وضع داكن
20-04-2024
Logo
الدرس : 12 - سورة الشورى - تفسير الآيات 32-37، البحار همزة وصل لا همزة قطع بين القارات
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

الجوارِ في البحر كالأعلام من آيات الله الدالة على عظمته:


أيها الأخوة الكرام؛ مع الدرس الثاني عشر من سورة الشورى، ومع الآية الواحدة والثلاثين وهي قوله تعالى:

﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32)﴾

[ سورة الشورى ]

ومرةً ثانية من تفيد التبعيض، أي ومن بعض آياته الدَّالّة على عظمته الجواري في البحر كالأعلام، الجواري جمع مفردها جارية وهي التي تجري، أي السفينة، كالأعلام أي كالجبال، فهذه السفينة التي تمخر عباب الماء ما الذي يحملها؟ هذا الذي كشفه بعض علماء الغرب وقال: وجدتها وجدتها، حين وضع يده في الماء فشعر أن قوةً تدفعها إلى الأعلى، فالسائل متماسك، ومعنى متماسك أي أنه لا يقبل بسهولة أن ينغمس فيه جسم، فالإنسان لو ملأ وعاءً من الماء، ووضعه في بركة ماء لشعر أن نصف وزنه قد ذهب، أو أكثر من ذلك، أين ذهب الوزن؟ إن قوةً في الماء تدفع نحو الأعلى، لولا هذه القوة لكانت البحار أداة قطعٍ بين القارَّات، الآن البحار همزات وصل.

 

البحر ما هو إلا أداة اتصالٍ بين اليابسة:


لو أردنا أن نُعَبِّد طريقاً إلى أمريكا، أو طريقاً إلى أفريقيا، أو إلى آسيا، أو إلى أوقيانوسيا، نحتاج إلى أموال لا يعلمها إلا الله، لكن البحر في الحقيقة طرقٌ معبدة، ما عليك إلا أن تصنع سفينةً وأن تتحرك أينما تشاء.

فهذا البحر بقوّة تماسك الماء، أو بقوة الدفع نحو الأعلى، له قانون يعرفه الذين درسوه، هذا البحر بهذه الخصائص أصبح أداة اتصالٍ بين اليابسة، ولولا هذه الخاصة لكان سبباً في القطيعة التامّة بين القارات، ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ﴾ .

 

أرقى أنواع الذكر التفكر في خلق السماوات والأرض:


إذاً الماء وحده هذا آية يدل على عظمة الله، لو أن الإنسان فكر لأن الآيات التي بثَّها الله في الكون لا تعدُّ ولا تحصى، ولكن ربنا جلَّ جلاله ذكر في القرآن بعض الآيات الكونية، الذي ينبغي أن نذكره أن الله حينما ذكر بعض هذه الآيات، إذاً هي موضوعاتٌ نموذجية للتفكُّر، لما حدثنا ربنا عزّ وجل عن الماء فقال:

﴿ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)﴾

[  سورة الحجر ]

المؤمن عليه أن يمشي في هذا الطريق، الإشارات القرآنية إلى الآيات الكونية هذه موضوعاتٌ للتفكر، وحبَّذا لو أن كل مؤمنٍ جمع الآيات الكونية في القرآن الكريم، وجعلها عنوانات لموضوعات التفكر، إذا أراد أن يصلي الفجر وبعد الفجر أراد أن يذكر الله من أرقى أنواع الذكر التفكر في خلق السماوات والأرض، لأن الله سبحانه وتعالى يقول: 

﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)﴾

[ سورة الزمر ]

فكيف نقدره حق قدره؟ إذا تعرفنا إليه، كيف نتعرف إليه؟ من خلال خلقه.

إذاً العلماء قالوا: أرقى عبادة على الإطلاق التفكر في خلق السماوات والأرض ، لأن هذه العبادة تضعك وجهاً لوجهٍ أمام عظمة الله عزَّ وجل، وأنا أقول دائماً مئات المرات بل ألوف المرات: إن التفكر في خلق السماوات والأرض أسرع طريقٍ إلى الله، وأوسع بابٍ تدخل منه على الله، أوسع باب وأقصر طريق، فلذلك الآن مهمتنا أن نحصي الآيات الكونية في القرآن الكريم.

وشيء جميل جداً أن تقرأ القرآن الكريم قراءة تدبر، قراءة تأمل، قراءة بحث، قراءة درس، قراءة إحصاء، أن تُحصي الآيات الكونية، وأن تجعل من هذه الآيات الكونية موضوعاتٍ نموذجية للتفكر.

 

الماء من آيات الله الدالة على عظمته:


اليوم الآية هي الماء، هذا الماء آية من آيات الله العظمى الدالة على وجوده، وحكمته، وعلمه، الماء؛ سائل لا لون له، تصور لو أن للماء لوناً. 

لا طعم له، تصور لو أن للماء طعماً، ولو كان طعماً طيِّباً، كل أنواع الطبخ فيها ماء، كل أنواع الشراب فيها ماء، لو أن للماء طعماً لخرجت من جلدك بسبب هذا الطعم، لو أن للماء لوناً لا تحتمل ذلك، لا لون له، ولا طعم له، ولا رائحة.

لو أن الماء أيها الأخوة يتبخَّر بدرجة مئة، أي لو أن الإنسان غسل بيته لبقي الماء في أرض البيت أشهراً طويلة، غير معقول أن تصل الحرارة لدرجة مئة في البيت، مستحيل، لكن الماء يتبخر بدرجة أربع عشرة، يغلي بدرجة مئة، ويحافظ على هذه الدرجة، بينما الزيت تصل حرارة الزيت إلى درجات عاليةٍ جداً، لذلك الإنسان إذا طبخ بالماء يطمئن، لو بقيت على الموقد ساعاتٍ طويلة، الماء عند الغليان تثبت حرارته، النفوذ نفوذ الماء شيء عجيب، ينفذ من أدق المسامات، مهما كان المسام ضيقاً ينفذ منه الماء، مستوى سيولته لو أنه لزج لا يحتمل، لو أنه كالقطر في لزوجته فكيف تغسل الأواني؟ تصور أنه لا لون له، لا طعم له، لا رائحة له، يتبخر بدرجة أربع عشرة، سريع النفوذ في المسام الدقيقة.

 

خواص الماء:


هذا الماء إذا أراد أن يتوسَّع، أن يتمدد، ليس في الأرض كلها قوةٌ تقف أمام توسعه، لو جئت بأرقى أنواع المعادن، بسبائك، بخلائط معادن قاسية جداً، وأدخلت فيها ماءً، وتجمد الماء، لانشطر المعدن شطرين، واليوم أحدث وسيلة لاقتلاع الرخام من مناجمه أن تحفر أنبوباً وأن تملأه ماءً وأن تبرد الماء، من أربع جهات تجد هذا الصخر قد نُزع من مكمنه، أي الماء إذا تمدد لا قوة في الكون تقف أمامه، وإذا أردت أن تضغطه لا تستطيع.

سمعت من أحد الإخوان الكرام عن تجربة أجروها، مكبس وزنه ثمانمئة طن على متر مكعب من الماء الثمانمئة طن ما تمكنت أن تضغط الماء ولا ميلي، لا يضغط، وإذا تمدد لا شيء يقف أمامه، كثير النفوذ، يتبخر في درجة أربع عشرة، لا لون له، لا طعم له، لا رائحة له.

 

الماء شأنه كشأن كل العناصر يتمدد بالحرارة وينكمش بالبرودة:


هذا الماء فيه خاصّة أيها الأخوة، يجب على الإنسان أن يعرف لولا هذه الخاصّة لما كنا جميعاً على سطح الأرض، لما رأيت في الأرض نباتاً واحداً، لما رأيت في الأرض حيواناً واحداً، لما رأيت إنساناً واحداً، لولا هذه الخاصَّة لانعدمت الحياة من على وجه الأرض، ما هذه الخاصَّة؟ هي أن الماء شأنه كشأن كل العناصر، بالحرارة يتمدَّد، بالبرودة ينكمش.

تفسير هذه الظاهرة تفسير دقيق، الحرارة من خصائصها أنها تباعد بين الذرَّات، والبرودة تقرِّب بين الذرَّات، فالجسم في الحرارة ينتقل من حالة الصلابة إلى اللزوجة إلى الميوعة إلى السيولة إلى التبخُّر، فنظرياً أي معدن يمكن أن يصبح بخاراً، أي بدرجات عالية جداً البازلت يصبح سائلاً، البراكين في الأساس سائل أسود، ما هذا السائل؟ صخر، عند التبرُّد يصبح صخراً من أقسى أنواع الصخور، فالحرارة من شأنها أن تباعد بين الذرَّات، وأن تحوِّل الجسم من حالة صُلبة إلى حالة سائلة، فإذا جاءت البرودة تقاربت الذرات، فانتقل الجسم من الحالة الغازيَّة إلى الميوعة إلى التجمُّد.

الهواء يمكن أن يصبح سائلاً، أساساً حينما يأتون للمريض بأسطوانة أوكسجين، إذا حملت هذه الأسطوانة تحس أن بها سائلاً، فالغاز بالبرودة يصبح سائلاً.

 

ظاهرة انكماش الماء وتمدده وراء ظاهرة الحياة على سطح الأرض:


بالمناسبة البرودة تلتقي مع الضغط في إحداث النتيجة، والحرارة تلتقي مع رفع الضغط في إحداث النتيجة، فيمكن أن نجعل من السائل مادةً جافَّةً كالحليب المجفَّف، قهوة مجفَّفة، نغلي القهوة أصبحت مجفَّفة، إما برفع الضغط أو برفع الحرارة، ونقل العنصر من الحالة الغازيَّة إلى الحالة السائلة إما بالضغط أو بالتبريد.

نحن نقول هذا تمهيداً لخاصَّةٍ خطيرة، إن الماء شأنه كشأن أي عنصر، إذا سخَّنته يتمدَّد وإذا برَّدته يتقلَّص، ينكمش، الماء يمتاز بخاصَّة أنك إذا برَّدته ينكمش كأي عنصر، لكن عند الدرجة زائد أربع تنعكس الآية، بدل أن ينكمش يتمدَّد، يمكن أن تعرف هذا الشيء بتجربة بسيطة جداً، املأ قارورة ماء وأحكم إغلاقها، وضعها في غرفة التبريد في الثلاجة، وانظر بعد حين كيف أن الزجاج قد انكسر، الماء حينما يتبرَّد يتمدَّد، هذه الخاصَّة هي وراء انتشار الحياة على سطح الأرض، لأن البحار إذا بردت في أيام الشتاء، أو في القطبين الشمالي والجنوبي تجمَّدت، فإذا تجمَّدت حسب القانون انكمشت فزادت كثافتها فغاصت إلى الأعماق، الطبقة الثانية تتجمَّد تزيد كثافتها تغوص إلى الأعماق، إلى أن تصبح البحار كلُّها متجمِّدةً، وعندئذٍ ينعدم التبخُّر، ومع انعدام التبخُّر ينعدم المطر، ومع انعدام المطر ينعدم نمو النبات، ومع انعدام النبات ينعدم الحيوان الذي يعيش على النبات، وإذا انعدم الحيوان وانعدم النبات تبعهما الإنسان، فهذه الظاهرة -ظاهرة انكماش الماء- تمدُّد الماء عند التبريد في الدرجة زائد أربعة هي وراء ظاهرة الحياة على سطح الأرض، فربنا عزَّ وجل في هذه الآية يشير إلى ظاهرة الماء، ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ﴾ .

 

الله عز وجل لحكمة بالغة خصّ كل بلد بمحصول معين:


هذه السفينة التي تمخر عُباب الماء، الآن بعض السفن حمولتها مليون طن -كلام دقيق- مليون طن حمولة بعض السفن، سمعت مرَّة تسعمئة حصان قوة المحرِّك لدفَّة السفينة كي تحرفها يميناً أو يساراً، هذه المدينة العائمة ما الذي يحملها؟ من أمتن أنواع الحديد وتحمل مليون طن، ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ﴾ وهناك آيات كثيرة، قال:

﴿ وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)﴾

[ سورة فاطر ]

أنت تشرب شاياً، الشاي يأتي من سيلان، نحن ليس عندنا شاي، فتجد أنه بهذه البحار وتلك السفن تنتقل الحاجات، والأغذية، والمحاصيل، والقمح، والمصنوعات من بلدٍ إلى بلد، ومن قارةٍ إلى قارة، لو أننا حاصرنا بلداً حصاراً اقتصادياً فإنه ترتفع فيه الأسعار إلى درجة جنونيَّة إذاً ما معنى الحصار الاقتصادي؟ أي منعنا السفن أن تصل إلى هذا البلد محمَّلةً بالبضائع التي يحتاجها الناس، وربنا عزَّ وجل لحكمةٍ أرادها جعل كل بلد يختص بشيء، هذا البلد يزرع الرُّز، هذا البلد عنده محصول قطن، هذا عنده محصول بن، هذا عنده محصول سكَّر، فخصَّ كل بلد بمحصول تمتاز به، وجعل العلاقات بين الشعوب هي التي أرادها الله سبحانه وتعالى.

 

البحار همزة وصلٍ لا همزة قطعٍ بين القارات:


إذاً هذه البحار أصبحت بهذه الخاصَّة لأنها تحمل السفن، أصبحت همزة وصلٍ لا همزة قطعٍ بين القارات.

﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33)﴾

[ سورة الشورى ]

طبعاً الآيات نزلت يوم كانت السفن شراعيَّةً، ونحن عندنا قاعدة عندما قال ربنا عزَّ وجل:

﴿ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)﴾

[  سورة النحل ]

إذا ركب الإنسان الآن طائرة حديثة جداً مثلاً كونكورد أو ركب قطاراً سرعته ثلاثمئة وخمسون كيلو متراً في الساعة، أو ركب حوَّامة تحوم فوق الماء، أو ركب مركبة حديثة جداً قد يتساءل: أين ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً﴾ ؟ الله عزَّ وجل هو الذي أنزل هذا القرآن، قال: ﴿وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ لأن هذا كلام خالق الكون، وهو علم ما كان، وعلم ما يكون، وعلم ما سيكون.

 

كلام الله عزَّ وجل يغطي الماضي والمستقبل معاً:


إذاً قال: ﴿وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ فإذا قرأت هذه الآية قلت: ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً﴾ لو وقفت هنا تقول: وأين الطائرة؟ أين القطار السريع؟ أين هذه المركبات الفارهة؟ قال: ﴿وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ هذه الآية غطَّت المستقبل، هذا ليس كلام بشر، لو أنه كلام بشر والذي جاء بهذا الكلام من بني البشر ما رأى إلا خيلاً، وبغالاً، وحميراً، فإذا وقف عند هذه الكلمة وقرأ هذا الكتاب أناسٌ بعد ألف عامٍ، أو ألفي عام، وركبوا الطائرات، وركبوا القطارات، وركبوا السفن العملاقة وكأنها مدن تتحرَّك فوق سطح الماء يقولون: هذا ليس كلام الله عزَّ وجل، لكن كلام الله عزَّ وجل يغطي الماضي والمستقبل، قال: ﴿وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ .

 

الريح هي القوَّة الدافعة للسفن عن طريق الأشرعة:


كذلك:

﴿ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33)﴾

[ سورة الشورى ]

المقصود بالريح هنا الطاقة التي تحرِّك هذه السفينة، وقتها كانت الرياح لسفن شراعيَّة، قال: 

ما كل ما يتمنَّى المرء يدركه                تجـري الرياح بما لا يشتهي السَّفِنُ

[ المتنبي ]

* * *

السَّـفِنُ أي صاحب السفينة، أو تجري الرياح بما لا تشتهي السُّفُنُ، يوجد روايتان للبيت. 

 

الطاقة التي أودعها الله في الأرض عن طريق الأشجار:


الآن يوجد طاقة بتروليَّة، الله أشار إليها قال تعالى:

﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80)﴾

[ سورة يس  ]

قد يعجب الإنسان، ما هذه المفارقة التي جعلت من الشجر الأخضر ناراً؟! الشجر الأخضر لا يشتعل، يعس عسيساً، الله قال: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنْ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ﴾ الحقيقة إحدى نظريات البترول أنه في العصور المطيرة التي شكَّلت نباتاتٍ عملاقة، هذه النباتات بفعل الزلازل طُمِرَت تحت سطح الأرض وشكَّلت حقول البترول، وكلمة أخضر إشارة إلى أن هذا النبات ما كان له أن يكون نباتاً إلا بفضل المادَّة الخضراء في الأوراق، هذا وصف سببي لأن في الورقة الخضراء معملاً -هكذا قرأت عنها في موسوعةٍ علميَّة- أن الورقة الخضراء فيها معمل تبدو أعظم المعامل التي صنعها الإنسان تافهةً أمامه، شيء لا يصدق، ثمانية عشر معدناً مذاباً بالماء تصعد على خلاف جاذبيَّة الأرض من الأسفل نحو الأعلى، عن طريق خاصَّة الشعريَّة، تصل إلى الورقة فيها الآزوت تأخذه من الجو، فيها اليخضور، فيها الفوتونات مخزَّنة بها الطاقة الشمسيَّة، فيها مواد عديدة تصنع هذه الورقة بشيءٍ معجز نُسُغَاً نازلاً، هذا النسغ النازل هو سائل، منه تتكوَّن الجذور الجديدة، منه تتكوَّن فروع الجذور، منه تتكوَّن الجذوع ونموَّها، منه تتكوَّن الأغصان والأوراق والثمار، كلها من هذا النسغ النازل، وليس في مقدور الإنسان أن يصنع سائلاً يحقنه مرَّةً فإذا هو خشب، يحقنه مرَّةً فإذا هو كاوتشوك، يحقنه مرَّةً فإذا هو معدن، هذا شيء فوق طاقة الإنسان، لكن هذا النسغ النازل يفعل هكذا، فربنا عزَّ وجل جعل هذه الطاقة التي أودعها في الأرض جعلها عن طريق الأشجار، ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنْ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ﴾ إذا أشارت هذه الآية إلى أن الريح هي القوَّة الدافعة لهذه السفن عن طريق الأشرعة، فالسفن الحديثة تتحرَّك عن طريق الوقود السائل الذي خلقه الله في الأرض.

 

الله عز وجل خالق كل شيء:


وحينما قال الله عزَّ وجل: ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ العلماء قالوا: عُزِيَت هذه الوسائل الحديثة في خلقها إلى الله، لأن الله هو الذي ألهم، وهو الذي أودع الطاقات في الأرض، وهو الذي يسَّر صناعتها، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا ركب دابَّةً يقول: عن عبد الله بن عمر:

(( أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ كانَ إذَا اسْتَوَى علَى بَعِيرِهِ خَارِجًا إلى سَفَرٍ، كَبَّرَ ثَلَاثًا، ثُمَّ قالَ: سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هذا، وَما كُنَّا له مُقْرِنِينَ ، وإنَّا إلى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ، اللَّهُمَّ إنَّا نَسْأَلُكَ في سَفَرِنَا هذا البِرَّ وَالتَّقْوَى، وَمِنَ العَمَلِ ما تَرْضَى، اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هذا، وَاطْوِ عَنَّا بُعْدَهُ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ في السَّفَرِ، وَالْخَلِيفَةُ في الأهْلِ، اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بكَ مِن وَعْثَاءِ السَّفَرِ، وَكَآبَةِ المَنْظَرِ، وَسُوءِ المُنْقَلَبِ في المَالِ وَالأهْلِ، وإذَا رَجَعَ قالَهُنَّ، وَزَادَ فِيهِنَّ: آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ. ))

[ صحيح مسلم ]

والإنسان إذا ركب سيَّارة يقول: "اللهمَّ إني أسألك خيرها وخير ما صنعت له، وأعوذ بك من شرِّها وشرِّ ما صُنِعَت له" أحياناً يركب الإنسان مركبة فتكون سبب دماره، أو سبب عاهة دائمة، أو سبب شلل، أو سبب انقطاع النخاع الشوكي في العمود الفقري فيصبح مشلولاً "فأسألك خيرها وخير ما صنعت له، وأعوذ بك من شرِّها وشرِّ ما صُنِعَت له" ﴿إِنْ يَشَأْ يُسْكِنْ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ﴾  إذاً نعمة السفينة، ونعمة قوة دفع الماء، ونعمة تحريكها كله بيد الله عزَّ وجل. 

 

الإيمان صبرٌ عند البلاء وشكرٌ عند الرخاء:


﴿ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33)﴾

[ سورة الشورى ]

أي للمؤمن، المؤمن صبَّارٌ شكور، الإيمان نصفان؛ نصف صبر ونصف شكر. 

الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد، فإذا ذهب الصبر ذهب الإيمان، يجب أن تُعَرِّف الإيمان بأنه صبرٌ وشكرٌ، صبرٌ عند البلاء وشكرٌ عند الرخاء، صبرٌ على المصائب وشكرٌ على النعم، وهذا المؤمن في المصائب صبور، وفي الرخاء شكور، قانعاً بالذي له، ولا يبتغي ما ليس له، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ .

 

امتحان الشكر أهون على الإنسان من امتحان الصبر:


الحقيقة امتحان الشكر أهون من امتحان الصبر، فالإنسان أحياناً ينطلق إلى الله مع النعَم، فإذا حُجِبَت عنه النعم قد يسقط، هذا معنى قوله تعالى:

﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)﴾

[ سورة الحج ]

لذلك الامتحان يجب أن يكون مع الشكر ومع الصبر.

 

عقاب الله عز وجل لمن قصّر في عبادته وتوحيده:


﴿ أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ(34)﴾

[ سورة الشورى ]

معنى يوبقهنَّ أي يهلكهنَّ، أي يغرقهنَّ بما كسبوا، قصَّةٌ أرويها كثيراً أن باخرةً بُنيت في عام ألفٍ وتسعمئة واثني عشر، وقيل عندما بُنيت: إن القدر لا يستطيع إغراق هذه السفينة، لأنها بنيت بطرائق غريبة جداً، بنيت على طبقتين؛ وبين الطبقتين حواجز كثيرة، لو أنها خُرقَت من جانبٍ أُغلقت الأبواب الداخليَّة فأصبح الخرق محصوراً، ومن شدة ثقة الذين بنوا هذه السفينة لم يصنعوا لها قوارب نجاة، لأن القدر لا يستطيع أن يغرقها، هكذا جاء في نشرتها، وأبحرت أول رحلةٍ لها من بريطانيا إلى أمريكا، وقد ركب في هذه السفينة أغنياء أوروبا، وقدَّر بعض العلماء أن ثمن حلي النساء التي كُنَّ يتزيَّن بها تصل إلى ألوف الملايين، وهي من الروعة والجمال والأناقة بشكلٍ لا يوصف.

 وفي أول رحلةٍ لها اصطدمت بجبلٍ ثلجي فشطرها شطرين، وحول هذه السفينة عشرات بل مئات السفن، ولا سفينة بادرت إلى إنقاذ ركَّابها لأن كل السفن ما صدَّقت أنها تغرق، فلمَّا أرسلت هذه السفينة إشارات استغاثة ظنوها احتفالات، هي تحتفل، وشُطرت شطرين وغرق ركَّابها، وقبل عدة أشهر فيما أذكر عثروا عليها، اسمها تيتانيك.

 

ما من مصيبة إلا وراءها معصية:


﴿أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا﴾ هذه الباء هي باء السبب، قال تعالى:

﴿ فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160)﴾

[  سورة النساء ]

باء السببيَّة، الباء لها معان كثيرة أحد معانيها السبب، مثلاً بتقصيرك عاقبتك، بتفوِّقك أكرمتك، هذه باء السبب ﴿أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ﴾ .

كما قلنا في الدرس الماضي: كل مصيبةٍ وراءها معصية، لكن ما كل معصيةٍ وراءها مصيبة، لأن الله يعفو عن كثير، ما من عثرة ولا اختلاج عرق ولا خدش عود إلا بما قدمت أيديكم، وما يعفو الله أكثر.

﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ(30)﴾

[ سورة الشورى ]

 

من يجادل في أحقية هذه العقيدة ويشكِّك بها خياره خيار وقت فقط:


﴿ وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ(35)﴾

[ سورة الشورى ]

هذا الذي يقول مثلاً: يا أخي الدين يا أخي غيبيات، الناس دخلوا في عصر العلم، هذا الدين لا يصلح لنا، فهذا الذي يجادل في القرآن، يجادل في أحقِّية الدين، يجادل في جدوى الدين، يجادل في الطرح الديني، يجادل في التصورات الإسلاميَّة، أن الله بدأ الخلق بآدم، والإنسان في الدنيا في مرحلة إعداد لحياة أبديَّة، هذه هي النظريَّة الإسلاميَّة، النظرة الإسلاميَّة لحقيقة الكون والحياة والإنسان، هذا الذي يجادل في أحقية هذه العقيدة يشكِّك بها، يأخذ عليها بعض المآخذ، لا يجعل من الإسلام نظاماً يصلح لكل مكان وزمان، أي له طروحات لا يرضى بها عن الإسلام، قال: ﴿وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ﴾ .

 

خيار الإيمان ليس خيار قبول أو رفض إنما هو خيار وقت فقط:


إخواننا الكرام؛ الإنسان أحياناً في شبابه يكون قوياً، شديداً، عتيداً، يتفلسف على الله عزَّ وجل، يطرح طروحات، ينتقد، يقول: لست مقتنعاً بهذا الأمر، لست مقتنعاً بهذا الحكم، هذا التفسير غير مقبول، لكن كلَّما تقدَّمت به السن، ورأى أنه لابدَّ من أن يغادر الدنيا، وماذا بعد الموت؟ أنا أعرف عشرات الأشخاص، بل مئات في بداية حياتهم كانوا ملحدين، فلمَّا تجاوزوا الأربعين بدؤوا بالصلاة، فهذا الخيار خيار وقت.

دقِّقوا في هذا الكلام أيها الأخوة: أنت أحياناً تُخيَّر خيار قبول أو رفض، أتشتري هذا البيت؟ تقول: نعم أو لا، أتسافر إلى هذا البلد؟ تقول: نعم أو لا، أنت حينما تُخيَّر أن تسافر أو أن تشتري أنت أمام خيار قبول أو رفض، إلا أن خيار الإيمان ليس خيار قبول أو رفض أبداً، خيار الإيمان خيار وقت، أي إن لم تؤمن وأنت في رَيْعان الشباب لابدَّ من أن تؤمن وأنت في خريف العمر، ولكن والله الذي لا إله إلا هو شتَّان -والكلام لإخواننا الشباب موجَّه- شتَّان بين من ينشأ في طاعة الله وبين من يأتي إلى ربه وقد انحنى ظهره، وشاب شعره، وضعف بصره، جيِّد لا بأس.

 

شتَّان بين من ينشأ في طاعة الله وبين من يأتي إلى ربه وقد انحنى ظهره:


أي خيار الإنسان في الإيمان ليس خيار قبولٍ أو رفض، الدليل؛ من هو أكفر كفَّار الأرض الذي قال صراحةً، وبأعلى صوته:

﴿ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)﴾

[  سورة النازعات  ]

فرعون، ماذا قال حينما أدركه الغرق؟ قال:

﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)﴾

[  سورة يونس ]

معنى هذا أنه آمن، لكن متى آمن؟ بعد فوات الأوان عندما مات، فلا يوجد إنسان مخيَّر بالإيمان إلا خيار وقت فقط، خيار الإنسان بالإيمان ليس خيار قبول أو رفض، لأن ربنا عزَّ وجل قال يوم القيامة:

﴿ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)﴾

[ سورة ق ]

﴿ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي(24)فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ(25)وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26)﴾

[ سورة الفجر  ]

 

بطولة الإنسان أن يؤمن في ريعان شبابه:


﴿ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا ‎لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32)﴾

[  سورة الحاقَّة ]

خيارنا خيار وقت فقط، لكن البطولة أن تؤمن وأنت شاب في رَيْعَان الشباب، لأنك إذا آمنت وأنت شاب شكَّلت حياتك تشكيلاً إسلامياً، اخترت المهنة الشريفة التي فيها نفعٌ للناس، اخترت الزوجة الصالحة، ربَّيت أولادك التربية الإسلاميَّة، فإذا تقدَّمت بك السن أنت محاط بأناس مؤمنين، محاط بأناس مُحبِّين، محاط بأناس موالين، بيتك إسلامي، عملك إسلامي، زوجتك، أولادك، بناتك، أصهارك، أما إذا عاد الإنسان إلى الله في سن متأخِّرة فقد ينجو بنفسه، لكن ينظر حواليه فإذا أهلٌ متفلِّتون من أمر الله عزَّ وجل، وإذا حرفةٌ قد لا ترضي الله عزَّ وجل، يتمزَّق كل يومٍ ألف مرَّة فلذلك خيارنا خيار وقت.

 

على كل إنسان أن يعرف ربه قبل فوات الأوان:


هناك خيار آخر، لو أن الإنسان آمن في الحياة الدنيا كلَّما تقدَّمت به السن يميل إلى الإيمان، لكن البطولة وأنت شاب، وأنت تغلي والشهوات مستعرة، والطاقة عالية، والعضلات مفتولة، في هذا السن إذا آمنت بالله عزَّ وجل نفعك إيمانك نفعاً لا حدود له، لذلك:

﴿ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)﴾

[ سورة النساء ]

هذه ليست توبة..

﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)﴾

[  سورة الأنعام ]

فنحن مدعوون إلى أن نعرف الله قبل فوات الأوان، وفي سن مبكِّرة جداً كي تُشَكَّل حياتنا تشكيلاً إسلامياً.

 

كل إنسان مصيره إلى الله عز وجل:


﴿ وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ(35)﴾

[ سورة الشورى ]

ما لك إلا الله عزَّ وجل، يموت الإنسان يُوضع في قبره.

أنا أقول لكم أيها الأخوة: من أدق العبر أن تمشي في جنازة، وأن ترى بعينك كيف يُفتح النعش، وكيف يُحمل هذا الإنسان وقد لُفَّ بالقماش الأبيض مقيَّد اليدين والرجلين، وكيف يُلقى في هذا القبر، وكيف تُوضع فوقه البلاطة، وكيف يُهال عليه التراب، وكيف يعود أولاده إلى البيت وقد دفنوا أباهم، يقول الله عزَّ وجل لهذا الإنسان في أول ليلة: "عبدي رجعوا وتركوك" أحياناً الناس يفرحون، واحد له عمة معها أموال طائلة، فلما توفيت طبعاً لبس الأسود وعمل نفسه حزيناً، أحد الذين عزَّوه قالوا له: تهانينا، كثير من الناس يفرحون بموت أشخاص معينين، يحزنون حزناً شكلياً، قال له: عبدي رجعوا وتركوك وفي التراب دفنوك، ولو بقوا معك ما نفعوك، ولم يبق لك إلا أنا، وأنا الحي الذي لا يموت.

إلى الله المصير، النهاية عنده، فالبطولة أن تقيم معه علاقةٌ طيبةٌ من الآن.

 

الرباني من يقيم علاقةً طيبة مع الله عزَّ وجل أساسها الطاعة والبذل:


من هو الربَّاني؟ قال الله:

﴿ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)﴾

[ سورة آل عمران ]

من هو الرباني؟ هو الذي يقيم علاقةً طيبة مع الله عزَّ وجل أساسها الطاعة، أساسها البذل، أساسها العبادة الصحيحة، أساسها التصدق، أساسها طلب العلم، أساسها نشر العلم.

 

الله عز وجل يعلم كل من يطعن ويقلل من شأن الدين ويتكفل هو بحسابه:


﴿وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا﴾ يطعن، ينتقد، يقلل من أهمية الدين، ﴿مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ﴾ كلنا إليه.

﴿  أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ(17)وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ(18)وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ(19)وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ(20)فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ(21)لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ(22)إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ(23)فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ(24)إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ(25)ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ(26)﴾

[ سورة الغاشية ]

هذه الآية تكفي: ﴿إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ(25)ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ(26)﴾ المصير إلى الله. 

 

الآخرة خير وأبقى للإنسان من الدنيا:


﴿ فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36)﴾

[ سورة الشورى ]

ما هذه: ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾ ؟ لو أن إنساناً يسكن في بيت ثمنه بضع عشرات الملايين، الله سماه شيئاً، هذا التنكير تنكير تحقير، لو كان عنده أموال منقولة أو غير منقولة بألوف الملايين، شيءٍ تنكير تحقير، لو يتمتع بكل ما في الحياة الدنيا من مباهج، شيء تنكير تحقير، من دون تفاصيل لو أنه ملك الدنيا بحذافيرها ؛ المال، والنساء، والبيوت، والقصور، والبساتين، والمركبات، واليخوت، والطائرات، لو أنه يملك أكبر الشركات، ﴿فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ دققوا في عبارة: ﴿خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ أي الآخرة خير من الدنيا وأبقى، أي خيرٌ نوعاٌ وأبقى زمنا، لو خيرنا إنساناً -هذا مثل أضربه دائماً- لو خيرنا إنساناً بين دراجة تتملكها دائماً وسيارة تركبها ساعةً، تختار الدراجة طبعاً، لأنها الأبقى، لو خيرنا إنساناً بين دراجةٍ يملكها دائماً، وسيارةٍ تملكها دائماً، هل يحتاج الإنسان إلى تردد؟ مباشرةً، لو خيرناه بين دراجةٍ يركبها ساعةً، وسيارةً يتملكها دائماً، إذا اختار الدراجة يحتاج إلى القصير، إذاً قال تعالى: ﴿فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ وهذا الإيمان، إذا آمنت باليوم الآخرة ارتحت من عناء الدنيا "إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، ومنزل ترحٍ لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء، قد جعلها الله دار بلوى، وجعل الآخرة دار عقبى، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً، فيأخذ ليعطي ويبتلي ليجزي" .

 

من عرف ربه وطبق منهجه ارتاح من عناء الدنيا:


إخواننا الكرام؛ لا تنحل مشاكلنا كلها إلا إذا نقلنا أهدافنا إلى الدار الآخرة، ترضى من الدنيا باليسير، ماذا تحتاج من الدنيا؟ تحتاج إلى لقمة تقيم بها صلبك، وغرفة تؤويك، وثوب يستر عورتك.

مرة قلت لكم سابقاً ملك كبير سأل وزيره قال له: من الملك؟ الوزير خاف ما هذا السؤال؟ قال له: أنت، قال له: لا، الملك رجلٌ لا نعرفه ولا يعرفنا، له بيتٌ يؤويه، وزوجة ترضيه، ورزقٌ يكفيه، إنه إن عرفنا جهد في استرضائنا، وإن عرفناه جهدنا في إذلاله، لا يعرفنا ولا نعرفه.

كذلك المؤمن إذا عرف ربه، وطبق المنهج، له غرفة يسكن فيها، قميص يرتديه، وجبة طعام يأكلها، عنده زوجة، له دخل يكفيه بصعوبة لابأس، ملك الدنيا بحذافيرها، مالي وللدنيا؟! إذا لم ينقل الإنسان أهدافه إلى الآخرة، الدنيا تغر وتضر وتمر، متعبة، أوحى ربك إلى الدنيا أنه من خدمك فاستخدميه، ومن خدمني فاخدميه، ﴿وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ يقول عليه الصلاة والسلام: عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاء. ))

[  المنذري : الترغيب والترهيب:  خلاصة حكم المحدث : إسناده صحيح أو حسن ]

 

نيل الدنيا ليس مقياساً للتفاضل بين الناس:


أبى الله عزَّ وجل أن يجعل الدنيا مكافأةً لأوليائه، وأن يجعل الحرمان منها عقاباً لأعدائه، قد يعطيها أعداءه، يعطي الدنيا لمن يحب ولمن لا يحب، أعطاها لسيدنا سليمان.

﴿ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35)﴾

[  سورة ص ]

وأعطاها لفرعون، أعطاها لسيدنا عبد الرحمن بن عوف، وأعطاها لقارون، مادامت الدنيا تعطى لأعدائه ولأوليائه إذاً ليست مقياساً إطلاقاً.

 

على كل إنسان أن يجعل بينه وبين المعصية هامش أمان:


إذاً: 

﴿ فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37)﴾

[ سورة الشورى ]

من صفات المؤمن أنه يجتنب، ومعنى يجتنب أي أنه يترك هامشاً بينه وبين المعصية، هذا معنى قوله تعالى في الحديث عن الخمر: ﴿فَاجْتَنِبُوهُ﴾ أي دع بينك وبينه هامشاً، لذلك فالنبي قال: عن عبد الله بن عباس:

(( أتاني جِبْرِيلُ عليه السلامُ فقال: يا محمَّدُ، إنَّ اللهَ لعَنَ الخمرَ، وعاصِرَها، ومعتصِرَها، وشاربَها، وحاملَها، والمحمولةَ إليه، وبائعَها، ومبتاعَها، وساقيَها، ومستقاها. ))

[ محمد بن محمد الغزي : إتقان ما يحسن : خلاصة حكم المحدث : إسناده صحيح : أخرجه أحمد   ]

كل شيء متعلق بالخمر محرم، هذا معنى فاجتنبوه، الاجتناب أبلغ من التحريم، أبلغ بكثير، والدليل:

﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)﴾

[ سورة البقرة ]

وهناك آية:

﴿ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)﴾

[ سورة البقرة ]

فلا تقربوها اجعل بينك وبين المعصية هامش أمانٍ. 

 

كل معصية لها قوة جذب فيكون الأمر بالاجتناب:


قال:

﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)﴾

[ سورة الإسراء ]

﴿ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34)﴾

[  سورة الإسراء ]

قال: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا﴾ هذا معنى الاجتناب، أن تدع بينك وبين المعصية هامشَ آمان. 

أوضح مثل لو أن تياراً كهربائياً شدته ثمانية آلاف فولط، المسؤولون عن الكهرباء هل يضعون الإعلان على الشكل التالي أم على شكلٍ آخر: يمنع مس التيار أم الاقتراب منه؟ التيار ثمانية آلاف فولط يجذب الشخص من بعد ثمانية أمتار فتجده صار فحمة، فالإعلان ليس أنك ممنوع من مس التيار، ممنوع الاقتراب منه، ويوجد معاص لها قوة جذب، كل معصية لها قوة جذب جاء الأمر باجتنابها لا بتركها، الأمر باجتنابها، لأن فيها قوة جذب، منها الزنى قال: ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى﴾ معنى هذا النظر طريق للزنى، صحبة الأراذل طريق للزنى، المشي بأماكن موبوءة طريق للزنى، مطالعة موضوعات ساقطة طريق للزنى، ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى﴾، غض البصر طريق للعفة، البعد عن الأماكن المشبوهة طريق للعفة، عدم الخلوة طريق للعفة، الزواج طريق للعفة، إذاً كل معصية لها قوة جذب يكون الأمر بالاجتناب. 

 

على كل مؤمن أن يبتعد عن أسباب المعصية:


﴿ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37)﴾

[ سورة الشورى ]

أي هؤلاء المؤمنون يهربون لا من المعصية بل من أسبابها، هناك مثل دقيق أضربه دائماً: الشهوة تشبه صخرة في قمة جبل، أنت مخير أن تدفعها إلى الوادي أو أن تبقيها على قمة الجبل، لكنك إذا دفعتها لا تقف إلا في قعر الوادي، فإذا دفعتها قليلاً ورجوت أن تبقى في مكانٍ متوسط لا تستطيع، أنت مخير، أن تبتعد عما يقربك من الزنى، أما إذا اجترأت، جلست في جلسة مختلطة، وخلوة، وصاحبت الأراذل، فهذا الأمر ينتهي بك إلى الفاحشة، لذلك الشريف هو الذي يهرب من أسباب الخطيئة لا من الخطيئة نفسها، إذاً هذا معنى الاجتناب، الاجتناب المعصية لها قوة جذب، إذاً لابد من أن تجعل بينك وبينها هامش أمان.

 

الإيمان والقرآن قيَّدا المؤمن عن كثيرٍ من هوى نفسه:


﴿ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ(37)﴾

[ سورة الشورى ]

 أي ملك نفسه عند الغضب، الإنسان المؤمن يملك نفسه ولا تملكه، الإيمان قَيْد، القرآن قيَّد المؤمن عن كثيرٍ من هوى نفسه، الإنسان ليس دابة يفلت كما يريد، أخي لا أقدر أنا،  من أنت حتى لا تقدر؟ معنى ذلك أنك لست إنساناً، كل إنسان يقول: لا أقدر، معنى ذلك أنه ليس إنساناً، الإنسان يتميز بالسيطرة على أعضائه، وعلى جوارحه، وعلى ملكاته. 

﴿ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ(38)﴾

[ سورة الشورى ]

وفي درسٍ قادمٍ إن شاء نتابع شرح هذه الآيات.

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور