وضع داكن
19-04-2024
Logo
الدرس : 03 - سورة فصلت - تفسير الآيات 9-22 أساليب القرآن الكريم متنوِّعة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

أساليب القرآن متنوِّعة:


 أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الثالث من سورة فصِّلت، ومع الآية التاسعة، وهي قوله تعالى:

﴿ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)﴾

[ سورة فصلت ]

أيها الإخوة؛ القرآن الكريم كتاب هدايةٌ ورشاد، فأساليبه متنوِّعة، فمن حينٍ إلى آخر يتحدَّث القرآن الكريم عن آيات الله في الكون، وآيات الله في الكون بابٌ واسعٌ من أبواب معرفته، وطريقٌ قصيرٌ إليه تعالى، لأن الكون كما تعرفون مظهرٌ لأسماء الله الحسنى ولصفاته الفُضلى، مظهرٌ يعبِّر تعبيراً دقيقاً عن عظمة الله عزَّ وجل، فإذا أردت أن تعرف الله سبيل معرفة الله هو اليقين الاستدلالي، لأنك ترى الأشياء بحواسِّك، أما خالق الكون فلا تستطيع أن تتعرَّف عليه إلا بعقلك، إذا ظهرت عين الشيء فسبيل معرفته الحواس الخمس، بالعين نرى الضوء والأشياء، وبالأذن تسمع الأصوات، وباللَّمس تتحسَّس الأشياء، لكن إذا غابت عين الشيء وبقيت آثاره فسبيل معرفته هو الاستدلال العقلي، لذلك ربنا سبحانه وتعالى بثَّ آياته في السماوات والأرض. 

وفي كلِّ شيءٍ له آيةٌ                 تدلُّ على أنه واحدُ

[ لبيد بن ربيعة ]

* * *

فإذا أردت أن تعرفه فكما قيل: "حسبك الكون" ، ينطق بوجوده، وينطق بكماله، وينطق بوحدانيَّته، وينطق بعلمه، وينطق بكل أسمائه الحسنى.

 

الكفر بالله أمرٌ عظيمٌ:


ربنا جلَّ جلاله يقول هنا: 

﴿ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9)﴾

[ سورة فصلت ]

أي أيها الناس إنكم إذ تكفرون تكفرونَ بِمَنْ؟ بخالق السماوات والأرض؟! الإنسان أحياناً يتكلّم كلمة لا يلقي لها بالاً يقال له: أتدري مع من تتكلَّم؟ لقد أتلفت نفسك، أتدري من تخاطب؟ أتدري على من تنتقد؟ كأن الله سبحانه وتعالى في هذه الآية أراد أن يبيِّن لنا أن الإنسان حينما يكفر بشيء، أو بإنسان، أو بفكرة هذه قضيَّة سهلة، أما حينما يكفر بالله عزَّ وجل، يكفر بمن أوجده، بمن خلقه، بمن ربَّاه، بمن جعله إنساناً سوياً، بمن يرزقه، بمن بيده حياته وموته، بمن إليه المصير، أي كأن الله سبحانه وتعالى يقول: أيها الإنسان ماذا تعمل أنت؟ أتدري بمن تكفر؟ ﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ﴾ وما الكفر أيها الإخوة؟ بحث الكفر واسعٌ جداً، ولكن بشكل مختصر الكفر فيه جانب فكري وجانب نفسي، الجانب الفكري تكذيب، والجانب النفسي إعراض، تكذيبٌ وإعراض، بالمقابل الإيمان تصديق وإقبال، المؤمن مصدِّق مُقبل، والكافر مُكذِّب معرض، فالجانب الفكري في الإيمان هو التصديق، والجانب النفسي هو الإقبال، والجانب الفكري في الكفر التكذيب؛ التكذيب بعظمة الله عزَّ وجل، التكذيب بأسمائه، التكذيب بصفاته، التكذيب بكتابه، التكذيب برسله، الكفر تكذيبٌ، والكفر إعراضٌ، فالكفَّار حينما كذَّبوا النبي عليه الصلاة والسلام فتكذيب الرسول تكذيبٌ للمرسِل، وحينما لم يقبلوا أن هذا الكلام كلامه، تكذيبٌ بالكلام تكذيبٌ بالمتكلِّم.

 

معاني قوله تعالى: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ:


المعنى الأول في هذه الآية: أنْ أيها الناس أنتم حينما تكفرون أتدرون بمن تكفرون؟ بخالق السماوات والأرض:

﴿ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ

[ سورة فصلت ]

 إلى آخر الآيات. 

المعنى الذي ينبغي لنا أن نضع أيدينا عليه أن الله سبحانه وتعالى يبيِّن للكفَّار حجم جريمتهم، ما أكبر جريمتهم! ما أشدَّ تكذيبهم‍!‍ أحياناً الإنسان يُكذِّب بشيء غير واضح، يقال: معه الحق، أما حينما يكذِّب بِوُجود الشمس في رابعة النهار فالناس يستغربون، قد تكذِّب، أو قد تكفر بشيء وجوده مشكوك فيه يقال: معه الحق، ما رأى هذا الشيء، أما إذا أنكر الشمس في رابعة النهار فهذا عمل كبير جداً، ﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ﴾ .

 

الخَلق خلقان؛ خلق إيجاد وخلق إعداد:


الحقيقة أن الخَلق خلقان؛ خلق إيجاد وخلق إعداد، الله جلَّ جلاله خلق الأرض، لكن هيَّأها لتكون صالحةً للإنسان في يومين، كلمة يوم نفهم منها نحن سكَّان الأرض أن الأرض تدور حول نفسها كل أربعٍ وعشرون ساعة فهذه الدورة نسميها يوماً، هذا اليوم هو يوم الأرض، لكن كل كوكب من كواكب السماء إذا أردنا أن نعرف كم يومه، هناك كوكب يومه سنتان، خلال سنتين يدور حول نفسه دورةً واحدة، كل كوكبٍ سابحٍ في الفضاء له يومٌ خاصٌ به، هذه أيَّام الكواكب، فما أيام الله عزَّ وجل؟

أيام الكواكب شيء وأيام الله شيءٌ آخر، ما معنى أيام الله؟ أي الله سبحانه وتعالى يفعل فعلاً في زمنٍ لو أردنا نحن أن نفعله لاحتجنا إلى خمسين ألف عام تقريباً، إلى مئة ألف عام، فكيف أن الإنسان الآن استطاع ببعض الأجهزة الحاسبة أن يضغط الزمن، ما تفعله في شهر يتم في سبع ثوانٍ مثلاً، فالإنسان ضغط الزمن، ربنا عزَّ وجل ألغى الزمن إلغاء كُليًا، كن فيكون، فأيام الله عزَّ وجل غير أيام البشر، ومع ذلك هذه الأرض التي وضعها الله للأنام..

﴿ وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10)﴾

[ سورة الرحمن ]

خلقها خلْق إيجاد، ثم خلقها خلْق إعداد، أعدَّها للإنسان، علماء الأرض يقولون: لقد مرَّت الأرض بحِقَبٍ طويلة حتَّى أصبحت على ما هي عليه، كانت غازاً، ثم صارت كرةً ملتهبةً، وهذه الكرة الملتهبة تجمَّدت، وبعد أن تجمَّدت اتّحد الأوكسجين مع الهيدروجين وشكَّل الماء، تشكَّلت مياه البحار، وهناك نظرياتٌ كثيرة تفسِّر ظهور البحار، ثم كان الهواء، ومن الهواء والبحار تفتَّت التُربة، نظرياتٌ طويلة، أي مرحلة إعداد الأرض لتكون صالحةً للإنسان مرحلةٌ مديدة سمَّاها الله في يومين في أرجح التفاسير.

بعض النظريات العلميَّة تؤكِّد أن بين مرحلة الكرة الملتهبة ومرحلة القشرة الأرضيَّة ألفي مليون عام، فهذا اليوم ليس يوم الأرض، ولا يوم الكواكب، بل هو يومٌ من أيام الله, طبعاً النظريات العلميَّة إذا كانت مُنصفةً، وصادقةً، وهادفةً تجدها تُلقي ضوءاً على كلام الله عزَّ وجل. 


  الآيات الكونية أبرز أبواب القرآن الكريم:


الشيء الذي يلفت النظر أن القرآن الكريم فيه أبوابٌ كثيرة، من أبرز أبوابه الآيات الكونيَّة، جُمعت في بعض الكتب، أي عدد الآيات الكونيَّة في القرآن الكريم كبيرة جداً، هذه الآيات الكونيَّة هي في الحقيقة أحد مظاهر إعجاز القرآن الكريم، والنبي عليه الصلاة والسلام لحكمةٍ بالغة، لعلَّها بوحي من السماء لم يفسِّر هذه الآيات الكونيَّة، لماذا؟ لأنه عليه الصلاة والسلام لو فسَّرها بطريقةٍ مبسَّطة يفهمها أصحابه، وقد عاشوا مرحلةً معيَّنة من التطوُّر العلمي لأنكرنا عليه هذا التفسير، ولو فسَّرها بطريقةٍ دقيقةٍ كما هي عليه، وكما كشفها العلم الآن لأنكر عليه أصحابه، لذلك تُركت الآيات الكونيَّة، وهذا من حكمة الله البالغة، تُرِكت الآيات الكونيَّة كي يُلْقِيَ العلم عليها ضوءاً كلَّما تطوَّر، فهذا الكتاب معجزةٌ مستمرَّة، كلَّما تقدَّم العلم كشف جانباً من عظمة الآيات التي جعلها الله مظهراً لإعجازه، أي أحياناً تجري أبحاث لعشر سنوات، لعشرين عامًا، دائماً نفرِّق بين المقالة والبحث العلمي، المقالة انطباع عابر، إنسان يسجِّل انطباعاته على ورق، تُطبع هذه الكلمات فإذا هي مقالة، أما إذا قرأت بحثاً علمياً فالبحث العلمي قد يُفْرَغ في صفحتين، وهو محصِّلة دراساتٍ استمرَّت خمسين عاماً، كلمة بحث علمي كلمة كبيرة جداً؛ تجارب، دراسات، استطلاعات، إحصاءات، ملاحظات تراكمت في أذهان العلماء، ثم اكتُشِفَت حقيقة من الحقائق، هذه الحقيقة التي اكتشفت بعد أمدٍ طويل تُسجَّل في بحثٍ علمي، فالأبحاث العلميَّة - طبعاً الموضوعيَّة- كلَّما تقدَّمت كشفت جانباً من آيات القرآن الكريم الكونيَّة، فالعلم الآن يؤكِّد أن الأرض مرَّت بِحِقَبٍ طويلةٍ حتى أصبحت مهيأةً للبشر، يقدِّرون هذه الحِقَب بألفي مليون عام..

﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47)﴾

[  سورة الحج  ]

فهذا ليس من أيام الأرض، ولا من أيام الكواكب، بل هو من أيام الله. 

على كل: ﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ﴾ أي في يومين من أيَّام الله.

 

الله عزّ وجل لا شريك له:


﴿ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9)﴾

[ سورة فصلت ]

الله عزَّ وجل ليس له مشارك، ليس له شريك، ليس له نِد، كل ما خطر في بالك فالله بخلاف ذلك، فهل من المعقول أن يتخذ إنسان لله نداً؟ أن يتخذ لله شريكاً؟ هذا شيء مستحيل، لكن ما الذي يحصل؟ 

حينما يعقد الإنسانُ الأملَ على إنسان عامَلَ هذا الإنسان كما ينبغي أن يعامل الإله، حينما يعتمد على إنسان اعتماداً كُلِّياً عامل هذا الإنسان كما ينبغي أن يُعامَلَ الإله، حينما يَتَّكِل على إنسان، حينما يعقد الأمل على إنسان، حينما يعتقد أن هذا الإنسان ينفعه أو يضرُّه، يرفعه أو يخفضه، يُعطيه أو يمنعه، يقرِّبه أو يبعده، إذا توجَّه اعتقادك إلى مخلوق، وهو مخلوقٌ ضعيف، فكأنك جعلت لله ندَّاً، هذا هو الشرك. 

قال: هذا الإله العظيم الذي خلق الأرض في يومين أتجعلون له أنداداً؟ أيعقل هذا؟﴿ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ ، الرب هو المُمِد، الله عزَّ وجل خالق ورب ومسيِّر، الخالق خَلَق، والرب يُمِد، والمسيِّر يحرِّك، ﴿ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ .

 

معاني الجبال الراسيات:


﴿ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ(10)﴾

[ سورة فصلت ]

هذه الأرض جعل الله فيها رواسي، والرواسي هنا الجبال، وسمَّاها الله رواسي لأنها ترسو في أعماق القشرة الأرضيَّة، وهذا الرُّسو يُثبِّت طبقات الأرض، لأن كل طبقةٍ لها كثافة محدَّدة، فإذا دارت الأرض مع دورانها ومع اختلاف كثافات طبقاتها ربَّما اضطربت هذه الطبقات، فلئلا تضطرب جُعِلت هذه الجبال كالأوتاد تربط طبقات الأرض ذات الكثافات المُختلفة بعضها ببعض لئلا تضطرب الأرض، هذا معنى من معاني الجبال الراسيات، ﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ﴾ .

المعنى الآخر: هو أن الأرض حينما تدور دورةً سريعة لابدَّ من أن تضطرب، لئلا تضطرب تأتي الجبال في أماكن محدَّدة، وفي حجوم محدَّدة، وفي أوزان محدَّدة، كما نفعل تماماً بعجلة السيَّارة لئلا تضطرب في أثناء الدوران السريع، إذْ نضع بعض قطع الرصاص في أماكن محدَّدة وفي أوزان محدَّدة لئلا تضطرب العجلة، هذا معنى آخر من معاني الجبال الراسيات، ﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا﴾ .

 

الثروات من بركات الأرض:


﴿ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10)﴾

[ سورة فصلت ]

معنى ﴿وَبَارَكَ فِيهَا﴾ أي أودع فيها الحديد، والنحاس، هذه المعادن التي يحتاجها الإنسان بشكلٍ دقيق، هذه المعادن جعلها الله على شكل فِلزَات مختلطة بالتراب، يأخذها ويصهرها، ثم يأخذ منها تلك المعادن الصافية التي تُعينه على حياته، فالأرض ممتلئة بالخَيْرات، ممتلئة بالثروات، ممتلئة بالمعادن، ممتلئة بالفلزات، وهذا معنى قول الله عزَّ وجل:

﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6)﴾

[  سورة طه ]

معنى ﴿وَبَارَكَ فِيهَا﴾ أنت بحاجة إلى معدن خفيف، متين وخفيف الألومنيوم، بحاجة إلى معدن ينصهر في درجة مئة، فإذا برَّدته تمدَّد هذا الرصاص، أنت بحاجة إلى معدن بكميات كبيرة جداً لا ينصهر إلا في ألفٍ وخمسمئة درجة، ذلك الحديد، أنت بحاجة إلى معدن يكون قيمةً للتداول هو الذهب، بحاجة إلى معدن آخر. 

طبعاً إخواننا الكرام الذين درسوا بعض العلوم الطبيعيَّة، درسوا الفيزياء والكيمياء يعرفون ما معنى المعادن، وأشباه المعادن، والعناصر، وكل معدن له تركيب، وكل تركيب له خصائص فيزيائيَّة وكيميائيَّة، هذه المعادن تتشابه في بنيتها الأساسيَّة، وتختلف في صفاتها الفيزيائيَّة والكيميائيَّة، هذه المعادن صُمِّمَت خصيصاً للإنسان، بل إن هذه العناصر - وكلمة عناصر أوسع من كلمة معادن- هذه العناصر متدرِّجة، العنصر الأول يوجد على مداره الخارجي كهروب واحد، العنصر الثاني كهروبان وهكذا، هناك مدارات تصل إلى ثمانية مدارات في بنية الذرَّة. 

الشيء الذي يجذب النظر أن بين عنصرين كهروباً واحداً، الأول غاز والثاني صُلب، تعديل كهروب واحد على مدار الذرَّة يغيِّر طبيعة العنصر، من عنصرٍ غازي إلى عنصرٍ صُلب، إذاً: هذا معنى ﴿وَبَارَكَ فِيهَا﴾ أي أودع في الأرض ثروات، أودع فلزات، أودع معادن، وعدد المعادن كثير جداً، وأشباه المعادن كثيرة. 

الإنسان أحياناً يظن أنه انتفع بهذه الفلزات، ليس هذا صحيحاً، هي حينما خلقها الله عزَّ وجل صمَّمها لينتفع بها، أي وفي أصل خصائصها مصمَّمةٌ كي ينتفع بها الإنسان، كي تكون الأرض للإنسان كالبيت المعمور فيها كل شيء.

 

معنى: وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ:


﴿ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ(10)﴾

[ سورة فصلت ]

هذه الأرض بعد أن كانت ملتهبة، وبعد أن مرَّت بأطوارٍ وأطوار، وحقبٍ وحقب حتى ابترد سطحها، وتجمَّدت قشرتها، وأصبحت صالحةً ليكون فيها المخلوق جاءت المياه، وجاءت الرياح، وتفاعلت المياه مع الرياح، والرياح والمياه مع القشرة حتَّى تفتَّت تربتها، بعد أن تفتَّت قشرتها وأصبحت تربةً صالحةً للزراعة ظهر النبات، ومع ظهور النبات ظهر الحيوان، ثم جاء المخلوق الأول الذي هو الإنسان، الإنسان له قوت يقتات به، أساس قوته النبات والحيوان، فإذاً الأرض مرَّت بيومين من أيام الله، هذا كما قلت قبل قليل: خلق إعداد لا خلق إيجاد، ومرَّت بأربعة أطوارٍ حتى أصبحت صالحةً لإقامة الإنسان، إذاً: ﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10)﴾ .

بعضهم قال: الأيام الأربع هي الفصول الأربع التي من خلال تبدُّل الحرارة، والرطوبة، والرياح، والعوامل الجويَّة ينضُج النبات، هذا رأيٌ آخر، ﴿وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10)﴾ .

 

أصل الكون:


﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11)﴾

[ سورة فصلت ]

هنا بعضهم وقف عند ثمَّ، يا تُرَى هذه ثمَّ للترتيب الزماني أم للترتيب الذِّكْري؟ أي الله عزَّ وجل ذكر نشأة الأرض قبل نشأة السماء، هل تحتمل أن تكون ثم للترتيب الزمني أم للترتيب الذكري؟ كِلا الرأيين وارد، ومع كل رأي من هذه الآراء أدلَّته.

 ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء﴾ معنى استوى إلى السماء أي قصد، هكذا يقول المفسِّرون.

﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ﴾ أصل الكون كما تروي بعض النظريات كان سَديماً أي غازاً وغباراً، ومن الغاز والغبار تشكَّلت النجوم والمجرَّات.

 

الكون كلُّه يأتمر بأمرِ الله وللإنسان حرية الاختيار:


﴿ ثمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ(11)﴾

[ سورة فصلت ]

هذه الآية تفيد أن الله سبحانه وتعالى كل الكون يأتمرُ بأمره، خلق الإنسان ومنحه حرية الاختيار، وخلق الجن ومنحه حرية الاختيار، لكن ما سوى الجن والإنس فكل المخلوقات؛ الجمادات، والحيوانات، والملائكة ليس لها اختيار، إنما هي خاضعةٌ لأمر الله عزَّ وجل، إلا الإنسان أعطاه الاختيار، يخضع أو لا يخضع، لكن يقطف ثمن خضوعه إذا خضع، ويدفع ثمن معصيته إذا عصى. 

﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)﴾

[ سورة الأحزاب ]

المَلَك مستسلمٌ لله عزَّ وجل، الحيوان تكفيه غريزته، الجمادات تأتمر بأمر الله عزَّ وجل ليس لها اختيار، ليست مكلَّفة، إلا الإنسان كُلِّف حمل الأمانة، وأمانته هي نفسه التي بين جنبيه:

﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)﴾

[  سورة الشمس  ]

إذاً: ربنا عزَّ وجل في هذه الآيات يبيِّن لنا حجم جريمة الكفر، حجمها الكبير، أتدرون أيها الناس حينما تكفرون أنتم تكفرون بمن؟ بالذي خلق الأرض في يومين، أي بهذه الحِقَب الطويلة من كرةٍ ملتهبة، إلى قشرةٍ مائعة، إلى قشرةٍ متجمِّدة، ثم قدَّر أقواتها في أربعة أيام؛ الماء، والهواء، وتفتيت التُربة، والعصور المطيرة، وعصور النباتات العملاقة، ثمَّ نشأة الحيوان، وبعدها جاء المخلوق الأول الذي هو الإنسان.

أحياناً يقول لك: هذا البيت استغرق إنشاؤه عشر سنوات، كلَّما كان البيت أكثر فخامةً، وأوسع مساحةً، وأدقَّ زخرفةً يحتاج إلى أمد طويل، طبعاً هذا على مستوى الإنسان، ولكن الإعداد المُتقن دليل العناية بالإنسان، ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ أي أن الكون كلُّه يأتمر بأمر الله عزَّ وجل كن فيكون، ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ﴾ إذاً قد تكون الأرض بدأ الله بها على أن ثمّ للترتيب الزمني، وقد تكون الأرض والسماوات خُلِقتا معاً على أن ثم للترتيب الذكري، كلا المعنيين وارد.

 

الآيات التالية تتحدَّث عن أصل خلق السماوات والأرض:


﴿ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ(12)﴾

[ سورة فصلت ]

طبعاً ﴿أَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا﴾ هنا السماوات السَبع قد تكون سبعًا، وقد يكون هذا الرقم للتكثير، أي السماء طبقات بعضها فوق بعض، ولو عُدنا إلى كتب الفَلَك لوجدنا أن هناك طبقات؛ طبقة الهواء هذه سماء، طبقة بعد الهواء، طبقة بعد التي بعد الهواء، هذه الطبقة سمكها مثلاً خمسون كيلو متراً، هذه سمكها ألف كيلو متر، هناك في كتب الفلك إشارة إلى هذه الطبقات، لكن كلمة سبعة في اللغة قد تعني الكَم، وقد تعني التكثير، هناك طبقاتٌ في السماء كل طبقةٍ لها وظيفتها الدقيقة، وخصائصها، هواؤها، وكثافتها، ووظيفتها، وخصائصها، ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ﴾ بعضهم قال: السماء الدنيا هي درب التبابِنَة، أي المجرَّة التي نحن فيها، والتي يبلغ طولها مئة وخمسين ألف سنة ضوئيَّة، كلُّكم يعلم أن بين الأرض والقمر ثانية ضوئيَّة واحدة، وبين الأرض والشمس ثماني دقائق، المجرَّة- مجرَّتنا - طولها مئة وخمسون ألف سنة ضوئيَّة، هذه مجرَّتنا، المجموعة الشمسيَّة تبدو نقطةً صغيرةً في هذه المجرَّة، وكما أقول لكم دائماً: إن نجم قلب العقرب في برج العقرب هذا يتسع للشمس والأرض مع المسافة بينهما، وبعض المجرَّات تبعد عنَّا ستة عشر ألف مليون سنة ضوئيَّة، إذاً: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ﴾ سُدُم، ﴿فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ﴾ إذاً: هذه الأيام التي ذُكرت في خلق الأرض، وفي تقدير الأقوات، وفي خلق السماوات والأرض هي أيام الله، وليست كالأيام التي نعرفها، ﴿وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا﴾ وظيفتها، مهمَّتها، خصائصها، دورها، (وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ﴾ هذه النجوم المتلألئة التي تُزَيِّن السماء الدنيا، ﴿وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ حفظاً من الشياطين كما ورد في بعض الآيات الأخرى. 

على كلّ هذه الآيات تتحدَّث عن أصل خلق السماوات والأرض، كلَّما تقدَّم العلم كشف جانباً عن عظمة هذه الآيات الكونيَّة، فكأن هذه الآيات معجزةٌ مستمرَّةٌ لهذا الكتاب الذي بين أيدينا، كلَّما تقدَّم العلم كشف جانباً من جوانب عظمة هذه الآيات القرآنيَّة التي وصفت الآيات الكونيَّة. 

 

من أعرض عن قبول الدعوة الإسلامية أصابه عذاب مهلك: 


لأن جريمة الكفر أبشع جريمة، وأكبر جريمة أن تكفر بالذي خلقك، أن تُكذِّب الذي أرسل هذا الكتاب ليهديك إلى سواء السبيل، قال: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا﴾ أي يا محمَّد قل لهم: فإن أعرضوا عن قبول هذه الدعوة، إن لم يستجيبوا، إن لم يؤمنوا، إن كذَّبوا، ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ﴾ الأقوام السابقة التي كذَّبت الرسل جاءها العذاب الأليم، والعذاب المُهْلِك.

 

عبادة الله وحده:


﴿ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14)﴾

[ سورة فصلت ]

ملخَّص هذا الدين كلِّه ألا تعبد إلا الله، والعبادة كما تعرفون خالص الحُب، وخالص الطاعة، وخالص الانقياد إلى الله عزَّ وجل، ﴿أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا﴾ وهذا قول كل مشركٍ وكل كافر من قديم الزمان إلى الآن.

 

جواب قديم يتجدَّد: قَالُوا لَوْ شَاء رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ:


﴿ إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاء رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14)﴾

[ سورة فصلت ]

أي نحن لا نصدِّق أن الرسل من بني البشر، إذًا لو أن الرسول من الملائكة، وأمركم بأمر ماذا تقولون له؟ يا أخي أنت ملك ونحن بشر، لا يمكن أن يكون النبي إلا من بني البشر، ولا يمكن إلا أن تجري عليه كل خصائص البشر، فإذا انتصر على نفسه كان سيِّد البشر، وكان قدوةً لنا، ومهمة القدوة في الأنبياء أبلغ من مهمَّة التبليغ، إذاً: ﴿قَالُوا لَوْ شَاء رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾ طبعاً من شأن شرع الله عزَّ وجل أن يَحُدَّ من شهوات الكفَّار، فالكافر حينما يأتي منهجٌ إلهي يحدُّ من شهواته، ما السبيل إلى التخلُّص من هذا المنهج؟ تكذيبه، فتكذيب المنحرفين، تكذيب العصاة، تكذيب الذين يُقيمون على شهواتهم الدنيئة، هذا التكذيب هو دفاعٌ عن شهواتهم، ودفاعٌ عن مصالحهم، ودفاعٌ عن مكتسباتهم فكذَّبوا، قالوا: ﴿فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾ .

 

استكبار الإنسان على الله دائماً بغير الحق:


 قال: 

﴿ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15)﴾

[ سورة فصلت ]

لأن الاستكبار على الله عزَّ وجل بغير الحق دائماً، الإنسان مخلوق حادث سبقه عدم، ويتبعه عدم، أما ربنا جلَّ جلاله فهو الذات الكاملة، واجب الوجود، الأبدي السرمدي، الذي لا أول له ولا آخر له، أيوازن خالق الكون مع مخلوقٍ حادث؟! إذاً استكبار هذا الإنسان على الله استكبارٌ دائماً بغير الحق، لا يعقل أن يكون استكبار الإنسان بالحق، بل إن هذه الآية لها معنى دقيق، قد يفهم بعضكم من هذه الآية أن عاداً استكبروا بغير الحق، فهل هناك استكبار بالحق؟ لا، كلا، هذا ليس قيداً احترازياً، هذا قيدٌ وصفي، أي من شأن الاستكبار دائماً أنه بغير الحق، الإنسان ضعيف، والإنسان عاجز، والإنسان جاهل، والإنسان فقير، يقوى بالله، ويعلم بالله، فإذا افتقر الإنسان إلى الله أصبح غنياً، فإذا استغنى عن الله أصبح فقيراً، إذا التجأ إلى الله يطلب أن يعلِّمه علَّمه الله عزَّ وجل، فإذا استغنى بعلمه المادي عن علم الله عزَّ وجل أصبح جاهلاً، لهذا: "يظل المرء عالماً ما طلب العلم، فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل" .

 

صفتان أساسيتان في الإنسان إما أن يعبد الله أو يستكبر عن عبادته:


﴿ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15)﴾

[ سورة فصلت ]

دائماً عندنا صفتان أساسيَّتان؛ العبوديَّة لله والاستكبار على الله، الكافر مستكبر، المؤمن متعبِّد لله عزَّ وجل، والمؤمن حينما يعبد الله يرفعه الله، يعزّه الله، يقوِّيه الله، يغنيه الله، يرفعه، والكافر حينما يعتدّ بعلمه يرتكب حماقاتٍ لا حصر لها، وحينما يعتدّ بقوَّته يوقعه الله في حتفه من خلال تدبيره، الدعاء الذي يدعوه بعضهم: "اللهمَّ اجعل تدميرهم في تدبيرهم" ، أي يجعل الله تدبيره ثمناً لتدميره، إذاً: هناك نموذجان؛ استكبار وعبوديَّة لله عزَّ وجل، فأنت حينما تعبد الله يرفعك الله، وحينما تستكبر تدفع الثمن باهظاً في الدنيا أو في الآخرة.

 

قاصمة ظهور المستكبرين: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً:


﴿ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15)﴾

[ سورة فصلت ]

الإنسان أحياناً إذا بلغ قمة النجاح، الحقيقة البطولة ليس أن يبلغها، البطولة أن يبقى فيها، وإن كان الطريق إلى هذه القمة شائكاً، ووعراً، وملتوياً، وفيه حُفَر، وفيه أكمات، وفيه عقبات، لكن إذا وصلت إلى قمة النجاح قد تصاب بمرض أخطر، ألا وهو الغرور، والغرور يهوي بك إلى الحضيض، فحينما شعروا بقوَّتهم قالوا: ﴿وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾ لو أن نقطةٍ دم تجمَّدت في بعض أوعية دماغ الإنسان لَشُلَّت حركته، أو لفقد ذاكرته، أو لاختلَّ عقله، أو لفقد بصره، أو لفقد سمعه، نقطة دم واحدة، فكيف يقول: أنا؟! ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾ ، وكم من حادث حدث تحت سمعنا وبصرنا؟ إنسان ملء السمع والبصر أصبح خبراً بعد أن كان ملء السمع والبصر، الإنسان حياته متوقِّفة على نبضات قلبه، كم من حادث موت مفاجئ غير متوقَّع!

 

كلَّما ازداد علم الإنسان كلما تواضع لله:


إذاً: 

﴿ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ(15)﴾

[ سورة فصلت ]

أيها الإخوة؛ كلَّما ازداد علم الإنسان قاده علمه إلى التواضع، لأنه يرى عظمة الله عزَّ وجل، ويرى نفسه لا شيء، والتواضع حقيقةً هو قد يكون سلوكاً ذكياً، أما التواضع الحقيقي الذي هو من لوازم طاعة الله عزَّ وجل فأساسه رؤية، إذا رأيت عظمة الله عزَّ وجل ضَؤلَت نفسك في نظرك، فلا يوجد إنسان متكبِّر إلا وهو جاهل، ولا يوجد إنسان متواضع تواضعاً حقيقياً، تواضع العبوديَّة لله إلا وهو عالِم، فكلَّما رأيت عظمة الله عزَّ وجل رأيت صِغَرِ نفسك، لهذا قال عليه الصلاة والسلام في أدعيته:

عن بريدة بن الحصيب الأسلمي:

(( اللهم اجعلْني شكورًا، واجعلْني صبورًا، واجعلْني في عيني صغيرًا، وفي أعيُنِ الناسِ كبيرًا . ))

[  البزار : البحر الزخار:  خلاصة حكم المحدث : فيه عقبة الأصم ليس به بأس أخرجه البزار واللفظ له، والديلمي في الفردوس ]

لكن بعض الناس يرى نفسه في عينه كبيراً، وهو في أعين الناس صغير.

 

التواضع الحقيقي أساسه رؤيةٌ صحيحة:


إذاً: التواضع الحقيقي أن ترى عظمة الله عزَّ وجل، أن ترى رحمة الله، أن ترى علمه، أن ترى قدرة الله، كلَّما ارتقيت في معرفة الله صار هناك معرفة ملازمة لهذه المعرفة، تزداد معرفةً بعلم الله ومعرفةً بجهل الإنسان، هذا ما قاله الإمام الشافعي: "كلَّما ازددت علماً بالله ازددت علماً بجهلي"

إذاً التواضع الحقيقي أساسه رؤيةٌ صحيحة، هذه الرؤية الصحيحة ينتج عنها تحجيمٌ لذات الإنسان، فإذا عَمِيَ الإنسان عن عظمة الله وشعر أنه قوي، وأنه غني، وأن مقاليد الأمور بعضها بيده، وأن الناس من حوله متزلِّفون، هذا الشعور الكاذب ربَّما قاده إلى الهلاك، ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾ أي ربنا عزَّ وجل قادر أن يدمِّر إنساناً يرى نفسه أقوى الأقوياء على أتفَهِ الأسباب، فالإنسان يشلّ بسبب حادث سير، أحياناً بغلط ببعض الأدوية يفقد بعض الحواس، الإنسان ممكن أن يحدث له خلل في بعض أعضائه فيجعل حياته جحيماً، الإنسان يعيش بألطاف الله عزَّ وجل، وفي قبضته، فكلَّما ازداد علمك تواضعت، كلَّما ازداد علمك عبدَّت الله عزَّ وجل، كلَّما ازداد علمك تأدَّبت مع الخلق، تجده أديباً، من أين جاء هذا الأدب؟ من رؤية الحقيقة، الأمر كلُّه بيد الله، وكل هؤلاء البشر بيد الله، لذلك ورد: "الذنب شؤمٌ على غير صاحبه" ، فإذا ارتكب الإنسان ذنباً في خطر من حوله يقعون في ثلاثة مطبَّات قال: إذا ذكره فقد اغتابه، وإن رضي به شاركه في الإثم، وإن عيَّره ابتلي به. 

تصوَّر إذا ارتكب الإنسان ذنباً فهناك ثلاثة مطبَّات يمكن أن تقع فيها أنت الذي لم تذنب؛ إن عيَّرته فهذا جهل ابتُليت به، إن أقررته على ذنبه شاركته في الإثم، إن ذكرت ذنبه للناس فقد اغتبته، فإذا كان من الممكن أن يكون للعبوديَّة مؤشِّر، وللعلم مؤشِّر، كلَّما ازداد علمك ازدادت عبوديَّتك لله عزَّ وجل، كلَّما ازداد علمك ازداد تواضعك، فلا ترى إنساناً في قمة النجاح إلا وهو متواضع، لأنه يعرف أن وجوده بيد الله، ذكاءه بيد الله، خبراته بيد الله، قراره الحكيم بيد الله، رؤيته الصحيحة بيد الله ، إدراكه العميق بيد الله، فإذا قال: أنا، فقد أهلك نفسه، وأربع كلمات مهلكات؛ أنا، ونحن، ولي، وعندي. 

 

كل أمّةٍ مستكبرة لها يوم عند الله تعالى:


قال:

﴿ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16)﴾

[ سورة فصلت ]

يا تُرى هذه الآيات أليس هناك آيات مشابهة لها في حياتنا الدنيا؟ يقول لك: إعصار أصاب ولاية في بعض الدول المستكبرة، فسبَّب خسائر بثلاثين مليار دولار، وهو إعصار واحد. 

فيضان أتلف المحاصيل أحياناً، زلزال جعل عاليها سافلها، ربنا عزَّ وجل نرى بأعيننا كل يوم تارةً أعاصير، تارةً فيضانات، تارةً زلازل، تجد محصولاً زراعياً ثمنه مئات الملايين يأتيه صقيعٌ في دقائق، هذا المحصول كلُّه يُدمَّر، فنحن جميعاً في قبضة الله، فكلَّما عرفنا حجمنا المتواضع وعظمة ربنا كان الله في عوننا، ورفعنا، وأغنانا، وأعزَّنا، أما إذا اعتززنا بمن يموتُ فإن عزَّنا ميتُ..

اجعل لربِّك كل عزِّك يستقرُّ ويثبت         فإذا اعتززت بمن  يموت فإن عزَّك ميِّتُ

[ الشافعي ]

* * *

قال: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ فما من أمَّة مستكبرة إلا ولها يومٌ عند الله.

﴿ وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)﴾

[  سورة الإسراء ]

أية قريةٍ استكبرت، أحياناً قرية من القرى يلمع اسمها، يكثر دخل أبنائها، ينتشر الفساد والانحراف، يفعلون كل المُنكرات، ويظنون أنهم في مأمن، وأن هذا الدخل ثابت، وأن هذه الدنيا مستمرَّة لهم، يستكبرون، لذلك الله عزَّ وجل قال: 

﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)﴾

[ سورة النحل  ]

هذه القصص التي بين أيدينا في كتاب الله هناك آلاف القصص المشابهة التي نستمع إلى أخبارها كل يوم.

 

عذاب الآخرة أخزى من عذاب الدنيا لأنه عذاب مستمر إلى أبد الآبدين:


﴿ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ (16)﴾

[ سورة فصلت ]

مهما رأيت من عذاب الخِزي في الحياة الدنيا فعذاب الآخرة أخزى لأنه عذاب مستمر إلى أبد الآبدين.

 

الإنسان مخير:


قال:

﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17)  ﴾

[ سورة فصلت ]

﴿  فهل هناك من آيةٌ أوضح تبيِّن أن الإنسان مخيَّر من هذه الآية؟ ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17)﴾

 

المؤمن من الامتحان إلى النجاة والفوز:


﴿ وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18)﴾

[ سورة فصلت ]

أي يجب أن تعتقد من خلال هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى يمتحن المؤمن لكن في النهاية يُنَجِّيه، ﴿وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18)﴾ .

 

سلطان الله عزَّ وجل أمره نافذٌ في كل شيء:


﴿ وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19)﴾

[ سورة فصلت ]

الآن عندنا موضوع دقيق جداً؛ سلطان الله عزَّ وجل أمره نافذٌ في السماوات والأرض، ونافذٌ في كل شيء، ونافذٌ في أعضائك، قال: ﴿وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20)﴾ .

﴿وَجُلُودُهُمْ﴾ كناية لطيفة جداً عن أن الفواحش التي ارتكبوها بجلودهم هذه الجلود تشهد عليهم، ﴿بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(21)﴾ تصوَّر أنك لا تملك جلدك، أحياناً الإنسان في الدنيا إذا كان عنده أتباع فأتباعه يأتمرون بأمره، لا يجرؤ تابع أن يكون كلامه مخالفا لكلام متبوعه، يقول لك: هؤلاء جماعتي، لا تتكلَّموا هذا الكلام فلا يتكلمون، وإذا قال لهم: تكلَّموا فيتكلَّمون، لكن يوم القيامة لست مهيمناً على جلدك، ولا على سمعك، ولا على بصرك، ولا على ولسانك، ﴿قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ أحياناً الإنسان في الدنيا يعتزّ بذكائه، يرسم خططاً، يكذب، يغيَّر الحقائق، يزوِّر، يظن أن الناس أغبياء، لكن بالآخرة لا يستطيع أن يفعل من هذا شيئاً.

﴿ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)﴾

[ سورة يس ]

فهنا الله عزَّ وجل سلطانه نافذٌ في السماوات والأرض، ونافذٌ في أقرب الأعضاء إليك، إنها تنطق ضدَّك يوم القيامة، الإنسان لا يجرؤ ابنه أن ينطق ضدَّه أو يتركه يفعل ذلك، لكن أعضاءك وجلدك الذي عصيت الله به ينطق شاهداً عليك يوم القيامة، ﴿وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21)﴾ .

 

من أيقن أن الله يعلم وسيحاسب لابدَّ من أن يستقيم على أمره:


﴿ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ(22)﴾

[ سورة فصلت ]

أيها الإخوة الأكارم؛ إذا علمت أن الله يعلم فقد حُلَّت مشكلتك، لأنك إذا علمت أن الله موجود، وأن الله واحد، وأن الله كامل- وهذه ثلاثة أوصاف- وأن الله يعلم، وسوف يحاسب لابدَّ من أن تستقيم على أمر الله، موجود، وواحد، وليس معه شيء، وكامل لا يظلم مثقال ذرَّة، ويعلم ما تفعل، وسوف يحاسب، إذا أيقنت بهذه الكلمات الخَمْسة تجد نفسك تأتمر بما أمر، وتنتهي عما عنه نهى وزجر، لذلك الآية الكريمة:

﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)﴾

[  سورة الطلاق  ]

اختار الله من أسمائه العلم والقدرة، فعلمه يطولك وقدرته تطولك، يعلم وسيحاسب، فإذا أيقنت أنه يعلم وسيحاسب لابدَّ من أن تستقيم على أمر الله.

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور