وضع داكن
24-04-2024
Logo
الدرس : 02 - سورة الصافات - تفسير الآيات 6 - 10 زينة السماء
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 أيها الإخوة الأكارم، مع الدرس الثاني من سورة الصافات، ومع الآية السادسة، والتي هي قوله تعالى:

﴿ إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6)﴾

[ سورة الصافات ]


إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ


1 ـ الصيغ القرآنية في التحدّث عن أفعال الله وصفاته:

 (إنَّا) تشير إلى أن أفعال الله جلَّ جلاله يدخل فيها كل أسمائه الحسنى، وقد جرت عادة البيان الإلهي على أنه إذا تحدَّث الله عن ذاته قال:

﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي(14)﴾

[  سورة طه ]

 وإذا تحدَّث عن أفعاله قال: 

﴿ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ۚ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ(12)﴾

[  سورة يس ]

﴿  إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ(9)﴾

[  سورة الحجر  ]

2 ـ أفعال الله وصفاته كلّها حسنى:

 ﴿إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ﴾ أي إن أفعال الله فيها كل أسمائه الحُسنى؛ فيها اسم القدير، واسم الجليل، واسم الغني، واسم العليم، واسم العَدل، وكل أسمائه داخلةٌ في أفعاله، ولهذا كان عليه الصلاة والسلام إذا أصابه ما يكرهه كان يدعو ويقول:

((  لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ  ))

[  صحيح البخاري عن ابن عبَّاس  ]

 وفي هذا الدعاء إشارة إلى أن الفعل فعل الله، ولا إله إلا الله، ولا رافع ولا خافض، ولا قابض ولا باسط إلا الله، وأن أسماء الله جلَّ جلاله حسنى، إذاً: أفعاله حسنى، فما دام الفعَّال هو الله، والله ذو الأسماء الحسنى، إذاً أفعاله تعود بالخير العميم على كل خلقه..

3 ـ كلُّ ما علاكَ فهو سماءٌ:

 ﴿إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا﴾ السماء: كل ما علاك كما تعلمون فهو سماء، لكن ما علاك من طبقة الهواء هذه سماء دنيا، لأن الهواء يسمح بانتقال الشعاع، وبانتثار الضوء، فالهواء أحد عوامل انتثار الضوء، ولذلك لو خرج الإنسان عن طبقة الهواء إلى الفضاء الكوني فهو لا يرى في الكون إلا ظلاماً، ومن خلال هذا الظلام تبدو بعض النجوم، فلا يرى ضياءً، بل يرى منابع ضوئيَّة فقط وظلاماً دامساً، لعدم وجود الهواء الذي ينثر الضوء، فالضياء الذي تراه في النهار هذا بسبب الهواء، فالله جلَّ جلاله زيَّن السماء الدنيا ﴿بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ﴾ .

﴿ وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ(7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ(8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ(9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ(10)﴾

[ سورة الصافات ]


وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ(7)لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِب


 هذه الآيات أيها الإخوة إذا قرأناها، وقلنا: كيف يهوي هذا الشهاب الذي نراه في السماء؟ وهذا الشهاب بنصِّ هذه الآية قذْفٌ من الله عزَّ وجل لشيطانٍ أراد أن يسّمَّع للملأ الأعلى، قبل الحديث عن هذه الظاهرة، ظاهرة الشهاب الثاقب، أو ظاهرة رجم الشياطين قبل الحديث عن هذا أريد أن أضع بين أيديكم موضوعاً دقيقاً جداً.

1 ـ في القرآن الكريم دعوةً إلى التفكُّر:

 هذا الموضوع هو أن في القرآن الكريم دعوةً إلى التفكُّر، وفي القرآن الكريم إخبار من الله عزَّ وجل، بحثت عن مثلٍ يوضِّحُ هذه الحقيقة وأنا في طريقي إلى المسجد، إنسان فتح محلاً تجارياً، هو في أمسَّ الحاجة إلى ميزان، لكن ماذا سيبيع في هذا المحل؟ سيبيع المواد الغذائيَّة، أي من زنة كيلو إلى خمسة إلى عشرة كيلو، هو بحاجة ماسّة إلى ميزان دقيق جداً حسَّاس جداً، ولكنه لا يحتاج إلى استعمالات تفوق عشرين كيلو، إذاً: يحتاج إلى ميزان حسَّاس ضمن هذا الاستعمال.

 لكنه لو أراد أن يعرف وزن مركبته، هذه بالأطنان، عنده برَّاد ضخم كم وزنه يا ترى؟ هذا الميزان الحسَّاس الذي بين يديه لا يُمَكِّنَهُ من وزن هذه الأوزان الكبيرة، يمكن أن نقرأ كتيِّبَ التعليمات للشركة الصانعة فتقول: وزن هذه المركبة ألف ومائتا كيلو، وهذا ممكن.

 وقد أردت من هذا المثل أن أوضِّح لكم أن الله حينما أودع العقل في الإنسان إنَّما أودعه لمهمَّةٍ محدودة، وهي الاستدلال، فبالعقل ترى شيئاً مادياً تستنبط منه أشياء كثيرة، من الماديِّات إلى المُغَيَّبات، ترى آثار عجلة سيارة فتقول: هذه سيَّارة صغيرة، لأن المسافة بين العجلتين قليلة، وعرض العجلة قليل، ويمكن أن تكتشف حجم المركبة ونوع المركبة من آثار عجلاتها، فهذا شأن الفِكر، وشأن الاستنباط، تريه شيئاً مادياً فيكتشف ما وراء المادَّة، تريه عملاً مُتقناً فيكتشف أن المصمِّم والصانع مُتقَن، تريه عملاً منظَّماً فيكتشف أن وراء هذا النظام مُنَظِّم، تريه عملاً محكماً فيكشف العقل أن وراء هذا الإحكام عقلاً راجحاً مُحْكِماً، هذه مهمَّة العقل.

 ولكن إذا كلَّفنا العقل أن يبحث عن أشياء غائبة عنه، لا يعرف، لا يعرف إلا أن يُخْبَر، ميزان هذا المحل التجاري يسمح بوزن من كيلو إلى عشرين كيلو، لكنه لا يسمح بوزن مركبة، إلا أن الشركة الصانعة أخبرتني أن وزن المركبة ألف ومائتا كيلو، ولا يعقل أن تكذب.

2 ـ عالَم الجنّ غيب يثبت بالدليل الشرعي:

 إذاً: أنا أمام القرآن الكريم بين موضوعاتٍ تحقيقيَّة، وموضوعاتٍ تصديقيَّة، أي بين موضوعاتٍ خاضعةٍ للبحث والدرس، والنظر والتأمُّل، وبين موضوعاتٍ خاضعةٍ للتصديق فقط، فنحن الآن أمام آيات لا يمكن أن نُحَكِّم عقولنا بها، أو أن نكتشفها بأنفُسنا، فلو صعدنا إلى الفضاء الخارجي بمركبةٍ، أين هي الشياطين؟ لا نرى شيئاً، لأن الله عزَّ وجل يقول:

﴿ يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا ۗ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ۗ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ(27)﴾

[ سورة الأعراف ]

 لو خرجنا إلى الفضاء الخارجي لنبحث عن الشياطين فنحن لا نجدهم، ما اسم هذا الموضوع؟ موضوع إخباري، خالق الكون أخبرنا عنه، فأنت إذا آمنت به؛ آمنت بوجوده، وآمنت بوحدانيَّته، وآمنت بكماله، وآمنت بأن كلامه حق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وكلَّما نما إيمانك بالله عزَّ وجل نما مع إيمانك بالله تصديقك له فيما أخبرك عنه، والله عزَّ وجل يخبرك عما يعجز عقلك عن إدراكه، والشيء الذي يعجز عقلك عن إدراكه يخبرك به، فالحاجةُ في المحل التجاري التي يعجز ميزانك عن وزنها، ترى الصانع قد كتب لك وزنها كذا، فهذه اللوحة التي أُلْصِقَت على هذا البرَّاد الضخم كُتِبَ عليها أن وزنه ألفا كيلو، وهذه المركبة التي يعجز ميزانك عن وزنها قالت لك الشركة الصانعة: وزنها ألف ومائتا كيلو، أنت قد تكون أمام شيء بإمكانك أن تزنه بنفسك، وأن تتحقَّق منه، أحياناً يحضر الإنسان اثنين كيلو من الفاكهة، فيشعر أنه من غير المعقول أن يكون وزنها كذلك، وعنده في البيت ميزان يزينهم، ميزان البيت للتأكُّد لعل هناك خطأ، لكن ميزان البيت مصمَّم لوزن حاجات لا تزيد على عشرين كيلو، عن عشرة كيلو، ولكن هناك أشياء ضخمة لا يوجد عندك ميزان تزنها به، فالصانع أخبرك أن وزنها كذا. 

فنحن الآن أمام آيات ليست خاضعة لميزاننا، فميزاننا يحتاج إلى أشياء محسوسة، الجن نحن لا نراهم بنصِّ القرآن الكريم، نحن نرى أن شهاباً يسقُط، فالشُهُب نراها بأعيننا؛ ولكن خالق الكون أخبرنا أن هذه الشُهُب الساقطة إنما هي رجومٌ للشياطين. 

3 ـ الحكمة من إيراد موضوع إرسال الشهب على الجن:

 وقد يسأل سائل: لماذا ساق الله لنا هذا الموضوع؟ لأن العرب كانوا يزعمون أن بين الله وبين الجِنَّةِ نسباً، وأن الشياطين يعلمون الغيب، ولأنهم يعلمون الغيب كان بعض العرب يعبُد الشيطان من دون الله، ولماذا يعلمون الغيب؟ لأنهم يتصلون بالملأِ الأعلى، إذاً حينما ساق الله عزَّ وجل هذه الآيات لينفي أسطورةً شاعت في الجاهليَّة وهي: أن بين الله وبين الجِنَّة نسباً، وهي أن الشياطين يعلمون الغيب لاتصالهم بالملأِ الأعلى، إذاً: لابدَّ من أن يُعْبَدوا من دون الله.

 ولذلك ربنا عزَّ وجل يحدثنا في هذه الآيات الإخباريَّة عن الجن، من الآن فصاعد يجب إذا قرأت القرآن أن تعرف أن هذه الآية إخباريَّة خاضعةٌ للتصديق فقط، وأن هذه الآية تحقيقيَّة خاضعةٌ لوزنها بميزان العقل، الأشياء التي توزن بميزان العقل، ويجب أن تكون ضمن طاقة العقل، يجب أن تكون ماديَّة محسوسة، أنا أنظر إلى آلةٍ أتأمَّل، أدقِّق، أحقِّق، أستنبط أن صانعها على أعلى درجة من الإتقان، أو فيه بعض الإهمال، أو فيه نقص في علمه، أو على التجريب كانت سريعة العَطَب، إذاً لم تكن متقنةً، كل هذا أكشفه بعقلي، ولكن هناك أشياء ليس عندي جهاز يكشف الخَلَل، إذاً استسلم فيها لمقولة الصانع.

 إذاً: نحن أمام آيات تتحدَّث عن الجن، وعن استراقهم للسمع.

4 ـ الجن لا يعلمون الغيب:

 أولاً: القرآن الكريم يبيِّن بشكلٍ واضحٍ قطعي الدلالة أنه لا يعلم الغيب إلا الله، الله وحده يعلم الغيب، لذلك أنت يجب أن تدقق الآن أية قراءةٍ، أية مقولةٍ، مثلاً ظهرت بالصين، بجنوب شرق آسيا قبل أسابيع جماعة تدَّعي أن يوم القيامة يوم كذا، وقد مضى هذا اليوم ولم يحدث، أربعة عشرَ مليوناً ـ العدد كبير جداً ـ يعتقد أن فلاناً أو علاناً يعلم متى يوم القيامة، وجاء هذا اليوم ولم يحدث شيء، فأنت يجب أن تعلم علم اليقين أنه لا يعلم الغيب إلا الله، النبي عليه الصلاة والسلام وهو سيِّد الخلق لا يعلم الغيب، والآية:

﴿ قُل لَّا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ۚ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ ۚ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ(50)﴾

[  سورة الأنعام ]

 أما إذا أخبرنا عن أشراط الساعة، وعن آخر الزمان، فهذا ليس علماً بذاته، إنما هو إخبار من الله عزَّ وجل.. 

﴿  عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا(26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27)﴾

[  سورة الجن  ]

 فأنا كأي مسلم لي عقيدة، ولا أقبل أن يدعي إنسان كائناً من كان أنه يعلم الغيب، وأرفض هذا، وأسخر منه معتمداً على نصٍ قطعي الدلالة في كتاب خالق الكون إذ يقول: 

﴿ قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ ۚ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ(65)﴾

[  سورة النمل ]

﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا﴾ هكذا المسلم معه نور من الله عزَّ وجل، ومعه مبادئ ثابتة، وأدلَّة قاطعة، ولا يستسلم لخرافةٍ، ولا لمقالةٍ قرأها، ولا لشطحةٍ سمِعها، ولا لفِرْيَةٍ وصَلَت إليه، المسلم معه مقاييس، وهذا الموضوع مرفوضٌ شكلاً ومضموناً، لأن أحداً لا يعلم الغيب.

 في السماء الملائكة، والملائكة مخلوقاتٌ مكلَّفةٌ بمهمَّات، ولعلَّ بعض المهمات إهلاك القُرى، فالزلازل، والأمطار، ونقل أعمال العباد إلى الله عزَّ وجل، تنزُّل الملائكة بأوامر الله عزَّ وجل، والملائكة مخلوقات مقرَّبة إلى الله عزَّ وجل، دائماً تسبِّحه وتمجِّده، وقد كلَّفها الله بمهمَّات، ولعلَّ الشياطين كانوا يسترقون السمع.

 فلو انعقد مجلس وزراء، واتخذ قراراً بتقديم الساعة، ولم يعلن القرار بعد، سمع الآذن وهو يقدِّم القهوة عن تقديم الساعة، فجلس في قريته أو بين عشيرته، وقال: أنا أعلم ما سيكون، هو أخفى أنه سمع هذا القرار، بعد أسبوع سوف تُقَدَّم الساعة، فهذا الآذن استرق السمع، وبدأ يتاجر بهذا الفكرة، ويتصدَّر بها المجالس، ويقول: سيكون كذا وكذا، وسيفعلون كذا وكذا، والله عزَّ وجل قال: ﴿إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ*وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ﴾ 

5 ـ وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ

 والشيطان المارد هو الشيطان العاتي، المتمرِّد على طاعة الله عزَّ وجل، ومعنى المارد القوي، والمتمرِّد، والعاتي، والعاصي..

6 ـ يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى

 ﴿لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى﴾ أي لا يسَّمعون فيسمعون، هم يحاولون أن يسمعوا؛ ولكن لا يسمعون ﴿وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ*دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ﴾ .


وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ


  أي مستمر، والآن أي تعاون بين الإنس والجن تعاونٌ غير مشروع هدفه إضلال البشر، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام:

((  مَنْ أَتَى حَائِضًا أَوِ امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا، أَوْ كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ  ))

[  من سنن ابن ماجة عن أبي هريرة  ]

(( مَن أتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عن شيءٍ، لَمْ تُقْبَلْ له صَلاةٌ أرْبَعِينَ لَيْلَةً. ))

[ صحيح مسلم ]

 إذاً نحن حيال الغيب نلتزم بما قاله الله عزَّ وجل، أما ما نراه في بعض المجلات؛ حظُّك هذا الأسبوع، وفلان برجه كذا، وسيأتيه عدوٌ يأخذ منه شيئاً، فهذا كلَّه كلام باطل، وكلام الشياطين، والأفَّاكين، إنه كلامٌ مرفوضٌ نصَّاً وروحاً، جملةً وتفصيلاً، وقلباً وقالباً، قبل أن نمضي في الحديث عن هذه الآية: ﴿إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ﴾


إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ


 أولاً: جعل الله سبحانه وتعالى الجمال في الكون مقصوداً لذاته، فكل شيء خلقه الله فيه كمال في أداء الوظيفة، وفيه جمالٌ في تكوينه، فيمكنك أن تركب مركبة عبارة عن عمود حديدي عليه محرِّك ولها مقعد، فالمركبات لها جمال، إن هدف المركبة الأول نقلك من مكان إلى مكان، إذاً: فيها محرِّك وعجلات، لكن لها هدف آخر؛ هو أن يروق لك منظرها، ففيها نوافذ، وأبواب، وهي مطليَّة بطلاء متألِّق، وفيها مقاعد وثيرة، وفيها ألوان منسجمة، وفيها جمال في خطوطها وفي انسيابها، إذاً حينما صُنِعَت هذه المركبة مثلاً لتنقلك من مكانٍ إلى مكان، فهناك هدفٌ آخر رافقها، وهو أن تكون زينةً لك، إن هذا الشيء ملاحظ في الكون.

 فالفواكه مثلاً هدفها الأول أن نتغذَّى بها، لكن التفَّاحة لها منظرٌ جميل، ولها لونٌ جميل، ولها رائحةٌ طيِّبة عطرة، فربنا عزَّ وجل يجمع في خلق الشيء بيَّن فائدته، وبين أدائه لوظيفته أداءً تاماً كاملاً، وبين تحقيق المتعة للإنسان، إذاً ربنا عزَّ وجل، بل إن من الأدلَّة على وجود الله، وعلى أسمائه الحسنى أنه جعل الجمال مقصوداً في خلقه تعالى.

 وبعض الأطيار الجميلة مثلاً، ترى فيها الألوان مدرَّجة بشكل معجز، بل إن المهندسين يستوحون تصاميمهم من الألوان التي في الطيور، والألوان التي في الفراشات، وألوان الأزهار، إذاً الكون لا يؤدي وظيفةً فقط ؛ بل يؤدي وظيفةً وفيه جمالٌ يعدُ صميمياً من مبادئ الكون.

 شيءٌ آخر، ربنا عزَّ وجل قال:

﴿ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ۚ وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ(8)﴾

[  سورة النحل ]

 فالفرس لها قِوام رشيق، ولها لون مُمْتِع، ولها طباع، ويركبها الإنسان لينتقل عليها، وهو يفتخر بركوبها، لأنها تحقِّق له متعةً، لذلك كمال الخلق أن يحقِّق نفعاً ومتعةً في وقتٍ واحد، أن يجمع الشيء بين جمال التكوين وأداء الوظيفة أداءً تاماً.

 إذاً: ربنا عزَّ وجل قال: ﴿إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ﴾ .


وظيفة النجوم:


 فالكواكب كما قال بعض العلماء: لها وظائف ثلاث.

1 ـ الاهتداء بها في ظلمات البرِّ والبحر:

 أولاً: نهتدي بها في ظلمات البرِّ والبحر، مثلاً نجم القطب ثابت، وهناك نجوم ثابتة ونجوم متحرِّكة، فالنجوم الثابتة نهتدي بها، والمتحرِّكة نعرف من خلالها مُضِيَّ الوقت، طبعاً نحن في المدينة لا نتعامل مع السماء بشكلٍ واضح، لوجود الأضواء، والكهرباء، والشوارع المضاءة، أما إذا سكن الإنسان في الريف، أو قام برحلة، واستلقى على ظهره، ونظر إلى السماء في ليلةٍ ظلماء لرأى العجب العُجاب، وأنا كنت أرى مجموعةً من النجوم تشرق عند المغيب، وتغيب عند الشروق، فإن استقيظت في الليل أعرف من دون الساعة في أي وقتٍ أنا في الليل، إن رأيتها في منتصف قبَّة السماء فنحن في الساعة الثانية عشرَة تقريباً، تماماً كالشمس تشرق وتغرب، فالنجوم الثابتة نهتدي بها في ظلمات البرِّ والبحر، والمتحرِّكة نعلم بها الوقت، وكأنها مؤقِّت، أو كأنها ساعة موضوعة في السماء، فالنجوم من وظائفها أن نهتدي بها في طُرُقاتنا، وفي مسالكنا، ونهتدي بها في معرفة أوقاتنا.

2 ـ زينةً للسماء الدنيا:

 النجوم لها وظيفةٌ ثانية، فقد جعلها الله زينةً للسماء الدنيا، لكن هناك سؤال عن هذه النجوم التي تراها، فمرَّة قلت لكم: أن السماء فيها بروج، تمر الأرض في دورتها حول الشمس باثني عشرَ برجاً، من هذه الأبراج برج العقرب، برج العقرب مجموعة نجوم نراها في نيسان، في فصل معيَّن، الأرض في دورتها حول الشمس تمر باثنتي عشرة مجموعة من النجوم، وكل مجموعة سميت برجاً، والله جلَّ جلاله يقول: 

﴿ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ(1)﴾

[  سورة البروج  ]

 من هذه الأبراج برج العقرب، هناك في برج العقرب نَجْمٌ متألِّق اللون أحمر، يبدو صغيراً جداً، ولكنه يتَّسع للأرض والشمس مع المسافة بينهما، طبعاً المسافة بينهما مائة وستة وخمسون مليون كيلو متراً، والشمس تكبر الأرض بمليون وثلاثمائة ألف مرَّة، الله عزَّ وجل جعل هذه النجوم في السماء الدنيا زينة، فكم كلَّفت هذه الزينة؟ وكم أن الإنسان مكرَّمٌ عند الله عزَّ وجل حتَّى يجعل له هذه الكواكب الضخمة العملاقة، وهذه المجرَّات البعيدة يجعلها له زينةً فقط؟ أنت قد تزيِّن البيت بحبلين من الكهرباء يكلِّفونك ألف ليرة، هل يمكن أن يكون ثمن بيت مليونين، وأن تكلف الزينة مئتي مليون؟ فهذا غير معقول، ومعنى هذا أن الإنسان غالٍ كثيراً على الله عزَّ وجل.. 

﴿ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ ۖ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ(5)﴾

[  سورة الملك ]


الزينة والجمال في الكون:


 إذاً: نحن وقفنا عند الزينة، الإنسان يستنبط أشياء كثيرة، طعامك فيه زينة، الإنسان يضع في بعض الأحيان على المائدة فواكه، قبل أن تأكلها تراها جميلة جداً، وهناك كثير من المحلات يضعون ألواحاً زيتيَّة فيها صور فواكه، ومعنى هذا أن الفاكهة التي تأكلها لها منظرٌ جميلٌ جداً، أحياناً الأشجار المثمرة جميلة جداً، في قِوامها، وفي مجموعها الخضري، وفي شكلها الكروي، أو شكلها المنبسط، أو البيضوي، الأوراق جميلة جداً، كل شيء في الكون يؤدِّي وظيفةً تلمح فيه جمالاً أساسياً، وهذا الجمال الذي نلمحه في الكون دليل وجود خالقٌ عظيم، وإن الله جميلٌ يحبُّ الجمال، ولكن هناك جمال الأفعال، وهناك جمال الأقوال، يقولون: جمال الرجل فصاحته، الفصاحة جمال في الإنسان، فأنت تشعر أن الفصاحة شيءٌ عظيم.

وقد دخل وفد على عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى، فتقدَّم هذا الوفد غلامٌ صغير، فتألَّم الخليفة وانزعج وقال: "اجلس أيها الغلام، من أنت؟ ليقم من هو أكبر منك سنَّاً"، قال الغلام بأدبٍ جم: "أصلح الله الأمير، المرء بأصغريه قلبه ولسانه، فإذا وهب الله العبد لساناً لافظاً، وقلباً حافظاً فقد استحقَّ الكلام، ولو أن الأمر كما تقول لكان في الأمَّة من هو أحقُّ منك بهذا المجلس" ، ما هذا الجمال؟ أعجب بفصاحته.

 ومرَّ سيدنا عمر على أطفالٍ يلعبون، فتفرَّقوا إلا واحداً، جذب نظره، فلما وصل إليه قال له: "يا غلام، لمَ لم تكن مع مَن هرب؟"، قال له: "أيها الأمير، لستَ ظالماً فأخشى ظلمك، ولست مذنباً فأخشى عقابك، والطريق يسعني ويسعك" . الطريق واسع، تفضَّل مر، الفصاحة جمال.

 دخل وفد على عبد الملك بن مروان وفيهم غلام، عندما نظر إليه الخليفة تألَّم، فوبَّخ الحاجب وقال له: "ما شاء أحدٌ أن يدخل عليّ إلا دخل، حتَّى الصبيان؟" ما هذه (البهدلة)؟ فقال له هذا الغلام: "أيها الأمير إنَّ دخولي عليك لم ينقص قدرك ولكنَّه شرَّفني ـ أنت كما أنت بقيت ملك ـ أصابتنا سنةً أذابت الشحم، وسنةٌ أكلت اللحم، وسنةٌ دقَّت العظم" ـ الشحم يذوب، واللحم يتآكل، والعظم يُدَّق فينكسر ـ "وبيدكم فضول مال، فإن كانت لله فعلامَ تحبسونها عن عباده ـ نحن عباد الله ـ وإن كانت لكم فتصدَّقوا بها علينا، وإن كانت لنا أعطونا إيَّاها" ، أي احسبها مثل ما تحب فأُعْجِب به الخليفة، وهذا من جمال الفصاحة، والنبي الكريم قال:

((  إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا  ))

[  من صحيح البخاري عن ابن عمر  ]

 وهناك جمال القِوام، وجمال اللون، وجمال التصرُّف، والجمال أحياناً بالأخلاق، تجد موقفاً يسبي، ولو كان الشخص قميء المنظر، فالأحنف بن قيس كان قصير القامة، أسمر اللون، ناتئ الوجنتين، غائر العينين، أحنف الرجل، مائل الذقن، ليس شئٌ من قبح المنظر إلا وهو آخذ منه بنصيب، وكان مع ذلك سيِّد قومه، إن غضب غَضب لغضبته مئة ألف سيف، لا يسألونه فيمَ غضب، وكان إذا علم أن الماء يفسد مروءته ما شربه.

مرَّة أحرجه معاوية بن أبي سفيان بموقف، عندما أخذ البيعة لابنه يزيد، أثنى كل الحاضرين على يزيد، وأشاد بتقواه وصلاحه، وبقي الأحنف ساكتاً، قال له: يا أحنف تكلَّم، فقال: "أخاف الله إن كذبت، وأخافكم إن صدقت" ، فكان تلميحاً أبلغ من تصريح.

 فالذي أريد أن أقف عنده، قول ربنا عزَّ وجل قال: ﴿بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ﴾ أي أن عنصر الجمال واضحٌ جداً في الكون، لو لم يكن هناك إله، فقط تفاعلات ذاتيَّة لصار الجمال غير مقصود، فنحن لدينا أسماك زينة ليس لها هدف، فهي صغيرة، لا تؤكَل أساساً، وزنها أقل من غرام، فسفوريَّة أو شفَّافة، وهذه لمن خُلِقَت؟ خُلِقَت للإنسان ليستمتع بها، وكذا أنواع الورود، أنواع الأبصال، أنواع النباتات الخضراء، فهي بالآلاف، من يعملون بحقل الزراعة وحقل نباتات الزينة يرون العجب العجاب، هناك كتب، ومجلَّدات تقدِّم لكم صوراً لهذه النباتات بالألوف، بمئات الألوف، أنواع منوَّعة، وكل نبات له طبع، وله زهر معيَّن، وله نظام معيَّن، وله سُقيا معيَّنة، إذاً: إنك ترى في الكون أداءً لوظائف ثابتة وجمالاً في التكوين.

 انظر إلى الهيكل العظمي لإنسان تجده مخيفاً، حتى إذا أرادوا أن يحذِّروا إنساناً من التوتُّر العالي يضعون جمجمة وعظمتين، وازن بين جمجمة ووجه مكسو بالعضلات المستقيمة، وبالجلد المشدود، ولون أزهر، فرق كبير جداً بين هيكل عظمي وبين الإنسان في أحسن تقويم، بين عضلاته وبين جلده، إذاً في الإنسان جمال التكوين، بيت من دون طينة فرضاً، من دون دهان قد تكون غرفة واسعة، وأبوابه محكمة، كله جيِّد لكنه مزعج، منظره مزعج جداً، فالله أودع بالإنسان حب الجمال، وربنا عزَّ وجل خلق الكون على نحوٍ يؤدي الوظيفة أداءً كاملاً، ويؤدي متعةً جماليَّةً، وهذا مما يدلُّ على اسم الجميل..  

﴿إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ*وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ﴾ فالذي أخبرنا الله به عن عالَم الجن، وعن عالَم الملائكة، وعن رَجم الشياطين، وعن استماع الشياطين، هذا لا نملك إلا تصديقه، لأنه موضوعٌ إخباري، غير خاضع للتحقُّق، هذا خاضعٌ للتصديق، فكل إنسان أراد أن يناقشك بآيات متعلِّقة بالغيبيَّات فقل له: هذا موضوع إخباري لا تجوز المناقشة فيه، لأن الميزان لا نملكه، ميزاننا يقودنا إلى الله؛ وجوداً، وكمالاً، ووحدانيَّةً، ميزاننا يقودنا إلى معرفة كتاب الله، وإلى معرفة رسول الله، ولكن ميزاننا لا يستطيع أن يقدِّم لنا حقيقة هذه الإخباريَّات، لأنه أضعف من ذلك، وهذا ليس نقصاً فيه؛ بل لأنه مصمَّم لموضوعاتٍ محدودة لا لموضوعاتٍ مُطْلَقَة. 


لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى


 إذاً: هؤلاء الذين يعبدون الشياطين، أو الجن، أو يتعاونون معهم لإضلال البشر، ويزعمون أن الشياطين يعلمون الغيب، نقول لهم: هذا كذبٌ محض، فالشياطين لا يعلمون الغيب، والدليل أن الله عزَّ وجل يقول: ﴿لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى﴾

1 ـ وقفة مع كلمة ملأ:

 ففي الحديث القدسي:

((  أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي، إِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ هُمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ. ))

[  مسلم عن أبي هريرة  ]

 ما معنى الملأ؟ الملأ في المعجم أشراف القوم، أي أنهم يملؤون العين، هناك شخص تمتلئ عينك بجمال طلعته، وكمال قوامه، وفصاحته، وجماله وأناقته، فالملأ هم أشراف القوم الذين يملؤون العين لا بقوامهم فقط بل بأفعالهم، بأخلاقهم، بعلمهم، قد يسمع الإنسان محاضرة من إنسان، وزنه الجسمي قليل، ولكنه يقول لك: بقيت شهراً متأثراً بهذه المحاضرة، فالإنسان قيمته بعمله وبأخلاقه، فكلمة ملأ أي يملأ العين، والسمع، والذهن.. 

2 ـ مَن هم الملأ الأعلى ؟

 ﴿لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى﴾ مَن هم الملأ الأعلى؟ الملائكة، فهم موكَّلون بأعمال كالزلازل، والأعاصير، ولعل الأعاصير التي حصلت أعمالٌ أوكلها الله للملائكة، فنحن نقول: هؤلاء أقوياء، وهؤلاء أغنياء، وهؤلاء بيدهم مقاليد الأمور ولكن الله عزَّ وجل على كل شيء قدير، هواءٌ سرعته ثلاثمائة كيلو متر في الساعة، جعل بلاداً بأكملها قاعاً صفصفاً، الأبنية دُمِّرَت، الأشجار قُلِعَت، المركبات حُطِّمَت، واليخوت في البحر تلاطمت، الطائرات حُطِّمَت، إنها رياحٌ عاتية سرعتها ثلاثمائة كيلو متر في الساعة، واسمها الأعاصير، أحرقت الأخضر واليابس، فلعلَّ الزلازل والأعاصير، وما شاكل ذلك، هذه مهمَّاتٌ أوكلها الله للملائكة، فهؤلاء الجن، الشياطين الذين تمرَّدوا على أمر الله عزَّ وجل وعصوه، هؤلاء ما كان لهم أن يستمعوا لهذه الأخبار الغيبيَّة، لهذا قال الله عزَّ وجل: ﴿وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ*لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى﴾


وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ(7)لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى


 فإذا حاولوا الاستماع ليأخذوا هذه المعلومات، ويتاجروا بها في الأرض أصابهم شهاب ثاقب، فلو فرضنا فرضاً أن مجلساً ينعقد لتداول أموراً اعتياديَّة، يمكن لمستخدم أن يسمع بعض الكلمات في أثناء دخوله أو خروجه، مثلما قلنا قبل قليل، ثم يتصدَّر بعض المجالس في قريته، ويقول لك: سيصير كذا، وسيصير كذا، وأنا معي معلومات دقيقة، وأخذوا رأيي بالموضوع، هو دخل يقدِّم القهوة فقط، ولم يأخذوا رأيه، لكن لو فرضنا أن هناك أمراً خطيراً جداً فهو يُمْنَع من الدخول، فحينما جاءت بعثة النبي عليه الصلاة والسلام، قال تعالى:

﴿  وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا(8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعْ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا(9)﴾

[  سورة الجن  ]

 لم يبقَ هناك أي مجال، كان الجن يتاجرون بهذه المعلومات التي يسترقون السمع من الملائكة، فلمَّا جاءت رسالة النبي، مُنِعَ الشياطين من أن يستمعوا ضمانٌاً لنقائها، فإذا حاولوا جاءهم شهابٌ ثاقب، وهذا الموضوع ليس خاضعاً للمناقشة، ولا للتحقُّق، لأنه موضوعٌ إخباري، وقال علماء الأصول: إن أي موضوعٍ إخباري لا يجوز أن نزيد عليه إطلاقاً، لأن أية زيادةٍ فيه زيادة ظنية لا تقوم على برهانٍ ولا على دليل..


وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ(8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ


﴿وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ*دُحُورًا﴾ مدفوعين ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ﴾ أي مستمر، قال: ﴿إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ﴾ .


إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ


 أي أنه إذا تمكَّن هذا الشيطان أو ذاك الجني من أن يستمع إلى بعض مهمَّات الملائكة، وأن يأخذها ليتاجر بها، تبعه شهابٌ فأحرقه ﴿إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ﴾ الآن: 


فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ


﴿ فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ(11)﴾

[ سورة الصافات ]

انظر إلى هذه المجرَّات، انظر إلى هذه الكواكب، انظر إلى هذه المذنَّبات، انظر إلى هذه المجموعات الكبيرة من النجوم ﴿أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا﴾ تجد باخرة تحمل مليون طناً، ناقلة نفط حمولتها مليون طناً أصابتها عاصفةٌ بحريَّة فشقَّتها شقين، أين هذا الجسم العظيم الحديد المتين؟ الله عزَّ وجل هو أشدُّ خلقاً، فأي شيءٍ رأيته قوياً فالله عزَّ وجل أشدُّ قوة منه. 


ملخص الدرس: 


1 ـ المبصرات، والمسموعات، والمشمومات، والملموسات وسبيل معرفتها:

 أيها الإخوة، ملخَّص الدرس على الشكل التالي: الإنسان أحياناً يرى شيئاً مادياً فسبيل معرفته الحواس، فهذا المصباح متألِّق، أرى بعيني أنه متألِّق هذا يقين حسي، الآن أستمع إلى الآذان، فهذا الصوت انتقل إليَّ عن طريق الأذن، فهذا يقين حسي، وأحياناً ألمس شيئاً صُلباً هذا يقين حسي، أشمّ رائحةً عطرة فهذا يقين حسي، فالمُبصَرات، والمسموعات، والمشمومات، والملموسات هذه كلُّها أشياء ماديَّة، والحواس الخمس تكفي لمعرفتها، فالشيء الذي ظهرت عينه سبيل الوصول إليه الحواس، ويشترك الإنسان وغير الإنسان في معرفة الأشياء الماديَّة.

 فالدابَّة ترى حفرةً فتحيد عنها، ضع يدك أمام نملة تقف وتغيِّر الطريق، فالحيوانات عندها حواس؛ أي عندها بصر، وسمع، وشم.. إلخ.

 دقِّقوا الآن، لكن الشيء إذا غابت عينه وبقيت آثاره، فسبيل معرفة هذا الشيء العقل، الآن دخلنا في موضوع جديد، أنا أرى أن هذه المروحة تدور، وأن هذا المصباح متألِّق، أنا أحكم بعقلي حُكماً قطعياً أن الكهرباء موجودة في المسجد، من هذا الصوت الذي يُضَخَّم، ومن هذه المروحة التي تدور، ومن هذا المصباح المتألِّق، أما عين الكهرباء فقد غابت عني لا أراها بالعين، إذا نظرت إلى أحد الأسلاك الكهربائية هل فيه كهرباء أو لا، هل تعرفه بالعين؟ لا تعرفه، لكن تعرفه من المصباح، أو من الصوت، أو من الحركة، أو من التبريد، فإذا غابت عين الشيء وبقيت آثاره فالآن هذا دور العقل، يستنبط من آثار الشيء صفات عين الشيء، هذا اليقين الاستدلالي.

 فاليقين الأول يقين حسي، واليقين الثاني استدلالي، أما إذا غابت عين الشيء وآثاره فلا سبيل لمعرفته إلا الإخبار، لأن العقل معطَّل، فأنت تجلس في غرفة الجلوس وتقول: هذه ثريَّا، وهذه مروحة، وهذا طقم استيل، وهذا مطرح، وهنا اللون مناسب للطقم، يمكن أن تتفكِّر وتتأمَّل، لكن هناك غرفة داخليَّة هل تعرف ما فيها من أثاث؟ لا تعرف إلا أن تسأل صاحب البيت، فالشيء الذي غابت آثاره وغابت عينه لا سبيل لمعرفته إلا الإخبار.

2 ـ التصديق بخبر الله:

 أردت من هذا الدرس أنه كلَّما مرَّ معكم مقطع إخباري، إذا وجد من هو ضعيف الإيمان يقول: هذا غير معقول، هذا موضوع لا شأن للعقل به، هذا موضوع إخباري، موضوع تصديقي لا تحقيقي، فهذا الموضوع لو كان حسياً لعرفته الحواس، ولو غابت عين الشيء وبقيت آثاره الفكر يعرفه، وما دامت قد غابت عينه وآثاره فلا سبيل لمعرفته إلا بالتصديق.

 لا تتعب نفسك، إن رأيت آيات متعلِّقة بالجن، بالملائكة، بيوم القيامة، بالحوض، بالصراط، بالصراط فوق جهنَّم، بالصور، نفخ بالصور، بالبرزخ، بالقبر، فهذه أشياء كلها إخباريَّة، أنت عليك أن تؤمن بالله أولاً من خلال الكون، وأن تؤمن بهذا القرآن أيضاً من خلال إعجازه، وتؤمن بنبوَّة النبي من خلال قرآنه، وبعدئذٍ تتلقَّى من الله الأخبار.

 أخبرك عن قوم عادٍ وثمود، وأخبرك عن بدء الخلق من آدم وحوَّاء، أخبرك عن نهاية الأرض، إذا نفخ في الصور، هذا كلُّه أخبار، لكن قيمة الأخبار من قيمة المُخْبِر، من هو المخبر؟ هو الله عزَّ وجل، فبقدر إيمانك بالله عزَّ وجل تصدِّق أخباره، وبقدر ضعف إيمانك بالله عزَّ وجل تُشكِّك في أخباره، وبقدر ضعف إيمانك تقول: غير معقول ومعقول، هذا بقدر ضعف الإيمان؛ أما كلَّما قوي الإيمان بالله قوي معه تصديق أخبار الله عزَّ وجل.

 فلذلك قال بعض العلماء: حينما قال الله عزَّ وجل:

﴿  ألَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ(1)﴾

[ سورة الفيل  ]

 طبعاً الجواب: لا، والله أنا ما رأيت، لمَ قال الله ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ قال: لأن إخبار الله عزَّ وجل يرقى إلى مستوى الرؤية لصدقه، إذاً: هذا المقطع وهو قوله تعالى: ﴿إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ﴾ بزينةٍ هي الكواكب، هذه إعرابها بدل.  

﴿بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ*وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ*لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى﴾ لا يسَّمعون بمعنى  لا يسمعون، هو يسَّمَّع، ولكن لا يسمع.  

﴿وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ*دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ*إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ*فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ﴾ هذه آيةٌ نبدأ بها إن شاء الله تعالى الدرس القادم.

والحمد لله رب العالمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور