وضع داكن
28-03-2024
Logo
الدرس : 10 - سورة الصافات - تفسير الآيات 114 - 122 قصة سيدنا موسى عليه السلام
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس العاشر من سورة الصافات، ومع الآية الرابعة عشرَ بعد المائة:

﴿  وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ(114)﴾

[ سورة الصافات ]


مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ


1 ـ المنُّ هو العطاء:

 المنُّ هو العطاء.

2 ـ كلُّ آية مَنٍّ خوطب بها النبي للمؤمن منها نصيب:

 كل آيةٍ يخاطب الله بها النبي عليه الصلاة والسلام ـ دقِّقوا ـ كل آيةٍ يخاطب الله بها النبي عليه الصلاة والسلام للمؤمن منها نصيب، فإذا مَنَّ الله على موسى وهارون، بماذا منَّ الله عليك؟ من أجل أن ينشأ الحب، فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((  أَحِبُّوا اللَّهَ لِمَا يَغْذُوكُمْ مِنْ نِعَمِهِ ))

[ ضعيف الترمذي ]

 أول نعمةٍ أنعمها الله علينا جميعاً هي نعمة الوجود. 

﴿  هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا(1)﴾

[  سورة الإنسان  ]


نِعَم الله على العبد لا تعدّ ولا تُحصى:


 لك اسم، معك هويَّة، فلان الفلاني ابن فلان، أودع الله فيك عقلاً، وأعضاء، وأجهزة دقيقة جداً، ونعمة الإمداد، أمدَّك بالهواء، بالماء، بالطعام والشراب، أمدَّك بزوجة، بمأوى، بأولاد، بخبرات، بحرفة، بمهارات، برزق، نعمة الإيجاد، ونعمة الإمداد، ونعمة الإرشاد؛ دلَّك عليه، عرَّفك به، جمعك مع أهل الحق، أسمعك الحق وهذه بشارةٌ لك، والدليل:

﴿ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ ۖ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ(23)﴾

[  سورة الأنفال ]

 ما دام قد أسمعك فأنت أهلٌ لهذا السماع، وهذه بِشارة من الله عزَّ وجل، فعندما يقرأ الإنسان: ﴿وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ﴾ الله عزَّ وجل تفضَّل عليهما، منحهما، أعطاهما، أكرمهما، رفع شأنهما، نصرهما على عدوِّهما، نجَّاهما من فرعون، قياساً على هذه الآية أنت عدِّد النِعَم التي أنعمها الله عليك؛ جعلك من أبوين مسلمَين، في بلدٍ يغلب عليها الصلاح، تُقام فيها شعائر الله عزَّ وجل، جعلك محبوباً عند أقرانك، جعل لك أباً وأماً يعطفان عليك، تربَّيت في حجرهما، نشأت، ترعرعت، وكلَّما تذكَّر الإنسان فضل الله عليه ذاب حبَّاً لله عزَّ وجل، وكلَّما رأى مصيبةً حلَّت بإنسان فيما بينه وبين نفسه ليذكر نعمة الصحة؛ أن الله أنعم عليه، أكرمه، إن رأيت إنساناً يفقد أحد أعضائه، لقد مَنَّ الله عليك. 

﴿  أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْن(8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ(9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ(10) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11)﴾

[  سورة البلد  ]

 ماذا تنتظر؟ ما الذي يحول بينك وبين أن تصل إلى الله؟ ما الذي يمنعك عن طاعة الله، الذي خلقك من لا شيء؟ ولذلك: ﴿وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ﴾ وأنت أيها المؤمن إذا قرأت هذه الآية اسأل نفسك، عدد النعم التي مَنَّ الله بها عليك، عدّد نعمة الوجود، عدّد نعمة الإمداد، عدّد نعمة الإرشاد، عدّد النعم التي أكرمك الله بها من أجل أن تحبَّه، الإنسان لا يكون منصفاً لو أنه تذكر ما ينقصه، في حياة كل إنسان شيء متوافر لديه، وشيء لم يحصل عليه، فالمؤمن ينشغل بما لديه، لا بالذي لم يحصل عليه، يا ثعلبة، كما قال النبي:  

((  يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه.  ))

[ ابن حجر العسقلاني بسند ضعيف جداً ]

 قليلٌ يكفيك خيرٌ من كثيرٍ يطغيك، خذ من الدنيا ما شئت، وخذ بقدرها هماً ، ولتعلم علم اليقين أن أعظم كرامةٍ لك عند الله أنه عرَّفك بذاتك.

 كما قلت في خطبة الجمعة اليوم: إنه وهمٌ كبير أن يظن الإنسان أن كلمة الرزق تنصرف إلى المال، لا، فالعلم رزق، ومعرفة الله رزق، وطاعته رزق، والسلامة رزق، والصحة رزق، والعقل في الإنسان رزق، ومأوىً تأوي إليه رزق، وزوجةٌ مؤمنةٌ رزق، وأولاد أبرار رزق، لو وسَّعت كلمة الرزق لرأيت نفسك مغموراً بنعم الله عزَّ وجل، النبي عليه الصلاة والسلام كانت تعظم عنده النعمة مهما دَقَّت.

 فإذا أكلت طبقاً من الطعام، تذكر أن هناك أناساً لا يستطيعون أكل الطعام، على السيروم فقط، إذا تحركت في البيت تذكَّر المُقعدين، إذا انطلق لسانك تذكَّر أن أناساً بعيدين عن الله عزَّ وجل لا ينطلق لسانهم إلا بالباطل، إلا بالفِتَن، إلا بالانحرافات، إلا بالمعاصي، فحينما تنشغل بالنعمة عن المُنعِم فهذه هي الغفلة، ولكن المؤمن ينشغل بالمُنعِم، ينتقل من النعمة إلى المُنعِم.

 لذلك الشكر درجات، حده الأدنى أن تعرف أن هذه النعمة من الله، إذا عرفت أن هذه النعمة من الله فهذا شكر، وإذا امتلأ قلبك امتناناً لله وحمداً له فهذا شكر، وإذا انطلقت إلى عملٍ صالحٍ، تحاول أن تعبر عن شكرك لله عزَّ وجل، فهذا شكر، فالمعرفة شكر، والامتنان شكر، والعمل الصالح شكر، ﴿وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ﴾  

﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ(164)﴾

[  سورة آل عمران ]

 لا تعرف قيمة الهدى أيها الأخ الكريم إلا حينما تجلس إلى إنسان جاهل يهرف بما لا يعرف، يتكلم كلاماً كله جهل، كله فسق، كله فجور، كله ضيق أفق، حينما ترى انحرافاً في السلوك، حينما ترى عدواناً، حينما ترى بغياً وضلالاً، حينما ترى ضلالاً، حينما ترى تقصيراً، حينما ترى الاختلاط، وشرب الخمور، وانتهاك الحُرُمات، والتحدِّي الذي يتحدونه، إذا رأيت مثل هؤلاء الأشخاص تعرف نعمة الهدى والانضباط، نعمة الطهارة، نعمة العِفَّة، نعمة النظافة الأخلاقية، نعمة الأسرة والاستقامة.

 إذاً: 

﴿ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ(114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنْ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ(115)﴾

[ سورة الصافات  ]


وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنْ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ


 هناك كربٌ عظيم، العظيم يصف الكرب بأنه عظيم، فكم هذا الكرب عظيم! العظيم، خالق الكون وصفه بأنه عظيم.

﴿وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ*وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنْ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ﴾ .

1 ـ لا قِبَل للإنسان بكربِ الله العظيم:

 ونعوذ بالله من الكرب العظيم، أحياناً ربنا عزَّ وجل لو ساق لإنسان مشكلة واحدة يستنفر فيواجه هذه المشكلة، ولكن إذا شاءت حكمة الله عزَّ وجل أن يبتلي إنساناً بكربٍ عظيم، تأتيه من كل جانب، تارةً من صحته، وتارةً من زوجته، ومن أولاده، ومن عمله، ومما يحيط به، ومن سوداويته، ومن تشاؤمه، ومن انهياره الداخلي، لذلك كلما ابتعد الإنسان عن طريق الحق كلما احتاج إلى كربٍ ليعيده إليه، كلما كان انحرافه عظيماً كان كربه عظيماً.

2 ـ المؤمن يفهم على الله قبل نزول الكرب:

 فالمؤمن يفهم على الله، سريع الرجوع إلى الله، كثير التوبة، أوَّابٌ، لوَّامٌ، المؤمن أثنى الله عليه، وصف نفسه بأنها لوَّامة.

﴿  لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ(2)﴾

[  سورة القيامة  ]

 دائماً يحاسب نفسه حساباً عسيراً، لمَ قلت هذه الكلمة؟ لمَ نظرت هذه النظرة؟ لمَ ابتسمت هذه الابتسامة؟ لمَ أدرت حديثاً ودياً مع امرأة لا تحلُّ لك؟ لماذا نظرت؟ لماذا سكت؟ لماذا لم تدافع عن أخيك المؤمن؟ لماذا جلست في مجلسٍ يُغتاب فيه، وبقيت جالساً فيه؟ لماذا لم تقل كلمة الحق، آثرت سلامتك على كلمة الحق؟ فالمؤمن كثير اللَّوم لنفسه، وكل من كان حسابه في الدنيا حساباً عسيراً، كل من حاسب نفسه في الدنيا حساباً عسيراً، كان حسابه يوم القيامة يسيراً، كل من وسع صراطه في الدنيا ضاق صراطه في الآخرة، وكل من ضيق صراطه في الدنيا اتَّسع صراطه في الآخرة، فإذا قلت في كل قضية: هذه فيها فتوى، وهذه بلوى عامة، وهذه الله لا يؤاخذنا بعملنا، وهذه ماذا سنفعل، نحن عبيد إحسان، ولسنا عبيد امتحان، كلما وقع في مشكلة يعطيها فتوى، هذا الذي يحاسب نفسه حساباً يسيراً، عندئذٍ يأتي حسابه يوم القيامة عسيراً.

 فهذا الكرب العظيم أيها الإخوة، الكرب العظيم يكافئ الانحراف العظيم، أحياناً طالب يفهم من نظرة، تجده انضبط، لأنه حساس، فيه حياة، قلبه حي، يستحي، يخجل، أستاذه غالٍ عليه، علاقته بأستاذه وثيقة جداً، فلو أن المدرس أعرض عنه قليلاً لهلك هماً وحزناً.

 قلت لكم سابقاً: مؤمن استمع من شيخه إلى أن لكل سيئةٍ عقاباً، زلّت قدمه في مشكلة، فيه تقصير، انتظر المصيبة، مر يوم، ويومان، وأسبوع وأسبوعان، فلم يحدث معه شيء، في المناجاة قال: يا رب لقد عصيتك فلم تعاقبني، فوقع في قلبه: أن يا عبدي قد عاقبتك ولم تدرِ، ألم أحرمك لذة مناجاتي؟

 المؤمن أيها الإخوة، يكفيه أن يشعر أن علاقته بالله ليست كما يرام، أن اتصاله بالله فاتر، إقباله على الله ضعيف، يكفي أن يشعر بهذا الشعور حتى يحاسب نفسه، ويراجع حساباته، ويسأل نفسه: ماذا فعلت؟ ما الذي اقترفت؟ من أي جهةٍ قصَّرت؟ هذا هو المؤمن. 

3 ـ شدّة الكرب بسبب شدة الانحراف:

 كلما ازداد الانحراف كان الكرب أكثر شدةً، لذلك هناك أناسٌ لا يعودون إلى الله عزَّ وجل إلا بمصيبةٍ تقصم الظهر، فكأن الله ينتظر منا أن لا ننحرف انحرافاً لا يُرجِعنا إلى الله إلا كربٌ عظيم، مثلاً أمراض، فإذا شعر الإنسان أنها قد أصابته، لا تقوى رجلاه على حمله، خلافات زوجية، شَرخ في داخل الأسرة، مصائب ضمن الأسرة، في الجسم، في علاقات العمل، أحياناً الإنسان يتورَّط ورطة كبيرة جداً فلا ينام الليل، يقول لك: شهر لم أنم الليل، هو في كرب عظيم، ولكن هذا الكرب العظيم يتناسب مع انحرافٍ عظيم، كلما كان الانحراف عظيماً كان الكرب عظيماً، فلا تسلكنَّ مع الله طريقاً تحتاج معه إلى كرب عظيم.

 مثلاً: في جسم الإنسان مرض، ولكنه بسيط، في بواكير المرض يعالج بحبوب، بحمية، لكن لو أهمل نصائح الأطباء، وركب رأسه، وأكل ما يشاء، وتحرك حركة عشوائية كما يحلو له، ولم يعبأ بنصائح الأطباء، وألقى بها عرض الطريق، عندئذٍ يقول له الطبيب: لابدَّ من عملٍ جراحي، كان من الممكن أن تُعالَج معالجة يسيرة بحبة أو حبتين، وحمية سريعة، الآن عملية جراحية.

 فالإنسان لا يتعدّ حدود الله، لا يأكل مالاً حراماً، ولا يشتط، ولا يعتدِ، ولا يتجاوز حدوده لدرجة أنه لابُدَّ من كربٍ عظيم، فإياك أن تصل مع الله إلى طريقٍ مسدود.

 كنت أضرب هذا المثل، إنسان ارتكب جريمة، وحوكِم، وحكم عليه بالإعدام، وصُدّق الحكم، وسيق إلى المشنقة، في هذه اللحظة وصل مع القضاء إلى طريق مسدود، إن أحبّ أن يضحك لابد من أن يُعدم، إن أحب أن يبكي لا بد من أن يُعدَم، يحب أن يتوسَّل أو لا يتوسّل، يحب أن يتكلم كلاماً فارغاً ليتكلم، يحب أن يضرب نفسه فليفعل، وصل مع القضاء إلى طريقٍ مسدود.

 الذي أتمناه على كل أخ ألا يتورط، ألا يهمل نفسه إلى أن يصل مع الله إلى طريقٍ مسدود، لابدَّ من كرب عظيم، وربنا عزَّ وجل إذا أراد أن يعالج يعرف كيف يعالج، من المنطقة الحسَّاسة، من المنطقة التي تؤلم، من الشيء الذي يخيف، فأنواع المصائب لا تعد ولا تحصى، أحياناً مصائب وهمية، يتوهَّم الإنسان أن معه مرض خبيث، يعيش أشهراً مُنسحِقاً، ثم يتبين أن الورم غير خبيث، لكن الله قادر أن يوهمك، وقادر أن لا يوهمك، وقادر أن يفعل ما يشاء، فأنت كن معه على حَذَرِ، إذا رأيت الله يتابع نعمه عليك، وأنت تعصيه فاحذره، الله عزَّ وجل يمد للكافرين مداً، فإذا كان الإنسان منساقاً مع رغباته من دون رادع، عندئذٍ يحتاج إلى كربٍ عظيم، فسيدنا موسى وهارون: ﴿وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنْ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ﴾ .

4 ـ الكرب العظيم أصاب فرعون:

 الكرب العظيم أصاب فرعون، لأنه عتا وطغى، ونسي الجبار الأعلى،

﴿ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ(24)﴾

[ سورة النازعات ]

رأى في المنام أن طفلاً من بني إسرائيل سيقضي على ملكه، فذبح كل أطفال بني إسرائيل، عتا، وطغى، وبغى، ونسي الجبار الأعلى، نسي المبتدى والمنتهى، عندئذٍ جاءه الكرب العظيم.. 

﴿  وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمْ الْغَالِبِينَ(115)﴾

[ سورة الصافات  ]


وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمْ الْغَالِبِينَ


1 ـ نصرُ الله للمؤمنين يشمل جميع المجالات:

 ربما لم تكن هذه خبرة عندنا جميعاً، النصر جميل جداً، 

﴿ فِي بِضْعِ سِنِينَ ۗ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ۚ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ ۚ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)﴾

[ سورة الروم ]

أن ينصرك الله نصراً عزيزاً، نصراً مؤزراً، أن ينصرك على عدوك؛ أو يتخلى عنك، فيقهرك عدوك، ربنا عزَّ وجل مَنَّ على موسى وهارون وعلى قومهما.

﴿وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمْ الْغَالِبِينَ﴾ طبعاً هنا في المعركة، لكن ممكن أن تنتصر على خصم لك في العمل، نِد خبيث يزيد قهرك، إن لم تكن مع الله قهرك وحَطَّمَكَ، فإذا كنت مع الله يسوقُ الله الحوادث لمصلحتك، تجده نصرك، لمع نجمك، ارتفع اسمك، علا مقامك، ورفعنا لك ذكرك، فالنصر ليس في المعركة فقط، ممكن أن تنتصر بالدراسة، بعملك، تننصر بأسرتك، تكون لك الكلمة العليا، لست مقهوراً في البيت، فهناك نصر ضمن الأسرة، نصر في العمل، في الدراسة، نصر في الدعوة إلى الله عزَّ وجل، فإذا كنت ترجو بدعوتك إلى الله رضاء الله عزَّ وجل، تجد الله عزَّ وجل جعل القلوب تهفو إليك من دون حيلةٍ منك، ولكن بتقدير الله عزَّ وجل، علم صدق نيتك فساق الناس إليك. 

﴿  وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمْ الْغَالِبِينَ(116) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ(117)﴾

[ سورة الصافات  ]


وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ


1 ـ لابد للإنسان من منهجٍ يسير عليه:

 إذا عندك آلة معقدة، بالغة التعقيد، غالية الثمن، عظيمة النَفع، أمتع شيء مع الآلة كتيِّب فيه تعليمات الصانع باللغة العربية، حركةً حركة، الآلة غالية عليك، وإنتاجها كبير جداً، وهناك أجهزة دقيقة، يقولون لك: هذا كمبيوتر لتحليل الدم، كل كبسة زر يظهر سبعة وعشرون تحليلاً فوراً على الشاشة، ثم هي مطبوعة، إذا كل كبسة زر ألف ليرة، عندك مائة زبون مائة ألف ليرة في اليوم، أمتع شيء مع الآلة هذا الكتيب الدقيق، هذا الكتاب المستبين، فأنت كآلة معقدة، كتابك هو القرآن الكريم، هذا حرام، هذا حلال، هذا مباح، هذا يغضب الله، هذا لا يرضي الله، هذا مأمور به، هذا منهي عنه، فأروع ما في الحياة أن يكون لك منهج تسير عليه، دستور تعمل به، قانون تنصاع له، توجيه خالق الكون تستجيب له، هذا شيء جميل جداً.

﴿وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ﴾ فأنا لا أعتقد أن ثمة سعادة أعظم من أن تعيش في الحياة ومعك كتاب الله، ومعك الأمر والنهي، معك الحلال والحرام، معك الخير والشر، معك فلسفة وجودك، فلسفة حياتك، فلسفة ما قبل الموت، فلسفة ما بعد الموت، لماذا أنت في الدنيا؟ ما حكمة الزواج؟ ما حكمة تربية الأولاد؟ هذا الكتاب المستبين، فهذا الكتاب كتابنا المقرر، كتاب خالق الكون، فيه نبأ من قبلنا، خبر من بعدنا، فيه الأمر، فيه النهي، فيه الوعد، فيه الوعيد، فيه طريق الخير، فيه طريق الشر، فيه مواعظ، فيه أخبار السابقين، فيه ما بعد الموت. 

﴿  وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ(117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ(118)﴾

[ سورة الصافات  ]

2 ـ السعادة الدنيوية والأخروية كلها في اتباع كتاب الله:

ومن الأدعية الماثورة: اللهم ألزمنا سبيل الاستقامة لا نحيد عنها أبداً، شيء جميل جداً أن تعرف المنهج وأن تسير عليه، أن تعرف الحق وتتبعه، أن تعرف الخير وتكون من أهله، وأن تعرف الشر، وتبتعد عن أهله، وقد ورد بسند ضعيف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لزيد الخير:

((  "كيف أصبحت يا زيد؟، قال: "أصبحت أحب الخير وأهله، وإن قدرت عليه بادرت إليه، وإن فاتني حزنت عليه"، قال: يا زيد، عرفت فالزم، إني لك ناصحٌ أمين. ))

[ تخريج أحاديث الإحياء للعراقي ]


الدعوة إلى الله بالخلق الحسن والعمل الصالح:


 لأن الحياة ماضية، أعظم سعادة أن تستيقظ على طاعة الله، أن تتحرك وفق منهج الله، التاجر سعادته كبير جداً لأنه يقول: هذه لا تجوز، لا أبيع ديني، لا أحلف كذباً، لا أبيع بسعرين، لا أرتكب ما حرَّم الله، لا أتجاوز حدِّي، لا أغش المسلمين، لا أخفي عيباً، انصياعه لأمر الله عزَّ وجل صار داعية، وهو لا يدري.

من منا يصدق أن أكبر دولةٍ إسلاميةٍ في العالم هي إندونيسيا، تعدادها مائة وخمسون مليونًا، الأمة العربية كلها من الخليج للمحيط مائة مليون، إندونيسيا مائة وخمسون مليوناً، كلها أسلمت عن طريق التجار المسلمين، كانوا دعاةً إلى الله بمعاملتهم، بإنصافهم.

 والله لا أبالغ، إن التاجر أو البائع، أو صاحب مصلحة يقدر من خلال استقامته، وصدقه، وسعره المعتدل، ونصيحته أن يرغِّب الناس في الدين، بأي مصلحة بإمكانك أن تكون أكبر داعيةٍ إلى الله عزَّ وجل وأنت ساكت، وهذا اللسان لا ينطق، ولكن العمل ينطق، إذاً: ﴿وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمْ الْغَالِبِينَ﴾ .

3 ـ السكينةُ وتيسير الأمور بابٌ من أبواب نصر الله:

 أيضاً حينما تنتصر على عدوك، حينما يمكِّن الله لك في الأرض، حينما يرفع شأنك، حينما يعلي قدرك، حينما يمدك بمددٍ من عنده تشعر بالسعادة، أنت تحب الله عزَّ وجل، وتخلص له، وتنصاع لأمره، وتحب أحبابه، وتأتي بيته لتنتظر إكرامه، ولا يشعرك أنه يحبك؟! أحياناَ الله عزَّ وجل يشعرك أنه يحبك من خلال أشياء كثيرة، أحدها تيسير أمورك..

﴿  فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى(5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى(6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى(7)﴾

[  سورة الليل  ]

 أحياناً التيسير مُشعِر على أن الله يحبك، أحياناً هذه الطمأنينة التي تعيشها، هذا التوازن، هذه الثقة بالله عزَّ وجل، هذا القلب المُتماسك، هذه الأعصاب القوية، هذا من علامات رضاء الله عنك. 

﴿ ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ(26)﴾

[  سورة التوبة ]

 هذه سكينة من الله، أحياناً إذا أحبك الله ألقى حبك في قلوب الناس، كلهم يحبونك. 

يُنادَى له في الكون: أنَّا نحبه    فيسمع مَن في الكون أمرَ مُحبِّنا

[ علي بن محمد بن وفا ]

 إذا أحبك الله ألقى حبك في قلوب الخلق. 

﴿ أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ ۚ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي(39)﴾

[  سورة طه ]

4 ـ محبة الناس للعبد من نصر الله له:

 شيء رائع جداً أن يحبك الناس، أن تكون محمود السيرة، أن يلهج الناس بالثناء عليك، أن يعاملوك معاملةً طيبة كلها المحبة، والتقدير، والإكرام، والتبجيل، هذا من حب الله لك.

 أحياناً، وهذا من أرقى أنواع الحب أن يعرّفك بذاته، تشعر حينما تعرف الله عزَّ وجل أنك إنسان آخر، لا كبراً ولا استعلاء، ولكنه شعور بالتميُّز، هذا غارقٌ في حب الدنيا، وهذا مقبورٌ في شهوته، وهذا محاصرٌ في تجارته، وهذا تستحوذ عليه مشكلاته فإذا هي تستهلكه لا يستهلكها، المؤمن عظيم عند الله عزَّ وجل، فحياته مقدسة، عمره ثمين، كيف لا وقد أقسم الله جل جلاله بعمر النبي، فقال:

﴿  لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ(72)﴾

[  سورة الحجر  ]

 الله عز وجل أقسم بعمر النبي، وقياساً على هذا أنت أيضاً عمرك ثمين، لا تنتهي حياتك هكذا ببساطة، تنتهي حياتك وأنت معزز، وأنت مكرَّم، لك دعوة إلى الله عز وجل.


الدعوة إلى الله مطلبُ كل مسلم:


 أصحاب الرسالات لا يميتهم الله عز وجل إلا بعد أن يحقق لهم أمانيهم في الحياة، فإذا كان مطلبُ الإنسان كبيراً، وهدفه نبيلاً فالله عز وجل يجعل حياته مقدَّسة، يجعل عمره ثميناً، هو ينشغل بنشر الحق، بنشر الفضيلة، ويرى ثمرة عمله قبل أن يموت، وأنت أيها الأخ أحياناً تمضي عشر سنوات بمسجد، كل أسبوع تحضر مجلس علم، جلسة في الصباح وأخرى في المساء، وكل هذا يتراكم، هذه كلها لوائح شرف بحقك، بين طرفة عين وأخرى تجد نفسك مؤمناً داعياً إلى الله، الله أجرى على يدك الخير، أطلق لسانك، جعلك منار هدى، جعلك باباً للخير، جعل الخير يجري على يديك، فالإنسان إذا أتى بيت الله عز وجل لا ينسى الحديث القدسي: 

(( إن بيوتي في الأرض المساجد، وإن زوَّارها هم عمَّارها، فطوبى لعبدٍ تطهَّر في بيته ثمَّ زارني، وحُقَّ على المزورِ أن يُكرِم الزائر. ))

[  أخرجه الطبراني بسند ضعيف ]

 فربنا عزَّ وجل قال: ﴿وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ﴾ كتاب واضح ﴿وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ .


وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ


لابد بعد معرفة الحق من العمل به:

 إذاً: يا رب هاتان نعمتان؛ أن تعرف الحق، وأن تتبع الحق، أن تعرف الهدى، وأن تتبع الهدى، أن تعرف الحلال، وأن تعمل به، أن تعرف الحرام، وأن تبتعد عنه، الروعة لا في معرفة الحق، بل في تطبيق الحق، لذلك بونٌ شاسعٌ بين أن تعرف وبين أن تعمل، وبين الحق والباطل أربع أصابع؛ الباطل أن تقول: سمعت، والحق أن تقول: رأيت. 

﴿  وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ(119)﴾

[ سورة الصافات  ]


وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ


الثناءُ العطر بعد الموت:

 مثلاً: هؤلاء الطغاة، هؤلاء الجبابرة في الأرض، إلى آلاف السنين كلما ذُكروا يُلعَنون، فالحروب العالمية ذهب ضحيتها خمسون مليون إنسان، الذي ألقى على بعض المدن قنابل ذرية، الطغاة مثل تيمورلنك هؤلاء الذين هم جبابرة في الأرض، هؤلاء كلما ذُكروا يُلعَنون، بينما الأنبياء كلما ذكروا يصلى عليهم، لا أعرف كم مرة يذكر النبي في العالم الإسلامي في اليوم، ومع كل مرةٍ صلى الله عليه وسلم، غير الصلاة، تحس أن هذا الإنسان قدَّم كل شيء، أعطى كل شيء، ولم يأخذ شيئاً، أعطانا الهُدى، أعطانا المنهج، أعطانا السبيل الصحيح، أعطانا الدستور، كان أرحم بنا من أنفسنا، جمعنا، إذاً: ﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ﴾ الثناء العطر ﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ﴾ في الأجيال اللاحقة، فرق كبير بين إنسان يموت وكلما ذكر بعض الموت كيوسف العظمة مثلاً كان وزير دفاع، وجاءت فرنسا إلى هذا البلد، والجيش السوري لا يكافئ أبداً الجيش الفرنسي، ولكن أبى عليه شرفه العسكري أن يستسلم، فذهب إلى ميسلون وقاتل، أعداؤه احترموه، كلما ذُكِر الآن يُذكَر بالتعظيم والتبجيل، فانظر إلى الذكر الحسن:

هَذا الَّذي اِشتاقَ الكَرى تَحتَ الثَرى    كَي لا يَرى في جُلَّقِ الأَغرابا

[ إيليا أبو ماضي ]

  هذا بعمل رفع الله له ذكره، ومؤمن دعا إلى الله عز وجل؛ ترك آثاراً طيبة، ترك هدى، بنى نفوساً بناء صحيحاً، عرّفها بربها، حملها على طاعة الله عزَّ وجل، هذا عمل عظيم.

 لذلك صنعة الأنبياء أن يستخدمك الله عز وجل في هداية الخلق، وأنت بعملك، باستقامتك، بسمتك الحسن، بحيائك، بتواضعك، بعفتك، بانضباط لسانك، تكون قدوة للآخرين، في عملك، في بيتك، مع جيرانك، مع إخوانك في الجامع، فلذلك: ﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ﴾ الذكر الحسن، الثناء الطيِّب، الحمد.

 قال لي أخ تاجر: كنت على وشك الإفلاس، أحد أصحاب الديون جاءني إلى موقع العمل، طالبني بشدة، فدعوته إلى طعام الغداء في البيت، بيتي صغير مساحته خمسة وثلاثون متراً، فلما رأى بيتاً بهذا الضيق قال: إنسان يسكن بهذا المكان مستحيل أن يأكل مال الناس، مزّق السندات، وقال له: تعال وخذ بضاعةً، وبعها ثم ائتني بالثمن، وأي إنسان لم يبعك أخبرني أنا أقنعه بأن يبيعك، والقصة من ثلاثين سنة، كلما ذكرها يذكره بالخير، قال لي: أنهضني من كبوتي، وأعانني على دنياي.

 قلت في نفسي: شخص من ثلاثين سنة كلما ذكره يذكره بالخير، هذا الإيمان، إذا كان له عمل طيِّب، لو توفاه الله، يلهج الناس بهذا العمل طول الحياة وطول الزمن، هذا معنى:

﴿  وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ(119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ(120)﴾

[ سورة الصافات ]


إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ


قانونٌ عامٌّ: جزاء المحسنين:

 روعة الآية، هذه ليست قصة، هذا قانون، هذا ليس لسيدنا موسى وهارون، لا لك أنت، يا من تجلس في هذا المجلس، يا من تجلس في هذا المسجد، قال تعالى:

﴿ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ(121)﴾

[ سورة الصافات ]

 إن أحسنت هكذا نجزيك، ننجِّيك من الكرب العظيم، ننصرك على عدوك، نؤتيك الحق، نعينك على تطبيقه، نلقي عليك ثناء حسناً، وذكراً طيباً، قال: ﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾


خلاصة الدرس:


 أيها الإخوة الأكارم، أتمنَّى مرةً ثانية على الله عز وجل أن تضعوا أيديكم على دقة هذه الآية: ﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ هذه الميِّزات، يكون كرب عظيم الله ينجيك منه، كرب عظيم لا يبقي ولا يذر، يحرق الأخضر واليابس، تنجو منه أنت بأعجوبة؟! أن تتعرف إلى الحق، وأن يعينك على تطبيقه، أن تعرف المنهج وأن تطبقه، أن ينصرك في كل الميادين على أعدائك، دائماً أنت متفوق عليهم، ولك العز والشأن، أن يكون لك الذكر الحسن والطيب في الناس، يلهج الناس بالدعاء لك، والثناء عليك.

 أن تنجو من الكرب العظيم، وأن تنتصر على أعدائك، نصراً عزيزاً مؤزَّراً، وأن يؤتيك الله الحق، وأن يعينك على تطبيقه، وأن يبقي لك ذكراً حسناً، هذا في متناول يديك، والثمن شيء واحد وهو: الإحسان. 

﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ الإحسان على إطلاقه، المستقيم محسن، أن تؤدي ما عليك محسن، أن تتقن عملك محسن، أن تكون صادقاً محسن، الإحسان بأوسع معانيه، فالنصر على العدو، والنجاة من كل كرب، ومعرفة الحق، والعمل به، والذِكر الحسن، هذه هي الأهداف الكبرى، هذه في متناول يديك، ثمنها بسيط تملكه: كن محسناً؛ مع صديقك، مع عدوِّك، مع كل مخلوق، فعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: ثِنْتَانِ حَفِظْتُهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:  

((  إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ.  ))

[  مسلم  ]

 هذا إحسان، والإساءة ما يفعله بعض الناس، يذبحون الدجاج ويضعونها في الماء المغلي، وهي لا تزال تتحرَّك، هذه إساءة بالغة لمخلوق أكرمك الله به، تعذبه؟! النبي الكريم رأى رجلاً يذبح شاةً أمام أختها فغضب، قال عليه الصلاة والسلام: 

(( أنَّ رَجُلًا أضجَعَ شاةً يُريدُ أن يَذبَحَها، وهو يُحِدُّ شَفرَتَه، فقال له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أتُريدُ أن تُميتَها مَوتَتَينِ؟! هلا حَدَدْتَ شَفْرَتَك قبل أن تُضجِعَها؟ ))

[ أخرجه الطبراني ]

 إذاً: النصر على العدو، وهو شيءٌ ثمينٌ جداً لا يعرفه إلا من فقده، القهر، الهزيمة، شخص يستعلي عليك، يشمت بك، شيء لا يحتمل، أن تنتصر على عدوك، وأن ينجيك الله من كل كربٍ عظيم احتماله فوق طاقة البشر، وأن يؤتيك الحق، وأن يعينك على تطبيقه، وأن يدعَ لك ذكراً حسناً في الناس، كل هذه المكاسب العظيمة بين يديك، ثمنها الإحسان، فأجمل ما في هذه القصة قول الله عزَّ وجل: ﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ كن محسناً في عملك، وفي بيتك، ومع كل مخلوق. 

﴿  إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ(122)﴾

[ سورة الصافات ]

 فإذا كنت مؤمناً محسناً فكل هذه الخيرات بين يديك، كل هذه العطاءات في متناول يدك.

 وفي درسٍ قادم إن شاء الله تعالى ننتقل إلى قصة سيدنا إلياس.  

﴿ وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ(123)﴾

[ سورة الصافات ]

 إلى آخر الآيات.

والحمد لله رب العالمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور