وضع داكن
16-04-2024
Logo
الدرس : 11 - سورة الشورى - تفسير الآيات 29 - 31 الحياة الطيبة ثمن الاستقامة على أمر الله عز وجل
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

الإيمان بالله والتشريع أمران متكاملان:


 أيها الأخوة المؤمنون، مع الدرس الحادي عشر من سورة الشورى، ومع الآية التاسعة والعشرين وهي قوله تعالى:

﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ(29)﴾

[ سورة الشورى ]

أيها الأخوة المؤمنون؛ بادئ ذي بدء هناك آياتٌ دالَّةٌ على وجود الله، وعلى كماله، وعلى وحدانيَّته، وهناك آياتٌ تشريعيَّة، النبي عليه الصلاة والسلام حينما دعا إلى الله بَثَّ في نفوس أصحابه الإيمان بالله عزَّ وجل، ثم جاء التشريع، فكان الإيمان بالله، بوحدانيَّته، وبكماله، وبوجوده مع التشريع متكاملان، ونحن إذا أردنا لأنفسنا الخير، أو أردنا أن ندعو إلى الله عزَّ وجل لابدَّ من وقفةٍ متأنيةٍ عند آيات الله الكونية، لماذا؟ لأنها تعرِّفنا بالله، فإذا جاء أمر الله عزَّ وجل عرفنا من أين هذا الأمر، شرف الأمر من شرف الآمر، فإذا أردنا أن نعرف الأمر مباشرةً دون أن نعرف الآمر، أغلب الظن أننا لا نُطبِّق الأمر، أو نحتال عليه.

 

من قصّر في معرفة الآمر انعكس هذا التقصير على إيمانه:


إذا سألت هذا السؤال الدقيق: لماذا يعصي الناس ربَّهم؟ الجواب البسيط لأنهم لا يعرفونه، ولو عرفوه ما عصوه، عرفوا أمره ولكنهم ما عرفوه، ما من واحدٍ في العالم الإسلامي إلا وهو يعلم أن الكذب حرام، والغش حرام، الأمر معروف، لكن الناس قصَّروا في معرفة الآمر، حينما قصَّر الناس في معرفة الآمر انعكس هذا الضعف في الإيمان بالله عزَّ وجل انعكس تقصيراً في تطبيق أمره، وإلا هذه الآيات التي تزيد عن ثلاثمئة آية في القرآن الكريم، والتي تحدِّثنا عن هذا الكون العظيم لنصل منه إلى خالقه العظيم، ماذا نفعل بها؟ إذا أهملنا التفكُّر في خلق السماوات والأرض أو أهملنا معرفة الله عزَّ وجل ماذا نفعل بهذه الآيات؟

 

الكون أكبر آية من آيات الله الدالة على عظمته:


أيها الأخوة الكرام؛ نحن في الكون، الكون بيننا تحت سمعنا وبصرنا، الشمس معروفة، القمر معروف، الليل معروف، النهار معروف، الهواء، الماء، أنواع النباتات، الطعام، الشراب، أنواع الأطيار، أنواع الأسماك، البحار، البحيرات، الرياح، هذا بين أيدينا جميعاً، والآية الكريمة:

﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27)﴾

[ سورة السجدة ]

إذاً ما الفرق بين الإنسان المؤمن وغير المؤمن؟ الفرق أن غير المؤمن بقي في الكون، الكون حقيقة، وأهل الدنيا عرفوه أدقَّ المعرفة، أهل الدنيا كما قال الله عزَّ وجل:

﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)﴾

[ سورة الروم ]

عرفوا الكون، عرفوا قوانينه، غاصوا في أعماق البحار، وصلوا إلى القمر، جالوا في الفضاء الخارجي، كشفوا الذرَّة، كشفوا الخليَّة، وصلوا إلى أدق المعلومات، إذاً الكون بين أيدينا، تحت سمعنا وبصرنا.

 

الفرق بين المؤمن وغير المؤمن أن المؤمن تجاوز الحقيقة إلى حقيقة أكبر:


ما الفرق بين المؤمن وغير المؤمن؟ الكون حقيقة، المؤمن تجاوز هذه الحقيقة إلى حقيقةٍ أكبر، انتقل من الكون إلى المكوِّن، من النظام إلى المنظِّم، من الخَلْقِ إلى الخالق، من التسيير إلى المُسَيِّر، من التربية إلى المُربي، هكذا المؤمن، ينتقل من الكون إلى المكوّن فإذا بقينا في الكون فنحن والغربيون سواء، درسوا المادَّة، درسوا الذرَّة، درسوا أنواع الترَب، درسوا النباتات، درسوا الحيوانات، غاصوا في أعماق البحار، وصلوا إلى خليج مريانا في المحيط الهادي، استخدموا سفن أبحاث مصفَّحة تُصَوَّر، صعدوا إلى الفضاء الخارجي، نقلوا الصورة، نقلوا الصوت، العلماء الأجانب درسوا الكون دراسة عميقة، ولكن خطأهم المُميت أنهم بقوا في الكون.

لكن المؤمن ينتقل من الكون إلى المكوِّن، ألم يقل أحد أكبر علمائهم هذا الذي اكتشف النظريَّة النسبيَّة قال: "كل إنسانٍ لا يرى من هذا الكون قوَّةً هي أقوى ما تكون، رحيمةً هي أرحم ما تكون، عليمةً هي أعلم ما تكون، حكيمةً هي أحكم ما تكون، هو إنسانٌ حيٌّ ولكنَّه ميِّت" .

الماء بين أيدينا، ابنك بين يديك، تعرف أنه كان نطفةً من ماءٍ مهين، تعرف كيف أصبحت هذه النطفة التي هي واحد من أربعمئة أو خمسمئة مليون في اللقاء، تلقَّحت أو دخلت إلى البويضة وانقسمت وكلنا يعلم أنه على هذه النطفة توجد خمسة آلاف معلومة مبرمجة، وأن البويضة فيها خمسة آلاف مليون معلومة مبرمجة، وأن النطفة دخلت إلى البويضة وتمَّ الانقسام، هذا الشيء معروف، لكن الفرق بين المؤمن وغير المؤمن أن المؤمن خرج من هذه الحقيقة إلى حقيقةٍ أكبر.

 

من أغفل الآيات الكونية أغفل جانباً أساسياً في الدين وهو معرفة الله:


النِّعم هل هناك من ينكرها؟ نعمة الهواء، نعمة الماء، نعمة القلب، نعمة الرئتين، نعمة الحواس الخمس، هل هناك من ينكرها؟ الفرق بين المؤمن وغير المؤمن أن المؤمن انتقل من النعمة إلى المُنعم، هذه أول نقطة.

الكون حقيقة بين أيدينا، والكفَّار والأجانب وصلوا إلى معلومات في منتهى الدقَّة عن الكون، ولكنَّهم ما عبروا منه إلى الله، أما المؤمن فقد تكون معلوماته عن الكون أقل بكثير من معلومات غير المؤمن، ولكن هذه المعلومات المتواضعة وصل منها إلى الله.

إذاً حينما نُغفل هذه الآيات الكونيَّة التي تزيد عن ثلاثمئة آية في القرآن الكريم، لماذا  ذكرها الله عزَّ وجل؟ ذكرها كي تكون هذه الآيات الكونية دليلاً لنا على الله، على وجوده، على أسمائه الحسنى، على صفاته الفضلى، على وحدانيَّته.

هذه الآيات أيها الأخوة حينما نغفلها نغفل جانباً أساسياً في الدين وهو معرفة الله، لذلك كل إنسان يعصي الله، الجواب البسيط أنه لا يعرفه، ولو عرفه ما عصاه، عرف أمره ولكنَّه لم يعرفه، أمر الله أيها الأخوة يُعْرَف بالمدارسة، كتب الفقه بين أيديكم جميعاً؛ الطلاق، الزواج، الإرث، الفرائض، الوصيَّة، أحكام المرابحة، أحكام المضاربة، المتاجرة، المُزارعة، المساقاة، هذه أحكام الفقه بالمعاملات واضحة بين أيدي الناس، ولكن هذا أمره، إذاً لمَ كان معظم الناس لا يطبِّقون أمره؟ لأنهم لا يعرفونه.

 

آيات القرآن آيات قرآنية وكونية في آن واحد:


إذاً هناك آياتٌ كونيَّةٌ تدلُّ عليه، وهناك آياتٌ قرآنيَّةٌ تدل عليه، وهناك آيات كونيَّةٌ قرآنيَّةٌ في آنٍ واحد، حينما يذكر القرآن الكريم آياتٍ في الكون، آياتٌ كونيَّةٌ قرآنيَّةٌ في آنٍ واحد، يقول الله عزَّ وجل: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ﴾ هذه كلمة من للتبعيض، أي هذه بعض آياته، آيات الله سبحانه وتعالى لا تعدُّ ولا تحصى، ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ كلمة السماوات والأرض هذا مُصْطَلَح قرآني يعني الكون، والكون يعني ما سوى الله، الله فوق الخلق فيها وحده، ما سوى الله هو الكون، السماوات والأرض، الله واجب الوجود، ما سوى الله ممكن الوجود، فخلق السماوات والأرض، مجرَّات متحرِّكة، لو سكنت لأصبحت كتلةً واحدة، كل متحرِّك في الكون يسير في مسار مغلق، الله عزَّ وجل عبَّر عن هذه الحقيقة بشكلٍ معجز قال:

﴿ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11)﴾

[ سورة الطارق  ]

أي كل متحرِّك يعود إلى مكان انطلاقه النِسبي بعد حين ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ﴾ .

 

دوران الأرض حول الشمس من آيات الله الدالة على عظمته:


يقول لك: في السنة ألف وثمانمئة وستين أو سبعين لا أذكر مذنَّب هالي اقترب إلى الأرض، ألف وتسعمئة وست وسبعون أو ست وثمانين عاد إلى اقترابه من الأرض، ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ﴾ كم مجرَّة توجد في السماء؟ بعضهم قال: قريب من مليون مليون مجرَّة. 

وبعضهم قال: في المجرَّة الواحدة قريب من مليون مليون نجم، هذا الكون كلُّه يتحرَّك، لولا أنه يتحرَّك لأصبح كتلةً واحدة، يوجد حركة.

لكن يوجد شيء دقيق جداً، الأرض تدور حول الشمس لكن المسار ليس دائرياً، المسار إهليلجي أي مفلطح، الشكل الإهليلجي له بعدان عن المركز؛ بعد أعظمي، وبعد أصغر، إذا اقتربت الأرض من الشمس وصلت إلى البعد الأصغر تزداد قوة جذب الشمس لها، فتزيد سرعة الأرض، لكي ينشأ من هذه الزيادة قوة جديدة نابذة تكافئ القوة الجديدة الجاذبة، فتبقى الأرض على مسارها، فإذا ابتعدت لئلا تتفلَّت من جاذبيَّة الشمس تُبَطِّئ سرعتها، حتى تزيد من جذب الشمس لها، وتقلُّ القوَّة النابذة، شيء دقيق جداً، هذه الأرض وعلى هذا فقس كل كوكبٍ في السماء.

 

دوران الأرض حول نفسها من عظمة الله عز وجل:


إذا جئنا إلى الأرض، الأرض تدور حول نفسها بسرعة ألف وستمئة كيلو متر في الساعة، تدور حول الشمس بسرعة ثلاثين كيلو متراً في الثانية، درس علم صغير مقداره حوالي خمسين دقيقة الأرض قطعت في أثنائه مئة وثمانية آلاف كيلو متر، المسافة إلى السعوديَّة ألفا كيلو متر، مئة وثمانية آلاف كيلو متر بمقدار درس من دروس الجمعة، فالأرض تدور حول الشمس ثلاثين كيلو في الثانية، المجموعة الشمسيَّة تتحرَّك حول كوكب مركزي، وبعض المجرات تدور بسرعةٍ قد لا تُصدَّق إنها مئتان وأربعون ألف كيلو متر في الثانية، وأنت ترى أن الأرض مستقرَّة، كل شيء مستقر، هذه من عظمة الله عزَّ وجل، إذاً: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ .

 

اكتشاف أي حياة في الكواكب الأخرى القرآن الكريم أشار إليها في كلمة (فيهما):


الآن توجد آية جديدة:

﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29)﴾

[ سورة الشورى ]

هذه الآية هي الآية الوحيدة التي فيها إشارةٌ إلى أنَّه إذا اكتُشِف في المستقبل أن في الكواكب البعيدة حياة حيوانيَّة، كائنات حيَّة، فهذه الآية تشير إلى ذلك، ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ﴾ أي في السماوات وفي الأرض من دابَّة، والدابَّة المخلوق الذي يتحرَّك، كل شيءٍ يدبُ حركةً فهو دابَّة، المخلوقات التي تدبُّ على وجه الأرض هي الدواب..

﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)﴾

[ سورة هود ]

﴿ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)﴾

[  سورة هود ]

دعونا من هذه المخلوقات التي قد توجد في الكواكب الأُخرى، والتي إذا اكتشف العلم هذه المخلوقات فالقرآن الكريم أشار إليها في كلمة: ﴿فيهما﴾ ، ﴿وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ﴾ .

 

عالم الأسماك عالم واسع علينا التفكر به:


لنقف عند الدواب التي بثَّها الله في الأرض، هذا موضوع من أكبر الموضوعات، عالَم الحيوانات، ولنأخذ عالم الأسماك. 

في بعض الموسوعات عن عالم البحار حقيقة تؤكِّد أن هناك مليون نوع من الأسماك، هناك أسماك صغيرة جداً أسماك زينة، وهناك حيتان عملاقة، وزن الحوت مئة وخمسون طناً، وجبته المعتدلة أربعة أطنان، وترضع أنثاه رضعة واحدة ثلاثمئة كيلو، ثلاث رضعات في اليوم تساوي طناً، جرَّ الحوت مرَّة باخرة ثمان وأربعين ساعة وهي تدير محرِّكاتها بعكس حركته فجرَّها ولم تستطع الإفلات منه، هذا هو الحوت.

وهناك أسماك زينة صغيرة فسفوريَّة شفَّافة سُوداء مفلطحة، كرويَّة، متطاولة، لها أذناب، لها أشعار، دقِّق في أنواع الأسماك، هذا كلام دقيق، العلماء حتى الآن اكتشفوا مليون نوع من الأسماك، هناك أسماك تمشي على أرجل في قعر البحار، كيف تتحمَّل هذا الضغط الهائل؟ الغوَّاصات العملاقة إذا انخفض غوصها في البحر عن مئتي متر تتحطَّم، أي إذا تعطَّل جهاز قياس البعد عن سطح الماء تتحطَّم الغواصة، هذه السمكة تعيش في قعر خليج مريانا، البعد يزيد عن اثني عشر ألف متر تحت الأرض، كيف لا تتحطَّم؟ ربنا عزَّ وجل جعل بين أجوافها الداخليَّة والخارجيَّة منافذ حتى يتساوى الضغط، هناك ضغط داخلي يكافئ الضغط الخارجي.

هناك أسماك تدافع عن نفسها بموجة كهربائيَّة تزيد عن ستة آلاف فولت، لو أن هذه السمكة أصابت إنساناً لقتلته، نحن بمئتين وعشرين تكون الكهرباء خطرة، ستة آلاف فولت هذه الأسماك، هناك أسماك تدافع عن نفسها بسحابة دخَانيَّة فتغيب، هناك أسماك تضيء طريقها في قعر البحار، هناك أسماك تداوي الأسماك الأخرى، طبيبات، رتلٌ طويل من الأسماك التي تقرَّحت حراشِفُها تقف في طابور، وتنتظر أن تعالجها هذه السمكة، وهذه السمكة لا أحد يلتهمها، لأنها هلال أحمر، لأنها تقدِّم خدمات للأسماك جميعاً.


  عالم البحار من آيات الله الدالة على عظمته:


فيا أيها الأخوة؛ عالم البحار عالم عجيب، اقرؤوا، شاهدوا، البحار لمن؟ من أجل أن تعرف الله عزَّ وجل، والله لا يحضرني أشياء كثيرة مرَّت بي، لكن والله هناك حقائق عن البحار لا تصدَّق، قال: لولا أن الأسماك الكبيرة تلتهم الصغيرة لأصبح البحر كما لو وضعت في وعاءٍ حمصاً ونشف الماء، ما بقي غير الحمُّص، لو أن الأسماك لا تلتهم بعضها لغلب السمك ماء البحر -يصير البحر من دون ماء- كله سمك، هذا الشيء مخيف، لأن جُراب البيوض في الأسماك ملايين الملايين، السمكة عندها خط تعرف أين هي من سطح البحر، جهاز ضغط، أنبوب مفرَّغ من الهواء، السمكة فيها وعاء في أسفله بعض الرمل فإذا كانت على عكس اتجاهها نحو السطح تعرف ذلك، كيف تعرف السمكة أن الهواء فوقها وأن قعر البحر تحتها؟ الله عزَّ وجل زوَّدها بطريقة تعرف ذلك.

 

إباحة الله عز وجل للإنسان أن يأكل لحم السمك دون أن يذبحه:


الشيء الغريب هو أن الله سبحانه وتعالى أباح لنا أن نأكل السمك الذي نصطاده من دون أن نذبحه، مع أن بعض البلاد الأجنبيَّة التي تتملَّق المسلمين، وتظن أنهم ساذجون ترسل لهم معلَّبات أسماك كتب عليها ذُبِحَت على الطريقة الإسلاميَّة، لا يوجد طريقة إسلامية، هكذا، السمك لا يُذْبَح ويؤكل ميتاً كيف؟

شخص سأل سؤالاً: إذا كان ذبح الحيوان من أجل تزكيته حقاً فكيف نأكل السمك من دون ذبح؟ إذا كان الذبح قضيَّة شكليَّة إذاً ليس له فائدة، ثم اكتُشِف أن السمكة حينما تُصطاد ينتقل كل دمها إلى غلاصمها وكأنها ذُبِحَت، عندما سمح لنا النبي عليه الصلاة والسلام أن نأكل السمك من دون أن نذبحه، وهو لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحيٌ يوحى، لحم السمك لا يوجد فيه دم أبداً، كل دماء السمكة تنتقل عندما نصطادها إلى غلاصمها، فعالم الأسماك، ﴿وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ﴾ مليون نوع، هناك أسماك على شكل مزهريَّة، الأشكال التي للأسماك مهما حاول الإنسان أن يتخيَّل هناك أشكال فوق تخَيُّله بالحجوم والأشكال، هناك أسماك متوحِّشة، سمك القرش مخيف، أحياناً يصطادوا القرش فيجدوا فيه رأس إنسان، يد إنسان، حاجات، إذا شعر أن هناك دم إنسان حيّ فإنه يتوحَّش، هناك سمك متوحش، هناك سمك لطيف، هناك سمك لحمه طيِّب، هناك سمك كالأفاعي، هناك سمك كالخنازير، أنواع منوَّعة من الأسماك، ليس القصد أن يكون هذا الدرس درساً علمياً، القصد ﴿وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ﴾ أي ما خطر في بال الإنسان أن يفكِّر في عالَم الأسماك!

 

عالم الطيور عالم واسع خلقه الله سبحانه و تعالى:


عالم الأطيار؛ أنواع الأطيار، أشكال الأطيار، الأطيار الجارحة، غير الجارحة، الأطيار التي تغرِّد، الطيار التي هي للزينة، الأطيار المتوحِّشة، أنواع منوَّعة، طير يطير سبعة عشرَ ألف كيلو متر بلا توقُّف!! أي طائرة تفعل ذلك؟ الطائرة التي وزنها حوالي ثلاثمئة  وخمسين طناً، مئة وخمسون طناً وزنها، ومئة وخمسون طناً وزن وقودها، مئة وخمسون طناً من الوقود يكفيها لطيران أربع عشرة ساعة فقط، هذه طائرة الجامبو العملاقة من أكبر قياس، أما هذا الطائر فيطير من القطب الشمالي إلى القطب الجنوبي بشكلٍ مستمر، لكن كيف يهتدي؟ طائر معشش في بيت في منطقة الشيخ مُحْي الدين، جاء فصل الشتاء فارتحل إلى جنوبي إفريقيا، الآن هو في طريق العودة لو انحرف درجة واحدة فإنه يأتي في لبنان، وإذا انحرف درجتين فإنه يأتي في تركيَّا، يعود إلى دمشق، وإلى الصالحيَّة، وإلى الشيخ محي الدين، عرودك، البيت الثالث وينزل في محله، أين كان؟ كان في جنوبي إفريقيا، من دلَّه على الطريق؟ إن قلت: التضاريس، يطير في الليل، الموضوع دقيق جداً.

 

الله سبحانه وتعالى هو الذي يُلْهِم الطير إلى أن يصل إلى هدفه:


هناك بحوث علميَّة حتى الآن لم يستطع العلم أن يقول: كيف يصل الطير في رحلته الطويلة إلى مكان خروجه؟ إلى أن جاء بحثٌ يقول: إن الطير - لا النظرية المغناطيسية صحيحة، ولا التضاريس صحيحة، ولا الشمس صحيحة، كل النظريات التي وضعت لتفسير سرّ وصول الطائر إلى هدفه من دون دليل لم تنجح- الله عزَّ وجل أشار في القرآن الكريم أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يُلْهِم الطير إلى أن يصل إلى هدفه.

﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)﴾

[ سورة الملك ]

عزا ذلك إلى ذاته مباشرةً، الطير يصل إلى هدفه الله يمسكه ويلهمه طريقه الصحيح مباشرةً، أي نظريَّة لم تنجح إلى الآن، طبعاً هناك بحوث مئات الكتب، مئات التجارب، الطيور تلوَّن وتُرسل إلى أماكن بعيدة، ترسل إلى أستراليا، وهي أساساً في بريطانيا، يلونوها، تعود إلى بريطانيا، كيف عرفت الطريق؟ لو أنها سافرت كما هي العادة بخط نحو الجنوب الآن أخذوها نحو الشرق وعادت، كيف تعود؟ عالم الطيور عالم قائم بذاته.


  التفكر في عالم الأسماك يقودنا إلى الله عز وجل:


أساساُ عالم الأسماك فيه أشياء مذهلة، الأسماك التي تعيش في ينابيع الأنهُر في أمريكا؛ الأمازون، الميسسبي، تنتقل من ينابيع الأنهار إلى المحيط الأطلنطي إلى أوروبا ،هذا سمك السلمون، وحينما تعود هذه الأسماك تعود إلى مسقط رأسها في أعالي الأنهار، وتقاوم الشلالات، هذه حينما تخرج من سواحل فرنسا وتتجه نحو أمريكا، مرَّة ثانية لو أخطأت درجة واحدة لجاءت في أمريكا الجنوبيَّة، هذه في كندا، هذه في أمريكا الشماليَّة، هذه في المكسيك، هذه في البرازيل، كيف تتجه بزاوية دقيقة جداً؟ لا أحد يعلم.

هناك أسماك تنتقل من ينابيع نهر النيل إلى بحر الشمال، تقطع النيل بأكمله، تدخل البحر المتوسِّط، تتجه نحو الغرب إلى مضيق جبل طارق، تتجه نحو الشمال محاذيةً لإسبانيا ثم فرنسا، تدخل بحر المانش ثم إلى بحر الشمال هناك، والله غواصة تضل تحت البحار، تجد فيها ربُّاناً يقودها، وخرائط، ولاسلكي، ومع ذلك ضلَّت الطريق وغرقت، هذه السمكة شكلها كشكل الأفاعي تنتقل من ينابيع نهر النيل إلى بحر الشمال وتعود، من؟ ﴿مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا الرَّحْمَنُ﴾ فعالم الأسماك عالم موضوع يجب أن نفكِّر فيه لنعرف الله عزَّ وجل، عالم الأطيار.

 

تذليل الحيوان للإنسان بقدرة الله عز وجل:


الآية اليوم: ﴿وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ﴾ هذه الكائنات، الآن الأنعام كيف أنها مذلَّلة، لو أن الله عزَّ وجل وضع أخلاق الضبع في الغنمة، لا تستطيع أن تأكل لحم الغنم، يقول لك: فلان مثل الغنمة؛ مذلَّلة، البقرة مذلَّلة، الجمل مذلَّل، هذه كلُّها أنعام مذلَّلة، هذه البقرة تصنع الحليب، الآن هناك نوع هجين يعطي ستين كيلو حليب في اليوم، الحليب كيف يأتي؟ الغدَّة الثديية للبقرة مثل قبَّة، خلايا ثديية محاطة بشبكة أوعية دمويَّة دقيقة جداً، هذه الخليَّة تأخذ من الأوعيَّة الدمويَّة حاجتها، حتى الآن لا أحد يعلم كيف يتم تصنيع الحليب في الخليَّة الثديية، لكن الذي يعلمونه أن هناك مجموعة خلايا على شكل قبَّة في أعلاها شبكة أوعية دمويَّة، ويرشح الحليب من أسفلها، كل أربعمئة لتر من الدم تشكل لتر حليب واحد، لأنها تجول في الغدَّة الثديية، وهذا ثدي البقرة الكبير، هذا لو لم يكن له قواطع عرضيَّة وطوليَّة لتمزَّق، لأنه يحمل ستين كيلو، له قواطع عرضيَّة وقواطع طوليَّة، أي أربعة أقسام، كل حلمة لقسم، لو أن أربعةً كانوا شركاء في بقرة وأخذ كل واحد حلمة، يأخذ ربع الكميَّة بأكملها، ثدي البقرة، ما هذا؟ البقرة آية من آيات الله، الهنود عبدوها من دون الله، أما المؤمنون فيعبدون الذي خلقها وسخَّرها لهم، هذا الحليب مادَّة أساسيَّة جداً في حياتنا، وأنت عدِّد مشتقات الحليب، آيات كثيرة تؤكِّد هذا المعنى.

﴿ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66)﴾

[  سورة النحل  ]

 

من آيات الله الدالة على عظمته:

 

1 ـ الناقة:

البقرة آية، الغنمة آية، الناقة آية، الناقة من آيات الله الدالَّة على عظمته، مزوَّدة بعينين تُريان الجمل البعيد قريباً، والصغير كبيراً، مزوَّدة بأهداب تمنع عنها غُبار الصحراء، تستطيع الناقة أن تعيش بلا ماء ثلاثة أشهر، ثلاثة أشهر بإمكانها أن تأخذ ماء الخلايا من دون ماء، ومن دون غذاء، شيء لا يصدَّق.

﴿ أفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ(17)وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ(18)وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ(19)وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ(20)﴾

[ سورة الغاشية  ]

الناقة تجلس جلسة نظاميَّة، لو أنها تجلس كما يجلس بقية الدواب لا يستطيع الإنسان أن يستخدمها، كيف يُحمِّل عليها وهي مضجعة على اليمين؟ أما هي فتجلس جلسة نظاميَّة، يحمِّل بضاعته عليها ثم تنهض، فهي تحمل كل هذا المتاع.

طبعاً نحن لا نتحدَّث هنا حديثاً علمياً دقيقاً عن هذه الحيوانات، لكن إشارات حتى تكون هذه الآيات دليلاً على عظمة الله عزَّ وجل.

الآن بالعالم الجمال لا يُستغنى عنها في بعض البلاد، رغم كل التطور التكنولوجي والميكانيكي للأسلحة، لأن الصحراء ليس هناك حيوان يستطيع أن يجتازها إلا الجمل، فالجمل آية، والغنم آية، والبقر آية.  

2 ـ البقر:

البقر مذلَّل، هناك مرض يصيبه اسمه التوحُّش، البقرة تقتل أشخاصاً عدَّة، يأتي صاحبها مختاراً ويقتُلها، ثمنها سبعون ألفاً، هذا التوحُّش يريد أن يلفت لنا ربنا نظرنا إلى نعمة التذليل، وذللناها لكم أعرفتم هذه النعمة؟ إن غفلتم عنها أريكم كيف تكون البقرة متوحِّشة. 

ذكر لي أخ كريم أن بقرة قتلت أول شخص والثاني، وكادت تقتل الثالث فأسرع صاحبها إلى المسدَّس وأطلق عليها النار وقتلها، وثمنها سبعون ألف ليرة، لأنها توحَّشت، عندما قال ربنا: 

﴿ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72)﴾

[ سورة يس ]

هذه آية كونيَّة دقيقة، فعندما يرى الإنسان بقرة،  يرى غنمة، يأكل أكلة سمك، يأكل دجاجة، هناك شيء دقيق جداً، هذه كلها حيوانات مذلَّلة، قال الله: ﴿وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ﴾ .

 

جمع الخلائق بعد الموت:


ثم يقول الله عزَّ وجل:

﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29)﴾

[ سورة الشورى ]

هذه الآية دقيقة جداً تشير إلى أن الله سبحانه وتعالى سيجمع الخلائق بعد الموت، فكل إنسان سوف ينال حقَّه، لاحظوا أيها الأخوة أن الله سبحانه وتعالى أكثر شيء جمع بينهما الإيمان بالله واليوم الآخر، لماذا اليوم الآخر؟ لأن الإنسان يفعل ما يشاء، لكن كل شيء يفعله محاسبٌ عليه حساباً دقيقاً، وحساباً عادلاً، ولذلك قيل: "أرجحكم عقلاً أشدُّكم لله حباً" ، وقيل: "رأس الحكمة مخافة الله تعالى" ، إذاً هذا العقل الكبير الراجح من لوازمه الخوف من الله ومحبة الله، فأنت عاقلٌ بقدر ما تخاف من الله، وبقدر ما تحبُّه.

 

أعمال الإنسان مسجلة عليه وسيحاسب عليها حساباً دقيقاً:


لذلك: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ﴾ أي اعملوا ما شئتم لكن أعمالكم كلَّها مسجَّلة عند الله عزَّ وجل، فالإنسان إذا أيقن أن الله موجود، وأن الله يعلم، وأن الله سيحاسب، وأن هناك ملائكة تُسَجِّل.

﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)﴾

[ سورة ق  ]

وأن هناك حياة أبديَّة لا تنتهي، فالإنسان إذا أيقن بهذا دخل في عالم الاستقامة، وعالم الاستقامة سبب للكرامة، أنت تريد من الله الكرامة وهو يريد منك الاستقامة.


  الاستقامة على أمر الله سبب دخولك الجنة:


بصراحة أيها الأخوة دين من دون استقامة كلام فارغ، ثقافات، معلومات، مقالات، محاضرات، لكن مثله مثل أي شيء آخر، الدين عظمته أن الإنسان إذا استقام قطف كل الثمار، لن تستطيع أن تقطف ثمار هذا الدين إلا إذا استقمت على أمر الله عزَّ وجل، لذلك من يقول لك: أخي أنا فكري إسلامي، خير تشرَّفنا، أنا عندي عواطف إسلاميَّة، خير إن شاء الله، لا هذه العواطف تنفعك، ولا هذا الفكر ينفعك، مطالعاتي إسلاميَّة، مكتبتي إسلاميَّة، أساليبي، تقاليدي  كلها إسلاميَّة، أنا أريد منك أن تستقيم على أمر الله وكفى، إن استقمت على أمر الله قطفت كل الثمار، لذلك: ﴿وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ﴾ .

 

ما من مصيبةٍ في الكون أو في الأرض إلا بسبب معصية من الإنسان:


الآن أيها الأخوة ندخل في آية جديدة:

﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)﴾

[ سورة الشورى ]

والله الذي لا إله إلا هو هذه الآية وحدها لو لم يكن في كتاب الله إلا هذه الآية لكفت الناس، ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ هذه المِنْ يقول عنها علماء اللغة: لاستغراق أفراد النوع. 

لو قال الله عزَّ وجل: والمصائب التي تصيبكم بما كسبت أيديكم، المعنى غير المعنى الدقيق الذي تؤكِّده هذه الآية، ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ﴾ مثلاً لو أن إنساناً قال لك: هل معك مال كي ننشئ مشروعاً تجارياً؟ تقول له أنت: والله ما معي مالٌ، أنت معك مئتا ألف المشروع يحتاج إلى مليونين، منك مليون ومنه مليون، إذا قلت: ما معي مالٌ، ماذا تقصد أنت؟ أي ما معي مالٌ يكفي لهذا المشروع، لكن إذا قلت: ما معي من مالٍ، أي ولا ليرة سورية واحدة، هذه المِنْ تفيد استغراق أفراد النوع، ولا ليرة سورية، ولا نصف ليرة، ولا رُبع ليرة أبداً، ما معك شيء، ما معي من مالٍ، من تفيد استغراق أفراد النوع.

 

كل شيء في الكون بيد الله عز وجل:


الله عزَّ وجل قال: ﴿مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا﴾ أي لا توجد ولا حشرة سائبة: ﴿مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا﴾ ، ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا﴾ حيثما قرأتم كلمة من الزائدة فهذه تفيد استغراق أفراد النوع، فهنا يقول الله عزَّ وجل: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ﴾ أي أقل مصيبة، ورد: ما من عثرةٍ، شخص وقع في الطريق ما حصل له شيء، وقف ومشى، هذه مصيبة، إذا قلت: من، هذه مصيبة، تمشي في الطريق فخدش جلدك مسمار، ما حصل شيء إطلاقاً انتهت العملية، ما من عثرة ولا اختلاج عرق ولا خدش عود إلا بما قدمت أيديكم، وما يعفو الله أكثر.

 

الجهل بمعرفة الله وأمره يؤدي بالإنسان إلى المعاصي:


هذه الآية: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ﴾ يمكنني أن أقول اعتماداً على هذه الآية: إنه ما من مصيبةٍ في الكون أو في الأرض -نحن نعيش على الأرض- إلا بسبب معصية، وما من معصيةٍ إلا بسبب جهلٍ إما بمعرفة الله أو بأمره، إن عرفته ولم تعرف أمره أصابتك المصيبة، إن عرفت أمره ولم تعرفه ما طبَّقت أمره أصابتك المصيبة، إذاً هذه الآية: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ هذه الآية وحدها تكفي لتعاملك مع الله عزَّ وجل،

(( عن أبي ذر الغفاري عَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فِيما رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أنَّهُ قالَ: يا عِبَادِي، إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ علَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فلا تَظَالَمُوا، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَن هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَن أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَن كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يا عِبَادِي، إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ باللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يا عِبَادِي، إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يا عِبَادِي، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا علَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنكُمْ؛ ما زَادَ ذلكَ في مُلْكِي شيئًا، يا عِبَادِي، لوْ أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا علَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ؛ ما نَقَصَ ذلكَ مِن مُلْكِي شيئًا، يا عِبَادِي، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي، فأعْطَيْتُ كُلَّ إنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ؛ ما نَقَصَ ذلكَ ممَّا عِندِي إلَّا كما يَنْقُصُ المِخْيَطُ إذَا أُدْخِلَ البَحْرَ، يا عِبَادِي، إنَّما هي أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا، فمَن وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَن وَجَدَ غيرَ ذلكَ فلا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ . وفي روايةٍ: إنِّي حَرَّمْتُ علَى نَفْسِي الظُّلْمَ وعلَى عِبَادِي، فلا تَظَالَمُوا. ))

[ صحيح مسلم ]

 

كل مصيبةٍ أصابت الإنسان بسبب معصيةٍ لكن ما كل معصيةٍ يتبعها مصيبة:


هذه الآية: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ﴾ هناك مصائب أدبيَّة، انحرجت، يوجد مصائب ماديَّة، فقدت مئة ألف، هناك مصائب معنويَّة، أهانك إنسان لا سمح الله، هناك مصائب أسريَّة، ابن غالٍ مات، مرض، أحياناً حبس حريَّة، أحياناً إهانة، أحياناً ذل، أحياناً فقر مُدقع، أحياناً ألم لا يُحتمل، أحياناً انحرجت قليلاً، ذكرت رقماً غير صحيح، فقال لك شخص: الرقم غير صحيح من أين أتيت به؟ استحيت بنفسك، هذه كذلك مصيبة، ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ العكس غير صحيح، أي كل شيء أصابك بسبب معصية، لكن ما كل مخالفة وذنب يتبعها مصيبة، هو يعفو عن كثير، المعنى دقيق، كل مصيبةٍ أصابت الإنسان بسبب معصيةٍ أو ذنب، لكن ما كل ذنبٍ أو معصيةٍ يتبعها مصيبة.

 

الله عز وجل عفو يعفو عن الإنسان ويسامحه ويعطيه فرصاً كثيرة:


﴿وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ ربنا عزَّ وجل يحاسب قليلاً ويعفو كثيراً، يحاسبك عن واحدة ويسامحك بعشرة كي تتعظ، كي تقترب، الله يعطي فرصاً كثيرة، ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ هذه الآية قد تكون شعاراً للإنسان يضعها في بيته، يضعها في مكتبه، في دكَّانه حتى لا يتهم الخالق العظيم بشيء، الله عزَّ وجل عادل.

 

المصائب التي تنزل بالإنسان ما هي إلا معالجة من الله عز وجل:


اسمعوا الآية الكريمة:

﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)﴾

[ سورة النساء ]

الله ماذا يفعل بالمصائب التي ينزلها بكم؟ لا معنى لها بالنسبة له لكنها معالجة، ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ هذه الآية يجب ألا تغيب عن أذهان إخواننا الكرام، لا يلومن إلا نفسه.

 

من تعامل مع الله عز وجل بصدق واستقامة نال:  


1 ـ السرور والسعادة والتيسير:

تعامل معه بصدق وباستقامة تر من السرور والسعادة ما لا سبيل إلى وصفه، ترَ من التيسير.

﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى(5)وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى(6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) ﴾

[ سورة الليل  ]

هذه واحدة. 

2 ـ الحياة الطيبة:

ترَ الحياة الطيِّبة.

﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)﴾

[ سورة النحل  ]

3 ـ دفاع الله عنه:

ترَ أن الله يدافع عن الذين آمنوا، هذه الثالثة:

﴿ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)﴾

[ سورة الحج ]

4 ـ النصر والتأييد:

الآية الرابعة:

﴿ إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)﴾

[ سورة الأنفال  ]

معهم بالنصر، والتأييد، والحفظ، والتوفيق، والدفاع عنك، والحياة الطيِّبة، والتيسير، هذه كلها وعود الله عزَّ وجل، فإذا لم تتحقَّق هذه الوعود فلعلَّة أن هناك كسباً لا يرضي الله عزَّ وجل، ﴿فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ .

 

كل إنسان في قبضة الله عز وجل:


الآن:

﴿ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31)﴾

[ سورة الشورى ]

إنسان يظن نفسه قوياً؟ القوي هو الله عزَّ وجل، نقطة دم تتجمَّد في مكان بالدماغ يقول لك: خثرة دماغيَّة، شلل نصفي، بمكان آخر جنون، بمكان ثالث فقد ذاكرة، بمكان رابع عمى، بمكان خامس نِسيان، الإنسان ضعيف جداً، في مكان ثالث يقول لك: لا يستطيع أن يصعد درجتين إذا كان في القلب، بالأعصاب شيء لا يحتمل، ﴿وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ فأنت في قبضة الله، تصوَّر لو أن آلة تتحرَّك على الكهرباء وأنت عندك مأخذ الكهرباء، لو كبست الزر وقفت كلها، إذا قالت لك الآلة: أنا قويَّة، وأنا كذا، ولا كلمة تكبس زراً فتقف، كل من يقول: أنا، جاهل، كلمة أنا أي جاهل لا يعرف الله، وربنا عزَّ وجل حكمته عجيبة يجعل إنساناً عليلاً ثلاثين سنة على الفراش، إنسان يموت مثل الحصان بلا سبب، حالات كثيرة جداً يقول لك: سكتة قلبيَّة،  سكتة دماغيَّة، لم يكن فيه شيء، وهو يسوق سيارته، وهو يعمل، قاعد سهران مال برأسه فإذا هو قد مات، ﴿وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ .

 

الموت والحساب نهاية كل إنسان:


نحن جميعاً في قبضة الله فكيف نعصيه؟ كيف ننسى ساعة اللقاء؟ كيف ننسى ساعة المغادرة؟ كل يوم يوجد خمسون أو ستون نعوة، ويوجد خمسون مثلهم بغير نعوات، إعلان بالمآذن، خمسون شخصاً غادروا من مدينتنا إلى غير رجعة، ماذا بعد الموت؟ ﴿وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ أغنياء يموتون، فقراء يموتون، أقوياء يموتون ، ضعفاء يموتون، جبابرة يموتون، مستضعفون يموتون، أذكياء يموتون، أغبياء يموتون، كل إنسان يموت، كل مخلوقٍ يموت، ﴿وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ الله عزَّ وجل قادر أن ينهي الحياة، وقادر أن يجعل الحياة جحيماً لا يُطاق، ﴿وَمَا وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾ الولي هو الذي يولِّيكم، والنصير هو الذي ينصُركم، من دون الله لا ولي ولا نصير، الله هو الولي والله هو النصير.

 

من أصابته مصيبة فليبحث عن السبب وليتب إلى الخالق لتنزاح عنه:


إخواننا الكرام؛ تطبيقاً لهذه الآية: إذا أصابت الإنسان مصيبة من كل أنواع المصائب؛ أدبيَّة، معنويَّة، ماديَّة، جسميَّة، في أسرته، في بيته، في عمله، أي نوع من أنواع المصائب إذا أصابته لا سمح الله ولا قدَّر الموقف الأخلاقي العلمي الدقيق أن يحاسب نفسه حساباً عسيراً، فإذا عرف السبب بطل العجب.

فكل أخ كريم لا سمح الله ولا قدَّر أزعجته قضيَّة يقول: يا أخي في الدنيا حلو وحامض ولفَّان هذا كلام العوام، الدهر يومان يومٌ لك ويومٌ عليك، هذا كلام العوام أيضاً، القدر سخر منه، كلام فلاسفة بعيدين عن الله عزَّ وجل، الدنيا حظوظ، لا ليست حظوظاً، أيضاً هذا كلام ليس له معنى، هذه الدنيا حظوظ والدهر يوم لك ويوم عليك والإنسان كيفما تحرك يجد الطريق مسدوداً هذا الكلام ليس له وزن في الدين إطلاقاً، الوزن في الدين الإنسان إذا أصابه شيء ليقف عند هذه الآية، إله يقول لك: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ ليبحث عن السبب،  فإذا وصل إليه، يتوب منه تزاح عنه المصيبة.

﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)﴾

[  سورة الرعد ]

 

نوع المصيبة يتوافق مع الذنب الذي أصابت الإنسان من أجله:


يوجد آية ثانية جميلة جداً: ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ﴾ أن الله عادل، وحكيم، والله ليس له مصلحة أن يعذِّبنا، ومن يؤمن بالله، بكمالاته، بحكمته، برحمته، بعدالته، بتربيته، ﴿يَهْدِ قَلْبَهُ﴾ إلى حكمة المصيبة:

﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)﴾

[ سورة التغابن ]

وكأن ربنا عزَّ وجل من حكمته أنه إذا ساق لإنسان مصيبة ينفث في روعه أن هذه من أجل كذا، إما أنه يلهمه أن هذه من أجل كذا، أو أن نوع المصيبة يتوافق مع الذنب الذي ارتكبت من أجله.

عندنا إشارتان، شخص بخل بالزكاة، هناك قصَّة وقعت مع أحد الأشخاص الذين أثق بكلامهم، عليه زكاة فرضاً أحد عشر ألفاً وستمئة وخمسون ليرة، ما دفع الزكاة، استجاب لضغط زوجته نريد أن نرتب البيت، وندهنه، فلم يدفع الزكاة، صُدمت مركبته، بعد أن دفع الفواتير كلها؛ التجليس والقطع والدهان أحد عشر ألفاً وستمئة وخمسين ليرة بالضبط، هذه إشارة لعدم دفع الزكاة.

 

المؤمن الصادق يلهمه الله الحكمة من وراء المصيبة التي أصابته:


أغلب المصائب تأتي من جنس الذنب، إذا كان هناك تكبُّر تجد إهانة، إذا كان هناك إسراف يصير تقتيراً، يوجد إهمال لزوجة ابنك في البيت فيأتي إهمال لابنتك من زوجها بالمقابل، إذا حصل إهمال للوالد يأتي إهمال للابن، أغلب الظن تأتي المصائب بشكل يوحي للإنسان بسببها، إما أن التوافق بين المصيبة وبين الذنب، أو أن الله عزَّ وجل يلقي في روع المؤمن الصادق: أن يا عبدي هذه من أجل كذا، فانتبه. إما منام، أو إلهام، على كل ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾ إلى حكمتها.

 

كلما كبر عقل الإنسان ازداد محبة لله وخوفاً منه:


إخواننا الكرام؛ كلَّما كبر عقل الإنسان يزداد خوفه من الله، يضبط لسانه، يضبط سمعه، بصره، بيته، عمله، فلا كذبة، ولا غش، ولا حركة، كلَّما كبر العقل يزداد الخوف، وكلَّما كبر العقل تزداد المحبَّة لله عزَّ وجل، احفظوا مايلي: "أرجحكم عقلاً أشدُّكم لله حباً" ، "رأس الحكمة مخافة الله تعالى" ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ لا أحد يتملَّق نفسه يقول: أخي هذه ترقية، أنا لي عند الله مقام، لولا هذه ما ارتقيت لهذا المقام، لا، إذا أصيب أخوك بمصيبة فالأدب أن تقول: هذه ترقية، إيَّاك أن تتهم أخاك إذا ألمَّت به مصيبة أنه مقصِّر بذنب، لا، هذا من سوء أخلاق المؤمن مع إخوانه، إذا أصابت المصيبة أخاك فأحسن الظن به وقل: هذه تُرَقيه إلى مستوى أعلى، أما إذا أصابت الإنسان مصيبة فلا يتملَّق نفسه، لا يرش على الموت سكَّراً، ليكن مع نفسه صريحاً وجريئاً، ليبحث عن الذنب، إذا تعامل مع الله بهذه الطريقة قطع أربعة أخماس الطريق إلى الله، بالتعبير العامي: بدأ يفهم على الله، قال له: يا رب لقد عصيتك ولم تعاقبني؟ قال: "يا عبدي لقد عاقبتك ولم تدر، ألم أحرمك لذَّة مناجاتي؟" .

 

كلَّما شعر الإنسان بمشكلة عليه أن يترك الحل الأرضي ويبحث عن العلَّة السماويَّة:


الآن هناك مصائب من نوع جديد للمؤمنين، لا يوجد فيه شيء، كل شيء على أحسن ما يرام لكن يحجبك عنه، الصلاة ما فيها شيء، تقرأ القرآن لا تشعر بشيء، تذكر لا تحس بشيء، بالذكر لا يوجد حال، بالتلاوة لا يوجد شيء، بالصلاة لا يوجد شيء، معنى هذا أنت محجوب، لماذا أنت محجوب؟ معنى هذا عندك مشكلة ابحث عنها، الإنسان إذا ارتقى يُعاقب بالحَجب فقط، أموره كلها منتظمة وليس عنده مشكلة، ولكن إذا صلَّى لا يشعر بطعم الصلاة، إذاً هو محجوب، قال له: "ألم أحرمك لذَّة مناجاتي؟" .

فيا إخواننا الكرام؛ هذا كلام رب العالمين، كلام الذي خلقنا والذي إليه المصير، لا أحد يتملَّق نفسه، لا أحد يغطي، ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ كلَّما شعرت بمشكلة اترك الحل الأرضي وابحث عن العلَّة السماويَّة.

 

من أصابته مصيبة عليه أن يرجع إلى كتاب الله ويتعامل معها تعاملاً علمياً:


أحياناً هناك بلاد أصابها مصيبة، بلاد بأكملها، الله قال:

﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)﴾

[ سورة النحل  ]

ارجع إلى كتاب الله دائماً، هذه الآية يمكن أن تكون شعاراً لكل مؤمن يضعها في بيته، يضعها في عمله، في مركبته، وفي محفظته، ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ ويتعامل مع المصائب تعاملاً علمياً، هذه لماذا؟ شخص راكب مركبة فوقفت في الطريق، بدأ يبكي، ارفع الغطاء وانظر ماذا يوجد؟ بدل من أن تبكي وتنادي وتصيح افتح وانظر ما سبب وقوفها، وقوف المركبة فيها سبب، في محركها علَّة، بدل أن تعمل صخباً، وضجيجاً، وصياحاً. لا، لا، دعك من هذا هذا موقف غير علمي، هذا موقف جهلي، افتح وابحث عن السبب، إذا ظهر السبب بطل العجب، الله كريم، كلنا عباده.

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)﴾

[ سورة الحجرات ]

 

العلاقة الوثيقة بين الذنب والمصيبة:


هناك خطأ بكسب المال، نقص منك مبلغ، جاء إنسان حمَّلك غرامة كبيرة، لأنه بالكسب يوجد خطأ، صار خلاف زوجي معنى هذا هناك إطلاق بصر، لو لم يكن هناك إطلاق بصر كان أحد الأشخاص رجلاً معتبراً موظَّفاً عنده خمس أو ست بنات متزوجات، عنده هواية بسيطة ينزل من حي المزَّة إلى طريق الصالحيَّة في أيام الصيف مشوارين، يمتِّع نظره بالنساء، صار معه مرض ارتخاء الجفون، إذا أراد أن يرى إنساناً فإنه يمسك الجفن ويفتحه وينظر إليه، ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ انظر علاقة المصيبة؛ ارتخاء الجفون بسبب إطلاق البصر، والشقاق الزوجي من إطلاق البصر، ذهاب المال وإتلافه من كسبه، فكسب المال قد يكون حراماً، فعلى الإنسان أن ينتبه، إذا انتبه يكون قد قطع أربعة أخماس الطريق إلى الله، هذه الآية اجعلها شعاراً لك، ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ .

 

الحياة الطيبة ثمن الاستقامة على أمر الله عز وجل:


كل مصيبة وراءها ذنب، لكن ما كل ذنبٍ وراءه يوجد مصيبة لأن الله عفو كريم، يريحك قليلاً، ثم يبعث لك واحدة انتبه، يريحك فترة طويلة شهراً أو شهرين ولا يحدث لك شيئاً، يكون عندك أخطاء ولكن يريحك، مرَّة ثانية تأتي مشكلة ثانية، إلى أن تستقيم وجهَتك إلى الله، ويستقيم عملك تماماً فتجد الحياة أصبحت طيِّبة كما قال الله عزَّ وجل: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ هذا كلام رب العالمين، هذه الآية ليست آية خلافية، ليست آية معقَّدة تحتاج إلى مفسِّرين، ومعاجم لغة، أخي آراء الأشعريين كذا، لا تحتاج لأنها آية واضحة، لا تحتاج إلى تفسير أبداً، هي مفسَّرة بنفسها، القرآن بعض آياته متشابهة وأغلبه محكم، لا تحتاج لمفسِّر، ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ هذه بدون تفسير، هذه اجعلها شعاراً لك، ضعها في بيتك، ضعها في مكتبك، ضعها في جيبك.

 

من دقق في كل شيء توجه إلى الله عز وجل ونال رضاه:


كلَّما شعرت بشيء غير طبيعي تذكَّر الآية، ماذا فعلت؟ ماذا تكلمت؟ أين كنت؟ من أين جئت؟ كيف تكلَّمت؟ كيف بعت هذه البيعة؟ واحد من إخواننا عنده معمل ألبسة صغير،  جاءه شخص درويش فقال له: بعني خمس قطع، وهو يبيع ثلاثمئة أو خمسمئة دزينة، عندما طلب منه خمس قطع رأى ذلك إهانة له، فقال له: أنا لا أبيع بالمفرَّق، قال له: لا تؤاخذني، خرج، يقسم لي بالله حوالي ثلاثة وعشرين يوماً ما دخل لمعمله زبون، قال لي: نشف دمي، لماذا صار معي هذا؟ لا يوجد بيع أبداً؟ تذكَّر الذي كسر خاطره، وطلب منه خمس قطع ولم يرضَ أن يبيعه، الآن أصبح يبيع قطعة واحدة، الله أدَّبه، عندما حرمه الله من الزبائن ثلاثة وعشرين يوماً حتى نشَّف له دمه وألقى في روعه أن عبدي هذه من أجل تلك، تتذكَّر فلاناً الذي جاء لعندك، طلب خمس قطع بأدب وهو فقير، كان يجب أن تبيعه، أنت رأيتها إهانة لك فحرمك الله البيع ثلاثة وعشرين يوماً، وعلى هذا فقِسْ، ما من شيء يقع إلا ويوجد حكمة منه، ولكن نحن لا نعرف، يقول لك: فلان صار معه هذا، وفلان صار معه هكذا، لو أنت دقَّقت تجد كل شيء بحساب دقيق، هذه الطريقة تعين على التوجُّه إلى الله سبحانه وتعالى.

والحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور