وضع داكن
28-03-2024
Logo
الدرس : 12 - سورة النمل - تفسير الآيتان 61 - 62 الإعجاز في خلق الماء
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق المبعوث رحمة للعالمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 أيها الأخوة المؤمنون، مع الدرس الثاني عشر من سورة النمل.


هناك مجموعة آياتٍ تأتي تباعاً إنها من فعل الإله العظيم:


 وصلنا قبل درسين إلى قوله تعالى:

﴿  قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ(59)﴾

[  سورة النمل ]

 كأن الله سبحانه وتعالى فيما سيأتي من آيات يبيِّنُ أنه لا إله إلا الله، وأن مقام الألوهية يقتضي خلق السماوات والأرض، يقتضي تسيير الكون، يقتضي إسالة الأنهار، يقتضي خلق الجبال، هناك مجموعة آياتٍ تأتي تباعاً إنها من فعل الإله العظيم، فهل يستطيع أحدٌ من دون الله أن يدَّعي أنه خلق السماوات والأرض؟ هل تستطيع جهةٌ ما أن تدّعي أن بإمكانها أن تنزل من السماء ماءً؟ هل في الكون جهةٌ تدّعي أنها تنبت النبات؟ إنبات النبات آيةٌ عظيمة تدل على عظمة الله عزَّ وجل، هل من جهةٍ تستطيع أن تجعل هذه الأرض قراراً؟ كيف أنها بحجمٍ مناسب، وبسرعةٍ مناسبة، وذات تربة مناسبة، وذات استواء مناسب، وذات جاذبية مناسبة، وفيها من الماء والهواء والنبات، وفيها كل شيءٍ يدعو إلى استقرار الحياة فيها، هذا تم شرحه في درسٍ سابق. 

﴿ أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ(61)﴾

[ سورة النمل ]

 الحقيقة هناك نقطة دقيقة جداً، هو أن الذي لا يعرف الله تدعوه ليعرفه من خلال الكون، أما الذي يعرف الله عزَّ وجل تدعوه ليأخذ ما أمر الله، وينتهي عما نهى عنه، فأنت تدعو غير المؤمن إلى الإيمان بالله، وتدعو المؤمن إلى أن يطبق أمر الله عزَّ وجل، فلذلك لا يكون التلقَّي من الله قبل أن تؤمن به، فمن أجل أن تبني إيمانك بناءً متيناً أساسه الحقيقة الثابتة، والحقيقة كما تعلمون علاقةٌ ثابتة مقطوعٌ بصحَّتها يؤكِّدها الواقع، عليها دليل، يجب أن ننخل كل شيءٍ نتصوره ونبقي على هذه الحقائق الصرفة، لأن الحقيقة هي وحدها التي تنقذ الإنسان من شقاء الدنيا والآخرة. 


من أراد معرفة عظمة الله عزَّ وجل فحسبه هذا الكون:


 ربنا سبحانه وتعالى يقول: ﴿أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا﴾ ظاهرة الماء، هذه ظاهرةٌ تُلفت النظر، فالآيات التي تدل على عظمة الله لا تعدُّ ولا تحصى، ولكن حسبنا تلك الآيات التي وردت في كتاب الله، الآية التي ذكرها الله عزَّ وجل في كتابه تعني أن نفكر بها، ففي الدرس الماضي تحدثنا عن أن الأرض قرار، جعلها الله قراراً، القرار المادي، والقرار المعنوي، وفي هذا الدرس نتحدث عن ظاهرة الماء، هذا الماء الذي جعله الله قِوام الحياة، الذي جعل منه كل شيءٍ حي، هل تأملت في خواصه، لا لون له، لا طعم له، لا رائحة له، سيولته، تبخُّره، دخوله في أدق المسام مثلاً، هذا الماء متى يَتجَمد، كيف يتجمد؟ هذا الماء هل ينضغط؟ لماذا لا ينضغط؟ هذه الخصائص التي أودعها الله في الماء ألا ينبغي أن نفكر فيها كي نعرف عظمة الصانع؟

 أهل الدنيا مع الصنعة، ولكن أهل الإيمان مع الصانع، أهل الدنيا مع النعمة، ولكن أهل الإيمان مع المُنعم، أهل الدنيا مع الخَلق، أما أهل الإيمان مع الخالق، أهل الدنيا مع النظام، أما أهل الإيمان مع المُنَظِّم، فمن هو المؤمن؟ الكافر يرى ما يراه المؤمن، يتنعم بما يتنعم به المؤمن، يأكل، ويشرب، ويلهو، كل النعم التي خلقها الله عزَّ وجل الكافر يستمتع بها، ويعرفها تماماً، يعرف أبعادها، ولكن المؤمن ينتقل منها إلى المُنعم، ينتقل من الخلق إلى الخالق، من النظام إلى المُنَظِّم، من الكون إلى المُكَوِّن، من النعمة إلى المُنعم، هذه النقلة هي جوهر الإيمان.

 أما أي إنسان في أي مكانٍ وزمان، إنه يعرف الأرض، الأرض كرة تدور حول نفسها، تدور حول الشمس، يعرف الهواء، يعرف الماء، يعرف النبات، يعرف الطعام والشراب، يعرف الأزهار، كل هذه النعم التي خلقها الله عزَّ وجل غير المؤمن يعرفها، ولكن المؤمن انتقل منها إلى صاحبها، انتقل منها إلى موجِدها، انتقل منها إلى من كان هو السبب في وجودها، التفصيلات أحياناً لها وظيفةٌ محدودة، فلا بدَّ من العودة دائماً إلى الكُلِّيات، فما حجم التفكر في خلق السماوات والأرض؟ أنت يجب أن تعرف أن لك إلهاً عظيماً، الإيمان بالله شيءٌ تدعو إليه الفطرة، الفطرة تدعو إلى الإيمان بالله، والعقل يدعو إلى الإيمان بالله، فإذا أردت أن تعرف عظمة الله عزَّ وجل فحسبك هذا الكون، وقد قيل: حسبكم الكون معجزة.


الله سبحانه وتعالى في آياتٍ كثيرةٍ حضنا على أن نعرفه من خلال الكون:


 إذا أردت أن تعبد الله عزَّ وجل دونك التشريع، لكن ليس معنى هذا أن التشريع فقط من أجل أن تطبقه، لو تأمَّلت في التشريع الإلهي تعرف منه أيضاً عظمة الله عزَّ وجل، في كل شيءٍ له آية، الكون آية، والتشريع آية، والحوادث آية، والفطرة آية، والعقل آية، إذاً حينما يسرد الله علينا بعض الآيات الكونية، كأن الله سبحانه وتعالى يريدنا أن نفكر فيها، يريدنا أن نقف عندها، يريدنا أن نتبصرها، يريدنا أن نعرف حجمها الحقيقي، يريدنا أن نخرج منها إلى المُنعم، إلى مَن خلقها، إلى من أوجدها، إلى من أحكمها، إلى من جعلها بهذا الإعجاز.

 فحينما تقرأ في القرآن الكريم آياتٍ تشير إلى عظمة الكون، معنى ذلك أن هذه الآيات ينبغي أن تكون موضوعاً من موضوعات التأمُّل التي حضَّنا الله عليه، الله سبحانه وتعالى في آياتٍ كثيرةٍ حضنا على أن نعرفه من خلال الكون.

﴿ قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ(101)﴾

[ سورة يونس ]

 وقال: 

﴿  فَلْيَنظُرْ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ(5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ(6)﴾

[ سورة الطارق ]

 وقال: 

﴿  فَلْيَنْظُرْ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ(24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا(25)﴾

[ سورة عبس  ]


التعامل بين الماء وبين الهواء آيةٌ من آيات الله الدالة على عظمته:


 إذاً قبل درسين تحدثنا كيف أن الله سبحانه وتعالى جعل الأرض قراراً، لم يجعلها مُسَنَّنَة جعلها مستوية، ولم يجعلها مائلة جعلها أفقية، ولم يجعل قوامها هُلاماً، ولا غازاً، ولا ماءاً، ولا صلباً، بل جعلها تربةً بالإمكان أن نتعامل معها، جعل فيها جاذبية، الأشياء تنجذب إليها، جعل الأرض تسير على مسارٍ دقيق لا تحيدُ عنه، ربط بها الهواء الذي فوقها، والماء الذي فوقها، هذا من معاني: ﴿أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا﴾ وكيف أن الله سبحانه وتعالى جعل الحياة مُمْكِنَةً على سطحها، جعل فيها النبات، والحيوان، والفلذات، والمعادن، وكل شيءٍ تحتاجه جعله وأودعه في الأرض. 

الآن يضيف الله عزَّ وجل على هذه الآية: ﴿أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا﴾ بادئَ ذي بدء، هذه البحار التي خلقها الله عزَّ وجل، خلقها بحجمٍ معيَّن وبسطحٍ معين، ويبدو أن هذا السطح هو السطح المناسب لعملية التبخُّر، وعملية هطول الأمطار، إذاً أن يكون البحر أربعة أخماس الكرة الأرضية، هذا قدرٌ معلومٌ من الله عزَّ وجل، من صنع حكيمٍ عليم، وأن يجعل الماء يتبخَّر بدرجاتٍ دنيا هذا أيضاً من آيات الله، فالشمس المُسَلَّطَة على مياه البحار تجعل بعضها يصبح بخاراً، وذلك التعامل بين الماء وبين الهواء آيةٌ من آيات الله أيضاً، أن يحمل الهواء بخار الماء هذه آية، وأن يحمل الهواء بخار الماء بدرجاتٍ متفاوتة بحسب درجة حرارته هذه أيةٌ أيضاً، فإذا انخفضت هذه الدرجة تخلَّى الهواء الذي يحمل بخار الماء عن بعض الماء، وهذا مبدأ المطر، هذه آيةٌ سادسة، وجود البحر، وجوده مالحاً آية، بهذا الحجم آية، بهذه المساحة آية، علاقة الحرارة بالماء والتبخُّر آية، علاقة التبخر بالهواء آية، أن يحمل الهواء بخار الماء آية، أن يتخلى عنه في بعض الدرجات آية، إذاً هل تستطيع جهةٌ في الكون أو جهةٌ في الأرض أن تدّعي أن بإمكانها أن تنزل الماء من السماء؟ 


لا يوجد في الكون جهةٌ يرجى خيرها ويتقى عذابها إلا الله عزَّ وجل:


 هذه أوروبا بعضها يعاني من العطش، هذه إفريقيا عانت من العطش ما عانت، ونحن لولا أن الله سبحانه وتعالى تداركنا بلطفه لكانت هذه السنة عجفاء، مياه الأنهار جفَّت، وإذا جفت مياه الأنهار توقف النبات ومات الحيوان وتبعه الإنسان، الله سبحانه وتعالى يشعرنا من حين لآخر أن مصيرنا بيده، وأن حياتنا بيده، وأن الإنسان مهما علا في الأرض ومهما ادّعى لنفسه العظمة هو عاجزٌ عن أن ينزل قطرة ماء، فكلمة: ﴿أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ﴾ وقال: 

﴿  أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ(60)﴾

[ سورة النمل ]

 إلى أين أنتم ذاهبون؟ تعبدون من؟ أفغير الله تتقون؟ هل في الكون جهةٌ تُتقى غير الله؟ هل في الكون جهةٌ يُرجى خيرها ويُتقى عذابها إلا الله عزَّ وجل، هذا الذي يعبده الإنسان من دون الله سواء أعترف بهذا صراحةً أم لم يعترف، على كلٍ ما العبادة؟ غاية الإخلاص، غاية الحب، غاية الطاعة، غاية الشوق، غاية المحبة، غاية الانصياع، غاية التأمُّل، هل من جهةٍ تستحق أن تعبدها إلا الله عزَّ وجل؟ الله سبحانه وتعالى يقول:  

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(21)﴾

[ سورة البقرة ]


الشيء اللافت للنظر أنه كلما ذكر الله الأنهار في القرآن ذكر معها الجبال:


  ﴿وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا﴾ هذه أمطار السماء تنزل بشكلٍ لطيف، وكيف أن هذا الماء يذهب إلى باطن الأرض، وكيف أن هذا الماء يصبح أنهاراً، كلكم يعلم أن الأنهار لها ينابيع، أو وديان تجتمع فيها الماء، تنطلق غرباً وشرقاً وشمالاً وجنوباً، هذه الأنهار بأحجامها، بأطوالها، بكثافتها ـ نهر الأمازون مثلاً ثلاثمائة ألف متراً مكعباً بالثانية ـ هذه الأنهار من أين جاءت؟ لها ينابيع، هي مياهٌ عذبة، من جعلها عذبةٌ؟ الله سبحانه وتعالى، عن طريق هذه الدورة الرائعة، دورة التبخر، ثم السحاب، ثم المطر، ثم نزول المطر، ثم أن يودَع هذا الماء في باطن الأرض، ثم ينبع على شكل أنهار، فإذا ذكر الله سبحانه وتعالى في القرآن آيةً من آيات الله الدالة على عظمته فمعنى ذلك أن هذا عنوان وعلى الإنسان المؤمن أن يتّبّع هذه الآية فيتأملها، لعل الله سبحانه وتعالى يهديه إلى أن يعرفه حق المعرفة.

 شيءٌ آخر: ﴿أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا﴾ الشيء الذي يلفت النظر أنه كلما ذكر الله الأنهار في القرآن ذكر معها الجبال، هذه الجبال التي جعلها الله للأرض أوتاداً، الأرض لها طبقات، طبقاتٌ عميقة، وطبقاتٌ سطحية، هذه الطبقات ليست متجانسة، الأرض تدور حول نفسها، لو أن هذه الأرض تدور والطبقات ليست متجانسة لاضطربت في دورانها، ائتِ ببيضةٍ وحاول أن تجعلها تدور من دون أن تسلقها، تضطرب، لأن موادها غير متجانسة، أما إذا سلقتها وأصبحت ذات قوام واحد تدور، إذاً هذه الطبقات التي جعلها الله في الأرض، الطبقة العُليا، والطبقة التي تحتها، والطبقة القارِّية وما شاكل ذلك، هذه الطبقات ليست متجانسة، الله سبحانه وتعالى ذكر في بعض الآيات الأخرى أن الجبال جعلها أوتاداً، ومعنى أوتاداً أنها تربط الطبقات بعضها ببعض. 


التلازم في ذكر الجبال والأنهار يعني أن الله تعالى جعل الجبال مستودعاتٍ للمياه:


 شيء آخر الله سبحانه وتعالى يقول:

﴿ وَأَلْقَىٰ فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(15)﴾

[ سورة النحل ]

 يبدو أن توزع الجبال في الأرض توزعاً محكماً يجعل دورانها مستقراً، فإذا كان هناك توزُّع غير محكم الدوران يضطرب، فمن أجل أن تدور الأرض من دون اهتزاز، من دون اضطراب جعل الله هذه الجبال في هذه الأماكن المتباينة في الأرض، إذاً تارةً يشير الله عزَّ وجل إلى أن هذه الجبال جعلها أوتاداً، لأن الجبل الذي ترونه بأعينكم ثلثه ظاهر وثلثاه تحت الأرض، كالسن تماماً، السن له قسم ظاهر وقسم تحت النيرة، فالجبل الذي يبدو لنا منه لا يزيد عن الثلث، والباقي مغروسٌ تحت الأرض ليربط هذه الطبقات بعضها ببعض، والهدف الآخر أن الله سبحانه وتعالى: ﴿وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ﴾ من أجل هذا الدوران المستقر، شيءٌ رائع أن الأرض تدور ومع دورانها هي مستقرة، نعمة الاستقرار لا يعرفها إلا من أصاب بلاده زلزال، ماذا يفعل الزلزال؟ في ثوانٍ يجعل عاليها سافلها، هذه الأبنية الشاهقة تصبح في الأرض، لأن هناك اضطراباً طرأ على القشرة الظاهرة، هذه الأرض أيضاً ما دامت مستقرة فهذه نعمة من نعم الله الكبرى.

 شيءٌ آخر، بما أن الماء يسيل من أعلى إلى أدنى، فشاءت حكمة الله عزَّ وجل أن يجعل الجبال مستودعاتٍ للمياه، لذلك حيثما وردت كلمة الجبال ترد معها كلمة الأنهار، هذا التلازم في ذكر الجبال والأنهار في القرآن الكريم في الأعم الأغلب، هذا التلازم يعني أن الله سبحانه وتعالى جعل الجبال مستودعاتٍ للمياه، لذلك المياه تسيل من هذه الجبال وتتجه شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً لأن مستودعاتها عالية.


آية الماء وصفاته وخواصه ونزوله من السماء من آيات الله الدالة على عظمته:


 شيء آخر هذه الجزر التي بثَّها الله في البحار، كل جزيرةٍ لها عين ماء، ولها نبعٌ عذبٌ، هذا النبع العذب يعني أن هناك تمديداتٍ تحت سطح البحر متصلة إلى جبالٍ ساحلية، ليس هناك إلا هذا التفسير بحسب مبدأ الأواني المستطرقة، ما دامت جزيرة في البحر مستوية وفيها نبع ماء لا بدَّ من مستودعٍ في مكانٍ مرتفع، وكم من آلاف الكيلو مترات تسيل هذه المياه من الجبال إلى الجزر، والجُزُر مهما كثرت لا بدَّ لكل جزيرةٍ من نبع ماءٍ في مستوى حجمها، هذا أيضاً من آيات الله الدالة على عظمته، وقد نجد في رؤوس الجبال بعض الينابيع، وهذه الينابيع في رؤوس الجبال ليس لها إلا تفسيرٌ واحد، هو أن مستودعات هذه الينابيع في جبالٍ أخرى بعيدة.

 إذاً آية الماء، ظاهرة الماء، صفات الماء، خواص الماء، نزول الماء من السماء، المالح أو العذب، هذه الدورة التي أشار الله إليها من آيات الله الدالة على عظمته.

 ﴿أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا﴾ للأرض: ﴿رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا﴾


الله جعل حاجزاً بين مياه البحر والأنهار إما بسبب فرق الارتفاع أو بسبب الطبقات الكتيمة:


 هذه الآية: ﴿وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا﴾ أولاً من نِعَم الله عزَّ وجل أن سطح البحر هو في أخفض درجة في الأرض، لذلك جميع المُرتفعات تقاس بدءاً من سطح البحر، مياه البحر مالحة، كل الينابيع تأتي من الجبال من مستويات أعلى من سطح البحر، إذاً لن تختلط مياه البحر بمياه الأنهار والينابيع، لو أنها اختلطت لأصبحت مالحةً تمجها النفس، هذه واحدة، لو صدف أن وُجِد نبع ماءٍ في منطقةٍ دون سطح البحر، الله سبحانه وتعالى جعل الطبقات الكتيمة تحول بين مياه البحر ومياه الأغوار أيضاً: ﴿وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا﴾ سمي البحر بحراً، وسمي النهر بحراً للتغليب.  

﴿وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا﴾ المعنى الأول: أن الله سبحانه وتعالى جعل حاجزاً بين مياه البحر وبين مياه الأنهار، إما أن هذا الحاجز بسبب فرق الارتفاع، أو أن هذا الحاجز بسبب الطبقات الكتيمة التي تمنع اختلاط الماءيْن، ولكن في موضوعٍ آخر الله سبحانه وتعالى في بعض آياتٍ أخرى يقول:  

﴿  مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَان (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ(20)﴾

[ سورة الرحمن  ]

 حتى البحرين المالحين ﴿بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ﴾ معنى ﴿لا يَبْغِيَانِ﴾ لا يطغى بحرٌ على بحر، أي أن مياه البحر الأحمر لا تطغى على مياه المحيط العربي، مياه المحيط الهندي لا تطغى على البحر الأحمر، البحر الأحمر لا يتصل بالبحر المتوسط، بين كل بحرين جعل الله حاجزاً.


البحرين المالحين بينهما برزخ لكن البحرين المالح والعذب بينهما برزخٌ وحجرٌ محجور:


 قال تعالى: ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَان * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ﴾ المفسرون حاروا من قديم الزمان بتفسير هذا البرزخ، أين هو هذا البرزخ؟ لو وقفت بين البحر الأسود والبحر الأبيض، بين الأبيض والأحمر، بين الأحمر والمحيط الهندي لا تجد برزخاً، تجد مياه متصلة، لو أخذت عينةً من مياه البحر الأحمر لوجدتها ذات قوامٍ وملوحةٍ وكثافةٍ ومكوِّناتٍ خاصةٍ بها، لو أخذت عينة من المحيط الهندي لوجدت لهذه المياه كثافة ومقومات وملوحة تتناسب معه، وفي منطقة التماس يبقى المحيط الهندي محيطاً هندياً، والبحر الأحمر بحراً أحمر، هذا البرزخ رآه بعض روَّاد الفضاء، بعض السفن الفضائية رأت خطاً بين البحرين، لذلك فسَّره العلماء بأنه حاجز وهمي يمنع طغيان هذا الماء على هذا الماء، استقلالية كل ماء شيءٌ يلفت النظر، هذا الشيء كشفه العلم الحديث: ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَان * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ﴾ بل إن بعض العلماء رأى أن هناك تيَّارات، حينما تصل هذه التيارات وقد حمَّلها بأشياء من أجل أن تتضح حركة التيارات، هذه التيارات إذا وصلت إلى حدود البحر الآخر عادت ورجعت، لذلك: 

﴿  مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَان (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ(20)﴾

[ سورة الرحمن  ]

 شيءٌ آخر، هو أن البحرين المالحين بينهما برزخ، لكن البحرين المالح والعذب بينهما برزخٌ وبينهما حِجرٌ محجور، فالبرزخ من شأنه أن يمنع طغيان مياه كل بحرٍ على الآخر، والحِجْر المحجور من شأنه أن يمنع انتقال الأسماك من المياه العذبة إلى المياه المالحة.


عدم اختلاط الأمواج مع بعضها سواءٌ أكانت مالحةٌ أم عذبة من آيات الله الدالة على عظمته:


 قال تعالى:

﴿ وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا (53)﴾

[ سورة الفرقان  ]

 عدم اختلاط الأمواه بعضها ببعض سواءٌ أكانت مالحةٌ أم عذبة، وعدم طغيان بعضها على الآخر واحتفاظ كل ماءٍ بمكوناته، وملوحته، وكثافته، وما فيه من مواد هذا من آيات الله الدالة على عظمته، والعلم أمامه متسع كبير لكشف مزيدٍ من هذه الظواهر التي وردت في القرآن الكريم إذاً: 

﴿أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ﴾ أتستطيع جهةٌ ما أن تدَّعي ذلك؟ إذاً لا إله إلا الله: ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ كلمة لا يعلمون، الله سبحانه وتعالى في بعض الآيات يقول:  

﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ(7)﴾

[ سورة الروم ]

 الله سبحانه وتعالى أثبت لهم العلم، وفي الآية التي تسبقها مباشرةً قال: 

﴿ وَعْدَ اللَّهِ ۖ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ(6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ(7)﴾

[ سورة الروم  ]

 الله سبحانه وتعالى نفى عنهم العلم وأثبت لهم العلم، ليس في هذا تناقض. 


ربنا سبحانه وتعالى ذكر العلم وعنى به أن يعرف الإنسان ربه:


  قال تعالى: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ*يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ هناك علمٌ ينفعك في الدنيا، يمكن أن تدرس، أن تتعمق في موضوعٍ معيَّن، وأن تبحث في هذا الموضوع بنيّة أن تتقنه كي ترتزق منه، هذا العلم حرفةٌ من الحرف، العلم الذي تقف في حدوده الضيقة من دون أن تنطلق منه إلى خالق الكون هذا علمٌ نافعٌ للدنيا، حرفةٌ من الحرف، فأية دراسة عالية المستوى هدفها الوحيد إتقان اختصاص معين من أجل الارتزاق هذا علم، وعلم ينفع المسلمين وينفع الناس، ولكن إذا بقيت في حدوده الضيقة ولم تخرج منه إلى خالق الكون هذا علمٌ لا يقدم لك نفعاً في الآخرة، كما هي الحال عند الذين جعلوا من العلوم كل شيء من دون أن ينتقلوا منها إلى خالق الكون، إذاً ربنا سبحانه وتعالى يقول: ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ لمجرد أن تعصي الله أنت لا تعرفه، قد تعرف كل شيء ولكن إذا لم تعرف الله عزَّ وجل ولم تعرف لماذا كنت في هذه الدنيا لا تعرف شيئاً، هذه أمور دقيقة جداً، هذه العقيدة، يجب أن تعتقد عقيدةً صحيحة أساسها لماذا أنا في الدنيا؟ لماذا خلقني الله عزَّ وجل؟ ما جدوى وجودي في الدنيا؟ ما أفضل شيء أفعله في الدنيا؟ إلى أين المصير؟

 ربنا سبحانه وتعالى ذكر العلم وعنى به أن يعرف الإنسان ربه ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾


خَلَقَ الله الإنسان ضعيفاً ليفتقر في ضعفه فيسعد في افتقاره:


 شيء آخر، الآن انتقلنا إلى موضوع جديد متعلّق بالنفس الإنسانية:

﴿  أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ(62)﴾

[ سورة النمل ]

 هؤلاء الذين ركبوا في الطائرة وماجت بهم واضطربت، وتوقَّعوا أن تسقط، على اختلاف مشاربهم، وعلى اختلاف نوازعهم، وعلى اختلاف معتقداتهم، وعلى اختلاف مبادئهم، وعلى اختلاف منابتهم، لا يلجؤون إلا إلى الله، لو أن هذا الإنسان أنكر وجود الله في الأرض وركب في البحر أو في الطائرة، وشعر أنها على وشك أن تسقط، أو أن هذه الباخرة على وشك أن تغرق، 

﴿ هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ۙ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ(22)﴾

[ سورة يونس ]

إذاً هل هناك جهةٌ أخرى غير الله عزَّ وجل تدعوها عند الشدة، هذه فكرة أولى، الإنسان ضعيف، خَلَقَهُ الله ضعيفاً لمصلحته، لأنه لو كان قوياً لاستغنى بقوته، فشقي باستغنائه، خلقه ضعيفاً ليفتقر في ضعفه فيسعد في افتقاره: 

﴿  إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا(19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا(20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا(21) إِلا الْمُصَلِّينَ(22)﴾

[ سورة المعارج  ]


أقرب شيء إليك هو الله عزَّ وجل إن دعوته بلسانك سمعك وإن دعوته بقلبك سمعك:


 ربنا سبحانه وتعالى فضلاً عن ذلك أعاننا على أنفسنا، الإنسان حينما يقع في مشكلة، حينما تَحُلُّ به مشكلة، كأن الله 

سبحانه وتعالى يدفعه إلى بابه، إذاً الإنسان ضعيف، وضعفه لمصلحته، فإذا وقع في ورطة قال: يا رب، بعد هذا الدعاء كُشِفَ عنه السوء، شعر عندها أن الله عزَّ وجل سمعه واستجاب له، وأن الله بيده كل شيء، فالله سبحانه وتعالى ليزيد معرفتك به قد يجعلك في وضعٍ حرج، ويطلب منك أن تدعوه.

﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ﴾ لكن للدعاء شروط، ربنا سبحانه وتعالى يقول: 

﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ(186)﴾

[ سورة البقرة ]

 المسلمون يدعون الله ليلاً ونهاراً، ومعظم شعائرهم فيها دعاء، ومع ذلك قد يدعون الله سبحانه وتعالى ولا يستجيب، أليس الدعاء صحيحاً؟ هذا يجب أن يدفعنا إلى معرفة شروط الدعاء، الله عز‍َّ وجل في كتابه الكريم قال: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ أقرب شيء إليك هو الله عزَّ وجل: 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)﴾

[  سورة الأنفال ]

﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ(19)﴾

[ سورة غافر ]

﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ۖ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)﴾

[ سورة ق ]


إن دعوته بلسانك سمعك، وإن دعوته بقلبك سمعك:  


﴿  إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا(3)﴾

[ سورة مريم  ]

 خواطرك معلومةٌ عنده، سِرُّكَ مكشوفٌ لديه، نوازعك، صراعاتك، طموحاتك، إذا كنت ساكتاً وتحدِّث نفسك بحديثٍ طويل الله سبحانه وتعالى يعلمه.


شروط استجابة الدعاء:


 بل إن الله عزَّ وجل يعلم ما يخفى عنك أيضاً، إذاً: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ قل: يا رب والله سبحانه وتعالى يقول: لبَّيك يا عبدي، لكن لماذا لا يستجيب لنا؟ قال: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي﴾ إذا دعاني كما أريد أجبته كما يُريد، فما الشروط؟ قال: ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ كأن الله سبحانه وتعالى يقول: لا أستجيب لكم إلا إذا استجبتم لي، ولن تستجيبوا لي إلا إذا آمنتم بي، آمنوا بي، إذا آمنتم بي تستجيبون لأمري ونهيي، إذا استجبتم أستجيب لكم، فهذا الذي يريد أن يكون مستجاب الدعوة عليه أن يستجيب لله أولاً، هذا مستنبط من هذه الآية، كن لي كما أريد أكن لك كما تريد، أنت تريد وأنا أريد فإذا سلمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد، وإن لم تسلم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد، ثم لا يكون إلا ما أريد.


إذا أردت أن تعرف ما لك عند الله فانظر ما لله عندك:


 موضوع الدعاء النبي عليه الصلاة والسلام قال:

((  الدعاء مخ العبادة  ))

[  أخرجه الترمذي عن أنس  ]

ليس شيءٌ أكرم على الله من الدعاء، والدعاء سلاح المؤمن، فإذا أردت أن تكون أقوى الناس فتوكل على الله، إذا أردت أن تكون أغنى الناس فكن بما في يدي الله أوثق منك بما في يديك، إذا أردت أن تكون أكرم الناس فاتقِ الله، إذاً الدعاء شيء خطير جداَ، كأن الله سبحانه وتعالى يقول: كن لي كما أريد أكن لك كما تريد، إذاً: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي﴾ الله سبحانه وتعالى لا يعجزه شيء، كن فيكون: 

((  يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَهُ. ))

[  صحيح مسلم عن أبي ذر ]

 هذا شيء مهم جداً أن تعرف شروط الدعاء ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي﴾ هل أنت عند الأمر والنهي؟ هل يراك حيث أمرك؟ هل يفتقدك حيث نهاك؟ إذا أردت أن تعرف ما لك عند الله، فانظر ما لله عندك؟ هل أنت حريصٌ على تنفيذ أمره؟ على أن تبتعد عما عنه نهاك؟


إذا عَظَّمت الله عزَّ وجل تُعظِّم أمره فإذا استجبت له استجاب لك وهذه أول قاعدة:


 قال تعالى: ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي﴾ لكنهم لن يستجيبوا لي إذا لم يعرفوني، قيمة الأمر من الآمر، لو جاءك أمر من عريفٍ، أو جاءك أمر من صديق، أو من زميل، أو من إنسان في مستواك لا تبالي به، كلما ارتفعت مرتبة الآمر عظم عندك الأمر، لذلك ماذا قال سيدنا بلال ؟ قال: "لا تنظر إلى صغر الذنب ولكن انظر على من اجترأت" ، قيمة الأمر تنبع من عظمة الآمر، فالذي يعصي الله لا يعرف الله قولاً واحداً، هناك علمٌ بأمر الله، يمكن أن تعرف أمر الله، ولكن قبل أن تعرف أمر الله يجب أن تعرف الآمر وهو الله عزَّ وجل، وهذا ما فعله النبي عليه الصلاة والسلام، حيث مكث مع أصحابه ثلاث عشرة سنة يدعوهم إلى معرفة الله، فلما عرفوا الله جاء أمر الله عندهم عظيماً، إذا عَظَّمت الله عزَّ وجل تعظِّم أمره، انظر إلى دقة الآية: ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي﴾ أي آمِن بعظمة الله، آمِن بأسمائه الحسنى وصفاته الفضلى، من أجل أن يكون لأمره عندك قيمة، لن تكون لهذه الأوامر عند الإنسان قيمة إلا إذا عرف الآمر، اعرف الآمر واعرف الأمر عندئذٍ تستجيب لهذا الآمر العظيم، إذا استجبت له استجاب لك، هذه أول قاعدة.


في الآية التالية ليس هناك وسيط بين العبد وبين ربه:


 قال تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي﴾ هناك نقطة مهمة جداً الآية: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي﴾ أو: 

﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ۖ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ۖ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ ۖ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ(222)﴾

[ سورة البقرة ]

 هذه الصياغة في كتاب الله وردت مَرَّاتٍ عديدة تفوق عشر المرات: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ﴾ وقال: 

﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ۖ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ۗ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ(219)﴾

[  سورة البقرة  ]

 وقال: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو﴾ في كل الآيات التي وردت على هذا النمط "يسألونك" تأتي كلمة "قل" بين السؤال وبين الجواب، إلا في هذه الآية الوحيدة اليتيمة: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ أي ليس هناك وسيط بين العبد وبين ربه، بمجرد أن تقول: يا رب، الله سبحانه وتعالى يقول لك: لبيك يا عبدي، يا رب قد تبت، يقول الله عزَّ وجل: وأنا قد قبلت. 


إياك أن تطمع أن يستجيب الله عزَّ وجل لك إذا كنت معتدياً لأنه لا يحب المعتدين:


 بعضهم ناجى ربه فقال: يا رب إذا كانت رحمتك بمن قال: أنا ربكم الأعلى هكذا:

﴿  اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى(43) فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى(44)﴾

[ سورة طه  ]

 يا رب إذا كانت رحمتك بمن قال: أنا ربكم الأعلى هكذا، فكيف رحمتك بمن قال: سبحان ربي الأعلى؟ إذا كانت رحمتك بمن قال: ما أرى لكم من إلهٍ غيري، فكيف رحمتك بمن قال: لا إله إلا الله؟ الإنسان إذا عاش حياته بعيداً عن معرفة الله، وعن الاتصال به، وعن التعامل معه وَفْقَ منهجه، فقد ضيَّع كل شيء، يا رب ماذا فقد من وجدك؟ وماذا وجد من فقدك؟ الآية الثانية: 

﴿ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)﴾

[ سورة الأعراف ]

 إياك أن تطمع أن يستجيب لك الله عزَّ وجل إذا كنت معتدياً، الله سبحانه وتعالى لا يحب المعتدين، ولأنه لا يحبهم لا يستجيب لهم، فحينما جاء قوله تعالى: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾ ادعُه بهذا الشكل ﴿إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ .


الوقوف على باب الله من علامات العبوديَّة فإما أن تقف طواعيةً وإما أن يدفعك إلى ذلك:


 قال تعالى: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ﴾ المضطر هو الذي وضعه الله عزَّ وجل في وضعٍ حَرِج، إن في ماله، أو في صحته، أو في أولاده، هذا الوضع الحرج من خلق الله عزَّ وجل، دائماً وأبداً الشيء الذي وقع أراده الله، والشيء الذي أراده الله عزَّ وجل يتعلق تعلقاً حقيقياً بالحكمة، وحكمة الله عزَّ وجل متعلقة بالخير المُطلق، أي شيءٍ وقع قل: الحمد لله، لأنه لو لم يقع لكان الله ملوماً لماذا لم يقع؟ الله سبحانه وتعالى لا يقع شيءٌ في ملكه إلا بإذنه، وهو حكيمٌ، وعليمٌ، وسميعٌ، وبصيرٌ، وخبيرٌ، إذاً ربنا سبحانه وتعالى قد يضع الإنسان في مشكلة، في ضرورة، أمام قضية، قد يخاف منها، قد يخشى، قد يقلق، لماذا وضعه الله في هذه المشكلة؟ كأن الله سبحانه وتعالى يدعوه إلى أن يقف على بابه، الوقوف على باب الله من علامات العبوديَّة، إما أن تقف على بابه طواعيةً، وإما أن يدفعك إلى أن تقف على بابه، لذلك: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ﴾ المضطر إذا دعا الله عزَّ وجل، الله سبحانه وتعالى يستجيب له، والقصص التي تتحدَّث عن استجابة الله عزَّ وجل لمن دعوه دعاء صادقاً لا تعد ولا تحصى، النبي عليه الصلاة والسلام حينما كان في طريق الهجرة، وتبعه سراقة، وأراد به شراً، قال: 

(( اللهُمَّ اكْفِنَاهُ بِمَا شِئْتَ . ))

[ مسند أحمد ]

 غاصت قدما فرسه في الرمل، ووقع من عليها مرات عدة. 

وإذا العناية لاحظتك عيونُها   لا تخشَ من بأسٍ فأنت تصانُ

وبكلّ أرضٍ قد نزلت قفارها      نم فالمخاوف كلّهنَّ أمان

[ عمر اليافي ]


الله سبحانه وتعالى قد يمتحن المؤمن ولكن كل شيءٍ في النهاية لمصلحة المؤمن:


 هناك شعور لا يعرفه إلا من ذاقه، هذا الشعور أن المؤمن يشعر أن الله سبحانه وتعالى يحبُّه، فبعض علماء العقيدة نهوا عن أن تقول إذا سُئِلت: هل أنت مؤمن؟ تقول: إن شاء الله، لا:

﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ(15)﴾

[ سورة الحجرات ]

 الإيمان على وجه الجزم، فالمؤمن يشعر أن الله يحبه، والإمام الشافعي ماذا استنبط من قوله تعالى: 

﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ۚ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم ۖ بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ ۚ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ ۚ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ(18)﴾

[  سورة المائدة ]

 الإمام الشافعي استنبط أن الله سبحانه وتعالى لا يعذِّب أحبابه، بمعنى أن المؤمن يسعدُ إذا شعر أنه على منهج الله، والله سبحانه وتعالى قد يمتحنه، لكن كل شيءٍ في النهاية لمصلحة المؤمن: 

﴿ قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ(51)﴾

[ سورة التوبة ]

 إذاً هذا الاضطرار الذي نوَّه به الله سبحانه وتعالى: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾ هذا تفسير لإجابة الدعوة. 


المشرك يأخذ بالأسباب ويعتمد عليها أما المؤمن يأخذ بها ويعتمد على الله وهذا هو الفرق:


 قال تعالى: ﴿وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾ إذاً قد يأتي السوء، من هنا النبي عليه الصلاة والسلام قال: 

(( لا يغني حذر من قدر، وإن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل. ))

[ أخرجه الطبراني ]

إذا كنت ذكياً، إذا أخذت لكل شيءٍ عُدَّتَهُ، إذا أردت أن تأخذ بكل الأسباب وأن تعتمد عليها، إذا جعلت الأسباب إلهاً وعبدتها من دون الله، إذا اتكأت عليها وظننت أنها تمنعك من دون الله فأنت في حالة شرك خفي، لذلك يُؤتَى الحذِر من مأمنه، ولا ينفع ذا الجَد منه الجّد، كما قال عليه الصلاة والسلام في دعائه الشريف: (لا يغني حذر من قدر، وإن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل) .

 لأن الحذر كأنك تعاند قدرة الله عزَّ وجل، يأتيك من مأمنك، أيُّ إنسانٍ أخذ بالأسباب واعتمد عليها فهو مشرك شرك خفي، أما المؤمن يأخذ بها ويعتمد على الله، هذا هو الخط الرفيع بين الإيمان والشرك، المشرك يأخذ بالأسباب ويعتمد عليها، أما المؤمن يأخذ بها ويعتمد على الله هذا هو الفرق، الذي يعتمد على الأسباب قد يُؤتَى من مأمنه، قد يُؤتى من اختصاصه، قد يُؤتى من الشيء الذي هو فيه خبير، هذا الطبيب مثلاً اختصاصي في هذا المرض، يأخذ كل الاحتياطات ومع ذلك قد يصاب بهذا المرض، لأنه وقع في شركٍ خفي. (لا يغني حذر من قدر، وإن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل) . فادعوا الله عباد الرحمن.

 قال تعالى: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ﴾ هذه نقطة مهمة جداً، الإنسان في حالة الرخاء يتعلق بزيد أو عبيد، يضع ثقته في فلان أو في علان، تجده موزعاً، مشتتاً، لكن إذا وقعت به مُلِمّة يشعر شعوراً أكيداً أن الله وحده يمكن أن ينقذه منها، لذلك الأطباء أمام حالات من الشفاء العجيب، شفاء مرض عُضال بلا سبب مبرر، أحدث اسماً في الطب اسمه الشفاء الذاتي، يبدو أن هذا المريض دعا ربه من كل قلبه، والله عزَّ وجل استجاب له. 


الإنسان إذا عرف أنه خليفة من سبقه وسيأتي بعده من يخلفه عرف أن الدنيا زائلة:


 قال تعالى: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ﴾ تتوارثون ما في الأرض من نِعَم، ومن بيوت، ومن حدائق، ومن بساتين، ومن أعمال، الإنسان إذا عرف أنه خليفة من سبقه، وسيأتي بعده خليفة يخلفه، عرف أن الدنيا زائلة، وربنا عزَّ وجل قال: 

﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(148)﴾

[ سورة البقرة ]

 من قوله تعالى: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ ماذا يعني؟ أن هذا الاختيار مؤقَّت: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ فكلمة خلفاء الأرض، أي أن هذا البيت سكنته بعد أناسٍ كثيرين، وسيأتي بعدك من يسكنه، هذا المحل الآن أنت فيه، ولكن هناك من يأتي بعدك ويأخذه، الحياة مؤقتة، الدنيا ساعة اجعلها طاعة، إذا شعرت بأن الحياة مؤقتة انطلقت إلى الآخرة، أما إذا جعلت الدنيا هي كل شيء، جعلتها معقد الآمال ومحطّ الرحال، فقد فقدت كل شيء. 

﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾


هذه الآيات لها محور واحد هو أن تُوَحِّدَ الله عزَّ وجل وكأن الدين كله توحيدٌ لله عزَّ وجل:


 هذه الآيات؛ أول آية: ﴿آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ .

 الآية الثانية: ﴿أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ﴾ .

 الآية الثالثة: ﴿أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ .

 الآية الرابعة: ﴿أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾ .

 إذاً كأن هذه الآيات لها محور واحد، هو أن توحِّد الله عزَّ وجل، وكأن الدين كله توحيدٌ لله عزَّ وجل، توحيدٌ في ألوهيته، توحيدٌ في ربوبيته، توحيدٌ في تصرُّفاته، توحيدٌ في أسمائه وفي صفاته، هذا هو التوحيد، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد. 


الدعاء مخ العبادة:


 لا إله إلا الله نهاية العلم، ختاماً لهذا الموضوع تعقيبٌ سريع على الآية الأخيرة: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ﴾ أي أن الله سبحانه وتعالى يقول:

﴿  وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ(216)﴾

[ سورة البقرة ]

 أحياناً هذه المشكلة التي جعلتك مضطراً أن تدعو الله عزَّ وجل، ربما عمَّقت معرفتك بالله، تدعوه، سمع دعاءك واستجاب لك، أورثك معرفةً جديدة وحباً جديداً، فربما كانت بعض المشكلات من هذا القبيل، فالمؤمن يتلقَّى ما يصيبه بصبرٍ جميل، ويدعو الله عزَّ وجل، فإذا دعاه واستجاب له، تعمَّقت معرفته بالله، وزادت محبته له، وكم من مؤمنٍ عرف الله على أثر مشكلة، كم من رجلٍ رفعه الله عزَّ وجل مكاناً عليّاً على أثر مشكلة، كم من مؤمنٍ كان ذا انضباطٍ أشد على أثر مشكلة، لذلك الله سبحانه وتعالى يريدنا إذا ألمَّت بنا مُلِمَّة أن نلجأ إلى بابه، أن نقف على بابه، أن ندعوه تضرعاً، أن ندعوه رجاءً، أن ندعوه خوفاً، فـ (الدعاء مخ العبادة) كما قال عليه الصلاة والسلام.


الدعاء اتصال حميم بين العبد و ربه فجوهر الدين الاتصال بالله:


 في الحقيقة الدعاء مطلوبٌ لغيره، تعبير دقيق، ما الشيء الذي طُلب من أجله الدعاء؟ الاتصال بالله عزَّ وجل، فالله سبحانه وتعالى يحب أن يسمع صوت عبده اللهفان، فقد تأتي مشكلة تدعوك إلى أن تدعوه، فإذا دعوته وذقت طعم القرب وحلاوة المناجاة نسيت المشكلة، فالمطلوب حصل، وهو هذا الاتصال العميق، الإنسان عندما يكون بالبحبوحة قد يتصل بالله، ولكن اتصال من نوع آخر، أحياناً تأتي هذه المشكلات تدفعنا إلى باب الله، وهذا ما أراده الله من هذه الآية: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾ إذاً كان هناك سوء ثم كُشف السوء، لماذا كشف السوء؟ لأن الدعاء قد استجيب، يبدو أن الدعاء قد صار اتصالاً حميماً بين العبد وبين ربه ، لذلك جوهر الدين الاتصال بالله ، ماذا قال سيدنا المسيح في القرآن الكريم : 

﴿  وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا(31)﴾

[ سورة مريم  ]

كأن هاتين الكلمتين فيهما تلخيصٌ لجوهر الدين، اتصالٌ بالخالق، وإحسانٌ إلى المخلوق، هذا هو الدين، أي عقيدة وعمل، اتصال وإحسان، الشيء الآخر هو أن الناس رجلان؛ متصل منضبط محسن، منقطع متفلِّت مسيء، ولا ثالث لهما، متصل منضبط بأمر الله ونهيه محسن، منقطع عن الله متفلت مسيء، اللهم اجعلنا من هؤلاء الذين عرفوك واستقاموا على أمرك وأحسنوا لك.

والحمد لله رب العالمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور