وضع داكن
29-03-2024
Logo
الدرس : 04 - سورة سبأ - تفسير الآيات 10 - 14 الفضل هو الزيادة في العطاء ولا تنقص الحرفة من مقام أهل الفضل
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 أيها الإخوة الأكارم، مع الدرس الرابع من سورة سبأ، وصلنا في الدرس الماضي إلى قصَّة سيدنا داوود عليه وعلى نبيِّنا أفضل الصلاة والسلام، يقول الله عزَّ وجل في الآية العاشرة من سورة سبأ:

﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا ۖ يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ ۖ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ(10)﴾

[ سورة سبأ ]


وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا


1 ـ من معاني الفضل:

 من معاني الفضل أنه الزيادة عن المألوف، لقوله تعالى:

﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۚ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(1)﴾

[  سورة فاطر ]

 الإنسان قد يزيده الله قوةً، قد يزيده علماً، قد يزيده ذكاءً، قد يزيده شأناً، قد يزيده وسامةً، قد يزيده حكمةً، قد يزيده قُرباً، فما أوتيت زيادةً على عموم الناس فهذا هو الفضل.

﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ ۖ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ ۚ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)﴾

[  سورة النساء  ]

 فكل مؤمن حينما سمح الله له أن يتعلَّم، وأن يكون مهتدياً، حينما يَسَّرَ الله له طريق الهداية وطريق العلم، آتاه الله منه فضلاً كبيراً، عامَّة الناس الذين تراهم أمامك في الطريق؛ يأكلون، ويشربون، ويتمتَّعون، ولا يفقهون شيئاً، لكن الذي آتاه الله بعض العلم، بعض الحكمة، الذي آتاه الله قوةً في نفسه، الذي مكَّنه الله من طاعته، الذي أعانه على عبادته، هذا آتاه فضلاً عظيماً.

 إذاً: معنى الفضل ما زاد عن مجموع الناس، عن السواد الأعظم.

 سيدنا عمر مرَّةً سمع رجلاً يدعو ربَّه فيقول: "اللهمَّ اجعلني من القليل"، قال عمر: "ما هذا الدعاء؟"، قال: أقصد قوله تعالى:

﴿ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ ۚ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)﴾

[ سورة سبأ  ]

 فقال عمر يخاطب نفسه: "كل الناس أعلم منك يا عمر"، اللهمَّ اجعلني من القليل الشاكر، لا من الكثير الساهي واللاهي.

 إذاً: كلمة فضل تعني إذا خصَّك الله بمعرفته فهو فضلٌ عظيم، إذا خصَّك الله بالحكمة فهو فضلٌ عظيم، هذا المعنى الذي يمكن أن نستنبطه، والذي يمكن أن يُطبَّق على المؤمنين، وإذا تلوت قوله تعالى: ﴿وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ يجب أن تشكر هذا الفضل، لكن اعلم علم اليقين أن أعظم الفضل ما تعلَّق بالآخرة، قد يؤتيك الله قوَّةً في الدنيا، قد يؤتيك مالاً، قد يؤتيك جاهاً، لكن الشيء الذي ينتهي عند الموت، هذا لا يُوازى بما يبدأ بعد الموت، فالعلم والحكمة، والطاعة والعبادة، والعمل الصالح، والقرب من الله عزَّ وجل، هذه كلها تقطفها في الدنيا وبعد الموت.

 إذاً معنى كلمة: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا﴾ أي خصصناه بأشياء مَيَّزْنَاه بها على بقيَّة الناس.  

2 ـ الفضل الذي آتاه الله لداود:

 الإمام القرطبي في تفسيره يقول: الفضل هو النبوَّة، والفضل هو الكتاب، آتاه الله الزبور، والفضل هو القوة، آتاه الله قوة.

﴿ اصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ ۖ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17)﴾

[ سورة ص  ]

والعلم من فضل الله عزَّ وجل، وتسخير الجبال والطير من فضل الله عزَّ وجل، وتوبة الله عليه من فضل الله عزَّ وجل.

 المرء أحياناً يخالف أوامر إنسان، هذا الإنسان قوي، يسترضيه فلا يرضى، يستغفره فلا يغفر، يرجوه فلا يُرجى، الإنسان أحياناً لا يُسترضى، إذا خالفت أمره يسحقك أحياناً، لكن الله سبحانه وتعالى إذا تُبت إليه تاب عليك، فمن فضل الله على الإنسان أنه يتوب عليه، الإنسان يخطئ، ويستغفر، ويتوب الله عليه، وهذا من فضل الله على الإنسان.

 ومن فضل الله على داود أنه ألهمه الحكم بالعدل، لأن حجراً ضجَّ بالشكوى إلى الله عزَّ وجل فيما ترويه الكتب قال: يا رب عبدتك خمسين عاماً، ثمَّ تضعني في أُسِّ كنيف، فقال: تأدَّب يا حجر إذ لم أجعلك في مجلس قاضٍ ظالم، مكانك في أسّ الكنيف أشرف لك ألف مرَّة من أن تكون في مجلس قاضٍ ظالم، فالإنسان إذا ألهمه الله العدل في ميراثه، في أولاده، في إخوانه، في موظَّفيه، في طُلاَّبه، فهذا فضل من الله عزَّ وجل، لأن الظلم ظلماتٌ يوم القيامة.

 إذاً: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا﴾ بعضهم قال: الفضل هي النبوَّة، وقال آخرون: هي الكتاب "الزبور" وبعضهم قال هي القوَّة. 

﴿ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ۚ قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ ۚ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ۖ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(247)﴾

[  سورة البقرة ]

 قال بعض المفسرين: تسخير الجبال والطير له، وبعضهم قال: أنه تاب عليه، والتوبة فضلٌ عظيم، بعضهم قال: إنه مكَّنه من أن يحكم بالعدل، لأن القاضي العادل الله عزَّ وجل يسدِّد خُطاه، يلهمه الصواب، ينير له الطريق، فالعدل فضلٌ عظيم.

 ومن فضل الله على سيدنا داود أنه ألان له الحديد، ومن فضل الله على سيدنا داود أنه جعل صوته حسناً ووجهه حسناً، فالصوت الحسن من نِعَم الله الكبرى.

 النبي عليه الصلاة والسلام استمع مرَّةً إلى أبي موسى الأشعري يقرأ القرآن، فتأثَّر النبي تأثُّراً شديداً وقال: 

((  يَا أَبَا مُوسَى، لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ.  ))

[  البخاري عن أبي موسى  ]

 والمزمار في أصل اللغة الصوت الحسن، فمن وهبه الله صوتاً حسناً فعليه أن يُسَخِّرَهُ لتلاوة القرآن لا للغناء، لذلك المغنون الذين آتاهم الله الأصوات العذبة، كان من الممكن أن يرقوا بأصواتهم تلك إلى أعلى درجات الجنَّة إذا سخَّروها في تلاوة القرآن، أما حينما سخَّروها في إثارة الغرائز هبطوا بها إلى قيعان النيران، فكلمة: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا﴾ .


التطبيق العملي لهذه الآية:


 الفضل هذه الأشياء، أما التطبيق العملي لهذه الآية فيما يخصُّ المؤمنين: إذا ميَّزك الله عن عامة الناس بمعرفته فهذا فضلٌ عظيم، لا ترى نفسك محروماً في الدنيا، إذا خصَّك الله بلسانٍ طليقٍ في الدعوة إليه هذا فضلٌ عظيم، إذا خصَّك الله عزَّ وجل بقلبٍ شاكر، ولسانٍ ذاكر، وجسدٍ على البلاء صابر فهذا فضلٌ عظيم، إذا ألهمك شكره، وألهمك الصبر عند المصائب، ألهمك الشكر عند الرخاء، إذا جمعك مع أهل الحق، إذا جعلك بين المؤمنين، إذا هيَّأ لك أسرةً طيِّبةً، ذريَّةً صالحةً، زوجةً صالحةً، أولاداً أبراراً، هذا كلُّه فضل من الله عزَّ وجل، إذا جعل لك مأوىً تُؤوي إليه، هذا أيضاً من فضل الله عزَّ وجل ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا﴾


يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ


 من هذا الفضل:

﴿يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ﴾ معنى أوِّبي معه، من معاني هذه الآية أي سبِّحي، والحقيقة الشيء الثابت في كتاب الله أن ما من مخلوقٍ في الكون وعلى وجه الإطلاق إلا يسبِّح بحمد الله، قال تعالى:

﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)﴾

[  سورة الإسراء ]

 لا تفقهونه أنتم، فسيدنا داود أوتي القدرة على سماع تسبيح الجبال، إنه يسمعها، وتسبِّح معه، فهذه الشفافيَّة التي يبلغها الأنبياء شيءٌ فوق الوصف، النبي عليه الصلاة والسلام كان يقول: 

(( إنِّي لأَعْرِفُ حَجَرًا بمَكَّةَ كانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أنْ أُبْعَثَ إنِّي لأَعْرِفُهُ الآنَ. ))

[ صحيح مسلم ]

 وقف على جذع نخلة كان يخطب عليها، فلمَّا صنع له أصحابه منبراً، وقف على المنبر، ووضع يده على جذع النخلة، لأنها حنَّت إليه، هذا الشعور صعب أن يدركه إنسان، ولمَّا وصف له الصِّديق حالة سيدنا حنظلة، قال: 

(( إنَّا معشرَ الأنبياءِ تَنامُ أعينُنا ولا تَنامُ قلوبُنا ))

[ صحيح الجامع ]

(( فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حتَّى دَخَلْنَا علَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، قُلتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ، يا رَسُولَ اللهِ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: وَما ذَاكَ؟ قُلتُ: يا رَسُولَ اللهِ، نَكُونُ عِنْدَكَ، تُذَكِّرُنَا بالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حتَّى كَأنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِن عِندِكَ، عَافَسْنَا الأزْوَاجَ وَالأوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ، نَسِينَا كَثِيرًا، فَقالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ، إنْ لَوْ تَدُومُونَ علَى ما تَكُونُونَ عِندِي وفي الذِّكْرِ، لَصَافَحَتْكُمُ المَلَائِكَةُ علَى فُرُشِكُمْ وفي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ . ))

[  مسلم عن حنظلة  ]

 معنى هذا أن الإنسان إذا أقبل على الله عزَّ وجل، واتصل بالله شفَّت نفسه، فرأى ما لا يراه الآخرون، وسمع ما لم يسمعه الآخرون، هذا الاندماج بينه وبين بقيَّة المخلوقات يُنشئ في نفسه مشاعر طيِّبة، حتى باتجاه النبات. 

فربنا سبحانه وتعالى ألهمه أن يصنع دروعاً لا من الصفائح بل من السلاسل، من الحلقات، فهذه الدروع بهذه الطريقة يخف وزنها، وتصبح موافقة لجسم الإنسان، ممكن أن يكون لها كم وصدر وظهر، أن يصنع الدرع من سلاسل متداخلة؛ أولاً: هذا الدرع أخف على الجسم من الصفائح، وثانياً: أيسر في استعماله من درع الصفائح، فربنا سبحانه وتعالى علمه هذه الصنعة، وكان يبيع الدرع بمبلغ مجزٍ، فعاش في بحبوحة وأنفق من هذا الدخل، وكانت له حرفة مع أنه نبي. 

أعجبني في هذه الآية ما ورد في كتاب القرطبي، قيل في هذه الآية دليل على تعلم أهل الفضل الصنائع، وهل أعلى من الأنبياء؟ هم قمة البشر ومع ذلك

﴿ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ ۖ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ (80)﴾

[ سورة الأنبياء ]

 لهذا النبي العظيم صنعة وحرفة، وهي صناعة الدروع، ألم يكن نبينا عليه الصلاة والسلام راعي غنم؟ ألم يكن نبيُّنا عليه الصلاة والسلام شريكاً مضارباً مع السيدة خديجة، وهي أول شراكة مضاربة في الإسلام؟ ألم يكن للنبي عليه الصلاة والسلام شريك في مكَّة يبيعان السلع ويقتسمان الربح؟ إذاً ورد في تفسير القرطبي: أن في هذه الآية دليلٌ على تعلُّم أهل الفضل الصنائع، وأن اتخاذ الحرفة لا ينقص من مناصبهم العليَّة.

 مقام النبوَّة لا يجرحه أن يكون صاحب حرفة، سيدنا الصديق كان بزازاً ـ بائع قِماش ـ سيدنا أبو عبيدة كان قصَّاباً، وأنعِمْ به من قصَّاب، أصحاب النبي كانوا يعملون، قال سعد بن الربيع لعبد الرحمن بن عوف: "دونك نصف مالي إني من أكثر أهل المدينة مالاً، دونك نصف مالي أي خذ نصف مالي، قال له عبد الرحمن: "بارك الله لك في مالك، ولكن دُلَّني على السوق" ، باع واشترى، واتَّجر وربح، وتزوَّج.

 إذاً: لا ينقص التَحَرُّفُ أهلَ الفضل من مناصبهم، بل يزيد في فضلهم وفضائلهم؛ إذ يحصل لهم التواضع في أنفسهم، الإنسان حينما يعمل إذاً هو مضطر أن يعمل حتَّى يأكل، العمل يجعله متواضعاً، يجعله بحجمه الحقيقي، لا يتكبَّر على خلق الله، إذ يزيد التحرُّفُ أو اتخاذ الحرفة في فضلهم وفضائلهم، فيحصل لهم التواضع في أنفسهم، والاستغناء عن غيرهم.

 بمَ نلت هذا المقام يا إمام؟ قال: "باستغنائي عن دنيا الناس، وحاجتهم إلى علمي" .

 والكسب الحلال يُبعِد عن الامتنان، فالإنسان إذا أعطى قد يمنّ، أما إذا كسبت مالك بتعبك وعرق جبينك وكدِّك، فهذا الكسب بهذه الطريقة لا يجعل لأحدٍ عليك منَّة، لهذا قال عليه الصلاة والسلام، ودققوا في هذا الحديث الذي ورد في الصحاح: 

((  مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلام كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ.))

[  من صحيح البخاري عن المِقْدام  ]

3 ـ كل حرفة مسخَّرة لحرفة أخرى:

 الآن ننتقل إلى شيء آخر، هو أن الله سبحانه وتعالى أعطى الإنسان قدرة، خصَّه بشيء، وجعله في حاجةٍ إلى مليون شيء، من أجل أن تقوم الحياة بين البشر، أنت بحاجة إلى طبيب، وإلى مدرِّس لابنك، وإلى من يصنع لك الثياب، وإلى من يزرع لك القمح، وإلى من يقدِّم لك الخدمات، وأنت لك حرفةٌ واحدة تخدم بها الناس، والناس جميعاً من خلال حرفهم ومهنهم يخدمونك، إذاً: شاءت حكمة الله عزَّ وجل أن يكون لكل إنسان منَّا حرفة يتقنها، ويقدِّم ثمار عمله للناس، ويستخدم خبرات الناس في قضاء حاجاته، فالدنيا أخذٌ وعطاء، هذه واحدة.

4 ـ الانتفاعُ بفوائد خيرات الأرض تكون بالوسيط:

 النقطة الثانية: هو أن الله سبحانه وتعالى أودع في الأرض خيرات كثيرة، ولكن شاءت حكمة الله أن تكون الفائدة من هذه الخيرات لا بشكلٍ مباشر؛ بل بوسيطٍ من عمل الإنسان، وعلمه، وجهده، فالحديد مثلاً لا تراه في الطرقات على شكل قضبان قياسها 6، 8، 12 وبأشكال أخرى، الله جعل الحديد فلزات، نحتاج إلى استخراج هذه الفلزات، وإلى أفران لصهر الحديد، وإلى تشكيل الحديد، وإلى صب الحديد، لابدَّ كي تستفيد من خيرات الأرض من علمٍ وعمل، أنت بالعلم والعمل ترقى إلى أعلى عليين إذا استقمت على أمر الله، وبالعلم والعمل تهبط إلى أسفل سافلين إذا انحرفت عن أمر الله.

 إذاً أولاً: الله امتحنك بأن خصَّك بشيء، وجعل كل الخلق يقدِّمون لك أشياءهم.

 والشيء الثاني: الله عزَّ وجل فضلاً عن ذلك جعل العلم والعمل طريقاً إما إلى الرقي إلى أعلى درجات الجنان، أو أن تهبط بغشِّك للناس، وكذبك عليهم إلى دركات النار، إذاً العلم والعمل وسيلة أو طريقة من طرق ابتلاء الإنسان.

 إذاً: لما قال الله عزَّ وجل: ﴿وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ﴾ أي علَّمناه صناعة الدروع، وخصصناه بإلانة الحديد، ومن شرف هذا النبيِّ العظيم أنه يأكل من عمل يده، ومنْ أحلِّ الدخول أن تأكل من جهدك وعرق جبينك.

﴿أَنْ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ﴾ السابغات هي الدروع، قال: ﴿وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ﴾ .

5 ـ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ

 المعنى الأول: السرد الحلقات، ما معنى قدِّر؟ أي إن جعلت هذا الدرع سميكةً وثقيلةً أرهقت المُقاتل، وإن جعلتها خفيفةً لم تمنعه من السهام، يجب أن تجمع هذه الدرع بين الخفَّة وبين المناعة، يجب أن تمنع مَن ارتداها من سهام العدو، ويجب أن تكون على ظهره خفيفةً طيِّعَةً ليِّنةً، هذا هو التقدير، أي اجمع بين كل الحاجات، بين أن تكون خفيفةً لا ترهقه، وبين أن تكون منيعةً لا تسمح للسهام أن تنفذ إليه، هذا معنى: ﴿وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ﴾ .

 المعنى الثاني: هناك معنى آخر، هذه الحلقات التي تُصنَع منها الدروع، إن كانت واسعةً دخل منها السهم، وإن كانت ضيِّقةً عرقلت حركته، فيجب أن يكون قطر هذه الحلقة مناسباً، لا يسمح للسهم أن تخرق جسم المقاتل، ولا أن تكون ثخينةً وقاسيةً بحيث تعيق حركته، هذه المعاني وردت في التفاسير حول: ﴿وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ﴾ .

﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ*أَنْ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا﴾ .


وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ


 اعملوا عملاً صالحاً، ليكن عملك صالحاً: ﴿إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ .

1 ـ أهمية الإخلاص في العمل:

 هنا نقف قليلاً، إذا أخلصت في عملك يجب أن تعلم دائماً أن الله يراك، وسيكافئك على عملك، أحياناً الذي تتعامل معه لا يكشف خطأك، تصنع غرفة نوم مثلاً، الخشب الداخلي المستور قد تضعه من نوع رديء، ولا يدري صاحب هذه الغرفة عن هذا شيئاً، قد تقلِّل المواد الأوليَّة، قد تجعل من هذه الغرفة غرفة مغشوشة فلا تصمد هذه الغرفة للاستعمال، أما إذا عملت صالحاً، وصاحب هذه الغرفة لا يعلم، ولكن الله يعلم.

عندما جاء لسيدنا عمر رسول القادسيَّة قال له: << يا أمير المؤمنين، مات خلقٌ كثير، قال: من هم؟ قال: أنت لا تعرفهم، فبكى سيدنا عمر وقال: وما ضرَّهم أني لا أعرفهم إذا كان الله يعرفهم> .

 مثلاً: إذا كنت باراً بأمِّك وأبيك فالله بصير، وسيلهم أولادك أن يقدِّموا لك كل هذه الخدمات، إن كنت صادقاً في معاملاتك الله بصير، إن كنت نصوحاً في بيعك الله بصير، إذا كنت متقناً لعملك الله بصير، الأشياء التي تخفى عن البشر على الله لا تخفى، فإذا عملت صالحاً؛ إن في بيتك، إن مع أهلك، إن مع أولادك، إن في حرفتك، إن في صنعتك، في تجارتك، إن في زراعتك، هناك أدوية تنمي الثمار تنميةً سريعةً جداً، لكنها ضارةً بالإنسان ﴿إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ هناك صناعات غذائيَّة، هناك مواد كيماويَّة تجعلها رائجة أكثر، لكنَّها تؤذي الأجسام، فالمؤمن يجب أن يبحث عن مرضاة الله عزَّ وجل.

2 ـ وجوب مراقبة الله تعالى في جميع مجالات الإنسان:

﴿وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ أي أعرف ما تعملون، أقدِّر عملكم، فإذا وضعت سعراً معتدلاً لهذه السلعة حتَّى يتيسَّر على المسلمين شراؤها، الله عزَّ وجل يعلم ذلك، وسوف يكافئك، وسوف يقيك من أمراضٍ وبيلة، وسوف يوفِّر عليك مشاقّ كثيرة، أما إذا استغللت حاجة الناس لهذه الصنعة، ورفعت الأسعار أضعافاً مضاعفة، لتحقِّق ربحاً وفيراً على حساب حرمان بعض الناس، الله أيضاً بصير، فالمؤمن دائماً يراقب الله عزَّ وجل، ما الذي يرضي الله؟ أكثر شيء في عمله أي في اختصاصه، ففي طبِّه، بإمكانك أن تقول لهذا المريض: ائتني بعد أسبوع، وبعد أسبوع، وبعد أسبوع، وقد شُفِي من أول لقاء، بإمكانك أن تكلِّف هذا المريض أن يجري تحاليل كثيرة ليس بحاجة إليها، باتفاقٍ بينك وبين صاحب المخبر، بإمكان هذا المحامي أن يوهم الموكِّل أن قضيَّته عويصةٌ جداً، وتحتاج إلى نفقات كبيرة، وإلى إطعام، وإلى استرضاء، والقضيَّة سهلة جداً تنتهي بمذكِّرة واحدة، من يعلم ذلك؟ الله يعلم.

﴿إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ إذا كنت صادقاً مع الناس، مخلصاً لهم، ناصحاً لهم، فالله يعلم، وسوف يكافئك في الدنيا قبل الآخرة، سوف يحفظك، ويحفظ مالك، وأهلك وأولادك، سوف يرفع شأنك وذكرك. 

﴿إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ اعمل صالحاً، كن صادقاً مع الناس، كن مخلصاً لهم، كن نصوحاً لهم، لا تغشَّهم، لا تُدلِّس عليهم، لا توهمهم، لا تخوِّفهم، لا تحملهم على شراء حاجةٍ ليسوا هم بحاجةٍ إليها من أجل أن تخيفهم، وتقول: هذه سوف تُفتَقد من السوق، اشترِ سريعاً، لا تكذب عليهم، كن صادقاً يأتِك رزقٌ حلالٌ وفير، وأنت صادقٌ مع الله عزَّ وجل.

﴿وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ الزوجة إذا نصحت زوجها، وأخلصت له، ورعت بيته، وحفظت ماله ﴿إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ إذا ربَّت أولادها، وتعبت في تربيتهم، الله بصير يراها، قد يمتِّعها بصحَّتها حتَّى تموت، وقد تسطرح عليها الأوجاع والأوبئة، كل شيءٍ بحسابٍ دقيق، فأي إنسان ينصح عباد الله، يرحمهم، هذا الذي يرحم عباد الله يرحمه الله، ويحفظه.

 الآية دقيقة: ﴿وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾


وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ


﴿ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ۖ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ ۖ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12)﴾

[ سورة سبأ ]

إذاً سيدنا داوود آتاه الله فضلاً؛ النبوَّة، والزبور، والقوّة، والعلم، وتسخير الجبال، والتوبة، والحكم بالعدل، وإلانة الحديد، وحسن الصوت، وجعل له صنعةً يعيش بها، والصنعة، الحرفة، والعمل يرفع شأن الإنسان، ولا يجرح من قدره ولو كان عالِماً أو داعيةً، إنه يجعله متواضعاً، ويجعله في استغناءٍ عن منَّة الخلق، النبي الكريم يقول:

((  مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلام كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ.))

[  من صحيح البخاري عن المِقْدام  ]

 الآن سيدنا سليمان: ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ﴾


تسخير الريح لسليمان عليه السلام:


 الله سخَّر له الرياح، ما يحتاج إلى مسيرة شهر يقطعه في غدوةٍ، أي في وقتٍ مبكِّر، أقل من يوم، وما يحتاج إلى مسيرة شهرٍ يقطعه في روحةٍ، أي أقل من يوم، أي مساء، الغدو: الذهاب إلى العمل صباحاً، الإنسان ينطلق إلى عمله بساعة أو ساعتين مسافة الطريق، ويعود من عمله إلى بيته في ساعةٍ أو أكثر، فما يحتاج إلى أن يسيره في شهرٍ بأكمله يقطعه في ساعة..

﴿غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ﴾ نحن لسنا مكلَّفين أن نبحث بالتفصيلات، هذا خبر من الله عزَّ وجل، وما سكت الله عنه يجب أن نسكت عنه، يا ترى كيف؟ ويا ترى كان هناك بِساط؟ يا ترى البساط له غرف؟ له مقاعد؟ هذه تفصيلات لسنا مختصين بها، وردت في كتب بني إسرائيل من هذه التفصيلات الكثير، لكننا نربأ بأنفسنا أن نأخذ من الإسرائيليات، الله عزَّ وجل قال: ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ﴾ انتهى الأمر، أعطاه الله، خصَّه بميزة أن سخَّر له الريح ينتقل بها من أطراف البلاد إلى أطرافها الأخرى.  


وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ


 ﴿وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ﴾ القِطر هو النُحاس، أيضاً جُعِل النحاس لهذا النبي الكريم سائلاً، يصبُّه في قوالب، ويستخدمه كيف يشاء، مرَّةً ثانية وثالثة، هذه المعجزات التي خصَّها الله الأنبياء، إذا أردت أن تحكمها بقانون البشر، وبخصائص الأشياء، قد لا تقبلها، أما إذا أردت أن تفهمها من خلال قدرة الله عزَّ وجل فالقضيَّة سهلةٌ جداً، معقولةٌ ومقبولة، لذلك فرِّق بين ما هو مستحيلٌ عادةً، وبين ما هو مستحيلٌ عقلاً، هذه الآيات والمعجزات ليست مستحيلةً عقلاً؛ لكنها بعيدةٌ عادةً.

 مرَّة قرأت في الفيزياء في عنصرين متجاورين، العناصر في الأرض مرتَّبة حسب عدد الإلكترونات التي تدور حول المدارات الخارجيَّة، فأول عنصر حوله إلكترون واحد يدور، العنصر الثاني إلكترونان، وهكذا، بين عنصرين متجاورين الفرق بينهما إلكترون واحد، العنصر الأول غاز، والثاني صُلب، إذا أضفنا إلكتروناً أو كُهروباً واحدا على المدار الخارجي ينقلب هذا العنصر من غاز إلى صلب، أو من صلب إلى غاز، فعلى قدرة الله عزَّ وجل كل شيءٍ مقبول ومعقول..


وَمِنْ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ


 ﴿وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنْ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ﴾ لئلا يتوهَّم الإنسان أن الجن يعملون بقدراتهم الذاتيَّة ﴿وَمِنْ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ﴾ أي أن ربنا سبحانه وتعالى سخَّر لهذا النبيَّ الكريم بعضاً من الجن يقدِّمون له أجلَّ الأعمال، لكن بإذن ربِّه.


وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ


 ﴿وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ﴾ هذا الجنِّي إذا لم يفعل ما أُمِرَ به، أو ما أمره به سليمان ﴿نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ﴾ هؤلاء الجن ماذا يعملون؟ قال: 

﴿ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ(13)﴾

[ سورة سبأ ]


يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ


 المحاريب جمع محراب، وهو مكان الصلاة، أو المكان المُرْتَفِع، وقد نجمع بين المعنيين، ربنا عزَّ وجل قال:

﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ(36)﴾

[  سورة النور ]

 أن تُبْنَى عاليةً، لذلك المئذنة يجب أن تكون شامخة ليراها جميع الناس، فالعلماء استنبطوا من هذه الآية أن الأَولى أن يكون الجامع عظيم الهيئة، لماذا؟ هذا بيت الله.

 فهنا المحاريب جمع محراب، المكان المرتفع الذي يُصْلَّى فيه، لذلك الآن لا يُقْبَل أن يكون المسجد قبواً، يجب أن يكون على أرضٍ حُرَّة، ومرتفعاً، ولا شيء فوقه، لكن الآن تساهلوا، في بعض الأبنية جُعِل أحد الطوابق مسجداً، والطوابق الأخرى للسكن، أما الأصل والأكمل أن يُبْنَى على أرضٍ حُرَّة، وألا يكون فوقه أي بناء.


وَتَمَاثِيلَ


  هؤلاء الجن ﴿يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ﴾ ومعنى التمثال هنا: الشيء الذي يُشكَّل على مَثَلِ شيءٍ آخر، أي التزيينات في هذه المحاريب، أقواس مثلاً، لكن ليس المقصود التصوير ولا التماثيل التي تألفونها في حياتكم.

﴿وَجِفَانٍ﴾ : الجفان جمع جَفْنَة، وهي الوعاء الكبير الكَبير الذي يُطْبَخ فيه الطعام، لذلك قالوا: الجَفْنَة ما تُطعِم آلاف الأشخاص، والقَصْعَةَ ما تكفي عشرة أشخاص، والصَحْفَة خمسة أشخاص، والمِيكَلَةَ شخصان أو ثلاثة، والصَحيفة صحن مفرد، ما يكفي شخصاً واحداً، أما أكبر وعاء للطعام فهي الجِفان.


كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ


 ﴿يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ﴾ الجواب كالأحواض العظيمة، هناك أحواض عظيمة لتخزين المياه، هذه القدور هي أوعية للطعام تتسع لكمياتٍ كبيرة، ولإطعام آلافٍ مؤلَّفة من الناس.

﴿كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ﴾ لعِظَم القِدْرِ لا يتحرَّك، مكانه ثابت، حتى إنَّ بعضهم كانوا يصعدون إليه بالسُلَّم، قِدْر لطبخ الطعام. 


اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ


 ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ﴾ الآن عندنا عدة نقاط:

1 ـ الشكر عملٌ:

 عملك يجب أن يكون لا خوفاً ولا طمعاً؛ ولكن شكراً.

 الشيء الآخر: قال بعض العلماء: حينما تصلي وحينما تصوم فصلاتك نوعٌ من الشكر، وقد دعا أحد الأنبياء ربَّه فقال: يا رب كيف أشكرك، وشكرك لا يكون إلا بنعمةٍ منك؟ فقال: "الآن عرفتني" أي حتى الشكر هو نعمةٌ من الله، أن تكون شاكراً.

﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ﴾ أولاً الشكر عمل، وليس قولاً، هذا أول استنباط. 

2 ـ يجب أن يكون العمل شكرا:

 الشيء الثاني: العمل ينبغي أن يكون لا خوفاً ولا طمعاً؛ ولكن شكراً، من عرف نعم الله عزَّ وجل كان عمله شكراً لله عزَّ وجل.

 إذاً: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا﴾ الشكر ليس قولاً، إنه عمل.

 ثانياً: العمل يجب أن لا ينطلق من خوفٍ ولا من طمعٍ؛ بل من شكرٍ للمولى عزَّ وجل. 

3 ـ يجب أن تستخدم النعم في طاعة الله:

 وأدقُّ تعاريف الشكر: أن تستخدم النعم التي أنعم الله بها عليك فيما خُلِقْتَ له، وفيما أمرك به، أن تستخدم نعمة الصحَّة لطاعة الله، نعمة العين لرؤية آلاء الله، نعمة السمع لسماع الحق، نعمة اللسان لذكر الله عز َّوجل، نعمة الذكاء لفهم كتاب الله، نعمة الذكاء لإقناع الناس بالحق، إذا استخدمت النعم التي أنعم الله بها عليك فيما يرضي الله، وفيما خُلِقْتَ من أجله فهذا أعلى درجات الشكر، أن تستخدم نِعَم الله فيما يرضي الله.

 أما حينما تستخدم نِعَم الله عزَّ وجل فيما يُغضِبه، وفي معاصيه، فهذا أحد أنواع الكفر، لذلك نعمة المال، ونعمة الصحَّة، ونعمة السمع، ونعمة البصر، ونعمة النُطق، ونعمة القوَّة، ونعمة الوسامة، ونعمة الغنى، ونعمة الحكمة، كل هذه النِّعَم يجب أن تسخِّرها فيما يرضي الله عزَّ وجل حتَّى تكون شاكراً له. 

﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ﴾ اللهمَّ اجعلنا من هؤلاء القلَّة، كما سمع عمر هذا الدعاء من رجل فقال له: "ما هذا الدعاء؟" قال: "أقصد هذه الآية"، فأراد عمر أن يضع نفسه أمام حجمها، فقال: "يا ابن الخطَّاب كل الناس أعلم منك"، قال: 

﴿ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ ۖ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ(14)﴾

[ سورة سبأ ]


فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ


 سيدنا سليمان ﴿مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ﴾ المنسأة هي العصا، ودابة الأرض هي الأَرَضَة أي السوس. 


الجن لا يعلمون الغيب:


 الحقيقة هنا وقفة دقيقة جداً هي: أن الجن لا يعلمون الغيب، لقد أمرهم هذا النبي العظيم بأعمال شاقَّة ومرهقة، وقضى الله عليه الموت وهو متكئٌ على عصاه، هم يعملون هذه الأعمال الشاقة، ولو علموا أنه مات لوقفوا عن أعمالهم، لذلك هذا دليل قوي قطعي على أن الجن لا تعلم الغيب، بإمكانك أن تردُّ آلافَ آلافِ القصص بهذه الآية، أكثر الناس يتوهَّمون أن الجن يعلمون الغيب، ودائماً على شكل قراءة فنجان، على شكل أقوال الكُهَّان، على شكل السحرة، دائماً الساحر والكاهن ينبئك عن الغيب، فيقول لك: أمامك مشكلة، أمامك قضيَّة، هذا كله غلط.


فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ


 ﴿فَلَمَّا خَرَّ﴾ أي وقع من على عصاه بعد أن أكلتها الأَرَضَة ﴿تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ﴾ إذاً الجنُّ: 

﴿ يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا ۗ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ۗ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ(27)﴾

[  سورة الأعراف ]

 فكل القصص التي تقول: رأينا الجن أقزاماً صغيرة تتحرَّك، هذا كله لا أساس له من الصحَّة.

 والشيء الثاني: أن الجن لا تعلم الغيب، كائنات خلقها الله عزَّ وجل، لا نعلم عنها إلا ما أخبرنا الله به من خلال سورة الجن، الذي ورد في القرآن هو الصحيح، وهو الحق، لكنهم لا يعلمون الغيب، ولا يملكون لنا ضراً ولا نفعاً. 


خاتمة:


﴿  وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ(201)﴾

[  سورة الأعراف  ]

﴿  قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ(1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ(2)﴾

[  سورة الفلق  ]

 انتهى الأمر، علاقة الإنسان مع الجن أنه إذا استعاذ بالله وقاه الله شرَّهم.

﴿ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم ۖ مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ ۖ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ۗ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(22)﴾

[  سورة إبراهيم ]

 فالآيات واضحة جداً. إذاً: 

﴿فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ﴾ النبي يموت، قضى عليه الموت، وهو متكئٌ على عصاه، ما دلَّهم على موته إلا بعد حين، أيضاً تفصيلات، كم سنة يا ترى؟ عشر سنوات؟ معقول! نحن ما كلَّفنا الله عزَّ وجل أن نبحث بالتفاصيل، ما دلَّهم على موته ﴿إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ﴾ فلمَّا أكلت دابة الأرض منسأته، وكُسِرَت هذه العصا، وخرَّ سليمان عليه السلام على الأرض بعد أن مات من قبل، الآن: ﴿تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ﴾ وفي الدرس القادم عندنا قصَّة سبأ، وفي هذه القصَّة مواعظ كثيرة، وحقائق جُلَّى، نرجو الله سبحانه وتعالى أن يوفِّقنا إن شاء تعالى إلى شرحها وتفصيلها.

والحمد لله رب العالمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور