وضع داكن
28-03-2024
Logo
الدرس : 6 - سورة ص - تفسير الآيات 65- 88، التوحيد والفطرة.
  • تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
  • /
  • (038)سورة ص
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

النبي الكريم ليس مسؤولاً عن هداية الناس ولكنه يهدي إلى الحق:


أيها الأخوة الأكارم؛ مع الدرس السادس والأخير من سورة ص، ومع الآية الكريمة الخامسة والستين وهي قوله تعالى: 

﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65)﴾

[ سورة ص ]

 أولاً: يوجد آيات تتحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم:

﴿  وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)﴾

[ سورة الشورى ]

أي يا محمد دعوتك تُفضي إلى صراط ينتهي إلى الجنة، ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)﴾ لكن في آية أخرى يقول الله عز وجل:

﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)﴾

[ سورة القصص  ]

وفي آية ثالثة:

﴿ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)﴾

[ سورة البقرة ]

أي لست مسؤولاً عن هدايتهم أو عدم هدايتهم، ولن  تستطيع هدايتهم، لكنك تهدي إلى الحق، وهذه الآية: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ﴾ فكيف نجمع هذه الآيات؟ أولاً: دعوة النبي دعوة حق لأنها من عند الحق، والحق لا يأتيه الباطل، الحق الشيء الثابت الذي لا يزول، الشيء الثابت والهادف العظيم، فالنبي يدعو إلى الحق، ولكن لا يستطيع أن يهدي من يشاء، ولا من أحب، لأن الإنسان مخير، كل إنسان له اختياره فما لم يختر الإنسان الهدى لا يهتدِ:

﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17)﴾

[ سورة فصلت ]

﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)﴾

[ سورة البقرة ]

إذاً ليس عليك هداهم ، أي يا محمد لست مسؤولاً عن هدايتهم، أو عن عدم هدايتهم، لا إن اهتدوا أنت السبب، كما قال عليه الصلاة والسلام: "هداكم الله بي" ، ولا إن ضلوا أنت مسؤول، الفكرة دقيقة جداً، أي ليس عليك هداهم لست مسؤولاً عن ضلالتهم، لا تُحاسب، لأنك لا تملك أن تهديهم، لو أنك تملك أن تهديهم وضلوا لكنت مسؤولاً عندنا، لكنك لا تملك إذاً لست مسؤولاً، من الذي يملك أن يهتدي؟ هو الإنسان، لأن الطريق واضح من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر:

﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)﴾

[  سورة الإنسان  ]

﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا﴾ .

 

من أعظم الذنوب أن يقول الإنسان على الله ما لا يعلم:


 لكن يا أيها الأخوة الأكارم؛ في اللحظة التي تعتقد فيها أن الله أجبرك على أعمالك فسدت عقيدتك، وافتريت على الله، وقلت على الله ما لا تعلم، ومن أعظم الذنوب، هناك الكفر، وهناك الشرك، وهناك النفاق، وهناك المعصية، وهناك الفجور، وهناك الإثم، وهناك العدوان، وهناك الفحشاء، وهناك المنكر، كل هذه الذنوب أعلى شيء يأتي في أعلاها: وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون، إنك إن قلت على الله ما لا تعلم أبعدت الناس عن الله عز وجل، وإن قلت ما هو حقيق بكماله، وحقيق بجلاله، قربتهم منه، لذلك لأن يأتي الإنسان كبيرة أهون من أن يقول على الله ما لا يعلم ، لأنك إذا قلت على الله ما لا تعلم سددت الطريق إلى الله عز وجل، ونفرت الناس عن حضرة الله.

 

الإنسان مخير:


﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ ، و: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ هم مخيرون إن أرادوا الهدى يهتدون، أنت عليك البيان يا محمد، عليك الإبلاغ، عليك التحذير، عليك الإنذار، عليك التبشير، عليك التوضيح، عليك التفصيل، عليك التبيين،  تنتهي هنا مهمتك، أما مهمة العبد بعد أن اتضح له كل شيء، عليه أن يتحرك نحو الهدى، إذاً كيف نجمع بين قوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)﴾ وبين قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ أي لست مسؤولاً وبين قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ ؟ أي إنك لا تستطيع ولست مسؤولاً لكن تنتهي مهمتك يا محمد عند البيان، عند الإبلاغ، عند التوضيح، عند التبيين، عند التحذير، ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ﴾ إنما تفيد القصر، أي أنا لا أستطيع أن أهديكم، أنا أُذكركم بالله، أبين لكم، أًفصل لكم، أنذركم إن لم تؤمنوا، ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ﴾ معناها العبء الأكبر يقع علينا جميعاً، عبء الهداية يقع على الإنسان، لأن الله عز وجل أغرقه بآيات دالة على عظمته.

﴿ وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20)﴾

[ سورة الذاريات  ]

أغرقه، كيفما تحركت? إن تنفست، إن شربت،  إن أكلت، إن اضطجعت، إن نمت، ألا تنام على فراش من صوف؟ من خلق الصوف؟ ألا تأكل طعاماً؟ من خلق الطعام? ألا تتنفس هواء؟ من صمم الهواء بهذا التركيب? ومن ثبت هذه النسب؟ ومن جعل النبات يأخذ غاز الفحم السام ويطرح الأوكسجين؟ ومن جعل الحيوان ومنه الإنسان يأخذ الأوكسجين ويطرح غاز الفحم؟ من؟

وفي كل شيء له آية                 تدل على أنه واحد

[ لبيد بن ربيعة ]

* * *

﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65)﴾ .


  بالتوحيد خلاصنا جميعاً:


يا أيها الأخوة الأكارم؛ خلاصنا جميعاً، نجاتنا جميعاً، راحتنا جميعاً، سعادتنا جميعاً بالتوحيد، الشرك يمزق النفس، الشرك يُحمِّل النفس ما لا تحتمل، الشريك يبعثر الطاقات، الشرك يشتت:

﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213)﴾

[ سورة الشعراء ]

أي نهاية علمك ألا ترى مع الله أحداً أبداً، هذه الأسماء التي تسمعها، وهذه القوى التي تراها، وهذه الأحداث التي تشاهدها، وتلك الأزمات التي تمر بها، يجب أن تعلم علم اليقين أنه لا إله إلا الله الواحد القهار، لا شريك له، لا إله معه، لا راد لحكمه، لا مُعَقِّب على حكمه، لا راد لفضله، لا مانع لما أعطيت، لا معطي لما منعت، لا رافع إلا أنت يا رب، لا خافض إلا أنت، لا معز إلا أنت، لا مذل إلا أنت، لا شافي إلا أنت، لا منجي إلا أنت، هذا هو التوحيد.

 

نهاية العلم التوحيد:


الإيمان ينتهي بك إلى التوحيد فإذا وحّدت فقد استرحت وأرحت، لذلك قيل: ما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد، نهاية العلم التوحيد ألا ترى مع الله أحداً:

﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)﴾

[ سورة آل عمران  ]

اعمل لوجه واحد يكفِك الوجوه كلها، من جعل الهموم هماً واحداً كفاه الله الهموم كلها، لكن التوحيد يحتاج إلى جهد، إلى جهد في معرفة الله من خلال خلقه، ومن خلال كونه، آياته القرآنية، ومن خلال أفعاله، فإذا تعمقت في الإيمان ووصلت إلى عقيدة صحيحة قطعية يقينية أنّ في الكون حقيقة واحدة هي الله، وأنّ أي شيء يقربك من هذه الحقيقة هو الخير المحض، وأنّ أي شيء يبعدك عن هذه الحقيقة فهو الشر المحض، الصلاة تقرِّب، الصيام يقرّب، العمرة تقرّب، الحج يقرّب، غض البصر يقرّب، الكسب الحلال يقرِّب، ضبط اللسان يقرّب، الغيبة تُبعِد، النميمة تُبعد، إطلاق البصر يُبعد، المال الحرام يُبعد، الإنفاق في معصية يُبعد، في الكون كله حقيقة واحدة، لكنك ترى وتسمع آلاف الأسماء، وآلاف الأقوال، وآلاف المعتقدات، وآلاف الحركات، هذا الذي تراه كما قال سيدنا هود:

﴿ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)﴾

[ سورة هود ]

 

أهمية التوحيد:


بشكل أو بآخر، وحوش كاسرة، مفترسة، مخيفة، كلها مربوطة بأزمّة، بيد جهة، هذه الجهة فيها كل الكمال، فيها العدل والإنصاف والرحمة، فأنت علاقتك مع من؟ إن جعلت علاقتك مع هذه الوحوش فالقضية صعبة جداً، تعيش حياة الخوف، والقلق، والنفاق، والتمزق، والتبعثر، والتشرذم، أما إذا جعلت علاقتك مع هذه الجهة التي تملك هذه الوحوش فتستريح وتريح، هذا هو التوحيد، تجاوزت هذه القوى الظاهرة إلى من أعطاها القوة، تجاوزت هذه المتحركات إلى من حركها، تجاوزت هذه المكونات إلى من كوّنها، تجاوزت هذه المخلوقات إلى من خلقها، تجاوزت هذه الأحداث إلى من أحدثها، هذا هو التوحيد، لذلك أنت بالتوحيد سعيد، أنت بالتوحيد مطمئن، لأن علاقتك مع جهة واحدة، أحياناً يقول لك: تجارتي مريحة جداً، لماذا؟ خير إن شاء الله، يقول لك: أنا لي زبون واحد، مرتاح معه، كل بضاعتي يأخذها ويدفع لي ثمنها نقداً بدون مماطلة، التجارة مع إنسان واحد مريحة جداً، لكن مئتا زبون هذا كذاب، وهذا يدفع، وهذا لا يدفع، شيء متعب، أي هذا مثل من واقع التجار، موظف له خمسة أو ستة رؤساء هذا قال له: سافر، وهذا قال له: لا تسافر، هذا قال: بكِّر وهذا لا تبكِّر، هذا أرسله إلى البيت، أين كنت؟ والله أرسلني فلان، لماذا لم تقل لي؟ يتمزق هذا الموظف، أما إذا موظف له مدير واحد شيء مريح جداً انتهت كل مشاكله، علاقته مع واحد، لذلك التوحيد لماذا هو مريح؟ لأن كل مشاكلك مع جهة واحدة، لا تحتاج إلى أن تحلف له يميناً، لأنه يراك، فالإله يعرف، ولا يريد وصلاً، دفعت يا ربي للجامع، أعرف أنك دفعت، كنت مضغوطاً فصبرت، عرف ذلك، يعلم السرّ وأخفى، يعلم ما تُبدي وما تخفي، يعلم ما تُعلن وما تضمر، يعلم دوافعك الحقيقية تماماً، الأهداف الدقيقة، هناك شيء تعلنه أنت غير صحيح، الشيء الصحيح هذه الرغبات الباطنة التي تُحَرك الأفعال يعلمها الله عز وجل، فعندما الإنسان يوحد يرتاح، لا يخاف أحداً، ولا يرجو أحداً، ولا يُنافق، ولا يُجامل، ولا يتملق، ولا ترتعد فرائصه من تهديد هُدد به، ولا ينام مغموماً من وعيد وعد به، لأنه: إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي.

كن عن همومك معرضاً              وكل الأمور إلى القضـا

وابشر بخيـــــر عاجـــل              تنسى به ما قد مضــــى

فلرب أمـــــــــر مسخط               لك في عواقبه رضـــــا

ولربما ضاق المضـيــــق              ولربما اتســـع الفضـــا

الله يفعــــــل ما يشـــــاء              فلا تـــــــــك معترضــا

الله عـــــــوّدك الجمـــيل              فقس على ما قد مضـى

[ صفي الدين الحلي ]

  * * *

فليتك تحلو والحياة مريرة         وليتك ترضى والأنام غضاب

[ أبو فراس الحمداني ]

* * *

 

آيات قرآنية تؤكد على التوحيد:


أنا أؤكد على التوحيد، ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ - أنذركم وأؤكد لكم أنه-  وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ ..

﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)﴾

[ سورة الأنفال ]

أخوة يوسف ماذا فعلوا؟ أرادوا به كيداً، أرادوا أن يلقوه في غيابة الجب وقد ألقوه ليموت ويستريحوا منه، فقال له ربنا سبحانه وتعالى:

﴿ فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15)﴾

[  سورة يوسف ]

﴿ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)﴾

[ سورة يوسف  ]

سيدنا موسى، فرعون قال: أنا سأذبح كل أبناء بني إسرائيل، هذا الذي سيقضي على ملكه رباه في قصره، والله غالب على أمره.

 

جوهر الدين أن تفهم كل شيء من خلال لا إله إلا الله عندئذ لا تقهر ولا تتمزق:


يا أخوة الإيمان؛ إذا علمت أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن أصبحت علاقتك مع الله، أما إذا علمت أن زيداً ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وعُبيداً ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، هذا هو التمزق، هذا هو الشرك، هذا هو الشرك الذي يشلّ الإنسان، الذي يمزقه، ﴿وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ﴾ أي ما من جهة تستحق أن تُعبد إلا الله، لأنه لا إله غيره، أما ما تزعمون هم آلهة مزورة، هم أصنام، أحجار، لا يملكون لكم نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، لا يرفعون ولا يخفضون، لا يرزقون ولا يمنعون، ليس بيدهم شيء، الواحد لا إله إلا هو، القهّار أمره نافذ، مثلاً يقولون: هذه الجهة تملك سلاحاً نووياً، وهذه الدولة دولة قرار، أي عاصمتها عاصمة قرار، هذا مصطلح حديث، الله عز وجل قال:

﴿ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)﴾

[  سورة يونس ]

لا يوجد إلا الله عز وجل، افهم كل شيء من خلال لا إله إلا الله، عندئذ لا تُقهر، ولا تتمزق، ترى أن الإله بيده كل شيء، وعليك أن تعبده وكفى، عليك أن تطيعه، وعليك أن تنتظر الخير منه، هذا هو جوهر الدين، ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ هذا الإله الذي لا إله غيره، الواحد الذي لا شريك له، القهّار الغالب على أمره، فضلاً عن ذلك هو رب العالمين، كلمة رب فيها معنى التربية، التربية فيها حبّ، التربية فيها رحمة، التربية فيها حكمة، التربية فيها علم، التربية فيها تسيير لهدف نبيل، هذا معنى رب العالمين، أنا قلت قبل أيام: إن الله عز وجل أعطانا عقلاً أداة معرفة الله، أعطانا كوناً‌ يدل عليه، أعطانا فطرة تكشف الخطأ، أعطانا شهوة تدفعنا إليه، أعطانا اختياراً يُثَمِّن العمل، أعطانا قوة نحقق بها اختيارنا، أعطانا شرعاً نزن به العقل والفطرة، لو أنه أعطانا كل هذا وتركنا حتى يأتي الأجل، هو إله عظيم وعادل حكيم ولكن أين التربية؟ التربية حينما تختار شيئاً سيئاً الله عز وجل يعاقبك على ذلك، يُعاقبك، يُحذرك، يُنذرك، يُضيق عليك، يُشدد عليك حتى تعود إليه، إذاً هو يربيك.

 

الله عز وجل يُكْثر على الإنسان الوسائل كي يعرفه ويقبل عليه:


لا أعتقد أن واحداً من أخواننا الحاضرين إلا وله مع الله خبرات في هذا الموضوع، هذه لأنني فعلت كذا، وهذه لأنني أخطأت هذا الخطأ، وهذا لأنني تجاوزت حدي، فحينما تشعر أن إلهاً كريماً رحيماً يلاحظ أعمالك، ويرقب أعمالك، وهو لك بالمرصاد، ويعالج، ويضيِّق، ويشدِّد، ويُكرم، ويشجِّع، عندئذ هو رب العالمين. 

خطر في بالي مثل يقرب هذا المعنى معنى الربوبية، مدير ثانوية مثلاً يوجد نظام داخلي كل طالب غاب أسبوعين يُفْصل، هذا المدير طلب الدوام، ما تكلم للطلاب كلمة، لم ينصحهم، ما حذرهم، ما أنذرهم، إلا أنه عنده قوائم الدوام، فكلما رأى طالباً تجاوز غيابه خمسة عشر يوماً أصدر قراراً بفصله، هذا عدل، وهذا تطبيق للنظام، ولا يحاسب المدير على ذلك، لكن هناك مدير رحيم فضلاً عن أنه حازم، غاب الطالب يوماً واحداً استدعاه، طلب منه تقريراً أو وليه، وشدّد عليه، وكتَّبه تعهداً حتى لا يكررها، خلال سنة لم يدع طالباً أن يغيب أسبوعين، يُعالجه من أول الأمر، فهذا بالإضافة إلى أنه مدير حازم هو مربٍّ حكيم، فربنا عز وجل لم يعطنا الاختيار وتركَنا نغلط ثم عند الموت حاسبنا إلى جهنم، ليس هكذا، بل إنه من أول غلطة هناك حساب، يوجد حساب، يوجد تحذير، يوجد إنذار، يوجد تبشير، يوجد معالجة، يوجد تضييق، يوجد تشديد، يوجد إكرام أحياناً، أحياناً عن طريق رؤيا مخيفة، عن طريق رؤيا سارة، عن طريق صديق أمين، صادق، مخلص، عن طريق داعية، عن طريق خطيب مسجد، عن طريق كتاب تقرؤه، أي الله عز وجل يُكثر عليك الوسائل كي تعرفه وكي تقبل عليه، هذه هي التربية.

لذلك: 

﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66)﴾

[ سورة ص ]

 العزيز هو الفرد الذي يحتاجه كلُّ مخلوق في أي شيء، أدق تعريف للعزيز: يحتاجه كل شيء في كل شيء، ليس هناك غيره، كل شيء في كل شيء، لا يُنال جانبه، أمره هو الغالب، لكنك إذا عدت إليه لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه العزيز الغفار، إن عُدْتَ إليه قَبِلك.

 

الإنسان كائن معقد جداً إذا سار على منهج الله عز وجل يستقر ويسعد نفسياً:


﴿ قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68)﴾

[ سورة ص ]

أنا في طريقي كنت في عقد قران، وفي طريقي إلى هذا المسجد قلت كلمة نبأ عظيم؛ إنسان جمّع كل أمواله واشترى بها أرضاً ليشيد عليها بناءً ويربح منها، يمسك جريدة ويقرأ أخباراً منوعة، أخبار رياضية، أخبار سياسية، أخبار اقتصادية، إقلاع الطائرات، وصول البواخر، أسعار العملات، أخبار كثيرة، أما قرأ خبراً مقداره سطر واحد فقفز من مجلسه، قرأ أن هناك قرار استملاك الأرض، هذا نبأ عظيم، هذا خبر ليس ككل الأخبار، مثلاً المؤمن شعر أن هذا القرآن، أحياناً الإنسان بحكم العادة يحضر خطب الجمعة، يحضر مجالس علم، إذا حضر عقد قران يسمع كلمة خطيب الحفل، يقول لك: يا أخي والله إنها كلمة لطيفة، إذا كان الدين بالنسبة لك قضية ثانوية، نشاط اجتماعي من جملة نشاطاتك الاقتصادية والثقافية والترفيهية أيضاً أنت لك أخوان، لك جامع، القضية أخطر من ذلك، سعادتك كلها تتوقف على علاقتك بهذا الدين، علاقة تصديق وتطبيق إذاً تسعد، علاقة عدم تصديق وعدم تطبيق تشقى، فقل: هو نبأ عظيم، الإنسان أحياناً يكون ببعثة، ومعلقاً آمالاً وبنى أحلاماً على نيل الشهادة، أحياناً تأتيه رسالة عادية: أُلغي إيفادك عُد إلى البلد، هذه رسالة غير عادية، يتلقى مئات الرسائل من أهله، سؤال وجواب، وسؤال عن خاطره وعن صحته وعن سعادته وأحواله ومجاملات وسلام وكلام هذه رسائله، أما هذه رسالة خطيرة ألغت إيفاده، هذا نبأ عظيم. 

أنا أضرب أمثلة، إذا كنت ترى الدين أنك تفهمه فهماً خطيراً، الدين مصيري، سعادتك الأبدية مبنية على هذا الدين، استقرارك النفسي، صحتك النفسية في الدنيا، توظيفك في العمل، أنت كائن معقد جداً، هناك ضغوط كثيرة، يوجد عواطف، يوجد انفعالات، يوجد إغراءات، يوجد نشاطات، يوجد صراعات، أنت ككائن معقد جداً إذا سرت على منهج الله عز وجل تستقر نفسياً، تسعد، شعور المؤمن قال له: والله لو يعلم الملوك ما نحن عليه لقاتلونا عليها بالسيوف، فهذا النبأ عظيم، ستبنى عليه سعادتك في الدنيا والآخرة، يُبنى عليه استقرارك، يُبنى عليه زواجك، يُبنى عليه معاشك، ُبنى عليه رزقك، ﴿قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ﴾ .

 

النبأ العظيم:


لذلك لا تظن أن إنساناً سمع خطبة جمعة، حضر مجلس علم، قرأ صفحة من القرآن، القضية خطيرة جداً، الله عز وجل يضعك عند مسؤولياتك، يضعك عند مهمتك في الدنيا، فالإنسان:

فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة       وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم

[ قال الإمام ابن القيم الجوزية في وصف الجنة ]

* * *

يقولون: إن الكاتب العظيم تقرأ قصته فلا تنام الليل، أما الكاتب التافه فتقرأ قصته وتتثاءب وتنام، عالَجَ موضوعاً خطيراً بعمق شديد، وضعك عند مهمتك، ﴿قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ﴾ .

﴿ أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61)﴾

[ سورة النجم ]

﴿قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ﴾ الناس مقبلون على الدنيا، على مُتعها، على شهواتها، على مباهجها، على بيوتها، على تنظيم البيوت، على تزيين البيوت، على إنشاء المزارع، على اقتناء المركبات، على الاقتران بالزوجات، هذا همُّ الناس، أما النبأ العظيم في غفلة عنه، يحسبون حساباً لكل شيء إلا الموت، يحسبون حساباً حينما يولد يسجلون له طلباً للهاتف، أخي الآن وُلِد، أخي احتياطاً، أي يحسبون حساباً لعشرين سنة قادمة، أما ساعة المغادرة، ساعة النزول في القبر، ساعة الانتقال إلى الدار الآخرة هذا هو النبأ العظيم: ﴿قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ﴾ .

 

ما جاء به النبي من عند الله إنما وصله عن طريق الوحي:


كأن النبي عليه الصلاة والسلام، أو إن الله عز وجل أمر النبي أن يُبلِّغ الناس أن هذا الذي أقوله عن الله عز وجل هو وحي ليس من عندي، والدليل: ﴿مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ ، عندما قال ربنا عز وجل:

﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)﴾

[  سورة البقرة ]

هذا الحوار الذي جرى بين حضرة الله عز وجل وبين الملائكة حينما أعلمهم بخلق مخلوق مُكرَّم عليه، وحيد، مخلوق، أمر الملائكة أن تسجد له، وإبليس رفض أن يسجد، وقال: أنا خير منه، هذا الحوار، وهذه المحاجة، وهذا التساؤل، وهذا الموضوع بكامله من أين جاء به النبي؟ كيف عرفه؟ عن طريق الوحي، ﴿قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ* أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ* مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ .

 

الله سبحانه وتعالى أودع في الإنسان عقلاً وهذا العقل بإمكانه أن يصل إلى الله:


﴿ إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)﴾

[ سورة ص ]

 إن حرف نفي، أي ما يوحى إليّ: ﴿إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ معنى النذير أنه يُعْلمك شيئاً، إن لم تستجب له هناك فعقاب أليم، وهناك شقاء أبدي، ﴿إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ .

والآن ربنا جلّ جلاله يحدثنا عن قصة خلق العالم، وقبل أن نأتي على تفصيلاتها لابدّ من مقدمة قصيرة، هو أن الله سبحانه وتعالى أودع في الإنسان عقلاً، وهذا العقل بإمكانه أن يصل إلى الله من خلال آياته الكونية والتكوينية والقرآنية، وهذا العقل بإمكانه أن يصل إلى أن هذا الكلام كلامه عن طريق الإعجاز، وبإمكانه أن يصل إلى أن هذا الذي جاء بهذا القرآن رسوله، فبالعقل تؤمن بالله خالقاً ورباً ومسيِّراً، تؤمن به واحداً وموجوداً وكاملاً، تؤمن بأسمائه الحسنى وصفاته الفضلى، تؤمن بنبوة الأنبياء والكتب السماوية، كل هذا بالعقل، لكن العقل بمثابة ميزان له طاقات تَحُد من قدرته، هذا الميزان تقدر طاقته القصوى بعشرين كيلو، أو ثلاثين، فهناك موضوعات لا يستطيع العقل معرفتها بذاته مستحيل، كيف بدأ الله العالم؟ ما كان، الله عز وجل قال:

﴿ مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)﴾

[ سورة الكهف ]

 

الإيمان لا يصح إلا بالعقل لا بالتقليد:


الإنسان لم يكن موجوداً، كل شيء عجز العقل عن إدراكه أخبره الله به، إذاً في الإسلام معقولات ومنقولات، يقين استدلالي ويقين إخباري، شيء يجب أن تفكر به، فإن لم تفكر به لا يُقبل منك، الإيمان بالله بالعقل، ولو قَلدت به لم يقبل منك، لو قُبِل التقليد بالإيمان لأصبحت كل الفرق الضالة على حق، يقول لك: ما ذنبي أنا قلدْتُ فلاناً؟! الإيمان لا يصح إلا بالعقل لا بالتقليد، فالإيمان بالعقل، الإيمان بالله، وبرسالة أنبيائه وبأنبيائه بالعقل، لكن الموضوعات التي يعجز العقل عن إدراكها لأنها فوق طاقته، العقل أساسه الاستدلال، أساسه شيء مادي أمامه يستنبط منه شيئاً مغيباً عنه، الأقدام تدل على المسير، والماء يدل على الغدير، والبعرة تدل على البعير، أَفسماء ذات أبراج وأرض ذات فِجاج ألا تدلان على الحكيم الخبير؟ هذا الاستدلال العقلي، فالعقل من شيء مادي إلى شيء مغيب عن الإنسان، هناك شيء ظهرت عينه وأثاره مثل نار تشتعل أمام عينيك، وفوق النار دخان، فهذه النار ترى عينها بعينك، وترى آثارها بعينيك؛ اللهب والدخان، هذا اليقين الحسيّ، لكن رأيت جداراً ومن فوق الجدار دخان تقول: لا دخان بلا نار، هذا اليقين الاستدلالي، لا دخان بلا نار، لكن جاءك رجل وهو صادق عندك مئة بالمئة وقال: نشب حريق في المكان الفلاني، أنت لا رأيت النار ولا آثارها لكنه أخبرك أن هناك حريقاً، فأول يقين يَقين حسي، ثاني يقين يقيْن استدلالي، ثالث يقين يقيْن إخباري، فيما يتعلق بذات الله اليقين إخباري، فيما يتعلق بأصل الكون وقصة الحياة الدنيا وبدء الخليقة اليقين إخباري، فيما يتعلق بعد الموت اليقين إخباري، فيما يتعلق بالكائنات غير المرئية كالجن والملائكة اليقين إخباري، هذه تسميها مسموعات، تسميها أخباراً، تسميها يقيناً إخبارياً، تسميها إيماناً تصديقيّاً، الأسماء كلها ذات مسمى واحد، أما المعقولات التي أنت مكلف أن تعقلها بذاتك، ولا يقبل منك أن تقلد بها، إذاً الإيمان فيه معقول وفيه منقول، فيه استدلال وفيه تصديق، فيه تأمل وفيه مسموع.

 

قصة خلق العالم:


الآن ربنا عز وجل يحدثنا عن قصة خلق العالم، لو أنت قرأت شيئاً آخر خلاف هذا الشيء لك جواب واحد، ربنا عز وجل قال: ﴿مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً﴾ أنتم لم تكونوا معي في ذلك الوقت، كنت أضرب مثلاً أن إنساناً جالس بمجلس في سهرة وقال: أنا في سنة الثلاثين أخذت محلاً في الحميدية، دفعت فروغه عشرة آلاف، عنده وَلَد وُلِد بعد شراء المحل باثنتي عشرة سنة قال له: لا، أنت أخذته بعشرين ألفاً بابا، قال له: أنت كنت معي وقتها؟ أنت لم تكن موجوداً حينئذ، عندما يريد الإنسان أن يتنطع ويتحدث عن قصة خلق الكون لم يكن موجوداً، ﴿مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ﴾ فيما يتعلق بأصل الوجود، بقصة نشوء الحياة، بخلق الإنسان هذا يقين إخباري تصديقي، فيما يتعلق بكائنات لا نراها تصديقي، الحديث عن ذات الله وعن علمه وعن قدرته تصديقي، الحديث عن اليوم الآخر تصديقي، أما الحديث عن وجود الله فهو حديث عقلي استدلالي، وعن أسمائه، وعن صفاته فربنا عز وجل الآن يذكر لنا في القرآن ما يعجز العقل عن إدراكه بذاته، عقلنا يعجز عن إدراك هذا الشيء بذاته، الله عز وجل يخبرنا عنه فيقول: 

﴿ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71)﴾

[ سورة ص ]

 كلكم يعلم أن المَلَك رُكِّب من عقل بلا شهوة، المَلَك مخلوقات نورانية تسبِّح الله دائماً، لم تُكلّف، ليس فيها شهوات، والحيوان ركِّب من شهوة بلا عقل، المَلَك ليس له حساب والحيوان ليس له حساب لأنه لم يكلف.

 

الإنسان إذا عرف الله واستقام على أمره أصبح فوق الملائكة:


الإنسان رُكِّب من عقل وشهوة، فإن سما عقله على شهوته سما فوق الملائكة، وإن سمت شهوته على عقله أصبح دون الحيوان، الإنسان حينما ينقطع عن الله عز وجل يرتكب من الجرائم، في فرنسا قبل أيام ظهرت رغبة أن يُعاد العمل بالحكم بالإعدام شنقاً، السبب أن هناك شباباً يغتصبون فتيات صغيرات ثم يقتلونهن، مجرم اغتصب ثلاث فتيات وعمرهن ست سنوات ثم قتلهن،عندما ينقطع الإنسان عن الله عز وجل يصبح مجرماً كبيراً، يمكن أن يدمر أمة من أجل مصالحه الشخصية، وعندما يرتقي الإنسان يسبق الملائكة بكثير، لذلك:

﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7)﴾

[ سورة البينة  ]

ما من مخلوق يلحق الإنسان إذا عرف الله، أما الذي أعرض عن الله عز وجل فأحقر مخلوق خير منه، النبي الكريم حدثنا عن رجل له جار، سافر هذا الجار وأوصاه بزوجته فخانه بها، كلبه قتله، فلما بلغ النبي القصة قال: خان صاحبه والكلب قتله، والكلب خير منه، فعندما ينقطع الإنسان عن الله، ويتبع شهوته، أصبح مجرماً كبيراً دون الحيوان، فإذا عرف الله واستقام على أمره أصبح فوق الملائكة، فربنا عز وجل خاطب الملائكة: ﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ﴾ من تراب ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ﴾ التسوية أي هذا التنظيم.

﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)﴾

[  سورة التين ]

أي هذا المِفْصَل، لولا المِفْصَل لا تستطيع أن تأكل إلا كما تأكل الهرة، يجب أن تنبطح على الأرض وتلعق الصحن ليس هناك غير هذه الطريقة، إذا ألغينا هذا المفصل، لو أن الإنسان يمشي على أربع لما أمكن أن يبني الحضارة، أما طلاقة يديه جعلت هذه الحضارة، إذاً: الإنسان يداه طليقتان ويمشي على رجلين، ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)﴾

 

السرّ في هذه النفخة أنها من روح الله عز وجل:


في الرأس، في الدماغ، في العينين بمحجرين تقيهما كل خطر، في هذا الأنف فوق الفم إذا كان الطعام فاسداً الأنف يعطي إنذاراً، هذا اللسان، هذا البلعوم في أحسن تقويم، قال: 

﴿ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72)﴾

[ سورة ص ]

 لكن من طين، انظر إلى تمثال من الشمع يضعه بائعو الأقمشة في محلاتهم التجارية، وانظر إلى إنسان من لحم ودم، تجد فيه حياة، انظر إلى وردة طبيعية تفوح بالرائحة وانظر إلى وردة اصطناعية من ورق أو بلاستيك، أين الثرى من الثريا؟! قال: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي﴾ فالسرّ في هذه النفخة من روح الله عز وجل، صار هناك دماغ يفكر، يحاكم، لو أن إنساناً مات لو اضطجع إنسان على سرير وتحت السرير ميزان، حينما تخرج روحه إلى السماء يا ترى كم درهم نقص وزنه؟ ولا درهم، ولا غرام، ولا ميلّي غرام، ولا ميكروغرام، ومع ذلك العين لا ترى، الأذن لا تسمع، الدماغ لا يفكر، المعدة لا تهضم، الرئتان لا تخفقان، القلب لا ينبض، ما الذي حدث؟ ما هذا الذي خرج منه؟ العين تبصر الألوان، تبصر جمال الجبل الأخضر، تبصر جمال البحر الأزرق، تبصر جمال وردة فواحة، تشم رائحة عبقة، تعبر، تتكلم، يضحك، يبكي، يخطب، يبيِّن، يفسِّر، يؤلِّف، يتحرك، الإنسان كائن راقٍ جداً فإذا ذهبت روحه أصبح مخيفاً، الغرفة التي ينام فيها الميت تبقى أياماً وأسابيعَ بل شهوراً مهجورة في البيت، هنا مات فلان، في هذه الغرفة مات، قبل أيام كان مؤنساً، كان هو مصدر أنس البيت، هو الأب إذا دخل خفّ له أطفاله فرحين مزغردين، ما الذي حدث حينما سحبت هذه الروح؟ أصبح مخيفاً، هذه النفخة.

 

ربنا عز وجل حينما أعطى الإنسان عقلاً وشهوة كرَّمه وكلفه وجعله خليفته في الأرض:


﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي﴾ الموت بالعكس هذه النفخة انسحبت أصبح جثة هامدة، إن كان في الصيف يحتاج إلى ألواح من الثلج وإلا خرج منه روائح كريهة، أنا في الحج والعمرة كنت أستغرب لماذا الجنائز يصلَّى عليها بعد العشاء؟ هناك الجنائز في كل أوقات الصلوات، بالعشاء يوجد جنازة، المغرب يوجد جنازة، أنا أعجب في الشام العصر آخر وقت للجنازة، المغرب ليس هناك جنائز لشدة الحر، لا تبقى الجثة هناك أكثر من ساعات وإلا تتفسخ، هذا الإنسان كان مصدر أنس بالنظافة والأناقة والعطور الفواحة، فإذا مات سُحِبت هذه النفخة، ما الذي حدث؟ تفسّخ، وليس من رائحة أكره في الأرض من رائحة الإنسان إذا تفسخ، يعرف هذا حفارو القبور إذا طلبوا أن يفتحوا على ميت بعد فترة، رائحة لا تقابل، ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ انظر إلى الطفل حينما يولد مصدر سعادة البيت كله، فيه جمال، فيه أُنس، لكن لعبة من نفس الحجم لا حياة فيها، ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ هذا سجود تكريم لا سجود عبادة، أن الإنسان مكرم، والإنسان هو المخلوق الأول، والإنسان هو المخلوق الذي سخر الله له الكون من أجله، فربنا عز وجل حينما أعطاه عقلاً وشهوة كرَّمه وكلفه وجعله خليفته في الأرض.

 

الإيمان انصياع لله عز وجل والكفر استكبار:


﴿ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74)﴾

[ سورة ص ]

 إبليس ليس مَلَكاً، هذا اسمه استثناء منقطع، إذا قلت: حضر الطلاب كلهم إلا المدرس، المدرس ليس طالباً، لكنه اجتمع مع الطلاب في وجوب الحضور، فحضروا ولم يحضر، فالاستثناء منقطع، معنى استثناء منقطع أي ليس المستثنى منه من جنس المستثنى، أي ما بعد (إلا) ليس من جنس ما قبل (إلا) ، ﴿فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ﴾ والدليل كلّهم توكيد أول، (أجمعون) توكيد ثان، ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ لذلك الكفر أساسه استكبار، المؤمن:

﴿  وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)﴾

[  سورة الأحزاب  ]

الإيمان انصياع لله عز وجل، والكفر استكبار، قال: ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ هنا الخلق مباشر من الله عز وجل،﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي﴾ الله عز وجل يخلق عن طريق سبب، نحن حينما نُخْلق من أب وأم عن طريق سبب أرضي، لكن سيدنا آدم خُلِق من قبل الله عز وجل مباشرة.

 

أكبر عقوبة ينالها مخلوق أن يبعد عن رحمة الله:


﴿ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75)﴾

[ سورة ص ]

أي أنت أكبر من أن تنصاع لهذا الأمر؟ 

﴿ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76)﴾

[ سورة ص ]

 لذلك قالوا: أربع كلمات مهلكات؛ أنا ونحن ولي وعندي، (أنا) قالها إبليس فأهلكه الله، و(نحن) قوم الملكة بلقيس:

﴿ قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33)﴾

[ سورة النمل ]

فانهار ملكها، وقال قارون: 

﴿ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)﴾

[ سورة القصص ]

أنا عندي كذا، أنا حجمي المالي كذا، أنا أملك كذا، أنا أفعل كذا، هذه كلمة مُهلكة، وفرعون قال:

﴿ وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51)﴾

[ سورة الزخرف ]

إذاً أربع كلمات مهلكات: أنا ونحن ولي وعندي.

﴿ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77)﴾

[ سورة ص ]

أي أكبر عقوبة ينالها مخلوق أن يُبْعد عن رحمة الله.

﴿ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)﴾

[ سورة المطففين  ]

 

آيات قرآنية تبين اللعنة التي أصابت إبليس وكل من تبع إبليس:


أكبر مكافأة لمخلوق أن يتجلى الله عليه، إذا تجلى الله عليه أنساه كل شيء، إذا تجلى الله على قلب المؤمن، إذا شعر المؤمن أن الله يحبه، وأنه بعين الله، وأن الله يحفظه، هذا الشعور لا يوصف، الشعور الآخر شعور الطرد من رحمة الله، اللعنة.

﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161)﴾

[ سورة البقرة ]

﴿ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)﴾

[ سورة النحل ]

﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52)﴾

[ سورة النساء ]

﴿قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ﴾ العلماء قالوا: فاخرج من رحمتي أو فاخرج من الجنة.

﴿ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78)﴾

[ سورة ص ]

هذه اللعنة أصابت إبليس وأصابت كل من تبع إبليس، كل من استجاب لإبليس، وائتمر بأمر إبليس، واستجاب لوسوسة إبليس عليه لعنة الله:

﴿ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)﴾

[ سورة آل عمران ]

 فإذا استجبت وخفت وتركت طاعة الله عز وجل حفاظاً على مصالحك فعلى هذا الإنسان اللعنة من الله، لأن إبليس ملعون، وكل من تبعه ملعون.

 

مهمة إبليس رئيس الجن:


﴿ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79)﴾

[ سورة ص ]

 معنى هذا أن إيمان إبليس بالله ليس منجياً، غير كاف.

﴿ قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81)﴾

[ سورة ص ]

 لذلك إبليس منذ أن خلقه الله وإلى يوم الدين هو حيّ، حياته مستمرة، هذا طلبه من الله، لكن الجن يموتون ويتزوجون، أما إبليس رئيس الجن فحياته مستمرة.

﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82)﴾

[ سورة ص ]

أنا مهمتي يا رب: ﴿لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ أنا مهمتي أن أُبعدهم عنك، أن أُزيِّن لهم الدنيا، أن أُوقع بينهم العداوة والبغضاء، أن أجعلهم يحبون الدنيا، أن أجعلهم يحبون المعاصي، أن أزين لهم كل المعاصي، أن أبعدهم عن كل الطاعات، هذه مهمته، لكن إبليس يعلم فقال: يا رب أفعل هذا.

﴿ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)﴾

[ سورة ص ]

هؤلاء لا أستطيع أن أفعل معهم ذلك، هؤلاء حينما اعتصموا بك، وأطاعوك، واستعاذوا بك، وأخلصوا لك، انتهت مهمتي معهم.

﴿ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)﴾

[ سورة إبراهيم ]

 

إبليس لا يغوي إلا الغاوي ولا يزين المعصية إلا لمن يحب المعصية:


إذاً إبليس لا يغوي إلا الغاوي، لا يزين المعصية إلا لمن يحب المعصية، لكن المؤمن في حرز حريز، وحصن منيع، المؤمن حينما يطيع الله عز وجل أبعد عنه سلطان إبليس، حينما يطيع الله عز وجل أبعد عنه وسوسته.

﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)﴾

[ سورة الأعراف ]

﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2)﴾

[  سورة الفلق  ]

﴿إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ هؤلاء الذين أخلصوا لك يا رب أنت خلَّصتهم من وساوس الشيطان، خلصتهم من كل همّ وحزن.

 

الدين مغروز في فطرتنا وما هذا الكتاب إلا ليذكرنا بالدين:


﴿ قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84)﴾

[ سورة ص ]

الله جلّ جلاله لا يقول إلا الحق، هو حق ولا يقول إلا الحق.

﴿ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86)﴾

[ سورة ص ]

الإسلام دين الفطرة من دون تكلف، من دون تصنع، المنطق يدل على الله عز وجل، العقل يدل عليه، الفطرة تدل عليه، الحوادث تدل عليه، القرآن يدل عليه، الراحة النفسية لها علاقة بالإيمان، أحياناً تشعر أنها دعوة متكلفة فيها شدّ ومطّ، تجد الأفكار فُلْسفت فلسفة غير طبيعية، الأفكار كلها مؤوَّلة، هذه دعوة باطلة، كل شيء فيه تكلف، فيه تزوير، فيه تأويل، هذه دعوة باطلة، الحق لا يحتاج إلى تأويل، ولا إلى تزوير، ولا إلى كذب، ولا إلى صخب وضجيج، الحق هو الفطرة، الحق هو العقل، الحق هو الواقع، الحق هو ما يألفه الناس، ما يرتاح له الناس.

لذلك: 

﴿ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87)﴾

[ سورة ص ]

الدين مغروز في فطرتنا، وما هذا الكتاب إلا ليذكرنا بالدين، ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ﴾ ..

 

البطولة أن تؤمن قبل فوات الأوان:


كما أقول لكم دائماً: قضية الإيمان ليست على النحو التالي، ليست أن تؤمن أو لا تؤمن، لا، قضية الإيمان متى تؤمن؟ لأنه لابدّ من أن تؤمن ولكن بعد فوات الأوان، فالبطل ليس الذي يؤمن، الذي يؤمن في الوقت المناسب، أما فرعون فقد آمن في الوقت غير المناسب، أيُّ مخلوق سوف يؤمن لكن بعد فوات الأوان، إذاً بطولتك أن تؤمن قبل فوات الأوان، أن تؤمن وأنت شاب، وأنت صحيح، وأنت شحيح، وأنت قوي، وأنت غني، فكرك مُتَّقد، عضلاتك مفتولة، الدنيا مُقبلة عليك، هذا وقت الإيمان، ليس بعد الثمانين ليس هناك شيء. 

أحدهم قال لي: الدولاب ماسح والعداد قالب، أي أمره منته، ليس في هذا الوقت تؤمن، لم يعد هناك شيء، ليس هناك شيء تخاف منه أو تخاف عليه أساساً، ملَلْتَ الحياة، مللت الأكل والشرب، مللت النزهات، كله مللت منه، الآن تريد أن تؤمن؟ يجب أن تؤمن وأنت شاب لأن ريح الجنة الشباب، ﴿قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ﴾ أي دعوة فيها تأويل، فيها شدّ الآيات، تأويل متكلف، فيها تغيير الحقائق، ليس هذا هو الحق، الحق فطري، الحق تسمعه فترتاح له، الحق يؤيده الواقع، الحق تؤيده الفطرة، الحق يؤيده العقل، الحق يؤيده النقل، الحق ينتشر سريعاً، الحق ترضاه النفوس، تطمئن له النفوس، أما التكلف والتأويل والتزوير، ﴿وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ﴾  

(( عَنْ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ : وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْعِظَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذِهِ لَمَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟ قَالَ : قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ. ))

[ صحيح الجامع الصغير ]

﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ(88)﴾

[ سورة ص ]

أي ولسوف تعلمون، هذه فيها تهديد، إذا الحق لم يعجبك الآن أطل بالك، سوف ترى، سوف ترى أن هذا الذي ذُكِّرت به هو الحق، هناك جنة، وهناك نار، وهناك نار أبدية، وهناك حساب، وهناك صراط مستقيم، وهناك قبر، وهناك عذاب في القبر.

﴿ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)﴾

[ سورة غافر ]

هذه آية في أصل عذاب البرزخ، القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران، يوجد موت الموت حق، وعذاب القبر حق، والجنة حق، والنار حق، والصراط حق، والحوض حق، وكل ما ورد في هذا القرآن حق، فهنيئاً لمن عرف الحق قبل يوم الحق، إذا عرف الحق قبل يوم الحق يستعد لهذا اليوم، فإذا كذبه فسوف يعرفه ولكن بعد فوات الأوان، ﴿وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ﴾ .

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور