسيات عاريات، عرس مختلط ومكتوب على البطاقة: "الطيبون للطيبات" ، أيّ طيّبين وأيّ طيِّبات؟!!

قال سهل بن عبد الله التستري وهو أحد العارفين بالله: "هواك داؤك، فإن خالفته فدواؤك" .

الداء هو الهوى، مخالفته هو الدواء، دواء الهوى مخالفته.

قال أحد العلماء: "إذا شككت في أمرين ولم تدرِ خيرهما فانظر أبعدهما من هواك فافعله" .

دائماً الأشياء الحق النفس تقاومها، الإنسان يحب الاختلاط، يحب إرواء شهواته، يحب المجتمع المتفلت، لكن أنت المجتمع الذي فيه جلوس على الركب، وفيه سماع للحق، الزم هذا المجتمع، أين يوجد أهواء ابتعد، أين يوجد حقّ اقترب، هذا الموضوع كله قوله تعالى:

﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40)﴾

[ سورة النازعات ]


  ثمن الجنة مخالفة الهوى:


الحقيقة أعمق من ذلك، لماذا المؤمن يدخل الجنة؟ لأنه دفع الثمن، ما الثمن؟ ثمن الجنة مخالفة الهوى، فأنت لا ترقى إلا بمخالفة الهوى، لذلك ينبغي أن يكون التكليف الذي هو ثمن الجنة مخالفاً لطبع الإنسان، طبع الإنسان النوم، التكليف أن تصلي الفجر في وقتها، طبع الإنسان أخذ المال، التكليف إنفاق المال، طبع الإنسان إطلاق البصر، التكليف غض البصر، طبع الإنسان النهْشُ في أعراض الآخرين، التكليف ضبط اللسان، هذا هو الدين، الدين كله ضبط، أساساً الإسلام كله سيطرة على الذَّات، والكفر كله إطلاق الأهواء إلى أبعد ما يمكن. ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ﴾ .

 

معنى الإضلال ومفهومه:


أما قول الله عزَّ وجل:

﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)﴾

[ سورة الجاثية ]

لهذه الآية معان كثيرة، من أولى معانيها ، قبل أن أشرح المعنى الأول لهذه الآية أضرب مثلاً: لو أن طالبًا انتسب للجامعة، ودفع قسطًا، لكنه ما داوم، ولا اشترى كتبًا، ولا قدم امتحانًا، أول علم والثاني والثالث، أرسل له إنذارات عديدة، وأصرَّ على موقفه، الآن إذا صدر كتاب أو قرار من رئاسة الجامعة بترقين قيده، وطرده من الجامعة، هذا الكتاب على علم أم على جهل؟ على علم، على علم يقيني، لم يقدم فحصًا، ولم يداوم، ولم يستجب للإنذار، الله عزَّ وجل يعلم أن هذا الإنسان يريد الهوى، لا يريد الحق، إذاً هذا الإضلال كما يقولون: إضلال حكمي، أي تحصيل حاصل، أي إذا لم يدرس الإنسان، ولا قدم فحصًا لا ينجح، لا لأنهم ظلموه، لا، بل لأن عدم تقديم الامتحان يجعل المقصر في الامتحان حكماً راسبًا، تحصيل حاصل، فهذا الذي يصر على الكفر، وعلى اتباع الهوى، وعلى إيثار الشهوة، هذا إنسان قدَّم الدليل القطعي على أنه ضال، إذاً: أضلّه الله، إضلال الله له تحصيل حاصل، قدَّم الدليل القطعي على أنه أراد الضلال، لذلك قال علماء التفسير: "الإضلال إذا عُزِيَ إلى الله عزَّ وجل فهو الإضلال الجزائي المبني على ضلال اختياري" ، هذا معنى: ﴿وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ﴾ .

المعنى الثاني: الإنسان يعلم أن الدين حق، وهذا العمل حرام، وهذا العمل لا يجوز، وهذا مخالف للشرع، لكنه يؤثر الهوى على الحق، ﴿وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ﴾ أي هو يعلم.

هناك قصة تؤكِّد هذا: ذات مرة أبو جهل طاف بالبيت ومعه الوليد بن المغيرة، فتحدثا في شأن النبي صلى الله عليه وسلم، اسمعوا ماذا قال أبو جهل أكفر الكفار، قال: "والله إني لأعلم أنه لصادق، فقال له الوليد: مه ! - أي عجيب- وما دلك على ذلك؟ قال: يا أبا عبد شمس، كنا نسميه في صباه الصادق الأمين، فلما تمّ عقله، وكَبُر رشده نسمِّيه الكذَّاب الخائن؟! والله إني لأعلم أنه لصادق، قال: فما يمنعك أن تصدقه وتؤمن به؟ قال: تتحدث عني بنات قريش أني قد اتبعت يتيم أبي طالب، واللاتِ والعزَّى لن أتبعه أبداً" ، أضله الله على علم.

أحياناً يرتكب الإنسان المعصية، ويعلم أنها معصية، ويعلم أنها تنتهي به إلى النار، ويعلم أن المال سوف يدمَّر.

﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)﴾

[ سورة البقرة ]

يفعل المعصية على علم، هذه مصيبة كبيرة، قال:

إن كنت لا تدري فتلك مصيبةٌ                   وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم

[ ابن القيم الجوزية ]

* * *

أعظم بكثير، هذا المعنى الثاني.

المعنى الأول أي علم الله كذبه، علم الله إصراره على الضلال، علم اتباعه للهوى، علم أنه لا يرجو ما عند الله، هذا هو المعنى الأول.

المعنى الثاني: يعلم حقيقة هذا الدين، يعلم حقيقة هذا الشرع، يعلم أن الطريق النظيف هو الزواج، والزنا الطريق المنحرف، الكسب الحلال هو الطريق النظيف، يعلم، لكنه آثر الهوى، آثر الشهوة.

أما المعنى الثالث: أنت أحياناً تعجب من إنسان يحمل شهادة عليا، وذكي، وعاقل، ويتبع الهوى، تعجب من طبيب لا يصلي، وقد قرأ في الجامعة من الآيات الدالة على عظمة الله ما يحيِّرُ العقول، ومع ذلك لا يصلي، وقد يشرب الخمر، كيف؟ قال: هذا الذكاء في اختصاصه، هو ذكي لما هو فيه، قد تجد أناسًا أذكياء جداً في اختصاصهم، أو فيما أقيموا فيه، لكن الذكاء على مستوى الآخرة، الذكاء الشمولي يفتقرون إليه، إذاً: أضلّه الله على علم.

مرة بمعنى أنه أصر على الضلال فكان إضلال الله له جزاءً، جزاء ضلاله لاختياره.

والمعنى الثاني: هو يعلم الحق لكنه آثر الهوى.

والمعنى الثالث: إذا كان في اختصاصه، في حرفته، في شهاداته متفوقاً، وهو في سلوكه مع الله منحرفاً، هذا لا يمنع أن يكون هذا الذكي العاقل ذكيًا في اختصاصه، أما على مستوى الآخرة فهو أغبى الأغبياء.

 

الأذن طريق الهدى:


﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ﴾ أيضاً هذا المعنى تحصيل حاصل، الهدى من أين ينفذ؟ أنتم تجلسون في مسجد تصغون إلى ما يقال، فالأذن طريق الهدى، يسمع الإنسان..

﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)﴾

[ سورة ق ]

سمع خطبة جمعة، سمع محاضرة، سمع درس دين، درس تفسير، درس حديث، درس سيرة، سمع موعظة، فالهدى يصل إلى القلب عن طريق الأذن، أحياناً يرى آيةً دالةً على عظمة الله عزَّ وجل.

اليوم زارني أخ كريم بعد الصلاة قال لي عن حادثة وقعت في بلد مسلم لا يصدقها العقل: امرأة من باكستان معها طفلان صغيران في طائرة، لسبب أو لآخر تحطم زجاج النافذة الذي إلى جنبها، والضغط كما تعلمون ثمانية أمثال في الطائرة، فهذه النافذة سحبت الطفلين وألقت بهما في البحر على ارتفاع أربعين ألف قدم، طبعاً الموت محقق، بعد أسبوع تأتي هذه المرأة برقية من السفارة أن تعالي إلى قطر فالولدان صحيحان، قصَّة ضَجَّت منها البلاد، نزلا إلى جانب قارب صيد، فالصيَّاد رأى شيئا نزل من السماء طبعاً غاص، وأنقذهما، وأوصلهما إلى مستشفى، هذه آية من آيات الله..

وإذا العناية لاحظتك جفونها               نَــمْ فالمخاوف كُلُّهُنَّ أمانُ

[ عمر اليافي ]

* * *

أنا ذكرت لأحد الإخوة راكب من ركاب طائرة كانت تحلِّق فوق جبال الألب احترقت وتصدَّعت، وقع هذا الراكب مكان التصدع فوق غابةٍ في جبال الألب، مغطاة بخمسة أمتار من الثلوج، خمسة أمتار من الثلج مع مرونة الأغصان نزل هذا الراكب واقفاً على قدميه، هذه آيات، فربنا عزَّ وجل يُري آياته،وهذه الباخرة التي غرقت في بحر البلطيق، في أقل من خمس دقائق كان تسعمئة راكب في قعر البحر، والعمق ثمانون مترًا فقط، في أقل من خمس دقائق، تسعمئة راكب أصبحوا في قاع البحر، أنقذوا مئة وأربعين، والباقي ثمانمئة راكب ماتوا، هذه كلها آيات دالة على عظمة الله عزَّ وجل، الله عز وجل ينقذ طفلين من ارتفاع أربعين ألف قدم نزلا في البحر في عرض المحيط، ويتلف ثمانمئة راكب لسبب تافه وبأقل من خمس دقائق،  فالله عز وجل مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ .

 

منفذا القلب السمع والبصر:


إذاً: ﴿وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً﴾ الآن الهوى إخواننا الكرام يقع على البصر وعلى الأذن، فإذا وقع كما قيل: حُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ، الهوى غشاوة على العين، والهوى وَقرَ في الأذن، فإذا كانت العين مغطَّاة، والأذن مغلقة، القلب أنَّى له أن يهتدي؟ القلب من الداخل، أنت  أغلق الباب الخارجي للمسجد ودع هذا مفتوحاً، هذا مغلق حكماً، إذا أغلقت الباب الخارجي فالأبواب الداخلية كلها مغلقةٌ حكماً، فالإنسان حينما يهوى، حينما يعبد الهوى، حينما يتخذ إلهه هواه جُعل الهوى غشاء على عينيه، ووقرًا في أذنيه، فأنَّى للقلب أن يهتدي بهدى الله عزَّ وجل؟ هذا ما قاله الله عزَّ وجل في مطلع سورة البقرة:

﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)﴾

[  سورة البقرة ]

لماذا؟ ﴿وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾ منفذا القلب السمع والبصر، الهوى غشاءٌ أمام البصر، ووقرٌ في الأذن، القلب إذاً تحصيل حاصل، حكماً القلب في عَمَى، لأن الهوى كان هو الحجاب، والإنسان حينما يهوى يعمى، حُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِم، صاحب الحاجة أعمى، وصاحب الحاجة أرعن.

لك أن تقول: صاحب الشهوة أعمى، صاحب الشهوة أرعن، فالهوى حينما يستحكم بالإنسان يجعله أعمى أصم، قال تعالى: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ﴾ لماذا لا يعقل؟ لأن منفذ العقل هو السمع والبصر، الهوى حجابٌ كثيفٌ أمام البصر، ووقرٌ ثخينٌ في الأذن.

الآية اليوم: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ الهدى هُدى الله، ليس هناك هدى من جهة ثانية أبداً، إذا لم يهدك الله فأنت لست مهتديًا، هدى الله عزَّ وجل يحتاج إلى إصغاء سمع، أن تلقي السمع وأنت شهيد، هدى الله يحتاج إلى أن تنظر..

﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)﴾

[ سورة يونس ]

أمر بالنظر.

﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24)﴾

[ سورة عبس ]

﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5)﴾

[ سورة الطارق ]

﴿ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17)﴾

[ سورة الغاشية ]

أمرك بالنظر، ﴿قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ أمرك أن تصغي السمع.

 

التوبة دليل الإصغاء الحقيقي:


﴿ إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4)﴾

[ سورة التحريم  ]

دليل الإصغاء الحقيقي التوبة، فالله أمرك أن تنظر، وأن تصغي، أن تنظر إلى الآيات لتعرف الله، وأن تصغي إلى الحق، إما أن تصل إلى الحق بذاتك باحثاً، منقباً، متأملاً، محللاً، وإما أن يأتيك جاهزاً عن طريق الدرس، هناك طريق جاهز، أنت ممكن تطبخ بيدك، وممكن أن تأكل طعاماً جاهزاً، فإذا جئت المسجد تأخذ الطعام جاهزاً، ماذا تحتاج؟ تحتاج إلى إصغاء، علامة الإصغاء التوبة، إذا غيَّرت في البيت بعد الدرس، هذا حرام، هذا لا يجوز، هذا العمل فيه شبهة، عندما تتحرك حركة وفق الشرع فقد صحّ إصغاؤك بالدرس.

أنا والله لا يوجد شيء يدعوني إلى العجب كأن أرى إنسانًا يلزم مجلس علم عشر سنوات، وفي بيته معصية، عجيب، ماذا يسمع هذا؟! هذا حينما كان يصغي ماذا يفعل؟ ليس له محاكمة داخلية، هذه معصية، هذا مال حرام، هذا سلوك شائن، الشيء الذي يدعو للعجب أن يلزم إنسان مجلس علم، وأن يصغي، ثم لا يتوب، ﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾ علامة الإصغاء الصحيح هي التوبة، وعلامة النظر الصحيح هي التوبة، إذا نظرت أو استمعت، النظر تأمُّل وبحث ودرس، والاستماع تأخذ العلم جاهزاً، لك أن تفكِّر، ولك أن تستمع، وكلاهما طريقٌ موصل إلى الله عزَّ وجل. 

 

الله هو الخلاَّق وهو المحيي والمميت:


إذاً:

﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23) وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24)﴾

[ سورة الجاثية ]

لذلك الإنسان يقول لك: هذه الحياة هكذا، يفسِّر المصائب، يفسر خرق العادات، يفسر توفيق الله، يفسر عقاب الله، على أن هكذا الدنيا مدّ وجزر، يومٌ لك ويومٌ عليك، والذي يميتنا يقول لك: موضوع الهرم، الدهر هو الذي يميتنا، دائماً الكافر يميل إلى تفسير لا يوضح أن الله هو الخلاَّق، هو المحيي، هو المميت، هو الرزَّاق، هو المعز، هو المذل.

﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ﴾ لذلك ورد في الحديث القدسي: عن ابي هريرة رضي الله عنه:

(( ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ، وَأَنَا الدَّهْرُ، بِيَدِي الأَمْرُ أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ. ))

[ صحيح البخاري ]

إخواننا الكرام؛ تقول لي: حظ! فلان محظوظ، هذه البنت حظها قليل، هذا الكلام ليس له معنى، هل الحظ إله ثانٍ؟ الحظ هو الله عزَّ وجل:

﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7)﴾

[ سورة الليل ]

هذه آية الحظ، الدهر، القدر، كلام ليس له معنى، لا يوجد إلا الله عزَّ وجل، فوحِّدوا، لا تَعْزُ الأشياء إلى شيء غير معقول، غير منطقي، ليس له اسم.

﴿ إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23)﴾

[  سورة النجم ]

﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25)﴾

[ سورة الجاثية ]

أحضِرْ أبانا لنرى، هذا كلام ليس له معنى، الله عزَّ وجل قال: ﴿قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ﴾ يحييكم في بطون أمهاتكم ﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾ في نهاية الحياة.

﴿ قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26)﴾

[ سورة الجاثية ]

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور