وضع داكن
19-04-2024
Logo
الدرس : 03 - سورة النمل - تفسير الآيات 15 - 19 قصة سليمان عليه السلام
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الثالث من سورة النمل، وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى:

﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا ۖ وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ(15)﴾

[  سورة النمل  ]


بين يدي قصة سليمان عليه السلام:


 هذه القصَّة قصَّة سيدنا سليمان، وقد جاءت في مواضع أخرى، ولكنها في هذا الموضع قد قُصَّت علينا بتفصيلٍ شديد، ومع أنها قُصَّت علينا بتفصيلٍ شديد، إلا أن هذا التفصيل تناول حَلْقَتَين من حلقات قصة سيدنا سليمان، إنها قصَّته مع الهُدْهُد، وقصَّته مع ملكة اليمن سبأ، ومن خلال هاتين الحلْقتين في هذه القصَّة هناك استنباطاتٌ كثيرة.

1 – تحريفات وتبديلات اليهود:

 أولاً: الله سبحانه وتعالى يقول: 

﴿  إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ(76)﴾

[  سورة النمل  ]

 ما من واحدٍ منكم إلا وهو يعلم أن اليهود قد حوَّروا، وبدَّلوا، وغيَّروا، وأضافوا على التوراة ما ليس منه، حتَّى غدت قصص الأنبياء عندهم قصصاً بعيدةً عن الواقع، الأنبياء في التوراة التي أضاف عليها من أضاف؛ أشخاصٌ عاديّون يشربون الخمر، ويقعون في الزنا، ويحقدون، إلى ما هنالك من تفصيلاتٍ يَنْدَى لها الجبين، ويترفَّع عنها الإنسان العادي، لذلك جاء القرآن الكريم ليقصَّ عليهم أكثر الذي كانوا فيه يختلفون.

2 – قصصُ القرآن دليلٌ على نبوة النبي عليه الصلاة والسلام:

 الشيء الثاني: إن تلاوة هذه القصص على سيدنا محمَّد دليل نبوَّته، لقول الله عزَّ وجل:  

﴿ ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ۚ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)﴾

[  سورة آل عمران  ]

﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾ ﴿ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾   فأولاً: ربنا سبحانه وتعالى يصحِّح لبني إسرائيل ما زوَّروه في التوراة، وشيءٌ آخرُ أن هذه القصَّة أحد الأدلَّة على نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلَّم.


استنباطات من قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً


1 – فضلُ العلمِ وأهلِه:

 قصَّة هذا النبي الكريم بُسطَت في هذه الصفحات بتوسُّعِ شديد، ولكن التركيز جاء على شيءٍ واحد وهو العلم، والدليل قول ربنا سبحانه وتعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا﴾ "وما اتخذ الله ولياً جاهلاً لو اتخذه لعلَّمه "

 والعلم هو القيمة الوحيدة المرجِّحة التي اعتمدها القرآن الكريم، فالشيء الذي يرفعك هو العلم، والشيء الذي يخفِضُك هو الجهل، وأي شيءٍ آخر عَرَضٌ زائل يأتي ويذهب، ولا قيمة له، ولا يرفع صاحبه ولا يخفضه، قد يكون الإنسان عند الله في أعلى عليين وهو فقير، وقد يكون في أعلى عليين وهو مريض، وقد يكون في أعلى عليين ونسبه غير معروف، وقد يكون في أعلى عليين وليس جميل الصورة.

 بعض التابعين كان قصير القامة، أسمر اللون، أحنف الرِجل، مائل الذقن، ناتئ الوجنتين، ضيِّق المنكبين، ليس شيءٌ من قبح المنظر إلا وهو آخذٌ منه بنصيب، وكان مع ذلك سيِّد قومه، إذا غضب غَضب لغضبته مئة ألف سيفٍ؛ لا يسألونه فيمَ غضب؟ وكان إذا علم أن شُرْبَ الماء يفسد مروءته ما شربه، فلا شكلُك، ولا مالك، ولا نسبك، ولا صحَّتك، ولا قوَّتك تغني عنك من الله شيئاً، ولكن العلم وحده هو الذي يرفعك عند الله، والدليل هذه الآية: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا﴾ .

2 – العلم يؤتيه الله مَن يشاء:

 الاستنباط الأول أيها الإخوة، أن العلم يُؤتى من الله عزَّ وجل، فإذا علمت أن علمك من الله، وأن الله سمح لك أن تتعلَّم. 

﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)﴾

[ سورة الإسراء  ]

﴿ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۚ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ۚ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۖ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ۚ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ(255)﴾

[  سورة البقرة ]

 إذا أيقنت أن علمك من الله عزَّ وجل لابدَّ من أن تبادر إلى شكره.


الصفة الوحيدة الفارقة بين الإنسان والحيوان هي العلمُ:


 يقول الإمام الغزالي: "الإنسان شريفٌ لِمَا خُلِقَ له، فلو افتخر بحجمه فالجمل أكبر منه، ولو افتخر بعَظمه فالفيل أعظم منه؛ أي أكثر عظماً منه، ولو افتخر بشجاعته فبعض السِباع أشجع منه، ولو افتخر بسِفاده بعض الطيور الوضيعة أكثر سِفاداً منه؛ أي جِماعاً، ولو افتخر بشكله الجميل فبعض الحيوانات أجمل منه"

 ما من صفةٍ يمكن أن تفتخر بها إلا وفي الحيوان ما هو أشد اتصافاً بهذه الصفة من الإنسان.

 إذا افتخر بحدَّة بصره، فأيُّ طائرٍ يرى ثمانية أمثال ما تراه أنت، إذا افتخر برهافة سمعه فهناك حيواناتٌ حقيرةٌ جداً في نظر الناس أشد سمعاً من الإنسان، إذا افتخر مثلاً بقوَّة شَمِّهِ، فبعض أنواع الكلاب قوة شمِّه مليون ضعف عن قوة شم الإنسان، ما من صفةٍ، ولا حاسَّةٍ، ولا شيءٍ يمكن أن يفتخر به الإنسان إلا وفي الحيوان ما تَفَوَّق عليه، إلا أن الإنسان خُلِقَ ليعرف الله عزَّ وجل، وأُعطي العلم، أنت يمكن أن تفتخر، أو يمكن أن تقول: أنا، إذا كنت عالماً، لأن الله سبحانه وتعالى قال:

﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا(12)﴾

[ سورة الطلاق  ]

 فالعلم علَّة خلق السماوات والأرض.

 "خلقت السماوات والأرض ولم أعيَ بخلقهن أفيعييني رغيفٌ أسوقه لك كل حين ؟! خلقت السماوات والأرض من أجلكَ فلا تتعب وخلقتك من أجلي فلا تلعب، فبحقي عليك لا تتشاغل بما ضمنته لك عما افترضته عليك " .

 كل الكون مسخَّرٌ من أجل الإنسان، والإنسان خُلِقَ من أجل أن يعرف الله عزَّ وجل، لذلك كما قال الإمام الغزالي: "الإنسان شريفٌ لما خُلِقَ له"، لماذا خُلِقْتَ أنت؟ خُلِقْتَ في هذه الدنيا كي تعرف الله عزَّ وجل، فإذا عرفته عبدته، وإذا عبدته سعدت بقربه. 

﴿ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ ۗ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ(119)﴾

[ سورة هود ]

 آيةٌ صريحةً واضحةٌ محكمةٌ بيِّنةٌ كالشمس الساطعة ﴿إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾

3 – طلبُ العلمِ فريضة على كمل مسلم:

 لذلك العِلم ليس شيئاً نأخذه أو لا نأخذه، ليس شيئاً نتزيَّنُ به أو نستغني عنه، ليس حرفةً اخترناها أو اخترنا غيرها، لا، العلم كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح المتواتر: 

((  طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ   ))

[  من سنن ابن ماجة عن أنس بن مالك  ]

 ما معنى فرض؟ أقول لك معنى فرض من خلال هذه الأمثلة:

 إنّ استنشاق الهواء فرض، أي ضرورة، وأي شيءٌ يتوقَّف عليه بقاؤك، وشيء تتوقَّف عليه حياتك، وتتوقَّف عليه سلامتك فهو فرض، فاستنشاق الهواء مثلاً فرض، وتناول الطعام فرض، وطلب العلم فرض، لأنك إن لم تطلب العلم فلابدَّ من أن تقع، لكن لماذا تقع؟ لأن الله أودع فيكَ الشهوات، والشهوات قِوى مندفعة، لابدَّ لهذه القوة المندفعة من توجيه، الموجِّه هو العلم، قوَّةٌ مندفعة، مركبةٌ مندفعة بأقصى سرعتها من دون مِقْوَد لابدَّ من أن تتدهور، شيءٌ قطعي أودع الله فيك حبَّ الطعام والشراب لبقاء الفَرد، وأودع فيك حبَّ النساء لبقاء النَوع، وأودع فيك حبَّ العلو في الأرض لبقاء الذِكْر، هذه الشهوات التي أودعها الله في الإنسان هي حياديَّة، يمكن أن ترقى بها إلى أعلى عليين، ويمكن أن يهوي بها الإنسان إلى أسفل سافلين، إذا تزوَّج، وسلك في زواجه الطريق الشرعي يسعد بزوجته، ويرقى بها، وترقى به إلى أعلى عليين، فإذا حاد عن الزواج إلى الزنا هلك وأهلك، إذا كسب المال الحلال بارك الله له فيه، وأنفقه على عياله، وتَنَعَّم به، وسعد به، وإذا كسب المال الحرام أتلف الله ماله، وأتلفهُ معه.

 إذاً: موضوع العلم قضيَّة خطيرة جداً، فمثلاً: هل من الممكن لإنسان تأتي به من الطريق، ونقول له: اجلس على هذا المقعد، وهو مقعدٌ لربَّان طائرة، ومعك خمسمئة راكب، وحلِّق بهم؟ في أول غلطةٍ يودي بالركَّاب جميعاً، هذا كرسي ربَّان الطائرة، كرسي العلم، كم دورة مر بها لكي يعرف التحليق، وإذا حلّق بعد كذا هناك كبسة زر لتسخين الأجنحة وإلا تهوي الطائرة، لتشغيل الضغط وغيره من الأمور، وتجد الربَّان وإلى جانبه مساعد، هل من الممكن لإنسان من قارعة الطريق أن يقود طائرة؟ والله قيادة النفس أصعب من أن تقود الطائرة، يمكن أن تقود نفسك إلى دار السلام من دون علم؟ مستحيل، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام قال:  (طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ) والله عزَّ وجل قال: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا﴾ هذه النقطة الأولى.


مجالات علم داود عليه السلام:


1 – تلاوة الزبور بصوت حسن:

 ماذا آتى الله سيدنا داوود؟ قالوا: سيدنا داوود في مواطن أخرى من كتاب الله آتاه ترتيل الزَّبُور، هذا الذي يؤتيه الله ترتيل القرآن، أو ترتيل كتاب الله شيءٌ عظيم، وشيءٌ نفيس، فكلام الله سمح الله لك بتعلُّمه، سمح الله لك بتلاوته حقَّ تلاوته، سمح الله لك بتفهُّمه، من هنا قال عليه الصلاة والسلام: 

((  خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ  ))

[  أخرجه البخاري عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ]

 (خَيْرُكُمْ) اسم تفضيل، هناك أغنياء، وأقوياء، وأشخاص أصحاب صور جميلة جداً، وأناس يتمتَّعون بصحَّة جيِّدة، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ) .

 فسيدنا داوود قال الله فيه: آتيناه علماً، من هذا العلم أنه علَّمه ترتيل الزَّبُور، فكانت الجبال والطير تؤِّوبُ معه إذا تلا الزَّبُور، حتى إن العلماء إذا سمعوا صوتاً عذباً شجيَّاً من قارئ قرآن كريم، يُقال له: أُوتيت مزماراً من مزامير داوود، فأحياناً إذا قُرئ كلام الله بأداءٍ جيِّد، وصوتٍ جميل فإنه يفعل في النفس فعل السحر، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يستمع إلى كتاب الله من عبد الله بن مسعود، وكانت عيناه تذرفان بالدمع، فالإنسان المؤمن إذا استمع إلى كتاب الله يُتلى بأداءٍ حسن، ومن صوتٍ شَجِيّ فربَّما طرب بسماع القرآن ما لو جمعت ذوَّاقي الطَرَب في العالَم، فإنه لا يرقى طربهم جميعاً إلى مستوى طرب المؤمن بكتاب الله. 

2 – صناعة الدروع:

 ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا﴾ من عِلْمِ سيدنا داوود أنه علَّمه صناعة الدروع. 

﴿ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ ۖ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ(80) ﴾

 

[ سورة الأنبياء ]

3 – تليين الحديد:

 من علم الله لسيدنا داوود أنه علَّمه تطويع الحديد، وعلَّمه القضاء بين الناس، ولكن هذا النبي العظيم أهم شيءٍ تعلَّمه أنه عرف الله عزَّ وجل.


أصول مهمة:


 مرَّة ثانية: أصل الدين معرفة الله.

 وأصل العبادة معرفة الشرع.

 وأصل صلاح الدنيا معرفة طبائع الأشياء.

 فهذه العلوم الماديَّة التي إذا ذُكِرَت ظنَّها الناس هي العلم ولا علم سواها؛ الرياضيات، والفيزياء، والكيمياء، والفَلَك، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، يظنُّ الناس أن هذه العلوم وحدها هي العلم، هذه بعض أنواع العِلم، هذا علمٌ بالخليقة، وهناك علمٌ بالشريعة، هناك علمٌ بالحقيقة، هناك علمٌ بالله، هناك علمٌ بأمره، هناك علمٌ بخلقه، هذه العلوم الماديَّة المحسوسة التجريبيَّة يمكن أن ترفع مستوى معيشتنا، يمكن أن تطوِّع لنا الحديد، يمكن أن تختصر لنا الزمن، يمكن أن تقرِّب المكان، ولكنَّها لا تسعدنا، لا يمكن أن تسعدنا لأنها حرفةٌ من الحِرَف، أما العلم الذي يسعدك فهو العلم بالله عزَّ وجل، ولا يسعدنا، ولا تَضْبِطُ سلوكنا، ولا تمنعنا من الزيغ، ولا تستأصل ما في النفوس من الحقد، فترى بعض العلماء الكبار من علماء المادّة غارقين في شهواتهم إلى قمَّة رؤوسهم، أقول: بعضهم طبعاً.

إذاً هذه العلوم لا تكفي، لكنَّ العلم الذي لابدَّ من تعلُّمه أن تعرف الله عزَّ وجل. "ابن آدم اطلبني تجدني فإذا وجدتني وجدت كل شيء وإن فتُّك فاتك كل شيء" .


ماذا أوتي سليمانُ عليه السلام ؟


 أما سيدنا سليمان فقد عرف الله عزَّ وجل، آتاه الله المُلْك، علّمه منطق الطير، سخَّر له الرياح، علَّمه القضاء بين الناس..

﴿ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ۚ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ ۚ وَكُنَّا فَاعِلِينَ(79)﴾

[ سورة الأنبياء ]

﴿ وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78)﴾

[  سورة الأنبياء ]

 إذاً: في سوَرٍ أخرى، وفي قصصٍ أُخرى جاء تفصيل ماذا علَّم الله نبيَّه داوود، وماذا علَّم الله نبيَّه سليمان، أما هنا جاء الكلام مختصراً: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا﴾


وقفة مع ( آتَيْنَا ):


 أنا أريد أن أقف عند كلمة ﴿آتَيْنَا﴾ إنّ نقطةً من الدم لا يزيد حجمها عن حجم رأس دبوس، إذا تجمَّدت في بعض شرايين المخ يفقد الإنسان ذاكرته كلها، كل معلوماته، ثمانيةً وعشرين عاماً قضاها في التَعَلُّم حتَّى نال أعلى درجة جامعيَّة، يفقدها كلها إذا تجمَّدت نقطة دمٍ في دماغه، يقول لك: فقد ذاكرته، والعلم كله ذاكرة، لو أن هذه النقطة من الدم تجمَّدت في مكانٍ آخر لأخذه أهله إلى المستشفى، مستشفى المجانين، بوساطة، وبترجٍّ، وبمسعى حثيث، إذاً: إذا سمح الله لك أن تتعلَّم فهذا العلم من الله عزَّ وجل، هو الذي علَّمك، الله عزَّ وجل قال:

﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ ۖ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ ۚ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)﴾

[  سورة النساء  ]

 إذاً: يجب أن نقف عند هذه الكلمة: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا﴾ العلم ما علَّمك الله إيَّاه، أمَا الإنسان بأي لحظة يفقد علمه أو يُحال بينه وبين أن يَتَعَلَّم.


الفائدةُ مِن تنكير كلمة ( علمًا ):


 الشيء الآخر: كلمة "علماً"، هذه جاءت نكرة، لم يقل: ولقد آتينا داود وسليمان العِلْمَ، العلم (معرَّفة)، وكأنه علمٌ معيَّن، أما (علمًا) فنكرة، فهذا التنكير عند علماء البلاغة تنكير التعظيم.

 شيءٌ آخر، هناك شيء قبل أن أنتقل إلى الفقرة الثانية.

﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا﴾ كلمة علماً هذه جاءت مُطْلَقَة، ومعنى ذلك أن العلم على إطلاقه ثمين، لقول الله عزَّ وجل:

﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ۗ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)﴾

[  سورة الزمر ]

 العلم ثمين، أيُّ علمٍ، لكنّ هناك علماً ممتعاً، أيُّ علمٍ ممتع، وهناك علمٌ ممتعٌ نافع، ينفعك في الدنيا، كشهادة اختصاصيَّة نادرة، والناس على بابك يقفون، وكل واحد لابدَّ من أن يدفع مبلغاً كبيراً، إذاً هناك علمٌ ممتعٌ، وهناك علمٌ ممتعٌ نافعٌ، لكنْ هناك علمٌ ممتعٌ نافعٌ مسعِدٌ وهو العلم بالله عزَّ وجل، أخطر ما في الموضوع أن كل علمٍ تنتهي قيمته، وينتهي أثره، وينتهي نفعه، وتنتهي متعته عند الموت هذا العلم لا قيمة له في الدار الآخرة، لو كنت من أعظم المؤرِّخين وكتبت كتباً عدَّة، وابتغيت بها الدنيا، وجمعت من ورائها مالاً طائلاً، وجاء ملَك الموت وما عرفت الله عزَّ وجل، هذا العلم لم ينفعك شيئاً.

 وهذا تشبيه بسيط: لو أن إنساناً عنده مكتبة ضخمة، أربعة جدران ممتلئة بالكتب، من أدنى طبقةٍ إلى السقف، وعنده بعد أيَّام، أو بعد شهر أو شهرين فحصٌ مصيري، يتوقَّف على نجاحه في هذا الفحص مستقبله ومصيره، هذا الإنسان العاقل يجب أن يختار من كل هذه المكتبة الكتاب المُقَرَّر، فما يُطْبَع في اليوم الواحد لا يستطيع الإنسان أن يقرأه إذا ترك كل أعماله في مائة عام، فتحصيل العلم بشكل شمولي مستحيل، لابدَّ من أن تختار، يجب أن تختار الكتاب المُقَرَّر، والكتاب المقرَّر الذي يتعلَّق به مصيرك في الدنيا والآخرة هو القرآن الكريم، هو الغنى الذي لا غنىً بعده ولا فقر دونه، ومن تعلَّم القرآن فرأى أن أحداً أوتي خيراً منه فقد حَقَّرَ ما عَظَّمَهُ الله. 


وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ


 ﴿وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ دقِّقوا في هذه الآية، لو أخذنا ألف مؤمن، مائة ألف مؤمن، مليون مؤمن، وأردنا أن نرتِّبهم وفق سُلَّمٍ، فليس هناك إلا قيمةٍ واحدة وهي العلم، الله عزَّ وجل قال: ﴿وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا﴾ بماذا فضَّلنا؟

﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ إذاً: بماذا فُضِّل سيدنا داود وسليمان؟ بالعلم، إذاً: فما هي القيمة المرجِّحة في التمييز بين المؤمنين، في الترجيح بينهم، في التفاضل بينهم؟ إنه العلم، ولا شيء غير العلم، لذلك: "إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم"، العلم نور يكشف لك الطريق، يكشف لك الحلال من الحرام، يكشف لك الحقَّ من الباطل، يكشف لك الخير من الشر، يكشف لك النافع من الضار، يكشف لك الثمين من البخيس، النفيس من الخسيس، بالعلم.

﴿ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ۖ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ ۖ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ(16)﴾

[ سورة النمل ]


وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُود


ميراثُ العلم أفضل ميراثٍ:

 هذه الوراثة ليست وراثة مالٍ أو نبوَّة؛ ولكنَّها وراثة العلم، لأن النبوَّة كما تعلمون في علم العقيدة لا تُوَّرَّث، ولكن الله عزَّ وجل أشار بهذه الوراثة إلى وراثة العلم، أي كما كان داوود عليه وعلى نبيِّنا أفضل الصلاة والسلام أوتي العلم كذلك أوتي ابنه سليمان العلم، فكأنَّما سليمان ورث العلم من الله عزَّ وجل، وجاء بعد أبيه داوود، فكأنَّما ورث هذه المكانة، وورث هذه المنزلة، وهذا المقام. 


وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْر


من معجزات سليمان عليه السلام: فهْمُ لغة الطيور:

﴿وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ﴾ الآن هناك نقطة مهمَّة جداً أتمنَّى عليكم أن تقفوا عليها، هذه معجزة، أن يستطيع الإنسان أن يفهم على الطيور، وأن يَتَعَلَّمَ لغتها، وان تُسخَّر له الطيور، وأن تُسخَّر له الريح، فإذا أردنا أن نفهم هذه الآية فهماً بعيداً عن الصواب قلنا: إن سليمان من خلال التجربة عرف أصوات الطيور، وماذا تعني، هذا شيءٌ يعرفه العلماء، علماء الأحياء.

 افتح الآن كتاباً عن الطيور تجد أن هناك دراساتٍ وتجاربَ، وتسجيلاً لأصوات الطيور، هذا الصوت ماذا يعني؟ بهذا الصوت يجتمعون، بهذا الصوت يتفرَّقون، بهذا الصوت يحذرون، بهذا الصوت يدعو الذَكَرَ أنثاه، فالعلماء العاديون من خلال تجارب طويلة جداً، وبحوث، وإجراءات، وتسجيلات ربَّما اكتشفوا ماذا تعني هذه الأصوات؛ بينما علم سيدنا سليمان ليس من هذا القبيل، ذاك علمٌ تجريبي، ولكن علم سيدنا سليمان علمٌ لَدُنّي، هناك وفرقٌ بين العلم التجريبي والعلمٌ اللدني، لو أخذت آلةً من هذه الآلات، وأنت لا تفقه في تصميمها شيئاً، فنزعت هذا الشريط فتوقَّف الصوت، تقول هذا الشريط للصوت، نزعت هذا المفتاح فارتفع الصوت كثيراً تقول: هذا المفتاح لضبط الصوت، مثل هذا العلم العلم التجريبي هو الذي يتعلَّمه الإنسان من خلال الواقع، ولكنَّ العلم الذي يُعَلِّمه الله لأنبيائه نوعٌ آخر، إما أن تكتشف حقائق العلم بالتجربة فعلمك تجريبي، وإما أن تأخذه من الله مباشرةً فعلمك لَدُنِّي، لذلك قالوا: "الحقائق يكتشفها العلماء بالتجربة، وتنحدر إلى الأنبياء عن طريق الوحي"، فهذا النبي العظيم تعلَّم لغة الطير لا عن طريق التجريب؛ بل عن طريق الإعجاز، فالله سبحانه وتعالى علَّمه منطق الطير.


وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ


1 – يجب أن تنسب الفضلَ لله وحدَه:

 ﴿وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ﴾ إذا تحدَّث الإنسان عما أعطاه الله عزَّ وجل قد تزلُّ قدمه إلى الفخر، وقد تزلُّ قدمه إلى العُجب، وقد تزل قدمه إلى أن يحقِّق بين الناس سمعةً مُتَأَلِّقة، ليس هذا هو المطلوب، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال:

((  أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ  ))

[  الترمذي عن أبي سعيد الخدري ]

 الله وحده يعلم إذا قلت عن نفسك ما قلت، يعلم ما إذا كنت تبتغي الفخر، أو تبتغي التبيان والتوضيح، أنت أحياناً تسلك سلوكاً معيَّناً، فتقطف ثمار هذا السلوك، هذا درسٌ من الله عزَّ وجل، فإذا وضَّحت هذا الدرس للناس ليس هذا من قبيل الفخر ولا من قبيل العُجب؛ بل من قبيل إيضاح الحقائق، تبيين الحق، وتبيين الحق عهدٌ أخذه الله على العلماء الذين يحتلون مكانة إلقاء العلم، فسيدنا سليمان قال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾ 

﴿ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ (35)﴾

[  سورة ص ]

 لكن الله يعلم أن هذا النبي العظيم حينما طلب الملك ما طلبه ليستمتع به، وما طلبه ليعلو به على الناس، ولا طلبه ليُسَخِّرَ هذا الملك لمصالحه الشخصيَّة، إنما طلبه ليكون عوناً له على هداية الخلق، فالأعمال كما قال عليه الصلاة والسلام: 

((  إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى  ))

[   سنن البخاري عن عمر بن الخطَّاب  ]

 إذا تحدَّثت عن هذا الشيء فلا مانع، أما إذا آتاك الله شيئاً خاصَّاً بك، ومتعلِّقاً بالدنيا فليس من الحكمة، ولا من الرحمة، ولا من التواضع أن تحدِّث الناس به، فإذا أكرمك الله بالمعرفة، أو أكرمك الله بحالٍ طيِّب، وذكرته للناس فمن أجل أن تشجِّعهم على ذلك، أما إذا ابتغيت به أن ترتفع على الناس فهذا فخرٌ نعوذ بالله منه، أما سيدنا سليمان قال: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ﴾ ولمجرَّد أن تعزو الفضل إلى الله عزَّ وجل فهذا أحد أنواع الشكر، لذلك المؤمن كيفما تكلَّم يقول: هذا من فضل الله علي، لقد أكرمني الله بكذا، لقد أعانني على فعل هذا العمل الطيِّب، لقد سمح لي أن أدعو له، كل عملٍ طيِّبٍ تعمله يجب أن تعزوَهُ إلى الله لا أدباً ولا تواضعاً بل حقيقةً، هذا الذي حصل، لولا أن الله سبحانه وتعالى سمح لك لما أنطقك، لولا أنه أعانك لما مَكَّنك، لولا أنه ألهمك لما يَسَّرَ لك.

﴿ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا ۚ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ۚ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)﴾

[  سورة هود  ]

 تكفينا هذه الآية، ما من عملٍ طيِّبٍ في الأرض يحقِّق نتائجه إلا بتوفيق الله تعالى، هكذا ﴿وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ﴾

2 – شمولية المُلكِ في قوله: وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ

 ﴿وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾ إنه يقصد بما آتاه الله من تسخير الرياح، ومن تعليم الناس، ومن معرفة الله عزَّ وجل، ومن الحكم بين الناس والقضاء بينهم، هذا كلُّه مشمولٌ بقوله تعالى: ﴿وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ﴾ لا يعرف الشوق إلا من يكابده، ولا الصبابة إلا من يعانيها.

﴿ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ(28)﴾

[  سورة هود ]

 الأمور واضحة جداً أمامه ﴿وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ﴾ يمكن أن يكون المؤمن بنظر من حوله من أقربائه، من جيرانه، من أصحابه أن يكون بائساً، فهو مسكين، وما حَصَّل شيئاً من الدنيا بنظرهم، وهمه الله، ما له إلا هذا الهم؛ هذا المؤمن الذي يظنُّه بعض الناس ما حصَّل شيئاً قد يكون من ملوك الدار الآخرة، قد يكون هذا المؤمن من أسعد الناس الذين حوله، قد يكون من أرفعهم عند الله مكانةً، فإذا جاءهُ ملك الموت انتقل من دار الفناء إلى دار البقاء، من دار العمل إلى دار الإكرام، من دار التكليف إلى دار التشريف، من دار الابتلاء إلى دار الجزاء، وإلى الأبد في جنَّةٍ عرضها السماوات والأرض، فهذا واللهِ هو الطُّموح، هذا والله هو النشيط، هذا والله الذي عرف كيف ينال الحظَّ الأوفر. 

﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ﴾

﴿  ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ(1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ(2) وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ(3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ(4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ(5) بِأَيِّيكُمْ الْمَفْتُونُ(6) ﴾

[  سورة القلم  ]

 البطولة لا لمَن يضحك أولاً؛ بل لمن يضحك آخراً، هذه البطولة، الغنى والفقر ليس في الدنيا، الغنى والفقر بعد العرض على الله، الفوز ليس أن تشتري أرضاً ثم يرتفع ثمنها إلى مائة ضعف، ليس أن تمتلك بناءً ضخماً يغنيك ويغني أولادك من بعدك، لا، البطولة والغنى أن تُزَحْزَحَ عن النار وتدخل الجنَّة.

﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) ﴾

[ سورة آل عمران ]

 البطولة لا أن تُرضي الناس، بل أن ترضي ربَّ الناس، البطولة لا أن تكون عند الناس ذا شأنٍ عظيم؛ بل أن تكون في عين الله كبيراً، أن تكون بأعين الله كما قال الله عزَّ وجل، البطولة أن تكون العاقبة لك.

3 – فائدةٌ مستنبطةٌ من قوله: ِإنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ﴾ لو قال: إن هذا فضلٌ مبين فماذا تعني كلمة "هو"؟ ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ﴾ أيْ كلُّ ما سواه ليس فضلاً، الفضل الوحيد هو أن تعرف الله عزَّ وجل، وأن تستقيم على أمره ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ﴾ لو قال: إنَّ هذا فضلٌ مبين، فإنها لا تعطي هذا المعنى ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ﴾ هذا هو الفضل، وما سواه ليس فضلاً، وما سواه سراب، ما سواه وَهْم، ما سواه ظن.

﴿ وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ(17)﴾

[ سورة النمل ]


وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ


1 – تسخير الجن والإنس والطير لخدمة لسليمان:

 الله سبحانه وتعالى سَخَّرَ لهذا النبي عدداً كبيراً من الإنس يعملون بأمره، وعدداً من الجن، وعدداً من الطَيْر، سُخِّر لهذا النبي العظيم الجن ليس مجموعهم بل بعضهم ﴿مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ﴾ يفيد هذا المعنى كلمة (من) لأن من للتبعيض، أيْ سُخِّر لهذا النبي من الجن عدد، ومن الإنس عدد، ومن الطير عدد.

2 – فَهُمْ يُوزَعُونَ

 ﴿فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾ أي يُجْمَعون، أيْ جمع الله له هؤلاء جميعاً، أولهم على آخرهم، أي جُمِعوا في موكبٍ واحد، أما الطير فيبدو مما سنصل إليه أنه ليس مطلق الطير؛ بل نوعٌ خاصٌ من الطير يتفوَّق على أمثاله، فليس من شأن الطير إذا حَلَّقَ فوق مدينة أن يتعرَّف إلى ملِك هذه المدينة، وإلى طاعته لله عزَّ وجل، وإلى معرفته بالله، وإلى انحرافه أو استقامته، هذا ليس من شأن الطير، لكن هذا النبي الكريم سُخِّر له طيرٌ من نوعٍ خاص، عنده قوة إدراكٍ لا يملكها أمثاله من الطيور، والجن كما تعلمون: 

﴿ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا ۚ لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ(33)﴾

[  سورة الرحمن ]


من صفات الجن:


1 – الجنّ يرون الإنس ولا عكس:

 المخلوقات بعضُها مكلَّف، وهو الإنس والجن، مكلَّفٌ بالأمانة، مكلَّفٌ بتزكية نفسه، مكلَّفٌ بطاعة الله عزَّ وجل، فالجن مخلوقات خُلِقَت من مارجٍ من نار، سريعة الحركة كما ورد في القرآن الكريم، بعض الجن آمن مع رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، الجن لهم صفاتٌ، منها أنهم يرون الإنس، أما الإنس فلا يرونهم. 

﴿ يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا ۗ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ۗ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)﴾

[  سورة الأعراف ]

 الجن نحن لا نراهم، لا نستطيع أن نقول عنهم إلا ما قاله الله عزَّ وجل من دون زيادة، لأن سبيل الإيمان بهم هو الخبرُ اليقيني، الخبر الصادق، اليقين الإخباري، لذلك نكتفي بما ورد في القرآن الكريم في سورة الجن وفي مواطن أخرى، ليس للجن سلطانٌ على الإنس، والدليل: 

﴿ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم ۖ مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ ۖ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ۗ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)﴾

[ سورة إبراهيم ]

2 – الجنّ يوسوسون:

 الجن يملكون الوسوسة:

﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ(1) مَلِكِ النَّاسِ(2) إِلَهِ النَّاسِ(3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ(4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ(5) مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ(6)﴾

[  سورة الناس  ]

 هذا كلُّه نعرفه من كتاب الله عزَّ وجل، ولا نستطيع أن نضيف عليه شيئاً آخر، لا نستطيع أن نراهم، أما هم فإنهم يروننا، ويوسوسون، ولكن لا يملكون علينا سُلطاناً إطلاقاً.

﴿وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾ جُمِعوا في موكبٍ واحد.

﴿ حَتَّىٰ إِذَا أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ(18)﴾

[ سورة النمل ]


حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ


 هذا الموكب الذي فيه النبي الكريم سليمان، وفيه عددٌ كبيرٌ من الإنس ومن الجن ومن الطير، هذا الموكب الذي جُمِعَ له، وسُخِّر له، في أثناء تحرُّكه أتى على وادي النمل، هذه القصَّة فيها عدد كبير من خَرْق العادات.


قصة سليمان:


1 – بين المستحيل عقلا والمستحيل عادةً:

 الآن أريد أن أقف معكم قليلاً، نحن أحياناً نقول: هذا الشيء مستحيل عادةً، وهذا الشيء مستحيل عقلاً، فما الفرق بين المستحيل عادةً والمستحيل عقلاً؟

 هناك فرقٌ كبير، الله سبحانه وتعالى واجب الوجود، والكون جائز الوجود، ممكن الوجود، أي أن الكون خُلِق هكذا، وكان من الممكن أن يكون على خلاف هذا، الإنسان يتكلَّم، وكان يمكن ألا يتكلَّم، الإنسان يأكل وكان من الممكن أن يُخْلَق بلا طعام ولا شراب، الإنسان له حركة معيَّنة، له بصر معيَّن، فالذي خُلِقَ الإنسان به على هذا الوضع، هذا ممكن، ومعنى ممكن أي ممكن أن يكون في شيء آخر، ممكنٌ أن يكون الإنسان من غاز، أو من نور، أو من المعدن، ممكن، فكل شيء خلقه الله عزَّ وجل نقول عنه: هذا ممكن، الكون كلُّه ممكن، والله سبحانه وتعالى واجب الوجود، في علم العقيدة هناك شيءٌ واجب الوجود، وهناك شيءٌ ممكن الوجود، وهناك شيءٌ مستحيل الوجود، هذا ندرسه في دروس الجوهرة يوم السبت.

 عندنا الآن خرق للعادات، بحكم العادة مستحيل أن يمشي إنسان في الطريق فيستمع إلى نملة، ما تقوله لمثيلاتها، إذاً هذا خرقٌ للعادات، وأن تعرف النملة أن هذا نبيٌّ عظيم، وهؤلاء من حوله جنٌّ وإنسٌ وطير، أيضاً هذا خرق للعادات. 


مجتمع النمل نظام مذهل:


  بالمناسبة: لو أن هناك وقتاً اطلعنا فيه على حقيقة مجتمع النمل لأخذنا العجبُ العُجاب، شيءٌ لا يُصدَّق، مجتمع النمل ومجتمع النحل من حيث النواحي الاجتماعيَّة والنظام أرقى من بني البشر، هناك مستعمرات للنمل، هناك مزارع للنمل، النمل يربي بعض الماشية، فهناك حشرات خاصَّة يقتات النمل على رحيقها، يربيها في مزارع، النمل له قيادة، النمل له نظام في الانضباط عجيب جداً، النمل يُرْسِل استطلاعاً إذا تنقَّل، النمل يخزِّن موادَّه الغذائيَّة بعد أن ينزع الرُّشَيم من القمحة، وفي بعض أنواع الحبوب لها رشيمان فينزعهما لئلا تنمو.

 في خطبة قبل أسبوعين أو ثلاثة تحدثت عن النمل؛ شيءٌ لا يصدَّق، حركاتهم، انضباطهم، عدوانهم، حروبهم، سِلمهم، نظامهم، زواجهم، مجتمع النمل مجتمعٌ أرقى من مجتمع البشر من حيث التنظيم والانضباط، وكذلك مجتمع النحل.

كما قلت في أول الدرس: إذا افتخر الإنسان بنظامه ففي الحيوان من هو أشد منه انتظاماً، إذا افتخر بحجمه، إذا افتخر بعظمه، إذا افتخر بقوَّته، إذا افتخر بجماله، إذا افتخر بسفاده، فأيُّ حيوانٍ، أيُّ صفةٍ يفتخر بها الإنسان ففي الحيوان ما يتفوَّق بها عليه، إلا أن الإنسان خُلِقَ لمعرفة الله، فشرفُه من شرف مهمَّته، فما دام في مهمَّته فإنه يكتسب هذا الشرف العظيم، فإذا تخلَّى عن مهمَّته عاد إلى أسفل سافلين.

﴿  وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ(1) وَطُورِ سِينِينَ(2) وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ(3) لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ(4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ(5) إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ(6)﴾

[  سورة التين  ]

 إذاً: ﴿حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ﴾  


يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ


 بينما كان سيدنا سليمان مع الجن والإنس والطير سمع سيدنا سليمان نملةً تقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ .


وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ: لا يجوز قتلُ النملِ:


 استنبط العلماء أنه لا يجوز للإنسان أن يدوس نملةً ويقتلها، لأنهم إذا حطمهم سيدنا سليمان لكان ذلك لأنهم لا يشعرون: ﴿وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ أما أن تُداس النملة بقدمٍ شاعرةٍ، تشعر أن هذه نملة، وأنت سوف تدوسها، هذا ليس من أخلاق المؤمن استنباطاً من هذه الآية، إذاً: أن تعرف النملة أن هذا نبيٌّ كريم، وأن هذا الحشر الذين معه سُخِّروا له.  

﴿لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ وأنهم من الورع ومن اللطف بحيث أنهم لو قتلوا نملةً لا يشعرون، هذا خرقٌ للعادات، وأن يستمع هذا النبي العظيم لهذه النملة تخاطب مثيلاتها، وتحذِّرهم من هذا الموكب الذي قد لا يشعر فيدوسهم بأقدامه، هذا أيضاً خرقٌ للعادات..

﴿ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ(19)﴾

[ سورة النمل ]


فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَ


1 – التبسُّمُ من أخلاق الأنبياء والصالحين:

 القهقهة ليست من أخلاق المؤمنين، النبي عليه الصلاة والسلام كان جُلُّ ضحكه التبسُّم.

﴿فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ﴾ الشكر، فالله عزَّ وجل يقول:

﴿ مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا(147)﴾

[  سورة النساء ]

2 – الكونُ مسخَّر تعريفا وتكريما:

 فهذا الكون الذي سخَّره الله لنا سخَّره مرَّتين، سخَّره تسخير تعريف، وسخَّره تسخير تكريم، فيجب أن يكون موقفنا من التعريف الإيمان، ومن التكريم الشكر والعِرْفان، إذا آمنا وشكرنا حقَّقنا المهمَّة في الأرض، فإذا آمنا ولم نشكر، أو شكرنا ولم نؤمن فقد اختلَّت مهمَّتنا، إذاً لابدَّ من التضييق والعلاج، قال تعالى: ﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا﴾

إذاً: ﴿رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ﴾


َقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ


حدودُ الشكر:

الحدُّ الأول: الحدُّ الأدنى:

 الشكر له حدَّان، حدُّه الأول: أن تعزو هذه النعمة إلى الله، ما دمت تقول: أنا، ولي، وعندي، فأنت لا تعرف الله عزَّ وجل، قال الشيطان: أنا فأهلكه الله، قال: 

﴿ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ۖ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ(12)﴾

[  سورة الأعراف ]

 وقال فرعون: 

﴿ وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ(51)﴾

[  سورة الزخرف ]

 فأهلكه الله عزَّ وجل، وقال قارون: 

﴿ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي ۚ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ۚ وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ(78)﴾

[  سورة القصص ]

 أنا، ولي، وعندي، هذه الكلمات فيها شرك.

 أما الشكر فأن تعزو النعمة إلى الله عزَّ وجل ﴿رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ﴾ هذا الحدُّ الأدنى.

الحدُّ الثاني: الحدُّ الأعلى:

 والحدُّ الأعلى: 

﴿ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ ۚ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)﴾

[  سورة سبأ ]

 أن تقابل النعمة بعملٍ طيِّب، "يا رب كيف أشكرك؟ قال: "إنَّك إن ذكرتني شكرتني، وإذا ما نسيتني كفرتني".

 فأن تعزو النعمة إلى الله شكر، وأن تشكر الله عزَّ وجل كثيراً شكر، وأن تعمل صالحاً شكر، وأن تفعلها معاً هذا نوعٌ طيبٌ من الشكر. 

﴿أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ﴾ يا رب كيف أشكرك، وشكرك لا يتمُّ إلا بنعمةٍ أخرى مِن نعمك؟ نعمة الشكر ﴿وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ﴾ .


وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ


 أي أن تعمل صالحاً فهذه ترضي الله عنك، فقمَّة السعادة أن تعمل صالحاً فيرضى الله عنك، أن يكون عملك في مرضاة الله عزَّ وجل، المؤمنون ابتغوا رضوانه، والمنافقون كرهوا رضوانه..

﴿ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28)﴾

[  سورة محمد ]

 أما المؤمن فيبتغي رضوان الله عزّ وجل، لذلك: "إلهي أنت مقصودي، ورضاك مطلوبي" .  


وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ


 ﴿وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ﴾ في هذا الحال الطيِّب، في هذا التجلي، في هذه السعادة الدائمة، في هذه الجنَّة التي وعدت بها عبادك المؤمنين.

﴿وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ﴾ بقي شيءٌ في هذه القصَّة، هو أن الله سبحانه وتعالى حينما قال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ﴾ أو: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا﴾ .

فائدة جليلة: لماذا ذكر الله نعمة العلمِ على سليمان ولم يذكر نعمة الملك عليه ؟

 الله عزَّ وجل آتاه الملك أيضاً، فلِمَ لم يذكر الله الملك وذكر العلم؟ قال بعض المفسِّرين: لأنك إذا وضعت المُلك إلى جنب العلم فليس بشيء، إذا وضعت المُلك، وما أدراك ما الملك، إذا وضعته إلى جنب العلم فليس الملك شيئاً أمام العلم، لأن الله سبحانه وتعالى يعطي الملك لمن يحبُّه ولمن لا يحبُّه، ويعطي المال لمن يحبُّه ولمن لا يحبُّه، لكن العلم اللدُنِّي، لكن العلم بالله لا يعطيه إلا لمن يحبُّه، فإذا أعطاك الله شيئاً يمتدُّ، تسعد به إلى الأبد، هذا الشيء المسعد إلى الأبد لا يمكن أن يُذْكَر معه شيءٌ يفنى مع الموت، من هنا كانت حكمة الله عزَّ وجل أنه حينما ذكر أنه أعطى سليمان العلم لم يذكر معه المُلك، لأن الملك لا يُقاس بالعلم، هل تقول: أعطيت فلان بيتاً وصحناً؟ الصحن لا يُوازَن مع البيت، لذلك هذه بعض الحكمة من إغفال المُلك وإظهار العِلم.


يجب أن يعرف ذو العلم قيمةَ العلم:


 شيءٌ آخر: اللائق بكل ذي علمٍ أن يَعْلَمَ قيمته، إذا شخص أتاه الله عزَّ وجل العلم فلا يجب أن يهين نفسه لأن الله كرَّمه.

((  ابتغوا الحوائج بعزَّة الأنفس فإن الأمور تجري بالمقادير  ))

[ الألباني بسند ضعيف ]

 لا يستخف بعلمه، لا يضع علمه في مكان غير لائق به، لا يكن مع عامَّة الناس، كيف؟ هناك أماكن لا تليق بمن آتاه الله العلم أن يكون بها، كأن يُقحِم نفسه في مناقشاتٍ ما، في أعمال، في تصرُّفات، فالذي آتاه الله العلم ينبغي أن يُكَرِّمه بالتعفُّف، أن يكرِّمه بالعزَّة.

﴿ يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ۚ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ(8)﴾

[ سورة المنافقون ]

 فلا يليق بكل ذي علمٍ إلا أن يعلم قيمة علمه، وأن يعلم مصدر علمه، وهو الله عزَّ جل، وأن يتوجَّه إلى الله بالحمد ﴿وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا﴾ ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ﴾ ﴿رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ﴾ في سطرين أو ثلاثة جاء ذكر الشكر والحمد، وبيان الفضل ثلاث مرات، فمن آتاه الله العلم يجب ألا يضيِّعه، يقول سيدنا علي: << قِوام الدين والدنيا أربعة رجال: عالمٌ مستعملٌ علمه، وجاهل لا يستنكف أن يتعلَّم، وغنيٌ لا يبخل بماله، وفقيرٌ لا يبيع آخرته بدنياه، فإذا ضيَّع العالِم علمه استنكف الجاهل أن يتعلَّم >> .


ما الذي يدعو الناسَ إلى التعلُّم ؟


 ما الذي يدعو الناس إلى التعلُّم؟ أن يكون العالِم في مستوى علمه، وأن تكون أخلاقه كما يقول، وأن يكون عمله مطابقاً لقوله، أن يكون متخلِّقاً بأخلاق النبي عليه الصلاة والسلام، حتى يرغبَ الناس في علمه، فإذا ضيَّع العالِم علمه استنكف الجاهل أن يتعلَّم، وإذا بخل الغني بماله باع الفقير آخرته بدنيا غيره.

في هذا الدرس أنهينا قصَّة سيدنا سليمان مع النمل، وبعدها ننتقل إلى هذا النبي الكريم مع الهدهد، وبعدها مع الملكة بلقيس.


سؤالٌ وفائدةٌ:


 وبعد، فهنا سؤال يطرح نفسه: لماذا قدَّم الله تعالى في هذه الآية الجن على الإنس؟ قال تعالى: ﴿وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾ القاعدة: أن تقديمَ الجن على الإنس أو الإنس على الجن بحسب أهمية الموضوع، فإذا كان الحديث عن إعجاز القرآن، يقول الله عزَّ وجل:

﴿  قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا(88)﴾

[  سورة الإسراء  ]

 وإذا كان الحديث عن خرق السماوات والأرض: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ﴾ 

 هنا لما حشر ربنا عزَّ وجل لهذا النبي العظيم الجن والإنس والطير فقط حشرهم ليُعينوه، ويبدو أن الجن أقدر على أن يتنَقَّلوا بسرعة من مكان إلى آخر من الإنس، لذلك قُدِّموا على الإنس تقديماً يتناسب مع موضوع الآية.

والحمد لله رب العالمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور