وضع داكن
28-03-2024
Logo
الدرس : 10 - سورة الشورى - تفسير الآيات 24-28، رحمة الله عز وجل بعباده
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

من أنكر ظاهرة الوحي ألغى الدين كله:


أيها الأخوة الكرام؛ مع الدرس العاشر من سورة الشورى، ومع الآية الكريمة الرابعة والعشرين وهي قوله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم:

﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(24)﴾

[ سورة الشورى ]

الحقيقة الدين في الأصل وحي من السماء إلى الأرض، ونقلٌ من رسول الله إلينا، فحينما تشكِّك بالوحي، أو تشكِّك بمصداقية النبي عليه الصلاة والسلام فقد ألغيت الدين كلَّه، فالكفَّار كيف طعنوا في هذه الرسالة؟ أنكروا ظاهرة الوحي، ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ أي أن هذا النبي الكريم جاء بهذا القرآن من عنده، هو الذي جاء به، هو الذي رتَّبه وأوهم الناس أنه من عند الله عزَّ وجل. 

 

إلزام الله عز وجل نفسه بهداية عباده:


النقطة الدقيقة جداً أيها الأخوة أن الله سبحانه وتعالى في سورة أخرى يقول:

﴿ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12)﴾

[ سورة الليل  ]

الهدى على الله عزَّ وجل، وحيثما وردت كلمة ﴿على﴾ متعلِّقةً بذات الله الجليلة، فمعنى ذلك أن الله ألزم نفسه أن يهدي العباد. 

لأستعرض معكم بعض الآيات التي فيها ﴿عَلَى﴾.

﴿ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)﴾

[ سورة هود ]

بعضهم يقول: أخي نحن عبيدٌ في ملك الله، والله سبحانه وتعالى حرّ في أن يجعل الطائع في جهنَّم، صح، لكنه على صراطٍ مستقيم، ألزم نفسه بالاستقامة.

﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)﴾

[ سورة الزلزلة ]

 

نفي الظلم عن ذات الله تعالى:


الآيات:

﴿ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17)﴾

[  سورة غافر  ]

﴿ يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71)﴾

[ سورة الإسراء  ]

﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)﴾

[ سورة النساء  ]

ولا قطمير.

﴿ فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)﴾

[ سورة العنكبوت ]

آيات كثيرة جداً تصل إلى مئة آية، تنفي عن ذات الله عزَّ وجل أدقَّ أنواع الظلم.

 

إلزام الله عز وجل نفسه أن يعدل بين العباد:


كلمة: ﴿إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ أي ألزم الله نفسه أن يعدل بين العباد.

﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)﴾

[ سورة هود ]

أي الله عزَّ وجل ما من مخلوقٍ خلقه إلا وألزم نفسه برزقه، وهذه الآية شرحتها سابقاً لها معنى دقيق جداً، أي ما من دابةٍ، من تفيد استغراق أفراد النوع، وعلى تفيد الإلزام، وما من إلا تفيد الحصر، و: ﴿عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا﴾ أي أن الله سبحانه وتعالى طلب منَّا أن نعبده وتكفَّل لنا هو برزقنا.

﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)﴾

[ سورة طه  ]

 

ألوان الهداية لا تعدُّ ولا تحصى:


أردت من هذا أن أصل إلى قوله تعالى:

﴿ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى(12) ﴾

[  سورة الليل ]

أي إن الله عزَّ وجل ألزم نفسه أن يهدي العباد، والله سبحانه وتعالى يهدي العباد بأساليب لا تعدّ ولا تحصى؛ الكون أحد أسباب الهداية، العقل أحد أسباب الهداية، الفطرة أحد أسباب الهداية، أفعال الله سبحانه وتعالى أحد أسباب الهداية، المُعالجة النفسيَّة للإنسان أحد أسباب الهداية، الرؤيا التي يراها الإنسان أحياناً أحد أسباب الهداية، العلماء الذين يعينهم الله على نشر الحق في الدنيا أحد أسباب للهداية، فهناك أساليب لا تعدُّ ولا تحصى، وقد فسَّر بعضهم قوله تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)﴾

[  سورة البقرة ]

أي ما دام الله يعلِّمكم بأساليب شتَّى فلمَ لا تتقونه؟ ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ﴾ الكون يعلِّم، والقرآن يعلِّم، والنبي، والعقل يعلِّم، والفطرة تعلِّم، والحوادث تعلِّم، والرؤى تعلِّم، والدعاة يعلمون، وبالمصائب يتعلم الإنسان، والضيق النفسي يعلِّم، أي أن ألوان الهداية لا تعدُّ ولا تحصى.

 

من افترى على الله كذباً لن يسمح الله له أن يضل الناس إلى ما شاء الله:


إذاً: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى﴾ ما دام الله سبحانه وتعالى تولَّى الهداية، كأن الهداية مستمرَّة وما عليك إلا أن تلتقط هذه الهداية، من باب التقريب: كيف أن البثَّ الإذاعي مستمر دائماً، وما على الإنسان إلا أن يشتري جهاز الاستقبال ويستمع، أخي لماذا لا تبثون؟ البث مستمر عليك أن تلتقط، ﴿إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى(12)﴾ الله عزَّ وجل هدى العباد هدايةً تامة.

الآن لو أن إنساناً يفتري على الله كذباً هل يسمح الله له؟ هل يسمح له أن يُضِلَّ الناس إلى ما شاء الله؟ هذا يتناقض مع حكمة الله في أن عليه الهدى، مادام الله عزَّ وجل يقول: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى﴾ أيُّ إنسان يحاول أن يفتري على الله، يحاول أن يكذب على الله، يحاول أن يشوِّه الحقائق لصالحه، لابدَّ من أن يفضحه الله عزَّ وجل، لابد، لابدَّ من أن يكشفه، لذلك يقولون: بإمكانك أن تخدع بعض الناس لكلَّ الوقت، وبإمكانك أن تخدع كلَّ الناس بعضَ الوقت، أما أن تخدع كل الناس لكلَّ الوقت فهذا مستحيل.

 

مهما كانت محاولات إضلال الخلق قوية ستتهاوى في النهاية:


بالمناسبة إخواننا الكرام، ليس معنى قول الله عزَّ وجل: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى﴾ أنه لا تجري محاولةٌ لإضلال الخلق، المحاولات على قدمٍ وساق، ولكن هذه الآية تعني أن هذه المحاولات لا تنجح، في النهاية لا تنجح..

﴿ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)﴾

[ سورة الإسراء ]

وقد ترون بأعينكم، وتسمعون بآذانكم كيف أن الباطل مهما دُعِم، ومهما قُوِي بالأدلَّة المفتعلة، ومهما دُعِمَ بالقوَّة في النهاية يتهاوى كبيت العنكبوت.

 

الوحي كيانٌ مستقلٌ عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم:


لذلك: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ هم بهذا ينكرون على النبي الوحيَ، ولا أدري ما إذا كان هناك بحثٌ طويلٌ عميقٌ دقيقٌ عن الوحي؟ لماذا حينما رأى النبي سيدنا جبريل ضمَّه ضمَّاً شديداً؟ لئلا يُظَن أن الوحي منام، لماذا تأخَّر الوحي في براءة السيدة عائشة شهراً بأكمله؟ لو أن الوحي شيءٌ بمتناول النبي عليه الصلاة والسلام بإمكانه أن يجلبه، بإمكانه أن يمنعه، لا تمضي دقائق حتى يأتي بآية تبرِّئ السيدة عائشة، نبي عظيم اتُهِمَت زوجته بالزنا وهو يعلم براءتها، ولا يملك دليلاً إيجابياً ولا سلبياً، وانتظر شهراً حتى يأتيه الوحي مبرِّئًا السيدة عائشة.

طبعاً لا مجال للإسهاب في هذا الموضوع، هذا موضوع قائم بذاته عنوانه: ظاهرة الوحي في الإسلام، الله عزَّ وجل بأساليب كثيرة جداً، وبأحداث عديدة جداً أكَّد للعباد أن الوحي كيانٌ مستقلٌ عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ليس بإمكانه أن يجلبه ولا أن يمنعه، وقد يأتِي الوحي معاتباً النبي عليه الصلاة والسلام، وقد يأتِي الوحي ليثبت حقيقةً اتهم به خصومُ النبيِّ النبيَّ بالجنون، اتهموه بالكهانة، اتهموه بالشِعر، الوحي أثبت ذلك، لو أن الأمر بيد رسول الله لأغفل هذه التهم لأنها أصبحت قرآناً يُتلى إلى يوم القيامة.

 

القلوب بيد الله عز وجل:


أيها الأخوة؛ ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ﴾ لو طبَّقنا هذه القاعدة على إنسان دعا إلى الله، أيضاً لو كان هناك نوايا سيِّئة لتلعثم المتكلِّم، لانصرف الناس عنه.

﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)﴾

[ سورة آل عمران  ]

أي ما أخلص عبدٌ لله عزَّ وجل إلا جعل قلوب العباد تنهال إليه بالمودَّة والرحمة، القلوب بيد الله عزَّ وجل، إذا علم الله من إنسانٍ كذباً، أو نفاقاً، أو تزويراً، أو إضلالاً، أو انحرافاً يصرف عنه القلوب، يتهمه الناس، قلوبهم تنفِر منه، ﴿فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِه﴾ الله عزَّ وجل بكلماته التَّامة، بكلماته الثابتة يمحُو الله الباطل ويحقُّ الحق.

 

الله سبحانه وتعالى تولَّى هداية الخلق وما على الخلق إلا الاستجابة:


لننتقل معكم إلى التاريخ، هؤلاء الذين عارضوا النبي عليه الصلاة والسلام، هؤلاء الذين كذَّبوه، هؤلاء الذين ادعوا النبوَّة، هؤلاء الذين حَرَّفوا الإسلام عن خطِّ سيره وما أكثرهم! ما أكثر الفرق الإسلاميَّة! وما أكثر الضالين المضلين الفاسدين المفسدين! أين هم؟ هل لهم ذكرٌ؟ إنهم في مزبلة التاريخ، هذا يؤكد أن الله يمحوُ الباطل ويحق الحق بكلماته، لولا أن هذا الدين دين الله عزَّ وجل ما بقي إلى هذه الأيام، لأن المؤامرات التي حيكت على هذا الدين أبلغ من أن توصف، ومع ذلك كل من افترى على الله كذباً، كل من زوَّر الحقائق يتهاوى كبيت العنكبوت، أي فرق ضالَّة مضلَّة، منحرفة، فاسدة، مفسدة، شوَّهت الإسلام، جرَّته إلى أن يطابق الحياة المعاصرة ومع ذلك ما استطاعوا.

كأن هذه الآية تشير إلى قاعدة أن الله سبحانه وتعالى تولَّى هداية الخلق، بل جعل هداية الخلق عليه، ﴿إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى﴾ يؤكِّد هذا قوله تعالى:

﴿ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)﴾

[ سورة الأنفال ]

فكأنَّه على الله عزَّ وجل أن يُسْمِع الخلق، فالهدى على الله، ما علينا إلا أن نستجيب فقط، علينا الاستجابة.

 

أمَّة محمدٍ صلى الله عليه وسلَّم أمَّتان أمة الاستجابة وأمة التبليغ:


لذلك ذكرت اليوم في خطبة الجمعة أن أمَّة محمدٍ صلى الله عليه وسلَّم أمَّتان؛ أمة الاستجابة وأمة التبليغ، فكل من ينتمي لهذه الأمة تاريخياً هو من أمة التبليغ، لكن الذي استجاب لله ورسوله هذا من أمة الاستجابة، لذلك كل الآيات التي تُثني على أمة سيدنا محمَّد، وتَعِدُ أمة سيدنا محمد بالغلبة، والنصر، والتمكين، والاستخلاف، والتأييد، هذه الأمَّة هي أمة الاستجابة.

﴿ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38)﴾

[ سورة الشورى ]

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)﴾

[ سورة الأنفال ]

إذاً هذه الآية تؤكِّد أن الذي يفتري على الله، أن الذي يكذب على الله، أن الذي يُضل العباد، أن الذي يجرُّ الحقَّ لصالحه، أن الذي يطمِس، أن الذي لا يبيِّن، أن الذي يَكْتُم، أن الذي يسعى بشكلٍ أو بآخر، بطريقةٍ أو بأخرى أن يُضِل الناسَ اللهُ له بالمرصاد، لابدَّ من أن يفضحه، لابدَّ من أن يكشفه، لابدَّ من أن يحبس لسانه، لابدَّ من أن يجعل الناسَ ينفضّون من حوله.

 

كل من يستخدم الهدى ليجرَّ المصالح إلى ذاته الله له بالمرصاد:


لذلك: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ لو كنت كذلك يا محمَّد ﴿فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ﴾ .

﴿ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ(44)لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ(45)ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ(46)فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ(47)﴾

[ سورة الحاقة  ]

إنسان يلعب بدين الله؟! 

إخواننا الكرام؛ أنقل لكم بعض الكلمات، يقول الإمام الغزالي:"العوامُّ لئن يرتكبوا الكبائر أهون من أن يقولوا على الله ما لا يعلمون" ، لأنهم يُضلون الخلق والله لا يسمح لهم، الشافعي يقول: "لئن أرتزق بالرقص أهون من أن أرتزق بالدين" لأن الذي يرتزق بالدين يلعب بدين الله عزَّ وجل، يحرِّكه لصالحه، والله لن يسمح له، يقصمه لأن الله عليه الهدى، تولَّى هداية الخلق، فكل إنسان يستخدم الهدى ليجرَّ المصالح إلى ذاته الله له بالمرصاد.

 

من بلّغ رسالات الله يجب أن يخشى الله وحده:


لو أن النبي عليه الصلاة والسلام وهو سيِّد الخلق وحبيب الحق ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ(44)لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ(45)ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ(46)فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ(47)﴾ ، ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ﴾ وكل إنسان دعا إلى الله أيها الأخوة ليحذر أن يتكلَّم في آيةٍ، أو في حديثٍ، أو في حكمٍ فقهي، أن يتكلَّم ليجرَّ مصلحةً إليه، أو ليبعد خطراً عنه، لقد خان الأمانة، لذلك الآية الكريمة:

﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39)﴾

[ سورة الأحزاب ]

هؤلاء الذين يبلِّغون رسالات الله ينبغي أن يخشوا الله وحده، ولا يخشوا أحداً إلا الله، ولو أنهم خافوا غير الله فسكتوا عن الحق خوفاً ممن يخافونهم، أو نطقوا بالباطل إرضاءً لمن يخافونهم سقطت دعوتهم، فماذا بقي من دعوتهم؟

 

الله عز وجل يعلم السر وأخفى:


ملخَّص الملخَّص: الله هو الهادي، وهو تولَّى هداية الخلق، وقد تجري آلاف المحاولات لإضلال البشر لكنها لا تنجح، ولا يحقُّ في النهاية إلا الحق، ولا يستقرُّ إلا الحق، ولا يتألَّق إلا الحق، والباطل زهوق ولو عُمِّر سبعين عاماً، ﴿إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾ .

﴿  أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24)﴾

[ سورة الشورى ]

 أي كلمة من كلمات الله تنهي باطلاً وتحيي حقَّاً.

﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ أنت كإنسان لك الظاهر، لكن الواحد الديَّان يعلم السرَّ وأخفى، يعلم ما أخفيته عن الناس ويعلم ما يخفى عنك أيضاً، أنت مكشوفٌ عند الله، إذا كان هناك نوايا هناك من يجر الآية لصالحه ليغطي انحرافه، ليُقنع الناس بأنه على حق، هناك من يلعب بكلمات الله، بأحاديث رسول الله، الصحيح يُضَعِّفُهُ والضعيف يقوِّيه من أجل فريةٍ، أو انحرافٍ، أو إرضاءً لإنسانٍ لزيدٍ أو عُبيد، فالله سبحانه وتعالى يتولَّى فضحه، ويتولى كشفه، وهذه المحاولة لا تنجح.

 

تولي الله عز وجل حفظ كلامه:


مثلاً الله عزَّ وجل يقول:

﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ(9)﴾

[ سورة الحجر  ]

ألم تجرِ محاولاتٌ لتغيير كتاب الله؟ جرت لكنَّها ما نجحت، قبل خمسين عاماً - فيما أذكر وفيما سمعت- طُبِعَ خمسون ألف نسخة من هذا المصحف، حُذِفَت منه كلمة واحدة.. وَمَنْ يَبْتَغِ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ، حذفوا كلمة غير:

﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)﴾

[ سورة آل عمران  ]

النسخ كلها أُتلفت وأُحرقت، لم تنجح المحاولة، إذا كان الله عزَّ وجل تولَّى حفظ كلامه ليس معنى هذا أنه لا تجري محاولات لتشويه كلامه، لكنها لا تنجح، لأن الإنسان مخيَّر في الدنيا.

﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)  ﴾

[ سورة الأنفال ]

في النهاية.


  أسعد إنسان من آمن بالحق وانسجم معه فكانت النهاية له:


دقِّق في قوله تعالى:

﴿ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)﴾

[ سورة الأعراف  ]

العوام يقولون كلاماً يعجبني، يقول لك: لا يصح إلا الصحيح، الأمور تتحرَّك، وتسير، وتضطرب، وتتداخل، وفي النهاية لا يحق إلا الحق، ولا يصح إلا الصحيح، ولا يستقر إلا ما أراده الله عزَّ وجل. 

عبدي أنت تريد وأنا أريد، فإذا سلَّمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد، وإن لم تسلِّم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد ثم لا يكون إلا ما أريد، لذلك أسعد إنسان هو الذي آمن بالحق، وانسجم معه، فكانت النهاية له، عندما يخالف الإنسان الحق تضطرب نفسه، ويختل توازنه، وقد يحمله هذا الضيق النفسي على أن ينتحر.

 

من خالف الحق انهار من الداخل وخسر الدنيا والآخرة:


قلت لكم قبل درسين أو ثلاثة: إنسان يتمتَّع بأعلى مكانة في فرنسا، مكانة على سمعة، على أسرة، على غنى، على منصب رفيع جداً كان يتسلَّمه - كان رئيس وزارة- انتحر، سمعت أن مئة صحفي كتبوا مقالاتٍ عدَّة في سرّ انتحاره، ثم أحد الصحفيين وصل إلى الحقيقة، هذا كان يعتنق مذهباً باطلاً، عمره سبعون سنة، احتقر ذاته أنه إنسان يعتنق مذهباً لا صحَّة له، فاحتقر ذاته فحمله ذلك على أن ينتحر، واليوم انتحر شخصٌ ثانٍ، لماذا؟ لأن الإنسان عندما يخالف الحق تنهار نفسه من الداخل، أما الذي يربط نفسه مع الحق، ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ أنت ربطت نفسك مع خالق الكون، مع منهج الله، مع كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ .

 

باب الرحمة مفتوح على مصراعيه لكل إنسان:


الآن هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم، وانحرفوا، وقصَّروا، باب الرحمة مفتوح، الحقيقة أرجى آية في كتاب الله:

﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)﴾

[ سورة الزمر ]

باب التوبة مفتوح، لله أفرح بتوبة التائب من الظمآن الوارد، ومن العقيم الوالد، ومن الضال الواجد، والنبي عليه الصلاة والسلام ذكر قصَّةً تعرفونها جميعاً، هذا البدوي الذي ركب ناقته ليقطع الصحراء بها، جلس ليستريح وعليها زاده وشرابه فلم يجدها، أيقن بالهلاك فجلس يبكي حتَّى أدركه النعاس، فأفاق فرأى الناقة، فمن شدة فرحه بهذه الناقة قال:"يا رب أنا ربُّك وأنت عبدي " ، هكذا ورد في الحديث يقول عليه الصلاة والسلام:

(( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ  : أَنَّهُ حَدَّثَ حَدِيثَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَنِ النَّبِيِّ، وَالآخَرُ عَنْ نَفْسِهِ، قَالَ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ فَقَالَ بِهِ هَكَذَا، ثُمَّ قَالَ: «لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ نَزَلَ مَنْزِلًا وَبِهِ مَهْلَكَةٌ، وَمَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ نَوْمَةً، فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ رَاحِلَتُهُ، حَتَّى إِذَا اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحَرُّ وَالْعَطَشُ أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ، قَالَ: أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِي، فَرَجَعَ فَنَامَ نَوْمَةً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَإِذَا رَاحِلَتُهُ عِنْدَهُ».  ))

[ صحيح البخاري ]

 

من اصطلح مع الله عز وجل غفر له ذنوبه جميعها:


إذا أنت اصطلحت مع الله، ضبطت أمورك، ضبطت جوارحك، ضبطت بيتك، دخلك، إنفاقك، بناتك، أولادك، علاقاتك، ندواتك، سهراتك، نزهاتك، ضبطت كلها وفق الشرع، معنى ذلك أنك اصطلحت مع الله، جعلت بيتك إسلامياً، وعملك إسلامياً، وربَّيت أولادك التربية الصالحة، وحملتهم على طاعة الله، وحفظت بناتك من كل تقصيرٍ أو انحراف، أنت الآن مصطلح مع الله، الله يفرح بك لرحمته بخلقه، لذلك يقول الله عزَّ وجل: 

﴿ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25)﴾

[ سورة الشورى ]

والله أيها الأخوة ما أعرف شعوراً يسعد الإنسان كشعوره أن الله قَبِلَ توبته، ملك الملوك يقبلك، يرضى عنك، يمحو لك خطيئاتك، يغفر لك ما كان منك من قبل!! إذا تاب العبد توبة نصوحة أنسى الله حافظيه وجوارحه وبقاع الأرض كلها خطاياه وذنوبه،

(( عن أنس بن مالك: قال اللهُ : يا بنَ آدمَ ! إنك ما دعوْتَنِي ورجوتني غفرتُ لك على ما كان فيك ولا أُبالي ، يا بنَ آدمَ ! لو بلغت ذنوبُك عنانَ السماءِ ثم استغفرتني غفرتُ لك ولا أُبالي ، يا بنَ آدمَ ! إنك لو أتيتني بقُرابِ الأرضِ خطايا ثم لقيتَني لا تُشركُ بى شيئًا ؛ لأتيتُك بقُرابِها مغفرةً . ))

[ صحيح الترغيب : حكم المحدث :حسن لغيره ]

﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ .

 

من استقام على أمر الله وأخلص وجهه له ذاق طعم القرب منه:


إخواننا الكرام؛ ما دام القلب ينبض فأنت في بحبوحة، بإمكانك أن تتوب، بإمكانك أن تصلح ما كان منك، بإمكانك أن تؤدِّي الحقوق إلى أصحابها، بإمكانك أن تؤدِّي الذمم التي عليك، بإمكانك أن تعيد اقتسام الإرث إذا كان هناك ظلم، إذا وضع الأخ الكبير يده على أموال والده المتوفَّى وحرم إخوته الصغار فهو محجوبٌ عن الله عزَّ وجل، بإمكانه أن يعيد توزيع الإرث، إيَّاك أن ترجئ انحرافاً أو مالاً حراماً إلى المستقبل، فقد لا يأتي المستقبل، فلذلك من الآن  والله الذي لا إله إلا هو ما رأيت أعقل من الذي اصطلح مع الله في وقتٍ مبكِّر، وسوَّى علاقاته مع الله؛ الذمم، الحقوق، البيت، استقم، إن استقمت على أمر الله رأيت الطريق إلى الله سالكة، وإذا اتصلت بالله عرفت معنى القُرب، وعرفت لماذا قال أحد العارفين بالله: "لو يعلم الملوك ما نحن عليه لقاتلونا عليها بالسيوف" .

 

من استقام على أمر الله وأقبل عليه تذوق معنى وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ:


إن استقمت على أمر الله، وأقبلت عليه، وأخلصت الوجهة إليه، عرفت معنى أن في الدنيا جنَّة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، تذوَّقت معنى قوله تعالى:

﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ(46)﴾

[ سورة الرحمن  ]

عرفت معنى قوله تعالى:

﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)﴾

[ سورة الجاثية ]

إلهٌ في عُلاه يقول لك: المؤمن له معاملة خاصَّة، له علاقات خاصَّة، له زواج خاص، له عمل خاص، له سعادة نفسيَّة خاصة، أنت إذا عرفت الله مستثنى مما يصيب معظم الناس:

﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18)﴾

[ سورة السجدة  ]

﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35)﴾

[ سورة القلم  ]

أيُعقَل هذا الكلام؟

 

عدم استواء المؤمن مع الفاسق عند الله عز وجل:


﴿ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ(36)﴾

[ سورة القلم  ]

﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)﴾

[  سورة القصص ]

أهكذا ظنُّك بالله عزَّ وجل؟ إنسان شاب في مقتبل العمر يخشى الله، يرجو ما عند الله، يؤدِّي الصلوات، يستمع إلى مجالس العلم، يطلب العلم في شبابه، يبتغي زوجةً مؤمنةً، يتوخَّى عملاً صالحاً، يتوخى حرفةً ترضي الله عزَّ وجل، هذا الإنسان يُعامل كما يُعامل شاب فاسق منحرف؟ مستحيل.

 

لا يحيا الإنسان إلا بمعرفة الله وبابتغاء مرضاته:


﴿  وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِه وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26)﴾

[ سورة الشورى ]

دقِّقوا في هذه الآية:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)﴾

[ سورة الأنفال ]

والله الإنسان ميِّت قبل أن يعرف الله، يقول سيدنا علي كرَّم الله وجهه: "يا بني مات خُزَّان المال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة" ، تحيا بالعلم، تحيا بمعرفة الله، تحيا بطاعة الله، تحيا بابتغاء مرضاة الله، تحيا في بيت الله، تحيا بهذا القرآن، تحيا بتطبيق سنة النبي العدنان، بهكذا تحيا.

 

أمة الاستجابة خير أمة أخرجت للناس:


﴿وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ إذا كنت من الذين استجابوا فأنت من أمة الاستجابة، أنعم بها من أمَّة، كل الآيات التي تتحدَّث عن أمة رسول الله:

﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)﴾

[  سورة آل عمران  ]

من هي؟ أمة الاستجابة، أمة الاستجابة لا أمة التبليغ، كل إنسان وُلِدَ في بلد عربي بحكم انتمائه التاريخي يقول لك: أنا مسلم، وأنا من أمة محمَّد، هذا الشيء لا يعتبر إطلاقاً، ولا يُعْبَأ به، لا تسمَّى من أمة محمد صلى الله عليه وسلَّم إلا إذا كنت من أمة الاستجابة، أما كلُّنا جميعاً بحكم انتمائنا التاريخي فمن أمة التبليغ، لا من أمة الاستجابة، ﴿وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِه﴾ أي أدنى حركة نحو الله، يعطيك الله عزَّ وجل ما لا في الحسبان.

﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17)﴾

[ سورة فصلت ]

هديناهم، ﴿إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى﴾ .


من تحرك حركة نحو الله عز وجل كان الله في قضاء حاجته:


لكن..

﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13)﴾

[ سورة الكهف  ]

إذا تحرَّكت نحو الله خطوة،

(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ   قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلأ ذَكَرْتُهُ فِي مَلأ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً». ))

[ صحيح البخاري ]

هذا حديث قدسي، أي أنت تحرَّك حركة نحو الله، انوِ نيَّة طيِّبة، انوِ أن تقرأ القرآن، أن تحفظ القرآن، أن تفهم القرآن، أن تحضر مجلس علم، عاهد نفسك على أن تلزم مجلس علم، وانظر ماذا يكون، هم في مساجدهم والله في حوائجهم، تحلُّ المشكلات بشكل عجيب، يا رب، لأن هذا زكاة الوقت - دقِّقوا في هذا الكلام- الله عزَّ وجل قادر أن يضيِّع لك خمسين ساعة لأتفه الأسباب؛ لسبب تافه جداً، الآلة توقفت، ليس لها قطع تبديل، بعثت لطلبها فجاءك قياس أكبر بقليل، ارجع وابعث مرَّة ثانية، تدفع أموالاً وتنتظر، والآلة معطَّلة، والعمال معاشهم مستمر، الله قادر أن يضيِّع لك من وقتك مئة ساعة لأتفه الأسباب، فإذا حضرت مجلس العلم فهذا زكاة الوقت، كيف أن المال له زكاة الوقت له زكاة، يستنبط هذا من: "من أخَّر الصلاة عن وقتها أذهب الله البركة من عمره" .

 

بركة الوقت أن تؤدِّي زكاته ومن تأدية زكاته أن تطلب العلم:


أنت تقول: هذا الذي ألَّف الكتاب كم قرأ كتباً حتَّى ألَّفه؟ كتاب في اثني عشر مجلَّداً، يحتاج إلى عشرين عاماً لتأليفه، السلف الصالح أعطاهم اللهُ عزَّ وجل بركةً في أوقاتهم، بعض العلماء ترك مؤلَّفات قُسِّمت على أيام حياته فكان نصيب اليوم الواحد تسعين صفحة، هل أنت عندك استعداداً أن تقرأ عشر صفحات في اليوم بشكل دائم؟ تسعون صفحة تأليف، فهذا الوقت له بركة، بركة الوقت أن تؤدِّي زكاته، ومن تأدية زكاته أن تطلب العلم..

(( عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :مَنْ سَلَكَ طَريقا يَبْتَغي فيه عِلْما سَهَّل الله له طريقا إلى الجنة، وإنَّ الملائكةَ لَتَضَعُ أجْنِحَتها لطالب العلم رضًا بما يَصنَع ، وإنَ العالم لَيَسْتَغْفِرُ له مَنْ في السماوات ومَنْ في الأرض حتى الحيتَانُ في الماء، وفضْلُ العالم على العَابِدِ كَفَضْلِ القمر على سائِرِ الكواكب، وإنَّ العلماء وَرَثَة الأنبياء، وإنَّ الأنبياء لم يَوَرِّثُوا دينارا ولا دِرْهَماً وإنما وَرَّثُوا العلم، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بحَظٍّ وَافِرٍ.))

[ حسن رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه  ]

الإنسان يكون في درس يوم الجمعة يقوم قبل الموعد بساعة ونصف، يغيِّر ثيابه، يلبس، يتوجَّه إلى المسجد، ويركب المركبة العامَّة، إلى أين يذهب؟ لا يوجد سهرة، ولا يوجد ضيافة، ولا يوجد قعد وثير، ولا يوجد شيء مضحك، جاء ليتعلَّم، (( مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ)) المجيء من الغوطة إلى جامع يظن أن فيه حقًّاً، ونرجو ذلك، هذا الطريق إلى الجنَّة في النهاية: ((مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ)) فعندما يتوجَّه أحدنا إلى بيت الله إلى أن يذهب؟ إنه ذاهب إلى الجنَّة، لأن هنا مكان معرفة الله عزَّ وجل، والسوق والبيت مكان تطبيق معرفة الله، ألم يقل النبي عند دخوله إلى بيت الله: 

(( عن أبي حميد أو أبي أسيد الساعدي إذا دَخَلَ أحَدُكُمُ المَسْجِدَ، فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ افْتَحْ لي أبْوابَ رَحْمَتِكَ ، وإذا خَرَجَ، فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ إنِّي أسْأَلُكَ مِن فَضْلِكَ. ))

[ صحيح مسلم ]

هنا توجد رحمة، فإذا خرج من المسجد: ((اللَّهُمَّ إني أسألُكَ مِنْ فَضْلِك)) أنت بين حالتين إما أنك تطلب العلم، وإما أنك تطبِّق الذي تعلَّمته، في بيتك وعملك والطريق تطبِّق ما تعلَّمت، وفي بيت الله تتعلَّم، وعن ابن عمر:

(( بلغوا عني ولو آية. ))

[ صحيح : الجامع الصغير ]

 

من ضيّع كل شيء خسر الدنيا والآخرة:


﴿ وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26)﴾

[  سورة الشورى ]

إذا كان الإله يقول: ﴿شديد﴾ فما هو الشديد؟ إذا قال لك طفل: أنا معي مبلغ كبير، أي خمس ليرات، أما إذا قال لك إنسان غني: معي مبلغ كبير، أي معه خمسون مليونًا، فكلَّما تكلَّم العظيم، ووصف شيئاً بأنه عظيم يكون عظيماً جداً، الإله يقول: ﴿لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ وربنا عزَّ وجل يقول لهم في آية أخرى:

﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)﴾

[ سورة البقرة ]

شيءٌ لا يحتمل أن يُدرك الإنسان أنه ضيَّع كل شيء، وفقد كل شيء، وخسر كل شيء، هذه هي الخسارة، لهذا يقول سيدنا علي: "الغنى والفقر بعد العرض على الله" .

 

الرخاء الاقتصادي في الغالب يرافقه انحراف أخلاقي:


الآن في الدنيا القضيَّة لا قيمة لها إطلاقاً، ليس الغني غنياً ولا الفقير فقيراً:

﴿ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27)﴾

[ سورة الشورى ]

 هناك سؤال كبير: يا ربي لماذا الفقر؟ إذا وجد انفتاح قليل واستيراد مسموح، تجد الناس قد انحرفوا انحرافًا شديداً، شيء ملموس، يرافق الرخاءَ الاقتصادي انحرافٌ أخلاقيٌّ، لذلك ربنا عزَّ وجل يقول: ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ الله هو الذي يعلم..

﴿ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)﴾

[ سورة البقرة  ]

﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)﴾

[  سورة البقرة  ]

هذه الآية أساسيَّة، هذه أصل في بابها.

 

من رضي بما قسمه الله عز وجل له كان أغنى الناس:


الإنسان إذا رأى في إنسان دخله قليل هذه رحمةٌ من الله، والذي يجبِر كسره أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول:

(( إنّ الله عزَّ وجلَّ يحمي عبدَهُ المؤمِنَ من الدُّنيا كما يحمي أحدُكُم مريضَهُ الطَّعامَ والشَّرابَ. ))

[ السخاوي المصدر: الأجوبة المرضية  حكم المحدث :ثابت ]

إن الله تعالى ليحمي المؤمن من الدنيا كما يحمي الراعي الشفيق غنمه عن مراتع الهلك، إذا اختار لك ربنا عزَّ وجل شيئًا أنت ابذل جهدك، حَسِّن دخلك، ارفع ثقافتك، ارفع كفاءة عملك، أنت افعل كل ما في إمكانك، لكن بعد أن تنتهي كل جهودك إلى هذا المستوى قل: الحمد لله رب العالمين، أنا لا أدعو إلى الكسل، ولا إلى القعود، ولا إلى ترك الأخذ بالأسباب، خذ الأسباب، وارفع مستوى دخلك، ومستوى ثقافتك، ومستوى عملك، وأتقن عملك، افعل ما تشاء، ولكن إذا انتهت بك كل هذه الأعمال إلى هذا المكان فقل: حسبي الله ونعم الوكيل، ارضَ بما قسمه الله لك تكن أغنى الناس، ﴿إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ .

 

الله عز وجل بيده خزائن كل شيء:


الله عزَّ وجل قال:

﴿ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)﴾

[ سورة فاطر ]

لا يوجد خبير مثل الله، وأحياناً تأتي سنوات قاحلة، الناس يجأرون بالدعاء يا رب يا رب. 

أنا علمت قبل عدة سنوات أن محاصيل القمح ثلاثة ملايين طن، حاجة قطرنا كلِّه مليون طن، ثلاثة أمثال حاجتنا، وفي سنوات مئتان وخمسون ألف طن، أي ربع حاجتنا، فالله عزَّ وجل المحاصيل بيده، يزيدها ويقلِّلها، بيده الثمار، بيده الإنتاج، بيده مياه الأمطار، أي قلَّت مياه حوض دمشق إلى درجة أن الناس يئسوا، أي أشرفنا على الجفاف، عشر سنوات تقريباً كان معدَّل الأمطار مئة وعشرين، أو مئة وثلاثين، أو مئة وستين مليمتراً، إلى أن يئس الناس وظنوا أن خطوط المطر تغيَّرت وسوف نلقى جفافاً قاحلاً، فجأةً العام قبل الماضي كميَّات الأمطار التي هطلت في دمشق ثلاثمئة وخمسون ميليمتراً، العام الماضي ثلاثمئة وخمسون، الحالي حوالي مئتين إلى الآن، الله بيده كل شيء، كل الخزائن بيده، كل الرزق بيده.

 

القنوط من رحمة الله علامة عدم معرفة الله:


﴿ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)﴾

[ سورة الشورى ]

أيها الأخوة الكرام؛ القنوط من رحمة الله علامة عدم معرفة الله، القنوط من رحمة الله في القرآن الكريم كفرٌ، وجهلٌ، ويأسٌ، لذلك حينما تضيق الأمور بالإنسان، وحينما يظن أن السماء قد شَحَّت فلا تمطر، وأن الأرض قد يبِسَت فلا تُنبت، إذا وصل إلى القنوط فهذه حالةٌ لا ترضي الله عزَّ وجل، ولكن الله يقول: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ﴾ قلت لكم قبل قليل: أخ كريم يعمل في حوض دمشق قال لي قبل عدة سنوات: انتهى الأمر، لابدَّ من أن يرحل أبناء هذه المدينة لجفاف الماء، هكذا قال لي بالضبط، لا يوجد ماء، الحوض المائي في دمشق وصل إلى أقل مستوى، وكل شيء كان مهدَّداً بالجفاف، وبعد ذلك جاءت الأمطار، هناك أنهر أيها الإخوة جافة من ثلاثين عاماً، والآن فُجِّرَت وسالت مياهُهَا، بعض الينابيع في منين وصلت إلى الشام، فلذلك عندما يعطي ربنا يدهش.

 

ثقة المؤمن بربه ولو كان في ضيق طارئ:


المؤمن دائماً يثق بالله لو كان في ضيق مؤقَّت، ضيق طارئ، هذا الضيق تربوي، والله عزَّ وجل يقول:

﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)﴾

[ سورة النساء ]

فكل أنواع الضيق، والتشديد هذا من أجل أن نرجع إليه، فإذا رجعنا إليه زال هذا الضيق، وربنا عزَّ وجل ينوِّع العلاجات إن لم يرجع الناس إليه، يبلوهم بالشر فهل يرجعون؟ هل يخافون؟ وبالخير هل يستحيُون من الله؟ فالإنسان المعرض يُمتحن مرّتين: يمتحن بالرخاء ويمتحن بالشدَّة، يا ترى هل ترجعه الشدَّة إلى الله؟ تأتي الشدة، الرخاء هل أرجعه إلى الله؟ يأتي الرخاء، على كل المؤمن يثق بالله عزَّ وجل، ﴿وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ﴾ .

 

الله عز وجل هو الرازق والمعطي:


الآن الشيء الثابت أن الرزق من السماء، فإذا كانت الأمطار غزيرة، والنبات جيِّد، والمحاصيل جيِّدة، هذا يحرِّك عجلة الاقتصاد في البلد، أنا مرة كنت واقفًا مع شخص عنده معمل مطرَّزات ضخم، قال لصديقه أمامي: بعنا بيعاً مخيفًا هذه السنة، قال له: ما السبب؟ فأجاب: كانت الأمطار في الجزيرة غزيرة جداً، فأنا انتبهت أن معمل مطرَّزات يبيع بكميات مذهلة لأن أمطار الجزيرة كانت غزيرة، معنى هذا عندما تنزل الأمطار بغزارة، والمحاصيل تنبت بغزارة، هذا الذي يحرِّك اقتصاد البلاد، وأحياناً سعر العملة يزداد بالمحصول الاقتصادي الجيِّد، صار عندنا مخزون، صار عندنا شيء نبيعه، صار عندنا قطْع أجنبي، فلذلك الرزق من السماء، فإذا انهمرت السماء بالأمطار، وأنبتت الأرض من خيرات السماء، كان هذا حركةً لكل نشاطٍ اقتصاديٍ في البلد، هذا معنى قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ﴾ .

مرَّة قلَّ إنتاج القمح كثيراً، فثمن مستوردات القمح أرهقت الميزانيَّة، لأننا نحتاج أن نأكل الخبز، وأحياناً القمح يكون ثلاثة أمثال حاجة القطر، فالملاحظ أن الرزق من السماء، وأحياناً غير نزول المطر بشكل كثيف بشكل متزامن، يقول لك: مثالي، كل فترة يوجد مطر وبعد المطر شمس، هذا يُعين على إنبات النبات، ويُعين على نضج النبات، يوجد برمجة زمنيَّة أحياناً للأمطار، فالله هو الرزَّاق، هو المتصرِّف، هو المعطي، هو المانع، هو المغني، هو المفقر.

 وفي درسٍ آخر إن شاء الله تعالى ننتقل إلى قوله تعالى: 

﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29)﴾

[ سورة الشورى ]

والحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور