وضع داكن
23-04-2024
Logo
الدرس : 05 - سورة فصلت - تفسير الآيات 30-32 اقتران الإيمان بالاستقامة والدعوة إلى الله بالعمل الصالح
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

الغرضُ من استعمال التوكيد في القرآن الكريم:


 أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الخامس من سورة فصِّلت، ومع قوله تعالى:

﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)﴾

[ سورة فصلت ]

أيها الإخوة، إنَّ حرف مشبَّهٌ بالفعل يفيد التوكيد، فهنا تؤكِّد ماذا؟ ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ﴾ فإنَّ تفيد توكيد أو تأكيد إسناد الخبر للمبتدأ، تقول: العلمٌ نافعٌ، يقول لك أحدهم: أين هو نفعه؟ المتعلِّمون أقلّ الناس دخلاً؟ تقول له: إنَّ العلم نافع، تريد أن تؤكِّد إسناد الخبر للمبتدأ، أي العلم نافعٌ قطعاً، أؤكِّد لك أنَّ العلم نافع، فربنا سبحانه وتعالى إذا جاء في كلامه أدوات توكيد فالتوكيد لنا ليطمئننا، ليزيل وحشتنا، ليجعلنا نطمئن إلى وعده، فالتوكيدات التي تأتي في القرآن الكريم المقصود منها المؤمن.

 

الإيمان ما وقر في القلب وصدَّقه العمل:


﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)﴾

[ سورة فصلت ]

قد تسألون هذا السؤال: هل يكفي أن يقولوا: ربنا الله؟ كلمة (قال) في القرآن الكريم وفي السُّنة المطهَّرة تعني أنه اعتقد جازماً، عملية تثبيت، أي هذا الإنسان بحث، ودرس، واستقصى، وتأمَّل، وحلَّل، وبحث عن الأدلَّة والأسباب، ثم استقرَّت في نفسه حقيقة، فإذا استقرَّت يقول: أنا مؤمنٌ بكذا، لكن بعد ظهور النفاق صار القول يحتاج إلى أن يؤكِّده العمل، وأن يؤكده ما في القلب، الإيمان إقرارٌ باللسان، وعملٌ بالأركان، "ليس الإسلام بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر في القلب وصدَّقه العمل" .

أما كلمة قالوا هنا الإنسان بعد البحث، والدرس، والتأمُّل، والاستقصاء، والأخذ، والرد استقرَّت في نفسه حقيقة، فلمَّا استقرَّت عبَّر عن استقرارها بأنه قال كذا.

 

مقام الربوبية:


﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾ ربنا تعني مُرَبِّينا، لا يوجد كلمة، لا يوجد اسم من أسماء الله عزَّ وجل أقرب للمؤمن بخاصَّة، وللإنسان بعامَّة من كلمة رب.

إذ مقام الربوبيَّة يحتاج إلى عِلم، ويحتاج إلى رحمة، ويحتاج إلى خبرة، و يحتاج إلى قوَّة، و يحتاج إلى غنى، تصوَّر أباً في أعلى درجات الفهم، والغنى، والقوة، والحكمة، والنزاهة، وعنده طفلٌ صغير يربيه، يربي جسده، فإذا احتاج إلى عمليَّة جراحيَّة يجريها له عند أمهر الأطبَّاء، إذا احتاج إلى تقويم أسنان يجري هذا التقويم  عند أمهر الأطبَّاء، إذا رأى في سلوكه انحرافاً يسلك معه طريق التربية الرادعة أو المشجِّعة، فالتربية مقام أساسه العلم والرحمة، وأساسه الحكمة، وأساسه العطف، وأساسه القوَّة، وأساسه الغنى، وأساسه الخبرة، فإذا أيقنت أن الذي يربيك حقيقةً كيف يربيك؟ أولاً اختارك من هذا الأب وهذه الأم بحكمةٍ ما بعدها حكمة، ولو كُشف الغطاء لاخترت الواقع، اختارك من أب وأم، واختارك أن تكون في هذه البلدة، وأن تأتي إلى الدنيا في هذا الزمن، أعطاك شكلاً خاصَّاً، وقدرات خاصة، ومعطيات خاصة، وظروفاً بيئيَّةً خاصَّة، هذه الأم وذاك الأب، وهذا المكان وذاك الزمان، وهذه القدرات وتلك المعطيات، وهذه الظروف التي مررت بها هذه من عند حكيمٍ، عليمٍ، خبيرٍ، رحيمٍ، قويّ، غني، وليس في الإمكان أبدع مما كان.

 

لا يكمل إيمان مؤمن حتى يرضى بقضاء الله وقدره:


إذا أيقنت أن ربَّك هو الله، الله عَلَمٌ على الذات، صاحب الأسماء الحسنى والصفات الفضلى، واجب الوجود، الذي بيده مقاليد السماوات والأرض، الكون كله بيده، الأحداث كلَّها من صُنعه، خصوم الإنسان كلُّهم في قبضته، أجهزة الإنسان كلها رهن إشارته، ما فوق الإنسان، وما تحت الإنسان، وما قبل الإنسان، وما بعد الإنسان، وكل ما يجري في هذا الكون بيده.

﴿ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64)﴾

[  سورة غافر  ]

الإله الذي أوجد هذا العالم وسيَّره، هو الموجود والواحد والكامل، كلمة الله تعني مقام الخالق، مقام الخلق، مقام الربوبيَّة، مقام التسيير والألوهيَّة، تعني الأسماء الحسنى، تعني الصفات الفضلى، ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا﴾ الإنسان لا يستكمل إيمانه إلا إذا عَلِم أن ما أصابه لم يكن ليُخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، الإنسان أحياناً من بعض الأمثلة الماديَّة يفهم بعض الحقائق. 

تصوَّر طفلاً صغيراً وله أبٌ عظيم؛ عظيم برحمته، عظيم بعلمه، عظيم بحكمته، عظيم بحرصه، عظيم بإخلاصه، عظيم بقوَّته، كل هذه الخبرات، وتلك القُدرات، وهذه الحِكَم، وتلك العلوم كلها من أجل أن يكون هذا الابن في أعلى درجات الرُقي، الأب مربّ والأم مربيَّة، أما إذا وضعنا تربية الأب والأم أمام تربية الله عزَّ وجل فهي لا شيء، لأنهما يربيان ابنهما على حسب علمهما، وشتَّان بين علم المخلوق وعلم الخالق، يربيان ابنهما على قدر إمكاناتهما، وشتَّان بين محدوديتهما وبين طلاقة قدرة الله عزَّ وجل، فالإنسان حينما يؤمن أنّ الله هو المربي تُحلُّ كل مشكلاته، لأنه رحيم على حكيم على عليم، وهذا الذي ساقه لك قراره، هذا أمره، لهذا قالوا: "الإيمان بالقدر يذهب الهمَّ والحزن" ، لا يوجد مشكلة، وليس في الإمكان أبدع مما كان.. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 

(( الْمُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وفي كُلٍّ خَيْرٌ. احْرِصْ علَى ما يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ باللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ، وإنْ أَصَابَكَ شَيءٌ، فلا تَقُلْ: لو أَنِّي فَعَلْتُ كانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللهِ وَما شَاءَ فَعَلَ؛ فإنَّ (لو) تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ. ))

[  صحيح مسلم  ]

الإنسان لا يسعد إلا إذا اطمأنَّ إلى جهةٍ عظيمةٍ ترعاه وتربيه، لذلك ترى معنويات المؤمن عاليةً جداً، من أين جاءها هذا العُلو؟ من ثقته أن الله هو المُربي. 

 

تربية الأب والأم مظهرٌ لعناية الله بالإنسان:


مرَّة سمعت كلمةً في الطريق أثارت مشاعري، أحدهم يقول للآخر: إذا لم يكن له أب ألا يوجد له رب؟ شعرت أن ربنا جلَّ جلاله هو المُربي وحده، وما تربية الأب وما تربية الأم إلا مظهرٌ لعناية الله بهذا الإنسان، ليس هناك أمرٌ في كتاب الله من أوله إلى آخره، ولا في سنة رسول الله، لا يوجد أمر يقول لك: كُلِ الطعام، شيء بديهي، الله عزَّ وجل أودع فيك الدافع إلى تناول الطعام، إنه دافع قوي، فأنت لا تنام الليل إن كنت جائعاً، تبحث عن الطعام من دون أن تحتاج إلى أمر يقول لك: كُلِ الطعام، رَكَّبه في طبيعتك، ذكرت هذا المثل تمهيداً لمثل آخر: الله عزَّ وجل أودع حبَّ الأبناء في قلوب الآباء، الأب لا يسعد إلا إذا كان ابنه سعيداً، لا يقر له قرار إلا إذا كان ناجحاً في عمله، ناجحاً في زواجه، ناجحاً في بيته، ناجحاً في مجتمعه، بل إن الأب يتمنَّى أن يكون ابنه أعلى الناس، وأعلى منه، والأم كذلك، حُبّ الله لهذا المخلوق جُسِّد وتمثَّل في حبّ أمِّه وأبيه له. 

اذهب إلى بعض المصحَّات أو إلى مستشفى الأطفال، وانظر، الأمهات على اختلاف زيِّهن، وانتماءاتهن، ومشاربهن، وثقافاتهن؛ أم مثقَّفة، أم غير مثقَّفة، أم مسلمة، أم غير مسلمة، أم متفلِّتة من الدين، أم منضبطة بأمر الله، كل هؤلاء النسوة يعطفن على أولادهن، ويحدبن عليهن بشكلٍ لا يصدَّق، هذا ما أودعه الله في قلوب الأمهات "إذا أحبَّ الله عبداً ألقى حبَّه في قلوب الخلق"

والله الذي لا إله إلا هو حينما أرى عناية أبٍ أو أمٍّ منصبَّةً على ولدهما لا أرى إلا عناية الله مجسَّدة في عناية الأب والأم. 

قصَّة رمزيَّة لم تقع، لكن لها معنى؛ أمّ كانت تخبز على التنور، وابنها على طرف التنور، فكلَّما وضعت رغيفاً في التنور قبَّلته، نبيّ كريم قال: يا رب، ما هذه الرحمة التي أودعتها في قلب هذه الأم؟ قال: هذه رحمتي، ولو نزعتها لألقته في التنور، وأمامنا بعض الحيوانات تأكل أولادها، حيوانات كثيرة، تربيه إلى أجلٍ، ثم تأكله، من أودع في قلوب الآباء والأمَّهات هذا العطف وذاك الحرص؟ انظر إلى كل الأُسر تقريباً، الأب يسعى ليلاً نهاراً لتزويج أبنائه، لتأمين مستقبلهم، الأم تسعى ليلاً نهاراً لزواج بناتها، بل إن في الأمهات عاطفةً عمياء أي تعطف على بناتها وتراهن في أعلى المستويات وهنَّ لسن كذلك، لكن هذا من تكريم الله للإنسان. 

حينما يكون علمُ الإنسانِ محدوداً يرى أمه وأباه، أما إذا تعمَّق في العلم فيرى رحمة الله تجسَّدت في رحمة الأب والأم، يرى عناية الله تجسَّدت في عناية الأب والأم، يرى حكمة الله تجسَّدت في أنه أودع في قلب الأم والأب هذا العطف وذاك الحب وهذه الرحمة، فكيف أن الإنسان يندفع إلى تناول الطعام، لا يحتاج إلى أمر، ولا توجيه، ولا فريضة، ولا أن يسأل: أخي ما رأي الفقهاء في تناول الطعام؟ لا تحتاج إلى رأي الفقهاء، قم وكُلْ، هذا الموضوع لا يحتاج إلى رأي الفقهاء، هذا الموضوع مركَّب في جِبِلَّتك، مركّب في كيانك. وكذلك رحمة الآباء والأمهات بالأبناء مركَّبةٌ في كيان كل أبٍ وأم، هذا تجسيدٌ لرحمة الله عزَّ وجل، حتى أن بعض المفسِّرين حينما فسَّر قوله تعالى:

﴿ أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)﴾

[ سورة طه ]

فُسِّرَت هذه الآية بأن محبة العباد انعكاسٌ لمحبة الله. 

 

من يفهم على الله أفعاله يكون قد قطع شوطاً كبيراً في طريق معرفة الله:


﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾ أي أنت إذا آمنت أن الله هو الرب، وأنا أقول لكم أيها الإخوة: والله لو كُشِفَ الغطاء، أو لو كشف الله لهذا الإنسان عن حكمة الذي ساقه إليه من المكاره، والصعوبات، والمتاعب، والله الذي لا إله إلا هو إن لم يذب كالشمعة تماماً حباً لله عزَّ وجل، هكذا ينبغي أن يكون، لكن هذا الذي يعترض على أفعال الله، وعلى حكمته، وعلى تصرُّفاته، وقد يطعن في بعض أسمائه الحُسنى هذا إنسان لا يعرف الله.. 

﴿ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)﴾

[ سورة آل عمران ]

أنت ربك الله، فالتربية تبدأ استقمت يشجِّعك، انحرفت يؤدِّبك، كسبت مالاً حلالاً يبارك لك فيه، المال الحرام يتلفه لك، أعطاك درساً قاسياً، وإذا تجبَّر الإنسان قصمه، وإذا تكبَّر أهانه، وإذا تواضع رفعه، فأنت حينما تفهم على الله أفعاله تكون قد قطعت شوطاً كبيراً في طريق معرفة الله.

 

التربية تعني الحرصَ على التأديب:


مركز الثِقل في الآية: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾ الإنسان أحياناً لا يرى الله ربَّه، يرى زيداً أو عُبَيداً، يرى شخصاً قوياً هو ربُّه، يعبده من دون الله، يتمنَّى رضاه، ينفِّذ أمره بتفاصيله، ولو خالفتْ أوامره أوامر الله عزَّ وجل، أما المؤمن فيرى ربَّه الله، قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾ أي آمن بالله خالقاً، وآمن بالله مربياً له، لكن اسم المربّي هو أقرب اسم من أسماء الله الحسنى للإنسان، يربيك، الله عزَّ وجل أحياناً يسوق لك مرضًا، هذا المرض يردُّك إليه، أحياناً يسوق فقرًا، هذا الفقر يُلْجِئُكَ إلى باب عبوديَّته، أحياناً يفعل معك فعلاً بليغاً، يعطيك درساً لا يُنسى، الإنسان أحياناً يتكلَّم كلمة فيها شرك فربنا يؤدِّبه، فالمربي مؤدِّب، لو كان هناك في الطريق ثلاثة أولاد يدخِّنون مثلاً، مرَّ رجل، هذا الرجل أبٌ لأحد هؤلاء الأولاد، وعمّ للثاني، والثالث لا يعرفه، ولا يقربه، أي ليس هناك قرابة، تجد هذا الأب انفعل انفعالاً شديدًا، وكاد يخرج من جلده حرصاً على ابنه، انفعاله مع ابن أخيه أقلُّ، أما هذا الطفل الثالث فيقول له: يا بني امش، اذهب إلى حال سبيلك، الأب يعنِّف ابنه تعنيفًا شديدًا، وأقلّ من هذا التعنيف لابن أخيه، وهذا الطفل الثالث لا يعنِّفه إطلاقاً، إذاً: التربية تعني الحرص، والحرص يعني التأديب أحياناً، فربنا عزَّ وجل لأنه يحبُّنا، ولأنه خلقنا لجنِّةٍ عرضها السماوات والأرض، ولأنه يحرص على سعادتنا فلذلك يؤدِّبنا. 

أحياناً أشبه بالأب الطبيب، لماذا أقول: أب طبيب؟ لأنه يجمع بين الرحمة وبين العلم، فالأب الطبيب إن رأى في جسد ابنه خللاً يمارس عليه كل وسائل الشدَّة، لحمايته من الطعام المؤذي، فالتعليمات قاسية جداً، لأن الحِرص شديد جداً، والرحمة شديدة جداً، فالرحمة مع العلم ليس هناك أعظم منها، هناك أمَّهات جاهلات يرحمن أولادهن رحمةً عمياء، فيسببن لهم الدمار، ولكن رحمة الله مع العلم.

 

ضرورة إتباع الأمانة بالاستقامة:


﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)﴾

[ سورة فصلت ]

استقاموا على أمره، واستقاموا إليه، استقامت عقيدتهم، واستقام قلبهم بالإقبال عليه، واستقامت جوارحهم بالانضباط بأمره ونهيه، الاستقامة تعني أشياء كثيرة، فلان عقيدته غير مستقيمة أي فيها خلل، هؤلاء: ﴿قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾ لكن المعنى الإجمالي هنا: استقاموا على أمره، والشيء الذي يلفت النظر في هذه الآية أن تقول: الله ربيِّ، والإسلام ديني، ومحمدٌ نبيِّ، من دون أن تستقيم على أمر الله، ومن دون أن تتبع سُنَّة رسول الله، فهذا كلامٌ فارغٌ لا يقدِّم ولا يؤخَّر، فعلامة صدق إيمانهم بربِّهم استقامتهم على أمره، ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾ طبعاً إعراب الذين اسم إنَّ، ﴿الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾ الجملة الأولى صلة والثانية معطوفة، كل هذا الكلام اسم إن، أين الخبر؟ الخبر الكلام المتمّ الفائدة، فقد تقول أحياناً: فلانٌ الذي شاهدته معي البارحة، يقول لك: نعم، كان طويل القامة، يقول لك: نعم تذكَّرت، يحمل محفظة، نعم تذكَّرت، يرتدي ثيابًا بنية اللون، يقول لك: نعم ما الذي حصل له؟ يحتاج إلى خبر، الصفة غير الخبر..﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾ اسكت بعدها، يقول لك: ما بهم؟ ما شأنهم؟ ما الخبر؟ الخبر: ﴿تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا﴾ .

 

خطران يهدِّدان الإنسان؛ الخوف من المستقبل والحزن على الماضي:


أيها الإخوة الكرام؛ هناك خطران يعاني منهما كل إنسان، الخطر الأول: الخوف من المستقبل، يقول لك: الله لا يبرِّكنا (يقعدنا)، هو ليس فيه شيء، لكنه خائف أن يبرك، شخص يسمع عن أمراض عضالة يا رب هذه الأمراض صعبة جداً، يا رب عافنا منها، هناك خوف من المستقبل دائماً، من مرض عضال، من فقر مفاجئ، من تدنٍ، من وقف هذا الدخل، من بوار هذه التجارة، أي هناك خوف المستقبل. 

وهناك ندم على ما مضى، يقول لك: لو درست، لو تزوَّجت فلانة، لو اشتريت هذا البيت كان ثمنه عشرين ألفا، الآن ثمنه ثلاثون مليونًا، عرضوه عليَّ، ولم أشتره، فهذا الخوف من المستقبل، والندم على ما فات، هذان الشيئان المُقْلِقَان المؤمن عافاه الله منهما، سُئل سيدنا علي كرَّم الله وجهه عن الزهد فقال في كلمتين: << لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم >> ، فالمؤمن تأتيه الملائكة، كيف أن هناك الشياطين يأتون أولياءهم، يوسوسون لهم، الملائكة دائماً تتنزَّل على المؤمن تطمئنه لمستقبله، وتبعده عن أن يندم لما فاته، ﴿تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا﴾ مما سيكون، ﴿وَلَا تَحْزَنُوا﴾ على ما فاتكم. 

قال لي أخ كريم: أنا كنت قبل خمسين سنة أنشط من الآن، الآن لست نشيطاً، طبعاً، الإنسان إذا تقدَّمت به السن تضعف حركته، يضعف نشاطه، يحتاج إلى قطع غيار، إلى نظَّارة طبيَّة، إلى بدلة لأسنانه، يندم على سن الشباب، كيف كانت أسنانه كاللؤلؤ في فمه، كيف كان حاد البصر، كيف كان يتحرَّك حركة نشيطة جداً، يركض خمسة كيلو مترات، والآن لا يركض، ولا يمشي في الأصل، هذا الندم على ما فات شيء مؤلم، ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ﴾ لا يوجد إنسان لا يترك بيتًا في حيّ خشن، البيوت مزدحمة جداً، الأولاد كُثُر، الصرف الصحي سيئ مثلاً، البيوت غير صحيَّة، ينتقل إلى بيت فخم بحيّ راق، حيث الشمس الساطعة، وحيث المساحات الواسعة والحدائق الغنَّاء يتألَّم.

 

من كرامة المؤمن على الله أن الله يريه مقامه في الجنة:


﴿ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)﴾

[ سورة فصلت ]

لذلك لما يشعر المؤمن بدنوّ أجله، من كرامته على الله أن الله يريه مقامه في الجنة، فإذا أراه مقامه في الجنَّة يقول: لم أرَ شرَّاً قط، ينسى كل المتاعب التي عاناها في حياته، وكل المصاعب، وكل الأمراض حتى كل الأخطار، لذلك ورد في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم:

(( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ   قَالَ: اشْتَكَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ شَكْوَى لَهُ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ يَعُودُهُ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ  ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ فَوَجَدَهُ فِي غَاشِيَةِ أَهْلِهِ فَقَالَ: «قَدْ قَضَى»؟ قَالُوا: لا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَبَكَى النَّبِيُّ ﷺ، فَلَمَّا رَأَى الْقَوْمُ بُكَاءَ النَّبِيِّ بَكَوْا، فَقَالَ: «أَلا تَسْمَعُونَ، إِنَّ اللَّهَ لا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ وَلا بِحُزْنِ الْقَلْبِ، وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا - وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ- أَوْ يَرْحَمُ، وَإِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ».  ))

[ صحيح البخاري ]

ومن أدقِّ توجيهات هذا الحديث أن الرجل المؤمن إذا وافته المنيَّة، وأراه الله مقامه في الجنَّة، يتألَّم كثيراً لأن أهله يبكون عليه، هو في أعلى مقام، وفي أسعد حال، فلذلك علامة المؤمن أنه متفائل، ولا يزيده مضي الزمن إلا رفعةً، تطور الزمن لصالح المؤمن، لأن خطُّه البياني صاعد، ومضي الزمن لمصلحته، لأنه حينما يقوده الزمن إلى الموت، "الموت تحفة المؤمن" ، ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ﴾ هذه الآية تذكِّرنا بقوله تعالى:

﴿ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)﴾

[ سورة البقرة ]

وتوجد آية مشابهة: 

﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)﴾

[  سورة طه ]

اجمع الآيتين، الذي يتبع هدى الله عزَّ وجل لا يضل عقله، ولا تشقى نفسه، ولا يخشى مما هو آت، ولا يندم على ما فات، وأجمل آية توضِّح هذه الآيات:

﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)﴾

[ سورة التوبة  ]

 

الخوف من المجهول والندم على الفائت تدمير للصحة النفسية:


الحقيقة المستقبل مخيف، إذا نشأ الإنسان في معصية الله، ومكَّن حياته، استقرَّت حياته، استقر دخله، لا يقلقه إلا الأمراض التي يلدها الزمان، لا يقلقه إلا المجهول، إلا المؤمن، المؤمن هو مرتاحٌ لعطاء الله، مرتاحٌ لتطمين الله عزَّ وجل، مرتاح لوعْد الله، مرتاح لبشارة الملائكة، فهذا الذي لا يضل عقله، ولا تشقى نفسه، ولا يخشى مما هو آت، ولا يندم على ما فات، ماذا بقي في السعادة؟ هذه كل السعادة؛ لا شقاء ولا ضلال، ولا ندم ولا خوف، ودائماً الندم للماضي والخوف للمستقبل، الأحوال النفسيَّة السيئة تدمِّر الصحَّة النفسيَّة. 

الآن أيها الإخوة أكثر الأمراض أساسها الشدَّة النفسيَّة، الضغط النفسي، القلق، الشعور بالحرمان، الشعور القَهر، المشكلة التي لا حل لها، المؤمن معافىً نفسياً من كل هذه الأمراض، ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾ لكن هذا الكلام يحتاج إلى همم عالية.

 

الفائدةُ من العطف بثُمَّ:


كلمة: ﴿ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾ ثمَّ تفيد الترتيب لا على التعقيب، بل الترتيب على التراخي، فلماذا جاءت ثم؟ لمَ لم يقل الله عزَّ وجل: إن الذين قالوا ربنا الله فاستقاموا؟ أن تقول: ربنا الله، هذه ليست كلمة تقولها عرضاً، هذه تحتاج إلى وقت، تحتاج إلى مُدارسة، تحتاج إلى سؤال وجواب، إلى طلب عِلم، إلى تفكُّر في السماوات والأرض، إلى تلاوة كتاب الله، تحتاج إلى حضور مجالس علم، تحتاج إلى أن تبذل من مالك، من وقتك، من فراغك، من خبرتك، ﴿قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾ أي هذا القول أَخَذَ من جهدهم ووقتهم الشيء الكثير، ﴿ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾ هذا معنى أول، كلمة ربنا الله ربنا لخَّصها بكلمة، لكنها جهد جهيد.

فأنت أحياناً تتكلَّم على حياة إنسان: إنه ولد في مكان كذا، نشأ في المكان الفُلاني، تلقَّى علومه الابتدائيَّة في المدرسة الفلانيَّة، علومه الإعداديَّة والثانويَّة في المدرسة الفلانيَّة، انتسب إلى الجامعة، أنت تقول: ثم نال الدكتوراه، سبع سنوات دراسة، يوجد ماجستير، ودكتوراه، وأطروحات، ومواد متمِّمة، وأستاذ مشرف، وأستاذ فاحص، وأستاذ مقرِّر، وأستاذ يُعطي النتيجة، وأعد المحاضرة، وأعد البحث، وأعد كتابته، بيِّضه لي مرَّة ثانية، يقول لك: سبع سنوات متّ موتًا حتى نلت الدكتوراه، أما في تاريخ الحياة فيقال: ثم نال الدكتوراه، كلمة، هذه الكلمة يقابلها سبع سنوات، هذا معنى ﴿قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾ لكن هذه تحتاج إلى وقت طويل.

﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)﴾

[  سورة العنكبوت  ]

كم درس علم حضرت؟ يقول لك: سبع سنوات لم أتغيَّب عن درس واحد، كم من ماله أنفقه في سبيل الله؟ كم يوم استيقظ صباحاً فقرأ القرآن، وذكر الله عزَّ وجل؟ مئة ألف أو مليون امرأة غضَّ بصره عنها، كلَّما مشى في الطريق يغض بصره مثلاً، فهذه الجهود النظريَّة والعمليَّة، والبذل، والتضحية، وطلب العلم، والتواضع لمن تتعلَّم هذا كلَّه مشمول بقوله: ثم، التي تفيد الترتيب على التراخي، ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾ .

 

علامة المؤمن الصادق المطَبِّق لأوامر الله أنه لا يخاف مما هو آت ولا يندم على ما فات:


الحقيقة أنّ قيمة إيمانك من استقامتك، قبل الاستقامة لا تفكِّر أن إيمانك له قيمة إطلاقاً، لأنه قبل الاستقامة أنت مثل إنسان نظر إلى الشمس في رابعة النهار؛ نظر، صفن، قطَّب جبينه، فكَّر، بعد هذا قال لك: الشمس ساطعة، أنت ماذا فعلت؟ ما فعلت شيئًا، إن قلت: إنها ساطعة، هي ساطعة، إن قلت: ليست ساطعة، هي ساطعة، سواء أثبت سطوعها لم تفعل شيئاً، ولا إذا أنكرت سطوعها فعلت شيئاً، إن قلت: غير ساطعة فلا أحد يصدِّقك، وإن قلت: ساطعة فما فعلت شيئاً، فأنت إذا اعترفت أن الله موجود، تقول: أنا أشهد أنه لا إله إلا الله، لكننا نريد أن نرى استقامتك؛ بيعك، شراءك، التزامك، صدقك، أمانتك، عفَّتك، غض بصرك، إحسانك لزوجتك، ننظر أين عملك؟ فلذلك الله عزَّ وجل جعل الاستقامة علامةً على صدق الإيمان، وإلا فالإيمان نفاق، الإيمان فيه خلل، ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾ قال: هؤلاء ﴿تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا﴾ أي علامة المؤمن الصادق، المطَبِّق لأوامر الله عزَّ وجل، المتمثِّل سنة النبي عليه الصلاة والسلام أنه لا يخاف مما هو آت، ولا يندم على ما فات، وقد ورد في حق الصدِّيق أنه ما ندم على شيءٍ فاته من الدنيا قط.

أيها الإخوة؛ من دواعي استسلامك لله عزَّ وجل شعورك أن الذي حدث وراءه حكمةٌ بالغة، وأن الله بيده كل شيء، وهذا الذي حدث فيه كل أسماء الله الحسنى؛ فيه الحكمة، وفيه العدالة، وفيه الرحمة، وفيه الخبرة، وفيه القوَّة، وفيه الردع، وفيه التربية، كل أسماء الله الحسنى منطويةٌ في أفعاله، لذلك بعضهم قال: حينما يتحدَّث الله عن أفعاله يستخدم ضمير الجمع.. 

﴿ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)﴾

[ سورة يس ]

﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)﴾

[  سورة القدر ]

أما حينما يتحدَّث الله جلَّ جلاله عن ذاته فيستخدم ضمير المُفْرَد.

﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)﴾

[ سورة طه  ]

فإنني وإنَّا، إنَّا أي أفعاله فيها كل أسمائه الحسنى، كل أسمائه الحسنى في أفعاله.

 

وعدُ الله بشارةٌ للمؤمن وسعادةٌ له:


﴿ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ(30)﴾

[ سورة فصلت ]

والحقيقة أنّ بشارة الله للمؤمن، ووعد الله له هو الذي يسعده، كإنسان فقير جداً، ومتعب جداً، يعيش في أصعب الحالات، لكنه موعود بمبلغ كبير يوفِّر له أجمل بيت، وأجمل مركبة، وأجمل مصير، فهذا الوعد القطعي يمتصُّ كل متاعبه في الدنيا، لذلك المؤمن راض، لأنه موعود بالجنَّة، قد يكون دخله قليلاً فهو راض، لعله يكون في جسمه عدَّة علل فهو راض،  زوجته ليست على ما يرام فتجده يقول: الحمد لله على الحال التي الله قسمها لي، حتى إن الإمام علياً كرَّم الله وجهه حينما سُئل عن قوله تعالى:

﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)﴾

[ سورة النحل ]

 قال: << الحياة الطيِّبة هي القناعة بنصيبك من الله عزَّ وجل >> .  


  الرضا بقسمة الله من سعادة المؤمن:


إذا رضي الإنسان عن الله، رضي عن نصيبه من الله، قبِل شخصيَّته، قَبلَ شكله، قبِل دخله، قبِل حرفته، قبِل زوجته، قبِل أولاده، يقول: يا ربّ هذا أنت قسمته لي، لا يوجد إنسان أسعد من الراضي بما آتاه الله، هذا الرضا مقام عال جداً، يا رب أنت هكذا اخترت لي، وأنا راض، تجد أن المؤمن قلبه مفعمٌ بالرضا، لأن رضاه من علمه، يعلم أن هذا الذي ساقه الله إليه هو أكمل شيء بالنسبة له طبعاً، وليس كمالاً مطلقاً، لا، هذا الوضع يناسبه، "إن من عبادي من لا يصلح له إلا الفقر فإذا أغنيته أفسدت عليه دينه، وإن من عبادي من لا يصلح له إلا الغنى فإذا أفقرته أفسدت عليه دينه"

هناك حكمة إلهيّة، المؤمن مستسلم لله عزَّ وجل، ليس معنى هذا الكلام أن يقعد الإنسان عن طلب المزيد، لا، لكن حينما يبذل كل طاقته وتنتهي به كل جهوده إلى هذا المكان، عندئذٍ يرضى بقضاء الله وقدره.

 

الله وليُّ المؤمنين:


قال:

﴿ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ(31) نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ(32)﴾

[ سورة فصلت ]

﴿نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ﴾ والله كلمة رائعة، المؤمن يشعر أن الله وليُّه يدافع عنه، الله سبحانه وتعالى ينقله من منزلةٍ إلى منزلة، يؤدِّبه، يكرِّمه، يفرحه، يبكيه أحياناً، يحرمه، يعطيه، يسوقه إلى عباده الصالحين، يجمعه مع أهل الحق، ويبعده عن مزالق السوء، ﴿نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ﴾ - ولله المثل الأعلى- تصوَّر ولي إنسان، تصور أبًا يريد أن يزوِّج ابنته يقول لك: لا أستطيع هذه ابنتي، أريد أن ألتقِي مع الخطيب، أريد رؤيته، يتفحَّص شخصيته، يتفحَّص أخلاقه، يتفحَّص صلاته، ويسأله عن دينه، وأين ستسكن ابنتي؟ آلاف الأسئلة، لأنه هو وليُّها الذي يرعاها، ويحدب عليها، ويعطف عليها، ويحبُّها، ولله المثل الأعلى، إله خالق الكون يقول: ﴿نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ﴾ هنيئاً لمن كان الله وليَّه.

﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)﴾

[  سورة البقرة ]

ربنا عزَّ وجل ينقلك من وضع إلى وضع أحسن، من تفلُّت إلى تمسُّك، من شقاء إلى سعادة، من ضياع إلى وجدان، من نِقمة إلى رضى، أحياناً يؤويك في بيت، أحياناً يزوِّجك، أحياناً ييسِّر لك عملك التجاري فتربح فيأتيك دخل حلال، أحياناً يجمعك مع أهل الحق، أحياناً يجمعك مع الصالحين، أحياناً يُدخل على قلبك السرور، ﴿نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ .

 

الاستقامة سببُ ولاية الله للمؤمن:


الإنسان إذا كان في طاعة الله صار الله وليُّه، الحقيقة أنّ القضيَّة سهلة جداً، لمجرَّد أن تستقيم على أمره تستحق أن يكون الله وليَّك، أما كل إنسان خرج عن أمر الله عزَّ وجل فكأنه جعل الشيطان وليَّه، الشيطان عدو، عدوٌ مضلّ مبين، فكل إنسان يعصي الله خرج من ولاية الله، وصار تحت ولاية الشيطان، هو وليُّهم يخرجهم من النور إلى الظلمات، فالإنسان المؤمن إذا قرأ هذه الآية شعر أن الله وليُّه يُدَافع عنه، يأخذ بيده كلَّما عَثَرَ، كلَّها زلَّت قدمه يسوق له من الشدائد ما يحمله على التوبة، يتوب عليه ليتوب، هذا معنى وليُّه، ﴿نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ﴾ أي أنت لست سائباً، الله عزَّ وجل قال: 

﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)﴾

[  سورة المؤمنون  ]

أنت ضمن التربية. 

 

ولاية الله للمؤمن في الدنيا والآخرة معًا:


النقطة الدقيقة: أحياناً الإنسان يحرص على مصلحة إنسان، لكن في الدنيا فقط، فالأم تتمنَّى لابنتها البيت الفخم، والزوج الغني، والأدوات الحديثة، والمركبة الفارهة، وقد تنسى أن ابنتها ليست في طاعة الله، فإذا قرَّت عينها بدنياها، وبيتها، وزوجها الغني، والبنت ليست مستقيمة مثلاً فهي حرصت على دنياها فقط، فهذه ولايةٌ ناقصة. 

الأب أحياناً لو أنه اهتمَّ بطعام ابنه فقط، ونسي مستقبله فهذه ولاية ناقصة، أهمل دراسته، ما اهتم بعلمه، لكنه أمَّن له طعامه وشرابه وثيابه فقط، يقول له: هل ينقصك شيء؟ ينقصه العلم، ينقصه أن يتعلَّم، فالولايات البشرَّية ولايات ناقصة مبتورة، أكثر الناس يتوهَّمون أن الإنسان إذا حقَّق شيئًا في الدنيا انتهى، يقول لك: أمَّن مستقبله، ركَّز وضعه، ودخله والحمد لله كبير، وعنده سيارة، وعنده بيت، وعنده معمل، ولا ينقصه شيء، بينما لم يأخذ شيئاً من الله، فهو غارق في المعاصي، فربنا عزَّ وجل قال: ﴿نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ﴾ اللهُ حريص على آخرتنا، على دخولنا الجنَّة، لذلك كل ما تراه أعينكم من مصائب في الدنيا، من نكبات، من أهوال، من أجل أن تسوق العباد إلى الله عزَّ وجل. 

رجل قال عن بلد تُعاني ما تعاني من خصومها في الصرب، قال: نحن لم نكن مسلمين من قبل، نأكل الخنزير، ونشرب الخمر، ونأتي الفواحش، ونفعل كل المعاصي، الآن صرنا مسلمين بهذا الضغط الشديد، ﴿نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ﴾ حتى النكبات الكبيرة أحياناً نفهمها نحن فهماً محدوداً، هذه الدولة فعلت كذا مع جارتها، لا، هناك فهم أعمق بكثير، قال الله عزَّ وجل: 

﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)﴾

[ سورة النحل  ]

حتى الأحداث الكبرى لها تفسير توحيدي رائع جداً.

 

الدنيا لا معنى لها إلا أن تكون سبباً للآخرة:


﴿نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ﴾ إذاً لأنّ الولاية تمتد للآخرة، فصار هناك تأديب في الدنيا، لو كان في الدنيا فقط ينبغي أن يكون الناس جميعاً في بحبوحة، وفي غنى، وليست هناك مشكلة، ولا مرض، ولا همّ، ولا حزن، لكن لأن الله سبحانه وتعالى وليُّنا في الدنيا والآخرة، بل إن الدنيا مطيَّة للآخرة، مزرعةٌ لها، بل إن الدنيا لا معنى لها إلا أن تكون سبباً للآخرة، لأن يوم القيامة حينما يدخل أهل الجنَّةِ الجنَّةَ يقولون:

﴿ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74)﴾

[ سورة الزمر ]

لولا أن كنا في الأرض، وعرفنا ربنا في الأرض، واستقمنا على أمره في الأرض، وفعلنا الصالحات في الأرض لما كنا في الجنَّة الآن. 

إذاً هنا الآية: ﴿نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ﴾ أولياء أموركم ﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ﴾ فإذا جاءك من الله ما يعجبك فهذا من نِعَمِ الله عليك، وإذا جاءك من الله ما لا يعجبك فهذا من تربيته لتكون في الجنَّة؛ أعطاك مالاً للدنيا، أعطاك بيتاً للدنيا، أما إن سلب منك شيئاً وأنت غافل، فهذا الذي سلبه منك من أجل أن تصحو، من أجل أن تلتفت إلى آخرتك، من أجل أن تفعل الخيرات، إذاً عندما تجمع الدنيا مع الآخرة تحل مشكلاتك، أما الدنيا فقط ففي الدنيا متاعب لا تعد ولا تحصى، يقول لك: لا أحد مرتاح، سبحان الله! طبعاً لا أحد مرتاح، لأنه لا أحد مستقيم، أما لو أنك استقمت على أمر الله فالله عزَّ وجل يقول: 

﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)﴾

[ سورة النساء ]

أما في الآخرة فهذه الآخرة التي خُلِقنا لها، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : قالَ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالَى:

(( أعْدَدْتُ لِعِبادِي الصَّالِحِينَ، ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ علَى قَلْبِ بَشَرٍ، قالَ أبو هُرَيْرَةَ: اقْرَؤُوا إنْ شِئْتُمْ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17]. قال أبو مُعاويةَ، عن الأعمَشِ، عن أبي صالِحٍ: قرَأ أبو هُريرةَ: (قُرَّاتِ أعْيُنٍ). ))

[ متفق عليه ]

 

طبيعة الحياة الدنيا قائمةٌ على الكَدْحِ والمشقةِ:


طبيعة الحياة الدنيا قائمةٌ على الكَدْحِ.

﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6)﴾

[ سورة الانشقاق ]

طبيعة الحياة الدنيا قائمةٌ على تكبُّد المشاق.

﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ(4)﴾

[ سورة البلد  ]

يقول لك: ما وصلت إلى هنا حتى كابدت المشقات، حتى اشترى بيتاً مساحته ستون مترًا في آخر ما عمَّر الله، يقول لك: مُت مليون موتة حتى وصلت له، هكذا الدنيا، حتى تزوج، حتى اشترى بيتاً، حتى استقرت حياته، حتى طلع على الأرض نصف متر يقول لك: هلكتني سكنت بزقاق الجن، الحياة مبنيَّة على الكدح وعلى التكبُّد، ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ(4)﴾ .


  الجنَّة مبنيَّة على الطلب:


 أما الجنَّة فهي مبنيَّة على الطلب، اطلب تعط، انظر إلى الآية: ﴿وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ﴾ لمجرَّد أن تطلب شيئاً فهو أمامك، إلى أبد الآبدين، لا يوجد تقدم بالسن، ولا يوجد أسيد أوريك، ولا يوجد كوليسترول، ولا يوجد دسَّام معطَّل، ولا يوجد زرع كلية، ولا يوجد ابن عاق، ولا يوجد زوجة ناشزة، ولا يوجد بيت صغير، لا يوجد شيء من هذا، ﴿وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ﴾ هكذا الآخرة، نحن مخلوقون لهذه الحياة، فهنيئاً لمن سعى من أجلها، والشقاء لمن رضي بالدنيا، من أراد الدنيا فقط فقد غامر وقامر، قامر بسعادته الأخرويَّة.

 

الجنة من رحمة الله بالإنسان:


﴿ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)﴾

[ سورة فصلت ]

أي أخطاؤك غفرها لك، ثم رحمك بهذه الجنَّة، هذا كلُّه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)﴾ هذا المقام الأول.

 

اقتران الإيمان بالاستقامة والدعوة إلى الله بالعمل الصالح:


المقام الأعلى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ﴾ بعدما صوَّر الله عزَّ وجل لنا كمال الإنسان، طريق كمال الإنسان، الآن المرحلة الثانية طريق تكميل الآخرين، طبعاً هذه صنعة الأنبياء هذه بالدرس القادم إن شاء الله:

﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ(33)﴾

[ سورة فصلت ]

لكن دعوا في أذهانكم أن علامة صدق إيمانكم الاستقامة على أمر الله، وأن علامة صدق الدعوة إلى الله العمل الصالح، ربنا عزَّ وجل قَرَنَ الإيمان بالاستقامة، والدعوة إلى الله بالعمل الصالح، فإن لم يكن مع الإيمان استقامةٌ فلا قيمة لهذا الإيمان، وإن لم تكن مع الدعوة إلى الله عملٌ صالحٌ فلا قيمة لهذه الدعوة.

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور