وضع داكن
20-04-2024
Logo
الدرس : 10 - سورة الأحزاب - تفسير الآيتان 34-35 صفات بيت النبي وبيت الداعية والمؤمنين
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

البيت عند إطلاقه وعند تقييده:


أيها الأخوة الأكارم؛ مع الدرس العاشر من سورة الأحزاب.

شُرِحَ بفضل الله تعالى في الدرس الماضي قوله تعالى: ﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)﴾ هذه الآية مررنا عليها سريعاً، ونظراً لما تنطوي عليه من معانٍ دقيقة تتعلَّق بالدعوة إلى الله، رأيت أن أقف عندها وقفةً متأنية.

﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ﴾ ..أي بيتٍ هذا؟ البيت إذا أُطلِق وعُرِّف انصرف إلى بيت الله الحرام، لأن لله في أرضه بيتاً واحداً، وهو أول بيت. 

﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)﴾

[ سورة آل عمران  ]

فإما أن نضيف هذا البيت إلى الله عزَّ وجل فنقول: بيت الله، وإما أن نصفه فنقول: البيت الحرام، أما إذا تركنا الإضافة والوصف، وقلنا: البيت، فلعظم شأنه، ولتفرُّده في الأرض، إذا قلنا: البيت، فالمقصود بيت الله الحرام، أي الشيء العظيم، الشيء الشهير، الشيء المتفرِّد يكفي أن نعرِّفه بـ (ال) حتى تكون هذه (ال) العهد، البيت المعهود. مثلاً في دائرة معيَّنة لها مدير، فيكفي أن تقول: جاء المدير، ذهب المدير، غضب المدير، رضي المدير، أصدر المدير هذا الأمر، لا تحتاج أن تقول اسمه الكامل، أو أن تقول: مدير عام المؤسَّسة، يكفي أن تقول: المدير، فلأن هذه المؤسَّسة أو هذه الدائرة لها مدير واحد، وهو متفرِّد، ومشهور، ومعروف عند كل الموظَّفين، فإذا قلت: المدير، فهذه (ال) العهد، أي المعهود، فكلمة بيت الله الحرام، إذا قلت: بيت الله أضفته، إذا قلت: البيت الحرام وصفته، أما إذا قلت: البيت، فالمقصود به بيت الله الحرام، لعِظَم شأنه، لرفعة مكانته، لتفرُّده، لخطورته، لعميم نفعه، يكفي أن تُعَرِّفَهُ بـ (ال) فينصرف إلى بيت الله الحرام. 

 

عظمة بيت النبي عند الله وفي أعين الناس:


لكن ربنا سبحانه وتعالى فعل الشيء نفسه مع بيت النبي، فكما أن النبي؛ نبيُّ هذه الأمَّة، رسول هذه الأمة، الذي يوحى إليه، المعصوم، هذا النبيُّ العظيم الذي جعله الله رحمةً مهداةً، ونعمةً مزجاةً، فكما أنه عظيم فبالتبعيَّة أهل بيته محطُّ الأنظار، أهل بيته حديث الألْسُن.  

فلو أن هناك مسافةً بينه وبين أهل بيته كبيرةً جداً لارتبك الناس، ولشكَّ الناس في عظمة هذا الدين، فهذا الحق الذي جاء به النبي يجب أن يكون متمثِّلاً في بيته، إن لم يكن كذلك فسينشأ سؤالان خطيران: هذه الدعوة أليست واقعيَّة؟ إن لم تُطَبَّق في بيت النبي فليست واقعيَّةً، وإن كان بالإمكان أن تُطَبَّق ولم تُطبَّق فهناك مأخذٌ كبير على النبي عليه الصلاة والسلام، فمن لوازم الدعوة أن تكون مطبَّقَةً، وأن تكون قابلةً للتطبيق ومطبَّقةً في وقتٍ واحد، فلذلك قد يرتبكُ الناس لو رأوا بيت النبي على خلاف دعوته، أو على خلاف ما جاء به النبي، لهذا كما قال بعض المفسِّرين: تولَّى الله في عليائه وبنفسه تطهير أهل بيت النبي، هذه هي المقدِّمة.  

 

إسقاط على واقع الدعاة:


إنسان يدعو الله عزَّ وجل، ولا تجد في بيته آثاراً لهذه الدعوة، من يصدِّقه؟ عندئذ لا يُصدَّق، فإن لم يكن أهله وبناته على المستوى الذي يدعو إليه، إن لم يأتمر هو وأهله بما يدعو، إن لم ينتهِ هو وأهله بما ينهى، فكيف يصدِّق الناس دعوته؟ فليس المهم أن تدعو إلى الله عزَّ وجل؛ ولكن المهم أن يرى الناس من خلال حياتك الخاصَّة، ومن خلال عملك، من خلال بيتك، من خلال تحاورك، من خلال نشاطك أثراً لهذه الدعوة. إذاً لخطورة بيت النبي عليه الصلاة والسلام في الدعوة، إن لم يكن بيت النبي بما فيه من نساءٍ وبناتٍ وأقارب إن لم يكن بيت النبي في المستوى الذي يليق بالنبي، فإن أناساً كثيرين يشكِّكون في دعوة النبي، إذاً حينما تطالب امرأة النبي عليه الصلاة والسلام، أو إحدى أمَّهات المؤمنين بنصيبٍ أوفر من الدنيا يزيد عن حدِّ التقشُّف فإن الله سبحانه وتعالى يسمي هذا فاحشة، لأنها بحق النبي فاحشة، لعِظَم مكانه عند الله عزَّ وجل، ولعِظَمِ شأنه، لذلك قال الله عزَّ وجل: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ (30)﴾ أي إذا طالبتنَّ النبي بأكثر مما يطيق، إذا أردُّتن أن تُخرجن النبي عن حدِّ التقشُّف والاعتدال، ربَّما كان هذا في حقِّكنَّ فاحشة، فالذنوب تعظُم كلَّما علا مقام الإنسان.

 

مشيئة الله وإرادته متعلِّقةٌ بالخير المطلق:


لذلك قال الله عزَّ وجل: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ (33)﴾ هذه الآية لها معنى، و: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ (33)﴾ لها معنى، ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ (33)﴾ (إنما) أداة قصر، قصرنا إرادة الله على تطهير أهل بيت النبي..﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ (33)﴾ ..دائماً مشيئة الله وإرادته متعلِّقةٌ بالخير المطلق. مثلاً: 

﴿ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)﴾

[ سورة يونس ]

ما قال: وإن يمسسك بنفعٍ، بخيرٍ، قال: ﴿وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ﴾ ، فالخير مراد؛ لكن الضُر يُلجأ إليه عند الضرورة لحلِّ مشكلة، أي في الأصل هذه المركبة صُنِعَت من أجل أن تسير، صُمِّمَت لتسير، وفيها مكابح، المكابح ضمانٌ لسلامتها، الأصل في السيارة المحرِّك لا المكبح، ولكن المكبح في بعض الحالات لابدَّ منه، ربَّما كان في بعض الحالات هو السبيل الوحيدة لوقاية هذه المركبة من التدهور.  


الأصل في خَلق الإنسان الإسعاد والعلاج طارئ:


كذلك الإنسان خُلِقَ ليسعده الله عزَّ وجل، خُلق ليرحمه الله عز وجل، خُلق ليرزقه الله عز وجل، خُلق ليتمتَّع بصحَّته، ولكن أحياناً يأتي المرض كعلاجٍ لابدَّ منه، ويأتي الفقر كعلاجٍ لابدَّ منه، ويأتي الخوف كعلاجٍ لابدَّ منه، فالأصل أنك خُلِقْت للسعادة، ولكن العلاجات الإلهيَّة تكون ضروريَّةً حينما تجنح بك القدم، وتزلُّ بك، وتتجه في طريقٍ خطيرة، إذاً: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ (33)﴾ أي إرادة الله - كما قلنا من قبل - كل شيءٍ وقع أراده الله، لأنه لا يقع شيءٌ في الكون إلا بإرادة الله، فكل شيءٍ وقع أراده الله، وكل شيءٍ أراده الله وقع، وإرادة الله متعلِّقَةٌ بالحكمة البالغة، وحكمته متعلِّقةٌ بالخير المُطْلَق، فهذه المقولة تريحُ الإنسان، تثلج صدره، ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ (33)﴾ أي إرادة الله عزَّ وجل مقصورةٌ على أن يذهب عنكم الرجس، ويطهركم تطهيراً، وإذا كانت هذه مشيئة الله فأغلب الظن- وهذا هو الحق- أنها متَّجهةٌ إلى خلقه جميعاً ليذهب عنهم الرجس، ويطهرهم تطهيراً.  

 

تعريف الرجس:


ما هو الرِجْس؟ الشيء النَّجِس، أو النَّجَس، وكلمة نَجَسْ أبلغ من النجِس، لأن النجَس عين النجاسة، أما النجِس فشيءٌ أصابته نجاسة، فالشيء الذي تصيبه النجاسة يمكن أن يطهر؛ لكن عين النجاسة لا يمكن أن تطهر، فالانحراف، حبُّ الدنيا، المنافسة على الدنيا، هذه الأعمال التي قد يفعلُها من هم حول النبي، لعِظَم مكان النبي، ولقدسيَّة دعوته، ولأنه قِبلة الأنظار، ولأنه المثل الأعلى، ولأنه القدوة الكاملة، ولأنه الأسوة التي يُتَأَسَّى بها، لذلك كان أهل بيته محطَّ نظر الله عزَّ وجل.

 

فائدة جليلة مستنبطة من الآية التالية:

﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)﴾ ..قال بعض العلماء: إن إرادة الله في هذه الآية مقصورةٌ على إذهاب الرجْسِ، وإذهاب الرجس مقصورٌ على أهل البيت، أي أهل البيت، يا أهل بيت النبي، ماذا يستنبط من هذه الآية؟ ماذا يُستفاد؟ يُستفاد من هذه الآية أنك إذا دعوت إلى الله فالناس لا يلقون بالاً إلى ما تقول؛ بل ينظرون إلى عملك، وإلى علاقاتك، وإلى انضباطك، وإلى طاعتك، وإلى جهدك، وإلى ورعك، فإذاً أخطر من الدعوة أن تكون في مستوى الدعوة، أخطر من الدعوة أن تكون قدوةً لمن تدعو، أخطر من الدعوة أن تكون مثلاً أعلى لمن تدعو، أخطر من الدعوة أن تكون مناراً لمن تدعو، هذا مما يُستفاد من هذه الآية، دائماً وأبداً نحن نتمنَّى أن نفهم الآية أولاً، وأن نطبِّقها على حياتنا ثانياً..﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)﴾ إذاً: كل مؤمن بالتبعيَّة إذا أراد الله أن يطهِّره، وأن يُذهِب عنه الرجس، يسوق له بعض الشدائد أحياناً، أو يوقعه في ظروفٍ صعبة وينظر ماذا يفعل، ويوجِّهه الوجهة الصحيحة، فهذا معنى: "أَدَّبَنِي رَبَّي فَأَحْسَنَ تَأدِيِبي" .

 

تعريف بأهل بيت النبي:


شيءٌ آخر، قبل أن ننتهي من هذه الآية، من هم أهل بيت النبي؟ يا تُرى زوجاته الطاهرات؟ لو كان أهل بيت النبي زوجاته الطاهرات حصراً لجاءت الآية: إنما يريد الله ليذهب عنكنَّ الرجس أهل البيت، لكن الله عزَّ وجل قال: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ﴾ من استبدال ضمير كنَّ بكم فَهِم العلماء أن أهل البيت هم أقرباء النبي ذكوراً وإناثاً، كل من يلوذ بالنبي من النساء أو الرجال، صغاراً وكباراً، ذكوراً وإناثاً، من قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)﴾ .

 

استنباطات لطيفة:


الآية التي تليها هي قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34)﴾ ..قال: هذه اذكرن بمعنى احفظن، وبمعنى اشكرن الله عزَّ وجل على أنكن في بيت النبوَّة، أي هذه نعمةٌ عظمى أن أتيح للإنسان أن يجلس في مجالس العلم.

إذا أردنا أن نستنبط من هذه الآية ما يخصُّنا نحن، من نِعَم الله الكبرى أن سمح الله لنا أن نُصْغِيَ إلى الحق، من نعمة الله علينا أن أنزل علينا هذا القرآن، من نعمة الله علينا أن هدانا إلى سواء السبيل، من نعمة الله علينا أن بيَّن لنا في كتابه كل شيء، فإذا سمح الله لأحدكم أن يكون له مجلس علمٍ، مورد حق، مَنْهَلُ علمٍ لينهل منه هذه نعمةٌ عُظمى، لأن الإنسان من دون علم يهبط إلى مستوى البهيمة، وما من مشكلةٍ تقع على وجه الأرض إلا بسبب معصيةٍ لله عزَّ وجل، وما من معصيةٍ لله عزَّ وجل إلا بسبب جهلٍ بمنهجه، فأخطر شيءٍ في حياة الإنسان أن يتعرَّف إلى منهج الله، كما أن أخطر شيءٍ في هذه الآلة المعقَّدة، غالية الثمن، بالغة الفائدة، معقَّدة التركيب، إن أثمن شيءٍ في هذه الآلة أن تتعرَّف إلى طريقة عملها وصيانتها، كذلك الإنسان، ما دام الإنسان كائناً فيه فكر، وفيه عقل، وفيه نفس، وفيه روح، وفيه جسد، وهناك حاجات لجسده، وهناك حاجات لنفسه، وهناك حاجات لعقله، وله محيط، وله بيئة، وله أسرة، وله حركة، كسب رزق، وحركة ترفيهيَّة، كائن معقَّد جداً، فهذا الكائن المعقَّد من دون منهج مشكلته كبيرة، سوف يُخْطِئ، وسوف ينحرف، وسوف يهلك نفسه، إذاً أخطر شيءٍ في حياة الإنسان أن يتعرَّف إلى منهج الله، فإذا أُتيح لإنسانٍ ما أن يكون له منهلٌ علمي، ومجلس علمٍ يستفيد منه فليلزمه..﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ (34)﴾ ..

معنىً آخر هو الشاب إذا نشأ في بيت علمٍ، وكان من أبٍ صالحٍ وأم صالحةٍ، أو كان لأبٍ عالِمٍ، هذه نعمةٌ كبرى، إذا لم يستفد منها فسوف يعضُّ على أصابعه ندماً في وقتٍ ما، لأنه شيء قريب منك ولم تستفد منه، أقرب شيءٍ إليك وأنت بعيدٌ عنه، هذا الذي دعا بعضهم إلى أن يقول: أزهد الناس بالعالِم أهله وجيرانه، شيء بين أيديهم؛ الحق، والصدق، والإيمان، والعلم، ومع ذلك ينصرف الابن أحياناً إلى شيءٍ آخر معرضاً عن بيت العلم. إذاً: ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34)﴾

 

التفصيل بالتذكير والتأنيث وعدم استعمال صيغة التغليب:


والآن ننتقل إلى الآية الثالثة، وهي قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)﴾ .

الحقيقة أول ملاحظة هو أن الله سبحانه وتعالى لو قال: "إن المسلمين، والمؤمنين، والقانتين، والصادقين، والصابرين، والخاشعين، والمتصدِّقين، والصائمين، والحافظين فروجهم، والذاكرين الله كثيراً أعدَّ الله لهم مغفرةً وأجراً عظيماً" لو ألغى الأسماء المؤنَّثة ما المعنى؟ المعنى يبقى يشمل الذكور والإناث على التَغْلِيب، مثلاً: لو دخل إلى صفٍ تسع وثلاثون طالبةً وطالبٌ واحد، في اللغة تقول: دخل الطُلاب، هكذا في اللغة، في صيغة اللغة الصحيحة تقول: دخل الطلاب، لأن ألفاظ التذكير تشمل ألفاظ التأنيث على سبيل التغليب، وهذه قاعدة معروفة في اللغة. إذاً: لو أن الله عزَّ وجل اكتفى بقوله: إن المسلمين والمؤمنين.. إلخ، لكان المعنى إن المسلمين والمسلمات، ولكن لماذا ذكر المسلمين والمسلمات؟ 

 

الحكمة من التفصيل بالتذكير والتأنيث:


هذا الذي قلته لكم في درسٍ سابق: أراد الله عزَّ وجل بهذه الآية أن يؤكِّد على أن المرأة كالرجل تماماً في التكليف والتشريف، مكلَّفةٌ بالإسلام، وبالإيمان، وبالقنوت، وبالصبر، والخشوع، والصدقة، والصوم، وحفظ الفَرْجِ، وذكر الله، كالرجل تماماً، هذا يؤكِّده آياتٌ أخرى، يقول الله عزَّ وجل:  

﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)﴾

[ سورة النحل ]

ولو أن الله عزَّ وجل قال: من عمل صالحاً وهو مؤمن، فهو بهذا يعني من ذكرٍ أو أنثى، فماذا جاء بـ (مِن) البيانيَّة، من ذكرٍ أو أنثى؟ ليؤكِّد لنا أن الذكر كالأنثى، أو أن الأنثى كالذكر، مكلَّفةٌ ومشرَّفة، بل إن الأنثى المؤمنة لها مكانةٌ عند الله تزيد على ألف رجل، أو عن مئة ألف رجلٍ عاصٍ، كما قال سيدنا عمر لسيدنا سعد، قال له: "يا سعد، لا يغرَّنك أنك خال رسول الله". فالنبي عليه الصلاة والسلام حينما كان يلقى سعداً يقول له مداعباً: عن جابر بن عبدالله:

(( أقْبَلَ سَعْدٌ، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ:  هذا خالي فليُرِني امرُؤٌ خالَه. ))

[ ابن الملقن :البدر المنير : حكم المحدث: صحيح ]

وفي بعض المعارك وقف سيدنا سعد موقفاً مشرِّفاً وفيه بذلٌ وتضحية، فقال عليه الصلاة والسلام لسعدٍ كلمةً ما قالها لغيره، قال: عن علي بن أبي طالب: 

ما سَمِعْتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ جَمع أبَوَيْهِ لأحَدٍ إلَّا لِسَعْدِ بنِ مَالِكٍ، فإنِّي سَمِعْتُهُ يقولُ يَومَ أُحُدٍ:

(( يا سَعْدُ ارْمِ فِدَاكَ أبِي وأُمِّي. ))

[ صحيح البخاري  ]

فلما رآه سيدنا عمر بعد وفاة رسول الله قال له: << يا سعد، لا يغرَّنك أنه قد قيل: خال رسول الله، فالخلق كلُّهم عند الله سواسية، ليس بينه وبينهم قرابةٌ إلا طاعتهم له >> .

الآن الذكر والأنثى، النساء والرجال، الشباب والشابَّات، الفتيان والفتيات، البنات والصِبيان، عند الله سواسية، ليس بينهم قرابةٌ إلا طاعتهم لله، فالمرأة المطيعة قريبةٌ من الله عزَّ وجل، بينما الرجل العاصي بعيدٌ عنه. إذاً: ما ذكر الله عزَّ وجل كلمة: ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ﴾ إلى آخر الآية، إلا ليؤكِّد قيمة المرأة، ومساواتها بالرجل، وأنها مكلَّفةٌ ومشرَّفة، كما قلنا في درسٍ سابق.  

 

وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى أي خصائص المرأة ليست كخصائص الرجل:


لكن الآية الكريمة الأخرى حيث يقول الله عزَّ وجل: 

﴿ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)﴾

[  سورة آل عمران  ]

تعني أن للمرأة خصائص؛ في عقلها، وفي نفسها، وفيها بُنْيَتِهَا الاجتماعيَّة، وفي قِوامها، وفي بنيتها العضوية والفيزيولوجيَّة تميِّزها عن الرجل، وأن للرجل عقليَّةً، ونفسيَّةً، وبنيةً اجتماعيَّةً، وخصائص فيزيولوجيَّة تميِّزه عن المرأة، هذا معنى قوله تعالى: ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى (36)﴾ ..

 

انتشار الفساد بسبب تغيير وظيفة المرأة:


وما في الأرض من فسادٍ اجتماعي إلا بسبب أن نضع الرجل مكان المرأة، وأن نضع المرأة مكان الرجل، لذلك قال عليه الصلاة والسلام: عن ابن عبَّاس:

(( لعَنَ  رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ المُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بالنِّسَاءِ، والمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بالرِّجَالِ. ))

[ صحيح البخاري  ]

 

معاني الصفات التي يوصف بها المؤمن:

 

1 ـ الإسلام والإيمان:

الآن إلى معاني هذه الصفات التي يوصف بها المؤمن.. ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ (35)﴾ ..الإسلام أيها الأخوة انصياعٌ لأمر الله، فالمسلم هو الذي يأتمر بما أمر الله، وينتهي عما عنه نهى، ولا يسمَّى المسلمُ مسلماً إلا إذا أطاع الله، فالمسلم بالتعريف الدقيق هو الذي خضع لله في كل شؤون حياته، ما دام منهج الله منهجاً كاملاً، فالخضوع لهذا المنهج في الأمر والنهي هو ما يعنيه الإسلام في هذه الآية، أما الإيمان:  

﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)﴾

[  سورة الحجرات ]

معنى هذا أن الإيمان درجة أعلى من الإسلام، لمجرَّد أن تخضع لله عزَّ وجل، بصرف النظر عن أسباب خضوعك، وعن درجة خضوعك، وعن دوافع خضوعك، وعن أهدافك من خضوعك، لمجرَّد أن تخضع لله عزَّ وجل فأنت مسلم، لكن الإيمان شيءٌ آخر، الإيمان تصديقٌ وإقبال، لأن الكفر تكذيبٌ وإعراض، ففي الإيمان يوجد شيءٌ فكري وشيءٌ نفسي، أما الإسلام فمادي، أي هذه العين يجب أن تغضَّ عن محارم الله لأنها مسلمة، وهذه اليد، وهذا اللسان، وهذه الأذن، فحينما تنساق الجوارح إلى طاعة الله هذا هو الإسلام، لكن حينما يصدِّق العقل والقلب بما جاء عن الله عزَّ وجل، وحينما يُقبل الإنسان على الله عزَّ وجل، فهذا هو الإيمان، الإيمان درجة أعلى؛ فيها جانب فكري وجانب نفسي، الجانب الفكري التصديق، والجانب النفسي الإقبال، ولهذا قيل: "ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي"، بالتمني أي معظم الناس يدعون: جعلنا الله مؤمنين، يتمنى، رزقنا الله الجنَّة، جعلنا الله عند حسن ظنِّه، أي دائماً يدعو الله، هذا شيءٌ جميل، ولكن لا ترى في عمله ما يتناسب مع هذا الدعاء، هذا التمني، ولا بالتحلي ـ فإذا كتب أحدهم: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً﴾ ، في محلِّه التجاري فهل صار مؤمناً؟ وإذا كتب:﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، إذا كتب: يا رضا الله ورضا الوالدين على مركبته، فهل صار مؤمناً؟ هذا التحلي، قد تلبس لباساً إسلامياً، وتمسك مسبحة، وتتعطَّر، وتذهب إلى المسجد، ممكن أن تضع في بيتك آيات قرآنيَّة، آية الكرسي، بعض الآيات، ممكن تحتفل بعيد مولد رسول الله احتفالاً جيِّداً جداً، وأن تحضر فرقة منشدين، وتأتي بعالِم جليل ليلقي لك كلمة، وتوزِّع الحلويات والملبَّس، ولكن ليس هذا الإيمان، هذا تحلٍّ، فهناك تمنٍّ وهناك تحلٍّ، "ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب، وأقرَّ به اللسان، وصدَّقه العمل" ، قال عليه الصلاة والسلام: عن عبد المطلب:

(( ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً. ))

[  صحيح مسلم ]

الإيمان له طعم، المؤمن يجد حلاوة الإيمان في قلبه، ورد: " ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب، وأقرَّ به اللسان، وصدَّقه العمل"، أي أن يأتي عملك مطابقاً لما تصدِّق، ومع الإيمان إقبال على الله، ذوق وحلاوة.

فكل مؤمنٍ مسلم، لكن ما كل مسلمٍ بمؤمن، والإسلام انصياع، والإيمان تصديق وإقبال. 

2 ـ القنوت:

لكن أكثر الناس أو بعض الناس له فورة، يفور فورة ويهمد، هذه الفورة التي تهمد وتنطفئ ليست بالمطلوب، فربنا عزَّ وجل قال:﴿وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ (35)﴾ .. معنى القانت هو الذي داوم على طاعة الله..﴿مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا(23)﴾ البطولة ليست هذه الفورة، أن تُقْبِلْ على الدروس كلِّها، وأن تبالغ في طاعة الله، وبعد شهرٍ أو شهرين تنطفئ هذه الشعلة وتذوي هذه الفتيلة وتعود إلى ما كنت عليه، فكل مؤمنٍ مسلم، وما كل مسلمٍ بمؤمن، ولكن القانت هو الذي داوم على طاعة الله عزَّ وجل، فلذلك قال الله عزَّ وجل: ﴿وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ (35)﴾ والنبي عليه الصلاة والسلام قال:  عن عائشة أم المؤمنين:

(( سَدِّدُوا وقارِبُوا، واعْلَمُوا أنْ لَنْ يُدْخِلَ أحَدَكُمْ عَمَلُهُ الجَنَّةَ، وأنَّ أحَبَّ الأعْمالِ إلى اللَّهِ أدْوَمُها وإنْ قَلَّ. ))

[ صحيح البخاري  ]

أنت تعامل خالق الكون، تعامل الله عزَّ وجل، عاهدته، وانتهى الأمر، عاهدته على غضِّ البصر إلى الأبد، وعلى الصدق إلى الأبد، أي حتى الموت، على الأمانة، على الإخلاص، هكذا المؤمن، فالقنوت الدوام على طاعة الله. 

بعضهم قال: الانقطاع للعبادة. لكن المعنى الدقيق المناسب لهذه الآية: الاستمرار، لذلك يقولون: البطولة لا أن تنتصر؛ ولكن البطولة أن تحافظ على هذا النصر، ممكن تنتصر، لكن بعد النصر تأتي هزيمة، يمكن أن تصل إلى قمة جبل، لكن البطولة أن تبقى في القمَّة لا أن تنزل إلى الوادي مرَّةً ثانية، وهناك كثير من الأشخاص يصعدون ثمَّ يهبطون، يرتفعون ثمَّ يسقطون، يقبلون ثمَّ يدبرون، يتألَّقون ثمَّ تذوي هذه الشعلة – تنطفئ-، فالبطولة الاستمرار. 

أي بصراحة المؤمن لا يتأثَّر بالأحداث، الدنيا أقبلتْ، أدبرتْ، صحيح الجسم، مريض الجسم، وُفِّقَ في زواجه، لم يوَفَّق، دخله كبير، دخله قليل، هو عاهد الله على الطاعة وكفى، هذا معنى القانت. 

3 ـ صدق الأفعال وصدق الأقوال: 

﴿وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ (35)﴾ ..هنا معنى الصدق له معنى دقيق، هناك صدق الأقوال، وهذا المتبادر عند الناس، فلان إذا تحدَّث لا يكذب، لكن الصدق هنا صدق الأفعال، إذا قال: أنا مؤمن، تأتي أفعاله مصدِّقةً لدعواه، إذا قال: أنا مسلم، تأتي أفعاله مصدِّقةً لإسلامه، إذا قال: أنا أحبُّ الله عزَّ وجل، تأتي أفعاله مصدِّقةً لادعائه حبَّ الله عزَّ وجل، إذا قال: أنا ورع، تأتي أفعاله مصدِّقةً لورعه، فإذا انفصلت الأعمال عن الأقوال وقعنا في كذب الأفعال. 

4 ـ الصبر:

﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ (35)﴾ ..الحقيقة أن الصبر، لا أبالغ إذا قلت: الإيمان كلُّه صبر، لماذا؟ لأنك في الأصل أنت مكلَّف، الله عزَّ وجل فطرك فطرةً معيَّنة، وجَبَلَكَ جبلَّةً خاصَّة، وجعل التكليف يتناقض مع الجبلَّة، لا مع الفطرة، فمثلاً: هذا الجسد يحبُّ أن يبقى نائماً في الفراش، فيأتي التكليف بأن تستيقظ لصلاة الفجر، فالاستيقاظ مناقضٌ لحبِّ الراحة والاسترخاء.. 

﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)﴾

[ سورة آل عمران  ]

أُودِعَ في قلب الإنسان حُبُّ المرأة، يأتي التكليف بغضِّ البصر، أُودِعَ في الإنسان حبِّ المال، يأتي التكليف بإنفاق المال، أودع في الإنسان الهَلَعَ، يأتي التكليف بالصبر، أودع في الإنسان حبُّ الحديث المُمْتِع، جاء التكليف بالكَفِّ عن الغيبة والنميمة، لو تتبَّعت أوامر الله كلَّها لوجدت أنها ذات كلفة، مكلفة، مجهدة، تحتاج إلى إرادة، إلى تصميم، إلى عزيمة، يكفي أن يسهو الإنسان، وأن ينساق مع شهوته حتى يصبح من أهل النار، وهكذا قال عليه الصلاة والسلام: 

(( عن عبد الله بن عباس  أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : مَن أنظَرَ مُعسِرًا أو وضعَ لهُ وقاهُ اللهُ مِن فَيْحِ جهنَّمَ ألا إنَّ عملَ الجنَّةِ حَزنٌ بِرَبوةٍ ثلاثًا ألا إنَّ عملَ النَّارِ سَهلٌ بسَهوةٍ، والسَّعيدُ مَن وُقيَ الفِتنَ وما مِن جرعةٍ أحبَّ إلى اللهِ من جَرعةِ غَيظٍ يكظِمُها عبدٌ ما كظَمها عبدٌ للَّهِ إلَّا ملأَ جوفَه إيمانًا. ))

[ ابن كثير المصدر تفسير القرآن العظيم، حديث حسن،  أخرجه أحمد  ]

أي أن تنساق مع حظوظ نفسك، أن تتحدَّث كما تريد؛ من دون رقابة، من دون انضباط، أن تأكل ما تشتهي، أن تنظر حيثما تشاء، إطلاق البصر، وإطلاق الأذن لسماع ما تحب، وإطلاق اللسان، وإطلاق اليد، وإطلاق الرجل، والتعليق، والكلام، وممارسة الشهوات، ((إِنَّ عَمَلَ النَّارِ سَهْلٌ بِسَهْوَةٍ- سهوةٌ واحدة، غفلةٌ واحدة، ينساق الإنسان وراء شهواته -إِنَّ عَمَلَ الْجَنَّةِ حَزْنٌ بِرَبْوَةٍ)) أي طريق الجنَّة محفوف بالمكاره.. عن أنس بن مالك: 

(( حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ. ))

[  صحيح مسلم ]

قد يكون المسجد غير مدفَّأ فرضاً، تجلس على ركبتيك، ولكن في الملاهي المقاعد وثيرة جداً، هناك ضيافة، هناك أشياء، هناك إمتاع للعين، وللأذن، ((حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ)) لذلك الصبر هو الإيمان، أنت في الأصل أُودِعَت فيك شهوات وجبلَّة خاصَّة، وجاء التكليف على عكسها.. 

﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)﴾

[  سورة النازعات  ]

 

الصبر واجب على الفقير والغني معًا:


﴿وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ (35)﴾ ..لذلك من السذاجة أن نظن أن الفقير عليه أن يصبر، لا والله، لأن الغني عليه أن يصبر أكثر، لماذا؟ لأن الفرص المتاحة للفقير أقل بكثير من الفرص المتاحة للغني، أي إذا ذهب غني إلى بلدٍ غربي، بإمكانه أن يفعل كل شيء بماله الكثير، فإذا ضبط نفسه من الفندق إلى المكتب إلى المطار إلى دمشق، ولم يذهب لا إلى هنا ولا إلى هناك، معنى هذا كان أمامه طرق متاحة كثيرة،  فليس الصبر خاصاً بالفقراء؛ بل الصبر خاصٌ أيضاً بالأغنياء، ليس الفقر خاصاً بالضعفاء؛ بل هو يشمل الأقوياء، ليس خاصاً بالمرضى؛ بل هو يشمل الأصحاء، الصبر أن تضع نفسك في الطريق الصحيح وأنت في صحَّتك، وأنا في قوَّتك، وأنت في غناك، وهذا معنى قوله تعالى: ﴿وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ (35)﴾ .


  الصبر على الأمر التكليفي والأمر التكويني:


بالمناسبة هناك صبرٌ على أمر الله التكليفي، وهناك صبرٌ على أمره التكويني.

الأمر التكليفي افعل ولا تفعل، أمر ونهي، إذاً هناك صبرٌ عن الشهوات، وصبرٌ على الطاعات.  

أما الأمر التكويني فهناك صبرٌ على قضاء الله وقدره، شاءت حكمة الله أن تكون كذا، أن يكون لك دخلٌ محدود، أو دخلٌ غير محدود، أن تُرْزَقَ بناتٍ فقط، أو بذكور فقط، أو ذكراً وبنات، أو أن تكون عقيماً، هكذا شاءت حكمة الله عزَّ وجل، فأنت عليك أن تصبر على أمر الله التكليفي بأن تصبر على الطاعات، وأن تصبر عن الشهوات، وعليك أن تصبر على أمر الله التكويني، أي على قضاء الله وقدره. 

5 ـ الخشوع في الصلاة:

﴿وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ﴾ الخشوع كما قال الله عزَّ وجل: 

﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)﴾

[ سورة المؤمنون  ]

حالة استعظامٍ لله عزَّ وجل تملأ القلب، إذاً كلَّما ارتقى إيمانك زاد خشوعك، حتى إن بعضهم قال: ليس الخشوع من فضائل الصلاة بل من فرائضها، لقوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ(1)الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ(2)﴾ ..

 

معرفة الله سبب للخشوع في الصلاة:


أنت كلَّما عرفت الله أكثر كلما خشع له قلبك، وكلَّما قلَّت معرفة الله عزَّ وجل كلما قلَّ خشوعك، لذلك قال عليه الصلاة والسلام وقد رأى رجلاً يصلي، يقوم بحركات كثيرة: "أما هذا لو خشع قلبه لخشعت جوارحه" ، فالخشوع أن يمتلئ قلبك تعظيماً لله، ولن يمتلئ قلبك تعظيماً لله إلا إذا فكَّرت في آيات الله، ودقَّقت في دلائل عظمته تعالى. 

6 ـ الصدقة:

﴿وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ (35)﴾ ..الحقيقة أنّ الإنسان ما لم يبذل من ماله يبقى الإسلام كلاماً بكلام، هذا ما جاء في الآية الكريمة: 

﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)﴾  

[  سورة آل عمران  ]

الصفة الأولى: 

﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)﴾

[ سورة آل عمران  ]

 

الصدقة دليل حبّ العبد لله تعالى:


أنت حينما تنفق المال تؤكِّد أنك تحبُّ الله عزَّ وجل أكثر من هذا المال، فإذا كان حبُّك للمال أكثر من الله عزَّ وجل فإنك لا تنفق، إنفاق المال دليل حبِّك لله عزَّ وجل، فالإيمان له مظاهر صارخة، من لم يكن له ورعٌ يصدُّه عن معصية الله إذا خلا لم يعبأ الله بشيءٍ من عمله.

 لو فرضنا أنك في غرفةٍ وحدك، وهناك نافذة للجيران، بدت منها امرأة، لو أنك وحدك، ولا أحد يراقبك غضضت بصرك عنها، هذا ماذا يدل؟ يدل على خشيتك لله عزَّ وجل، إذ توجد أعمال تؤكِّد ذلك؛ منها غضُّ البصر، ومنها ضبط اللسان، منها الجوارح، منها التصدُّق، فتأكَّد أنك إذا تصدَّقت بصدقةٍ، وأخفيتها عن الناس، فهذا دليل صدقك وإخلاصك مئة بالمئة، فلذلك ورد من صفات المؤمنين: ﴿وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ (35)﴾ .


  الصدقة أنواع كثيرة:


هناك إنسان تصدَّق بماله، إنسان تصدَّق بعلمه، إنسان بخبرته، إنسان بجاهه، إنسان بمكانته، إنسان بوقته، إنسان تصدَّق بعرضه. هذا أبو ضمضم، أحد أصحاب رسول الله، ما معه شيء، دعا الله عزَّ وجل وقال: عن قتادة: 

(( اللهمَّ إني تصدَّقت بعرضي على المسلمين، فمن تحدَّث عني بما أكره فقد سامحته. ))

[ صحيح  أبي داود ]

أحياناً تسامح الناس، تصدَّقت بسمعتك التي هي أغلى شيءٍ عندك، على كل الصدقة ليست مقصورة على إنفاق المال، ما من صدقةٍ أعظم عند الله عزَّ وجل من كلمة الحق، أفضل صدقةٍ أن يتعلَّم المرء علماً ثمَّ يعلِّمه أخاه المسلم، أفضل صدقة.. 

7 ـ الصيام والامتناع عن كل ما لا يرضي الله:

﴿وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ (35)﴾ ..هنا الصيام كما قال بعض العلماء: لا علاقة له بالصيام الذي فُرِضَ علينا في رمضان، طبعاً صيام رمضان صيام شهر، أما هنا فجاءت بشكل مستمر، أي من صفات المسلم أنه صائم، معنى صائم أي ممتنع عن كل ما لا يرضي الله.

طبعاً إضافةً إلى معنى الصيام الذي جاء في القرآن، ما دام الصيام هنا صفةً مستمرَّةً في الإنسان، إذاً الانقطاع عن كل ما لا يرضي الله عزَّ وجل..  

8 ـ حفظ الفرج:

﴿وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ (35)﴾ ..أيضاً حفظ الفرج من دلائل الإيمان، لأن غير المؤمن ينطلق على سجيَّته من دون ضابط، أساساً لا يُحْفَظُ الفرجُ إلا بغضِّ البصر، لقوله تعالى: 

﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)﴾

[ سورة النور ]

فلمَّا جاء غض البصر قبل حفظ الفرج فُهِمَ من هذا الترتيب أن طريق حفظ الفرج غَضُّ البصر، بل إنّ طريق انحراف الإنسان إطلاق البصر..﴿وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ (35)﴾ والمرأة إذا صَلَّت خمسها، وصامت شهرها، وحفظت نفسها، وأطاعت زوجها دخلت جنَّة ربِّها. 

9 ـ ذكر الله:

﴿وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ (35)﴾ ..قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43)﴾ ، ﴿وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)﴾ ..

 

العبرة العامة من الآية:


أيها الأخوة الأكارم؛ من دلائل هذه الآيات أن نتمثَّلها، أي أن تكون مسلماً، ومؤمناً، وقانتاً، وصادقاً، وصابراً، وخاشعاً، ومتصدِّقاً، وصائماً، وحافظاً لفرجك، وذاكراً لربِّك حتَّى تستحق أن يُعدَّ الله لك مغفرةً في الدنيا وأجراً عظيماً في الآخرة. 

 

تمهيد للدرس اللاحق:

وفي الدرس القادم إن شاء الله تعالى نبدأ بقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)﴾ ..

هذه الآية أيها الأخوة لها أسباب نزول، والعلماء يقولون: إن خصوص السبب لا يتنافى مع عموم اللَّفظ، فمن إعجاز القرآن أن تأتي بعض الآيات، ولها أسبابٌ وقعت في عهد النبي، أما تأتي صيغتها بطريقةٍ تُعَدُّ قانوناً يمضي به الإنسان إلى يوم القيامة، ففي الدرس القادم إن شاء الله نفسِّر هذه الآية والتي تليها.

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور