وضع داكن
25-04-2024
Logo
الدرس : 14 - سورة الأحزاب - تفسير الآيات 53 - 58 الإسلام عقائد وعبادات ومعاملات - آداب الاستئذان
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

الإسلام عقائد وعبادات ومعاملات وآداب:


 أيها الأخوة المؤمنون؛ مع الدرس الرابع عشر من سورة الأحزاب.

وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53)﴾ ..

أيها الأخوة الأكارم؛ قبل أن نبدأ تفسير هذه الآيات، هذه الآيات متعلِّقةٌ بما يسمَّى بالآداب، لا تنسوا أن في الإسلام عقيدةً، وأن في الإسلام عبادةً، وأن في الإسلام معاملةً، وأن في الإسلام أدباً، الإسلام عقائد، وعبادات، ومعاملات، وآداب.

 

اصطباغ نفسك بالكمال الربَّاني بقدر اتصالك بالله عزَّ وجل:


العقيدة تستقى من كتاب الله؛ الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشرِّه من الله تعالى. 

العبادات؛ الصوم، والصلاة، والحجُّ، والزكاة. 

المعاملات؛ أحكام الزواج، أحكام الطلاق، أحكام البيوع، أحكام الرهينة، أحكام العارية، أحكام القَرْض، أحكام الآجار. 

والآداب؛ آداب المتعلِّم، آداب المعلِّم، آداب الطريق، آداب الطعام، الحقيقة الآداب هي في جوهرها كمالات، الإنسان إذا كان متأدِّباً بآداب الإسلام يأخذ الموقف الكامل؛ في طعامه، في شرابه، في نزهته، في جلوسه مع أهله، في علاقاته بجيرانه، فلذلك أفرد العلماء بحوثاً طويلةً ودقيقةً وممتعةً ومأخوذةً من كتاب الله ومن سُنَّة رسوله حول الآداب، وأفضل من عالج الآداب الإمام الغزالي رحمه الله تعالى في إحياء علوم الدين، وفي درسٍ سابقٍ من دروس الأحد بيَّنتُ آداب السفر، السفر له آداب، الوليمة لها آداب، طلب العلم له آداب، كل نشاطٍ نفعله هناك منطلق نظري أي عقيدة، وهناك أمر ونهي، وهناك أدب. 

الشيء الآخر هو أن الإنسان لا يسعد في الجنَّة إلا بعمله الطيِّب، لا يستطيع أن يُقْبل على الله عزَّ وجل، لا يستطيع أن يَلتجِئ إليه، لا يسعد بقربه إلا إذا كان كاملاً، لأن الله طيبٌ ولا يقبل إلا طيِّباً، وجُملة الآداب هي في الحقيقة مواقف كاملة للإنسان. 

السؤال الدقيق الآن: لماذا نرى فلاناً كاملاً في تصرُّفاته وفلاناً ناقصاً؟ فلان عنده حياء، وعنده أدب، وعنده ملاحظة، وفلان عنده وقاحة، وعنده تجاوز، وعنده فظاظة، هذه الآداب ما مصدرها؟ قد نتحدَّث عنها، نقول: آداب السفر كذا وكذا، آداب مجالس العلم، آداب الدخول للمسجد، آداب طلب العلم، آداب الطريق، آداب الزيارة، آداب عيادة المريض، هناك أبحاثٌ طويلةٌ كثيرةٌ جداً أفردها العلماء في الآداب، يا ترى إذا تعلَّمنا هذه الآداب هل يكفي؟ إذا تعلَّمت أن أدب العيادة كذا، وكذا، وكذا، وكذا، أغلب الظن أنه لا يكفي، لأن الإنسان في سلوكه هناك ضبط ظاهري وهناك وازع داخلي، ما دامت نفسه بعيدة عن الله عزَّ وجل فلابدَّ من أن يكون فظَّاً، وغليظاً، ووقحاً، ويأخذ ما ليس له، ويؤثر مصلحته على مشاعر الآخرين، هذه كلُّها من بديهيات الإعراض، فلذلك سوء الأدب في أصله إعراضٌ عن الله عزَّ وجل، لأن كل الكمالات مخزونةٌ عند الله، بقدر اتصالك بالله بقدر اصطباغك بالكمال الرباني، بقدر اتصالك بالله هو القدر نفسه تصطبغ به بالكمال الذي يسعدك في القرب من الله عزَّ وجل.


  الأدب الرفيع صفةٌ من صفات المؤمن:


أردت قبل أن أبدأ الحديث عن آداب الوليمة أن أبيِّن حقيقة الأدب، الأدب اتصال بالله، الأدب حياء، الأدب مشاعر مرهفة، الأدب ملاحظة دقيقة جداً، النبي عليه الصلاة والسلام حينما شعر أن أحد أصحابه قد انتقض وضوءه، وإنه إذا أذَّن العصر فسيخرج وحده ليتوضَّأ، هذه المراعاة الدقيقة جداً لمشاعر أصحابه دعت النبي عليه الصلاة والسلام أن يقول لأصحابه: كل من أكل لحم جزورٍ فليتوضَّأ، فقالوا: كلُّنا أكلنا لحم جزور، قال: إذاً كلُّكم توضَّؤوا، أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يستر حال هذا الذي انتقض وضوءه، إذاً هذا أدب جم. 

النبي عليه الصلاة والسلام سحر أصحابه بأدبه، كان يقول له أحدهم: ما هذا الأدب يا رسول الله؟ يقول: "أَدَّبَنِي رَبَّي فَأَحْسَنَ تَأدِيِبي"، ممكن الإنسان يكون على مستوى رفيع من الأدب؛ مع أهله، مع أولاده، مع إخوانه، مع أصدقائه، مع جيرانه، في خلوته، في جلوته، في عمله، في نزهته، كلامه دقيق. 

كان عليه الصلاة والسلام أشدَّ حياءً من العذراء في خدرها.

كان عليه الصلاة والسلام لا يواجه أحداً بما يكرهه، كان يستحيي كثيراً، كان عليه الصلاة والسلام لا يُحَمِّر الوجوه، لا يُخْجِل أحداً، حتى لو أراد أن ينبِّه أصحابه إلى بعض ما بدر منهم، كان يجمع أصحابه ويقول بشكلٍ عام: ما بال قومٍ يفعلون كذا وكذا؟ دون أن يسميهم. 

إذاً قبل الحديث عن آداب الوليمة لابدَّ من أن نعلم أنه بقدر اتصالك بالله عزَّ وجل تصطبغ نفسك بالكمال الربَّاني، وبقدر اصطباغك بكمال الله عزَّ وجل تكون أديباً مع الناس، والأدب الرفيع صفةٌ من صفات المؤمن، المؤمن ذو أدب، شخصيَّته فذَّة، فيها جانب عقلاني، عالِم، ما اتخذ الله ولياً جاهلاً، وفيها جانب أخلاقي، وفيها جانب انضباطي.

 

النبي عليه الصلاة والسلام أدَّبه الله عزَّ وجل:


النبي عليه الصلاة والسلام أدَّبه الله عزَّ وجل، والمؤمن في بداية طريق الإيمان قد تصدر منه مواقف قاسية، تعليقات لاذعة، انتقادات ساخرة، استعلاء أحياناً، أحياناً ينتقد ما هو فيه، أحياناً يقلِّل حجم أعمال الناس، هذه كلها مواقف فيها رعونة، فيها تجاوز، فيها تقليل من فضل الناس، النبي عليه الصلاة والسلام كان مُنْصِفَاً، بحسبه قوله تعالى:

﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)﴾

[  سورة القلم  ]

(إنَّ) تفيد التوكيد، و(اللام) تفيد التوكيد، وكلمة (عظيم) تفيد المبالغة، وكلمة (على) تفيد التمكُّن: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ(4)﴾ وقال: 

﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)﴾

[ سورة آل عمران  ]

أي مع أنه نبي، مع أنه رسول، مع أنه يوحى إليه، مع أنه معصوم، مع أنه في أعلى مرتبة من بني البشر، ومع كل هذه المراتب: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ فيا أيها الأب لو كنت فظاً غليظ القلب لانفضَّ الناس من حولك من باب أولى، ما معك ولا مَيِّزة، كل مَيِّزات النبي: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ .

 

الآداب ربع الدين والذي لا يتأدَّب بآداب الإسلام ليس من المسلمين:


إذاً أنت كمؤمن من دون أي ميِّزة؛ لا يوجد معك وحي، ولا يوجد معك عصمة، ولا يوجد معك قرآن، ولا يوجد معك تأييد إلهي، ولا يوجد معك معجزة، لا يوجد معك أي شيء، فإذا أردت أن تكون غليظاً، قاسياً، حاداً في تعليقاتك انفضَّ الناس من حولك، لهذا: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾ أي يجب أن تعلموا أن قسم الآداب يحتلُّ رُبْعَ الدين - إن صحَّ التقسيم العددي لا الكمي- الدين عقائد، والدين عبادات، والدين معاملات، والدين آداب، آداب الطريق؛ غض البصر، إلقاء السلام، ردُّ السلام، الأمر بالمعروف، النهي عن المنكر، آداب عيادة المريض؛ أن تزوره، ألا تأكل عنده شيئاً، أن تنفِّس له في الأجل، أن تعطيه الأمل، ألا تبقى عنده طويلاً بقدر فواق ناقة، آداب طلب العلم، آداب دخول المسجد، آداب الكسب، الكسب له آداب، الكسب الحلال له آداب، أي الآداب ربع الدين، ومن نافلة القول أن الذي لا يتأدَّب بآداب الإسلام ليس من المسلمين.

 

من صفات أهل الدنيا تصغير ما عندهم:


ما الذي يميِّزك عن عامة الناس؟ المؤمن له آداب صارخة، وواضحة، وجليَّة، حتى في لهوه ليس عنده مُزاح رخيص، ولا تعليقات لاذعة، ولا إحراج، ولا تتبُّع العورات، هذا من أخلاق المعرضين عن الله عزَّ وجل، تصغير ما عند الناس في أعينهم، ما هذا البيت؟ كيف تسكن فيه؟ هذه صفات أهل الدنيا، قد يصغِّر في عينك بيتك، يصغِّر في عينك حاجاتك، أنت موظَّف كم يبلغ معاشك؟ ومن أدراك أن هذا الموظَّف ذو الدخل المحدود ليس عند الله أرقى من مليون إنسان دخله غير محدود؟! من قال لك ذلك؟ عن أنس بن مالك:

(( كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ. ))

[ صحيح الترمذي ]

من صفات أهل الدنيا تصغير ما عندهم، كيف تقبل هذا اللون من العيش؟ كيف تقبل بهذا الدخل؟ وإن كانت زوجة، كيف تقبلين به؟ ماذا قدَّم لكِ على العيد؟ منتهى الوقاحة، منتهى الفظاظة، منتهى الغلظة، منتهى سوء الأدب، منتهى سوء التقدير، فلذلك الشيء الصارخ في المؤمن أدبه العالي، احترامه للناس، لا يفرِّق بين أبيض وأسود، عربيٍّ وأعجميّ، هكذا كان النبي، سلمان منَّا آل البيت، هكذا كان يقول، كان يقول لأحد أصحابه الفقراء: أهلاً بمن خبَّرني جبريل بقدومه، قال: أو مثلي؟ قال: نعم خاملٌ في الأرض، علمٌ في السماء، فالمؤمن لا يحتقر أحداً، ليس في كلامه فُحْشٌ، ولا بذاءةٌ، ولا تجسُّسٌ، ولا تحسُّسٌ، ولا شماتةٌ، ولا تعييرٌ، لا يوجد عنده هذه المواقف؟؟! 

 

وجوب التأدب بآداب الإسلام:


درسنا اليوم متعلِّق بآداب الوليمة، قال الله عزَّ وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ مرَّةً ثانية وثالثة الله عزَّ وجل يخاطب عامَّة الناس بأصول الدين، ويخاطب المؤمنين بفروع الدين، هذا عَرَفَ الله، وهذا ينبغي أن يؤدَّب، وأن يُوجَّه، وأن يُعَلَّم، لذلك الإنسان إذا كان تحت يده أولاده مثلاً، طلابه في المدرسة، عمَّاله في المعمل، موظَّفيه في المؤسَّسة، إذا كنت مديراً عاماً، إذا كنت صاحب متجر، صاحب مؤسَّسة، معلِّم مدرسة، مدير مستشفى، أي إذا كنت في منصب قيادي، هؤلاء الذين هم دونك يجب أن تؤدِّبهم بآداب الإسلام، يجب أن تعلِّمهم الموقف الكامل، لأنك إذا علَّمتهم وأدَّبتهم كانوا في صحيفتك. 

النبي عليه الصلاة والسلام ما من واحد من أصحابه إذا أخطأ إلا وجَّهه، كان يصلي مع أصحابه مرة، فدخل أحدهم إلى المسجد وأراد أن يلحق الركعة مع النبي عليه الصلاة والسلام، ركض في المسجد، أحدث جلبةً وضجيجاً، فلمَّا انتهى من صلاته قال له عليه الصلاة والسلام: 

(( عن أبي بَكْرَةَ أنهُ جاء ورسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ راكعٌ دونَ الصَّفِّ ثم مشى إلى الصَّفِّ فلمَّا قضى النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ صلاتَهُ قال: أيُّكم الذي ركعَ دونَ الصَّفِّ ثم مشى إلى الصَّفِّ؟ قال أبو بَكْرَةَ: أنا، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: زادَكَ اللهُ حِرْصًا ولا تَعُدْ. ))

[ أخرجه البخاري: إرواء الغليل :خلاصة حكم المحدث : إسناده صحيح ]

ما سكت النبي، يجب أن يوجِّهه، أن يرشده، ولكن لئلا يقسو عليه أثنى على حرصه، وعلى اهتمامه بالصلاة، وعلى إقباله عليها، زادك الله حرصاً ولا تعد ثانيةً لهذا، فأنت أولادك، طلابك، موظَّفوك، من هم دونك، إذا وقفوا موقفاً غير لائق لا ينبغي أن تسكت، يجب أن توجِّههم؛ لكن بحكمةٍ بالغة، بأسلوبٍ طيِّب، بملاحظةٍ ذكيَّة، بتقديم الثناء عليهم قبل انتقادهم، هذا كله من سنَّة النبي عليه الصلاة والسلام.


  بيوت النبي لها شأنٌ كبيرٌ عند الله عزَّ وجل:


﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ﴾ بيوت النبي لها مكانةٌ خاصَّةٌ عند الله عزَّ وجل، لأن هذا البيت يتنزَّل فيه القرآن، لأن هذا البيت بيت صاحب الدعوة، بيت النبي عليه الصلاة والسلام، هذا البيت قِبْلَةَ الأنظار، هذا البيت مكان راحة النبي، هذا البيت مكان زوجاته الطاهرات، فلذلك كما أن بيت الله الحرام له شأنٌ في القرآن، وإذا قال الله: البيت، المقصود به البيت الحرام، وكذلك قال الله عزَّ وجل: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ﴾ وأهل بيت النبي لهم مكانةٌ عند الله عزَّ وجل، وهناك علاقةٌ بين نجاح دعوة النبي وبين سموِّ أهل بيته، لذلك تولَّى الله بنفسه تطهير أهل بيت النبي، والآن بيوت النبي لها شأنٌ كبيرٌ عند الله عزَّ وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ﴾ أي لا تدخلوا بيوت النبي من غير إذنٍ، يقول بعض المفسِّرين: كان العرب في الجاهليَّة يدخلون بيوت بعضهم بعضاً من دون استئذان، هكذا، وهذه الملاحظة قد تلاحظونها في مجتمع متخلف، أي لا يهم، نساؤه كاسيات، متحجِّبات، غير متحجِّبات، يدخل مباشرةً، لا يستأذن، طبعاً الآن يوجد أبواب، ويوجد أجراس ومدقات، لكن ومع ذلك يدخل من دون أن ينتظر، أين أدخل؟ أين أجلس؟ يدخل مباشرةً، فالدخول إلى البيت من دون استئذان هذا من أخلاق الجاهليَّة. 

 

الدخول بلا استئذان عادة متأصِّلة جاهليَّة أراد الله أن ينزعها من قلوب المؤمنين:


هذا البيت الإنسان هناك زوجته، وبناته، وأولاده، يا ترى هل هم بوضع لائق أم غير لائق؟ هذه الزوجة متكشِّفة؟ متحجِّبة؟ يمكن أن يراها الأجنبي بمظهرها أم لا يمكن ؟ فهذا حينما ترتفع القيود، وترتفع الموانع، وليس هناك ضوابط، عندئذٍ الإنسان يدخل مباشرةً من دون استئذان، فهذه من صفات الجاهليين، عادة متأصِّلة في الجاهليَّة، أراد الله عزَّ وجل أن ينزعها من قلوب المؤمنين، الدخول بلا استئذان عادة متأصِّلة جاهليَّة.

 

الأحكام المتعلقة بالآية التالية:


﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ﴾ الحكم الأول: لا يجوز الدخول مطلقاً بلا إذن. 

طبعاً الشيء الثاني: لا يجوز أن تدخل بإذن بنيَّة أن تنتظر في البيت حتَّى يحين وقت الغداء فتأكل مع النبي، لعل هناك ظرفاً صعباً، لعل عنده طعاماً غير كافٍ، لعل هناك حاجة، لعل هناك وعداً مع أهله، فلذلك حتَّى لو أُذِنْ قبل الطعام لا ينبغي أن ننتظر إلى أن يحين وقت الطعام، هذا أدب آخر: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ﴾ الحقيقة كلمة يؤذَن تتعدَّى بـ في، أما هنا فتعدت بـ إلى، وكيف أن هذا الفعل تعدَّى بـ إلى أي أنه ضُمِّن معنى الدعوة، أي لا تدخلوا إلى بيت النبي إلا أن تُدْعَون إلى طعام، حتَّى إذا دُعيتم إلى الطعام لا ينبغي أن تدخلوا إلى بيت النبي في وقتٍ مبكِّرٍ جداً، هذا الوقت هو قد يستهلكه في شأنٍ من شؤونه الخاصَّة، مثلاً دعوت إنساناً إلى طعام الغداء، جاءك الساعة العاشرة فرضاً، أنت خلال هاتين الساعتين عندك تهيئة حاجات المنزل، عندك لقاءات، عندك موعد، عندك عمل علمي، فالدعوة الساعة الثانية، جاءك الساعة العاشرة، أو الساعة الحادية عشرَة، فحتَّى لو دعيت إلى الطعام لا ينبغي أن تأتي قبل الموعد المحدَّد لأن هذا يستهلك وقت النبي، ويستهلك مهمَّةً كان قد أعدَّ نفسه لها، فالآية دقيقة جداً. 

 

ثلاثة أحكام فقهيَّة مستنبطة من الآية التالية:


﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ﴾ الدخول يحتاج إلى إذن، الآن لو معك إذن بالدخول وليس معك دعوةٌ إلى طعام، لا ينبغي أن تنتظر عند النبي حتَّى يحين وقت الطعام، الآن إذا دُعيت إلى الطعام لا ينبغي أن تأتي قبل الوقت المحدَّد، أو قبل الوقت المعروف، المتعارف عليه، لا ندخل من دون إذن، ولا نأكل من دون دعوة، وإذا دعينا إلى الطعام لا نأتي قبل الأوان، ثلاثة أحكام فقهيَّة مستنبطة من هذه الآية: ﴿وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا﴾ لئلا تُجْرَحَ مشاعر المؤمنين، إذا دُعيتم فادخلوا، ما دام دعاكم ادخلوا حبَّاً وكرامةً.

 

فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ؛ آية فيها أربعة أحكام شرعيَّة:


﴿فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا﴾ أحياناً يكون الطعام أُعِدَ للضيوف ولأهل البيت، والمكان ضيِّق، والنبي عليه الصلاة والسلام عنده مسؤوليَّات، وعنده حاجات، ويريد أن يلتقي مع أهله، والطعام ينتظر من يأكله، هؤلاء الذين أكلوا جلسوا، وجلسوا، واستمعوا، وأنسوا بالنبي، ونسوا أن عنده مسؤوليات، قال: ﴿فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ﴾ أحياناً يكون النبي عليه الصلاة والسلام عنده خطبة، عنده لقاء مع أصحابه، هذا يحبُّ أن ينفرد بالنبي وحده ويجلس ساعاتٍ طويلة، هذا لا يستطيعه النبي عليه الصلاة والسلام، قال: ﴿فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ﴾ هذه معطوفة، ﴿غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ﴾ ، ﴿إِنَّ ذَلِكُمْ﴾ أي الدخول بلا استئذان، وتناول الطعام بلا دعوة، والمجيء إلى الدعوة قبل وقتٍ كبير، والمكوث بعد الطعام إلى ساعةٍ متأخِّرة، أربعة أحكام شرعيَّة، قال: ﴿إِنَّ ذَلِكُمْ﴾ هذه المواقف كلها ﴿كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ﴾ هذه الآية تشير إلى عِظَمِ خُلُقِ النبي، أي النبي ليس عنده إمكان إطلاقاً أن يجرح أحد أصحابه، ولو بقي ساعاتٍ طويلة، مستحيل: ﴿إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ﴾ ، تروي الكتب أن السيدة زينب التي تزوَّجها عليه الصلاة والسلام، البيت ضيِّق، والأمكنة محدودة، وقد جلست إلى الحائط، وجلس أناسٌ لوقتٍ طويل ولم يخرجوا، النبي تضايق، دخل وخرج، دخل وخرج وهم جالسون، عندئذٍ نزلت هذه الآية لتؤدِّب أصحاب النبي عليهم رضوان الله، وقال بعضهم وهذا قرأته في التفاسير: إن هذه الآية ليست لأصحابه الكُمَّل، هذه للثقلاء، أي بكل مجتمع يوجد إنسان ثقيل، والثقيل إذا عَلِمَ أنه ثقيل فليس بثقيل، لا يلاحظ، لا ينتبه، لا يدقِّق، قال: ﴿إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ﴾ .

 

مخاطبة النساء من وراء حجاب أطهر للنفس وأسلم للصدر وأدعى للمودَّة:


الآن: ﴿وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا﴾ ، المتاع الشيء الذي يُنْتَفَعُ به، أي إذا سألتموهنَّ حاجةً، أو إذا سألتموهنَّ حُكْمَاً فقهياً، شخص أحبَّ أن يسأل السيدة عائشة، أو إحدى زوجات النبي عن حكمٍ معيَّن، قال: ﴿وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ﴾ الحجاب هو الستْر، ﴿ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ﴾ العلماء قالوا: أن تدخلوا بإذن، وأن تأكلوا بدعوة، وألا تأتوا قبل الدعوة بوقتٍ طويل، وألا تمكثوا بعد الدعوى إلى ساعةٍ متأخِّرة، وأن تخاطبوا نساء النبي من وراء حجاب، هذه خمسة أحكام قال: ﴿ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ﴾ الإنسان إذا خاطب امرأةً من وراء حجاب لا يرى شكلها، يبقى قلبه طاهراً، نظيفاً، عفيفاً، سليماً، معافىً، لو نظر إلى شكلها لجاءته الخواطر التي لا تُرْضي الله عزَّ وجل، ولو أنها هي رأت رجلاً، وسمعت صوته، وملأت عينيها منه، لجاءتها بعض الخواطر، هذه الخواطر لا ترضي الله عزَّ وجل، فأن تخاطبوهنَّ من وراء حجاب: ﴿أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ﴾ أطهر للنفس، أسلم للصدر، أدعى للمودَّة، أقرب إلى الله عزَّ وجل. 

 

النهي عن إيذاء النبي في حياته وبعد موته:


﴿ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا﴾ أي ما كان لكم أن تؤذوا رسول الله في حياته، ولا بعد مماته، لا في حياته ولا بعد مماته، ما كان لكم أن تؤذوا رسول الله في حياته بأن تدخلوا عليه بلا استئذان، وبأن تأكلوا من غير دعوة، وبأن تأتوا قبل وقت الدعوة فتستهلكوا وقته، وبأن تمكثوا بعد الطعام إلى ساعةٍ متأخِّرة، وبأن تحدِّثوا نساءه مشافهةً من دون حجاب، هذا كلُّه إيذاءٌ للنبي: ﴿وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ﴾ وأن تنكحوا أزواجه من بعده إيذاء له بعد موته، إذاً أنتم منهيِّون عن أن تؤذوه في حياته ومن بعد مماته أبداً: ﴿إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا﴾ هذه النقطة الدقيقة أن الإنسان كلَّما علا مقامه عند الله دافع الله عنه، كلَّما علا مقامه عند الله صارت حياته عند الله غالية، قال عليه الصلاة والسلام: عن أبي هريرة:

(( إنَّ اللَّهَ قالَ: مَن عادَى لي وَلِيًّا فقَدْ آذَنْتُهُ بالحَرْبِ، وما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بشَيءٍ أحَبَّ إلَيَّ ممَّا افْتَرَضْتُ عليه، وما يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحِبَّهُ، فإذا أحْبَبْتُهُ، كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذي يَسْمَعُ به، وبَصَرَهُ الَّذي يُبْصِرُ به، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَهُ الَّتي يَمْشِي بها، وإنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، ولَئِنِ اسْتَعاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وما تَرَدَّدْتُ عن شَيءٍ أنا فاعِلُهُ تَرَدُّدِي عن نَفْسِ المُؤْمِنِ؛ يَكْرَهُ المَوْتَ، وأنا أكْرَهُ مَساءَتَهُ. ))

[  صحيح البخاري ]

 

على الإنسان العاقل ألا يتورَّط ويؤذي من يحبُّهم الله وإلا عاجله الله بالعقاب:


لذلك على الإنسان العاقل ألا يتورَّط ويؤذي من يحبُّهم الله عزَّ وجل، وألا يتورَّط ويتحدَّث على من يحبُّهم الله عزَّ وجل، لا يتورَّط ويتحدَّث بالأذى، وبالقسوة، وبالتُهَم على من يحبُّهم الله عزَّ وجل لأنه: (( من عادى لي ولياً فقد آذنته بحرب)) لأن هذا الولي بشكلٍ أو بآخر بابٌ لله عزَّ وجل، أي مثل يقتدي الناس به، فإذا أردت أن تحطِّم هذا المثل، إذا أردت أن تصغِّره في عين الناس لحسدٍ أو لحقدٍ أو لما شابه ذلك فقد آذنك الله بالحرب، وعندئذٍ يقصم الله سبحانه وتعالى هذا الإنسان، ولو كان هناك مُتَّسع من الوقت لذكرت لكم قصصاً كثيرة عن أناسٍ تطاولوا وقسوا وتهجَّموا لكن الله عاجلهم بالعقاب، لذلك قالوا: "لحم العلماء مسموم" بمعنى أنه من أكل من لحومهم من دون تبصُّر، من دون تروّ، من دون تحقُّق، من دون تدقيق، هكذا جزافاً من دون فهم فقد آذى الله عزَّ وجل: ﴿إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ﴾، وقال: ﴿وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا﴾ .

 

من وقف موقفاً معلناً من النبي فيه عداء أو موقفاً مُبَطَّناً كلاهما عند الله سواء:


الآن: ﴿إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ﴾ أي الإنسان إذا وقف موقفاً معلناً من النبي عليه الصلاة والسلام فيه عِداء، أو موقفاً مُبَطَّناً، كلاهما عند الله سواء، أي إن أسررت أو وقفت موقفاً احتيالياً، هذا كلُّه عند الله مكشوف: ﴿إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54)﴾ هذا من نوع التهديد، أي أن عملكم عند الله مكشوف، نواياكم مفضوحة، مواقفكم متبدِّية، طموحاتكم تحت النَقْدِ الشديد، أي الله سبحانه وتعالى بالمرصاد. 


  إغفال الله في الآية التالية العمّ والخال لأنهما بمنزلة الأب:


لكن نساء النبي عليهم رضوان الله لهنَّ أن يظهرنَّ أمام آبائهن: ﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55)﴾ أم المؤمنين إذا توفي النبي عليه الصلاة والسلام فهي أمُّ المؤمنين حقيقةً، بمعنى أنه لا يجوز لواحدٍ أن يقترن بزوجة النبي عليه الصلاة والسلام، لكنَّ التي تزوَّجها وطلَّقها وهي واحدة العلماء على خلافٍ في هذا الموضوع، لكن إذا مات النبي عن زوجة فهذه أمُّ المؤمنين حكماً، ولا يجوز لأحدٍ أن يتزوَّجها من بعد النبي، لكن هذه الزوجة لها أن تظهر، حينما قال الله عزَّ وجل: ﴿وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ﴾ هذه الزوجة الطاهرة، زوجة النبي عليه الصلاة والسلام لا جناح عليها إن بدت أمام أبيها، أو أمام ابنها، أو أمام أخيها، أو أمام ابن أخيها، أو أمام ابن أختها، أو أمام امرأةٍ مسلمةٍ، أو ما ملكت أيمانها طبعاً من الجواري لا من العبيد، وقد أغفل الله عزَّ وجل في هذه الآية العمَّ والخال لأسبابٍ كثيرة منها أن العم والخال بمنزلة الأب: 

﴿ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)﴾

[ سورة البقرة ]

أحد هذه الأسماء عماً وليس أباً، فالله سبحانه وتعالى سمَّاه أباً، إذاً العم بمنزلة الأب، العم والخال بمنزلة الأب، وقد قال عليه الصلاة والسلام: عن عبد الله الوراق:

(( العم والد. ))

[ صحيح الجامع : حسن ]

والخال والد. 

فلذلك للمرأة الحق أن تظهر أمام زوجها طبعاً من باب أولى، وأمام أبيها، وأمام ابنها، وأمام أخيها، وابن أخيها، وابن أختها، وعمِّها، وخالها، وأمام النساء المؤمنات لأنهنَّ لا يصفنها للأجانب، منضبطات، وأمام ما ملكت أيمانهنَّ من الجواري لا من العبيد، ﴿وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا﴾ أي مواقف العباد بعين الله عزَّ وجل تحت الفَحْص الشديد وتحت الأضواء الكاشفة. 

 

تجلي الله عز وجل على سيدنا محمد بالأنوار والرحمات:


الآن يقول الله عزَّ وجل: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)﴾ هذه الآية لها معانٍ كثيرة ودقيقة جداً، وقد لا يعرف الناس أبعادها الحقيقيَّة، أي هذا الإنسان العظيم، النبي عليه الصلاة والسلام، هو المخلوق الأول، هو سيِّد الخلق وحبيب الحق، هو سيِّد ولد آدم، صاحب الخُلُقِ العظيم، صاحب المقام المحمود، واللواء المعقود، الله عزَّ وجل يصلي عليه، في أدقِّ معاني هذه الآية أنه يتجلَّى عليه؛ يتجلَّى عليه بالأنوار، يتجلَّى عليه بالرحَمَات، يتجلَّى عليه بما هو مسعد. 

الآن أي مؤمن إذا اتصل بالنبي عليه الصلاة والسلام، إن في حياته اتصالاً مباشراً، لقاءً حقيقياً، أو بعد مماته بذكره، والصلاة عليه، ومعرفة شمائله، هذا الاتصال الجسمي، أو الفكري، أو النفسي، الجسمي لقاء، الفكري اطلاع على شمائله صلى الله عليه وسلَّم، أحياناً تقرأ عن النبي عليه الصلاة والسلام شيئاً فتبكي، لماذا بكيت؟ لأنه حصل لك تعظيم لهذا النبي، حصل لك توقير لهذا السيِّد العظيم، فالاتصال الحقيقي، اللقاء الحقيقي الذي تمَّ بين أصحابه وبينه في حياته، أو الاتصال الفكري أي إذا اطلعت على شمائله، على سيرته، على سنَّته، على مواقفه، على شجاعته، على عفوه، على لطفه، على كرمه، على إنصافه، على حبِّه للناس، على حبِّه للخلق، تتأثَّر، أو حصل لك أن رأيته في المنام هذا اتصال نفسي، هناك اتصال فكري قرأت سيرته، وهناك اتصال نفسي رأيته في المنام، وهناك اتصال حقيقي كنت أحد أصحابه.

 

من أراد نصيباً من التجلي الذي أسبغه الله على سيدنا محمد فعليه الاتصال بنفس النبي:


قيل: إنَّ هذا التجلي الذي أسبغه الله تعالى على النبي عليه الصلاة والسلام تجلِّي أنوار، تجلي مُسْعِد، تجلي رَحَمَات، تجلي طمأنينة، هذا التجلي تأخذ منه شيئاً، أي الله عزَّ وجل يتجلَّى على النبي عليه الصلاة والسلام، وأنتم أيها المؤمنون إذا أردتم نصيباً من هذا فاتصلوا به، لذلك جاء قوله تعالى:

﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)﴾

[ سورة التوبة ]

يا رسول الله إني إن رأيتك اطمأنَّت نفسي، أحد أصحابه وهو سيدنا ربيعة كان يخدمه، فإذا انتهى وقت الخدمة، وسمح له النبي أن يذهب إلى البيت، يبقى على باب بيت النبي إلى أذان الفجر، ما الذي جذبه إلى النبي؟ هذه الأنوار، ما الذي جذبه إلى النبي؟ هذه الرَحَمَات، ما الذي جذبه إلى النبي؟ هذه التجليَّات. لذلك عندما جيء للنبي عليه الصلاة والسلام برجل يريد قتله، فما إن دخل عليه ابتسم النبي عليه الصلاة والسلام، قال: "يا هذا لو أردت ذلك لما سُلِّطت عليّ"، فقال الرجل: "والله يا محمَّد دخلت عليك وما رجلٌ على وجه الأرض أبغض إليَّ منك، وأنا الآن ليس على وجه الأرض رجلٌ أحبُّ إليَّ منك"، ما الذي حصل؟ الذي حصل أنه صار هناك اتصال. 

جهاز مركز كهربائي عالي التوتُّر، أي إنسان وضع سلكاً يأخذ من هذا التوتُّر الشيء الكثير، هذا موضوع نفسي، هذا الموضوع متعلِّق بالصلة النفسيَّة برسول الله صلى الله عليه وسلَّم، أي هناك سرّ من الصعب علينا فهمه إلا بهذا التفسير، هؤلاء الذين عاشوا معه اندفاعهم إلى التضحية شيء لا يُصدَّق، لا يتصوَّره عقل، أن سيدنا جعفر تُقْطَع يده اليمنى فيحمل الراية باليسرى، تقطع اليسرى فيحملها بكلا عَضُدَيْه إلى أن يموت في سبيل الله!! أي رأينا من أصحاب النبي بطولات يصعب على التاريخ أن يصفها، ما هو السر؟ السر أنهم اتصلوا بنفس النبي عليه الصلاة والسلام.


  سرّ سعادة المؤمن أنه موصول برسول الله وأن له نصيباً من أنوار الله:


﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)﴾ هذا التجلي تجلي الرحمة، تجلي الأنوار، تجلي السعادة، تجد أن المؤمن سعيد جداً، سرّ سعادته أنه موصول برسول الله، سرّ سعادته أن له نصيباً من أنوار الله عزَّ وجل، فلذلك النبي عليه الصلاة والسلام مما يؤكِّد ذلك أن أحد أصحابه واسمه حنظلة- والقصَّة معروفة عندكم-  مرَّ به سيدنا الصديق وقال له: "ما لك يا حنظلة تبكي؟"، قال: "نافق حنظلة"، قال:   "ولمَ يا أخي؟"، قال: "نكون مع رسول الله ونحن والجنَّة كهاتين، فإذا عافسنا الأهل ننسى"، فقال سيدنا الصديق: "أنا كذلك يا أخي انطلق بنا إلى رسول الله"، يقال: إنا معشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا، عَنْ حَنْظَلَةَ قَالَ:

(( كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَوَعَظَنَا، فَذَكَّرَ النَّارَ، قالَ: ثُمَّ جِئْتُ إلى البَيْتِ فَضَاحَكْتُ الصِّبْيَانَ وَلَاعَبْتُ المَرْأَةَ، قالَ: فَخَرَجْتُ فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ فَذَكَرْتُ ذلكَ له، فَقالَ: وَأَنَا قدْ فَعَلْتُ مِثْلَ ما تَذْكُرُ، فَلَقِينَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَقُلتُ: يا رَسُولَ اللهِ، نَافَقَ حَنْظَلَةُ فَقالَ: مَهْ فَحَدَّثْتُهُ بالحَديثِ، فَقالَ أَبُو بَكْرٍ: وَأَنَا قدْ فَعَلْتُ مِثْلَ ما فَعَلَ، فَقالَ: يا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً، ولو كَانَتْ تَكُونُ قُلُوبُكُمْ كما تَكُونُ عِنْدَ الذِّكْرِ، لَصَافَحَتْكُمُ المَلَائِكَةُ، حتَّى تُسَلِّمَ علَيْكُم في الطُّرُقِ. وفي رواية : كُنَّا عِنْدَ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فَذَكَّرَنَا الجَنَّةَ وَالنَّارَ، فَذَكَرَ نَحْوَ حَديثِهِمَا. ))

[ صحيح مسلم  ]

هل فهمت الآن لماذا تشعر براحة في المسجد؟؟! يقول لك: ارتحت، كأني شحنت، إذا غاب الإنسان درساً يشعر بوحشة.

 

المؤمن في قلبه نور والكافر أعمى يتخبط خبط عشواء:


أنت أنت يبدو أن الله عزَّ وجل كل من زار بيته يتجلَّى على قلبه: إنّ بيوتي في الأرض المساجد، وإن زوّارها هم عمّارها، فطُوبى لِعَبْد تطهّر في بيته ثمّ زارني، دخولك إلى بيت الله أنت الآن ستتلقَّى من الله الإكرام، ما الإكرام؟ هنا لا يوجد سكرة، ولكن تشعر براحة لو وزِّعت على أهل بلدٍ لكفتهم، تحس بطمأنينة، تحس بأنك تملك قراراً صحيحاً، تملك رؤية صحيحة، دائماً عندك ثلاثة أشياء في تجليات الله عزَّ وجل، هناك جانب من التجلي نور ترى به الخير خيراً والشر شراً، الصلاة نور، المصلي يملك نظراً ثاقباً، رؤية صحيحة، يعرف حقائق الأمور، أحد ثمار الصلاة النور، يقال: "الصلاة نور"، والآية تقول:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28)﴾

[ سورة الحديد ]

هناك نور، أنت مستنير، الكافر أعمى، الكافر يتحامق، الكافر يفعل الشيء المُنْكَر، الشيء غير المنطقي، غير الواقعي، غير المألوف، لأنه أعمى يخبط خبط عشواء قال تعالى: 

﴿ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1)﴾

[ سورة محمد  ]

 

المؤمن بصلاته على النبي الكريم يشتق من أنواره المحمدية وينطق بتوفيق الله:


المؤمن في قلبه نور، هذا النور جاءه من اتصاله بالله عزَّ وجل، هذا النور جاءه من اتصاله برسول الله، هذا النور جاءه من صلاته، هذا النور جاءه من دخول بيوت الله عزَّ وجل، في بيت الله، وفي الصلاة، وفي الاتصال برسول الله تأتيك هذه الأنوار، واتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ، وينطق بتوفيق الله :

﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)﴾

[ سورة الحج ]

إذاً هذه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ﴾ ، أي كي تشتقوا من أنواره النبويَّة المحمَّدية: 

﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)﴾

[ سورة النور ]

هذه واحدة.

 

في شخصية المؤمن من خلال الصلاة تنمو ثلاثة جوانب:


الشيء الثاني: هناك تجلٍّ أخلاقي، أنت باتصالك بالله عزَّ وجل عن طريق النبي عليه الصلاة والسلام تتحلَّى بمكارم الأخلاق، صارت الرحمة عندك ليست عملاً ذكياً مُتَكَلَّفاً، قد تجد إنساناً ذكياً جداً يعمل عملاً فيه رحمة ولكن قلبه قاسٍ، لكنه ذكي أراد انتزاع إعجاب الآخرين، أما إذا اتصلت بالله اتصالاً حقيقياً يمتلئ قلبك بالرحمة، والقلب الرحيم أقرب قلبٍ إلى الله عزَّ وجل. 

الآن توجد عندنا غير الأنوار اتصال الكمال، فالمؤمن كامل، منضبط، ليس انضباطه برادعٍ خارجي بل بوازعٍ داخلي، هذا الفرق الدقيق، لو أقمنا أجهزة مراقبة دقيقة جداً ضبطت الأمور، هذا كلَّه ردع خارجي، أوروبا قائمة على الردع خارجي، لكن المؤمنين انضباطهم داخلي، وازع داخلي بسبب اتصالهم بالله عزَّ وجل، هذا الاتصال بالله عن طريق رسول الله، وعن طريق مجالس العلم، هذا الاتصال ينمِّي عندهم مكارم الأخلاق، المؤمن أخلاقي، منصف، يقول الحق ولو على نفسه، متواضع دائماً، كريم، لطيف، خجول، حَيي، شجاع في مواقف، قوي، لا يهاب أحداً، هذه كلها مكارم أخلاقيَّة جاءته من اتصاله بالله عن طريق رسول الله، ومن حضور مجالس العلم. 

الجانب الأول جانب نوراني، والجانب الثاني جانب أخلاقي، والجانب الثالث جانب جمالي أي المؤمن سعيد، سعيد بكل ما في الكلمة من معنى، تعيش مع مؤمن حياته خشنة، أموره كلها وسط ودون الوسط، تأنس بالجلوس معه، ترتاح له، تدخل إلى بيت فيه من التحف ما لا يوصف، تجد فيه انقباض، فما هو السر؟ السر أن هذا المؤمن باتصاله بالله عن طريق النبي عليه الصلاة والسلام، أو بحضوره مجالس العلم، يشتقُّ من أنوار الله جانباً جمالياً، فتجد عنده سعادة، هذا الذي أتمنَّى أن يكون واضحاً عندكم، فهناك جانب علمي نوراني، وجانب أخلاقي، وجانب جمالي في شخصية المؤمن، وهذه الجوانب الثلاث نمت من خلال الصلاة، لذلك  الصلاة عماد الدين فمن أقامها فقد أقام الدين ومن هدمها فقد هدم الدين، لا خير في دينٍ لا صلاة فيه، الصلاة عماد الدين، وعصام اليقين، وسيدة القربات، وغرَّة الطاعات، ومعراج المؤمن إلى ربِّ الأرض والسماوات، هذه: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)﴾ أي هو قدوتكم، إن كنتم في حياته فاتصلوا به، وإن كنتم بعد مماته فاقرؤوا سيرته، اقرؤوا شمائله، وإن زاد حبُّكم له كثيراً ترونه في منامكم:  عن أبي هريرة:

(( مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لا يَتَمَثَّلُ بِي.  ))

[ صحيح مسلم ]

اسألوا من رأى النبيَّ في المنام يبقى أشهراً وهو مغموسٌ في سعادة لا توصف فكيف الذين عاشوا معه في حياته؟؟!

 

كل إنسانٍ بإيذائه رسول الله كأنَّما يؤذي الله فهو ملعون في الدنيا والآخرة:


﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ ، الله لا يؤذى، خالق الكون، لكن هذا من عِظَم مقام النبي على الله عزَّ وجل، أي يا عبادي الذي يؤذي النبي فكأنَّما آذاني: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ ملعون لا بالمعنى المألوف العامي: بمعنى ذكي، فلان ملعون أي ذكي، لا، هنا ملعون أي بعيدٌ عن الله عزَّ وجل، مطرودٌ من رحمة الله، تجد قلبه قاسياً، وجهه متجهِّماً، نفسه متصحِّرة، ليس عنده حياة أبداً، ليس عنده حياة أخلاقيَّة، ولا حياة روحيَّة، ولا إحساس بالجمال، ولا إحساس بالرحمة، أي قلبه قُدَّ من صخر، فلان ملعون أي بعيد عن الله، فكل إنسانٍ يؤذي رسول الله، وبإيذائه رسول الله فكأنَّما يؤذي الله عزَّ وجل، قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ في الدنيا ملعون، وفي الآخرة ملعون. 

 

العذاب أصناف؛ عذاب عظيم وعذاب أليم وعذاب مهين:


﴿وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا﴾ عندك عذاب عظيم، وعذاب أليم، وعذاب مهين، العذاب العظيم جهنَّم، أما العذاب الأليم فهناك آلام لا تحتمل في الدنيا، الإنسان في بيته قاعد، أغلق عليه غرفته وآلام أحشائه لا تحتمل، لكن يوجد عذاب مهين أمام الناس، على مرأى من جمعٍ غفير من الناس يُهان، يُطلق عليه السباب، الشتائم، يُضرَب، يُذَل، فكل إنسان آذى الله ورسوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57)﴾ في الدنيا والآخرة، عذاب مهين، لذلك بقدر ما تحبُّ الله ورسوله بقدر ما يحبُّك الناس، توقِّر الله ورسوله يوقِّرك الناس، تهاب الله ورسوله يهابك الناس، تشتغل بالله ورسوله يشتغل بك الناس، يرفع الله لك ذكرك، هي علاقة رياضيَّة ثابتة. عن أبي هريرة:

(( يقولُ اللَّهُ تَعالَى: أنا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بي، وأنا معهُ إذا ذَكَرَنِي، فإنْ ذَكَرَنِي في نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ في نَفْسِي، وإنْ ذَكَرَنِي في مَلَأ ذَكَرْتُهُ في مَلَأ خَيْرٍ منهمْ، وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ بشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ ذِراعًا، وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِراعًا تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ باعًا، وإنْ أتانِي يَمْشِي أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً. ))

[ صحيح البخاري  ]

 

سعادة الدنيا والآخرة تكون بحبُّ الله ورسوله لا بإيذائهما:


أنت شغلك الشاغل أن تُعَرِّف الناس بالله وربنا عزَّ وجل يكافئك بأن يرفع لك ذكرك، يرفع لك شأنك، يلقي حبَّك في قلوب الناس؛ بالعكس، الذي يؤذي الله ورسوله، هذا ملعون في الدنيا والآخرة، وله في الآخرة عذاب مهين: ﴿وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57)﴾ في الدنيا والآخرة، فإذا أردت رفعة الدنيا والآخرة، وسعادة الدنيا والآخرة، ورفعة الشأن في الدنيا والآخرة، فكن ممن يحبُّ الله ورسوله؛ لا ممن يؤذي الله ورسوله، أحياناً بتعليقات ساخرة إنسان يسخر من الدين كله، إذا قال لك: الدين ضعف الإنسان أمام قِوى مجهولة، فأنت بهذا قد سخرت من الدين كله، جعلت الدين شعوراً مَرَضياً للإنسان، أحياناً يقول: القرآن ليس لهذا الزمان، أنت بهذا آذيت الله ورسوله، إنسان يستفيد الناس منه طعنت بنواياه الطيِّبة بقولك: له مصلحة، فالذي كان مستفيداً ابتعد، ماذا فعلت؟ أنت قطعت ما أمر الله به أن يوصل، وأفسدت العلاقة في الأرض: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا﴾ مؤمن بريء، شيء لم يفعله، كلمةٌ ما قالها، موقفٌ ما وقفه، هناك أشخاص جلُّ همِّهم أن يشوِّهوا سمعة المؤمنين، هؤلاء: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)﴾ احتمل مسؤوليَّة كبيرة جداً، واقترف إفكاً، وافتراءً، وكذباً، وإثماً واضحاً لابدَّ من تحمُّل مسؤوليته. 

 

كل إنسان يؤذي مؤمناً بتشويه سمعته تَحَمَّل تَبِعَة ذنب خطير وهو البهتان:


أيها الأخوة؛ إذا أردت أن تعيش سليماً اضبط لسانك، أحياناً تعليقات، أحياناً نقد لاذع، أحياناً تطاول، أحياناً نقل قصَّة لست متأكِّداً منها، جاءك فاسقٌ بنبأ، لم تتثبَّت من قول هذا الفاسق، نقلت رواية شوَّهت بها سمعة إنسان، ما باليت، أفسدت علاقةً بين اثنين، شوَّهت سمعة مؤمنةٍ: قذف محصنةٍ يهدم عمل مئة سنة. قال: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا﴾ ليس له ذنب، أحياناً امرأة مؤمنة طاهرة تتهمها من دون دليل، من دون برهان، من دون يقين، رجل مؤمن صادق، له عمل طيب، تقول عنه: له نوايا خبيثة، له مقاصد، أنا أعرفه، من أجل ماذا تقول هذا الكلام؟ هذا يحدث دائماً، أحياناً يكون طالب معجباً بأستاذه، الأب بسذاجة يقول: هذا لا يفهم شيئاً، هذا أستاذ ابنك، الابن جلس معه ست ساعات، والابن معجب بأستاذه، أنت لكي تُظْهِر أمام أسرتك أنك أفهم منه: لا يفهم شيئاً، أنت بهذا ماذا فعلت؟  أنت ضعضعت الثقة، قطَّعت العلاقة، هذا موقف غير حكيم، فكل إنسان يؤذي مؤمناً بتشويه سمعته، بحديث غير صحيح عنه، فهذا: ﴿وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا﴾ تَحَمَّل تَبِعَة ذنب خطير وهو البهتان: ﴿وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ .

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور