وضع داكن
29-03-2024
Logo
الدرس : 17 - سورة الأحزاب - تفسير الآيات 69 - 71 الحقيقة هي الشيء الثابت، نهاية العلم الإيمان ونهاية العمل الطاعة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

الإيذاء الحقيقي الذي يمكن أن يبلغ الأنبياء هو أن تعمل عملاً يعيق رسالتهم:


أيها الأخوة الأكارم، مع الدرس السابع عشر من سورة الأحزاب.

وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69)﴾ أسلوبٌ حكيم أن يُذَكِّر الله سبحانه وتعالى المؤمنين بالأخطاء الفادحة التي وقع بها قوم موسى حينما آذوه، ومعنى آذوه أي كذَّبوه، وسَفَّهوا دعوته، ولم يلتفتوا إلى أمر الله عزَّ وجل، فأية معارضةٍ، أو تكذيبٍ، أو استخفافٍ، أو استهزاءٍ، أو إعراضٍ، أو تفنيدٍ، أو تجريحٍ بدعوة النبي عليه الصلاة والسلام فهذا إيذاءٌ له وأي إيذاء، والإيذاء الحقيقي الذي يمكن أن يَبْلغ الأنبياء هو أن تعمل عملاً يعيق رسالتهم، عامَّة الناس إيذاؤهم أن تأخذ من مالهم، إيذاؤهم أن تشتمهم، إيذاؤهم أن تنتقص منهم لذاتهم، ولكن الأنبياء منزَّهون عن هذا الألم، الأنبياء إيذاؤهم الشديد أن تفعل شيئاً يُبعد الناس عنهم، فالتكذيب، والسخرية، والاستهزاء، والتفنيد، والإعراض، وعدم الاكتراث هذا هو أشدُّ أنواع الإيذاء، لذلك: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69)﴾ إذاً الإيذاء بالقول، هذا دليل قطعي وواضح جداً على أن إيذاء الأنبياء كان بالقول:  

﴿ لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111)﴾

[ سورة آل عمران ]

فالكافر يطلق لسانه بكل ما يُزعج المؤمن، أحياناً يكذِّبه، أحياناً يدَّعي أن له أغراضاً، أحياناً يدَّعي أنه لضعفه اتجه هذا الاتجاه، على كلٍ أية كلمةٍ ينطق بها إنسان مُعْرِض الهدف قطع الناس عن الله عزَّ وجل، أو دفع الناس إلى إيذاء النبي، أو إبعادهم عن هذه الرسالة السامية، أي أنهم يقطعون ما أمر الله به أن يوصل، كيف أن الدعاة إلى الله عزَّ وجل يقرِّبون الناس من الله، أعوان الشيطان يبعدون الناس عن الله.

 

الإنسان طاقة إما أن توظَّف هذه الطاقة في خدمة الحق وإما أن توظَّف في خدمة الباطل:


في النهاية يوجد شخصان؛ رجل يقرِّب، ورجل يُبْعِد، رجل يحبِّب، ورجل يبغِّض، رجل يدعو إلى ورجل يدعو عن، رجل يدفع ورجل يصرف، فهنيئاً لمن كان دوره في الحياة الدفْعَ، والتقريب، والتحبيب، والتوضيح، والتبيين، والإحسان؛ والويل لمن كان دوره في الحياة قطع ما أمر الله به أن يوصل، تكذيب ما ينبغي أن يُصدَّق، تسفيه ما ينبغي أن يُبَجَّل، دفع الناس إلى الدنيا وإلى المعاصي، وصرفهم عن الله عزَّ وجل، وعن آياته، وعن بيوته. 

الإنسان لا بدَّ من أن يكون فاعلاً، الإنسان طاقة، الإنسان باللغة المعاصرة ديناميكي، أي طاقة تتحرَّك، هذه الطاقة؛ طاقة فكريَّة، طاقة عضليَّة، طاقة نفسيَّة، طاقة جسميَّة، هذه الطاقة إما أن توظَّف في خدمة الحق، وإما أن توظَّف في خدمة الباطل، إما أن يكون فكرك، ووقتك، ومالك، وعضلاتك، وخبرتك، وعلمك في سبيل تقريب الناس من الله عزَّ وجل، في سبيل إسعادهم، في سبيل تنوير الطريق أمامهم، في سبيل تحبيب الناس بربِّهم، وإما أن يكون فكرك، ووقتك، وجهدك، وعضلاتك، وعلمك، وخبرتك في سبيل إبعاد الناس عن ربِّهم، وصرفهم عن طاعته، وتحبيب الدنيا لهم، فالمشكِّك، المنتقد، الساخر، المُسْتَخِف بدعوة الله عزَّ وجل الويل له لأن العاقبة للمتقين، الأمور تدور وتدور وفي النهاية العاقبة للمتقين. 

هؤلاء الذين عارضوا النبي عليه الصلاة والسلام ما مصيرهم؟ قُتِلوا في بعض المعارك، وليس قتلهم هو العقاب، ولكن مكانتهم في الوحل، كانوا مع الشيطان، هؤلاء الذين آمنوا به، وعزَّروه، ونصروه، واتبعوا الكتاب الذي أُنْزِلَ عليه أين هم؟ في حمى الرحمن، يكفيهم أن الله عزَّ وجل قال:

﴿ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)﴾

[  سورة الفتح ]

يكفي أن خالق السماوات والأرض رضي عنهم، أي هذه الآية فيها تربية نفسية حكيمة، أي: يا أيها المؤمنون؛ لا تكونوا كأصحاب موسى سخروا، وكذبوا، وفندوا، وانتقدوا، وأعرضوا، فبرأه الله مما قالوا.

 

إذا اتهمت نبياً أو عالماً أو داعيةً يجب أن تعلم أن اتهامك وحده لا يكفي:


أنت بإمكانك أن تقول عن الذهب إن حديد، هذا يمكن أن تقوله، ولكن إذا قلت هذا الكلام أيصبح الذهب حديداً؟ هنا المشكلة، بإمكانك أن تقول عن رجل عالم إنه جاهل، ولكن هذا القول هل يجعله جاهلاً؟ تبقى أنت الجاهل، يمكن أن تتهم الأمين بالخيانة، ولكن هذا الاتهام هل يجعله خائناً؟ يمكن أن تتهم حتى الأنبياء، بعض علماء النفس الذين يعدون من أركان الكفر في الدنيا – فرويد- هو الذي فَسَّرَ كل شيءٍ بالجنس، فسر كل سلوك الإنسان بالجنس، حتى الأنبياء لم ينجوا من لسانه اتهمهم بالجنسية المثلية، هم كذلك؟ لا، هذا كلام، إنها كلمة تخرج من أفواههم: 

﴿ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)﴾

[ سورة الكهف ]

إذا اتهمت نبياً، أو إذا اتهمت عالماً، أو إذا اتهمت داعيةً، يجب أن تعلم علم اليقين أن اتهامك وحده لا يكفي، هناك حقائق، كنت أقول دائماً هذه الأمثلة، أنت معك كيلو من المعدن، بذكاءٍ شديد، وقوة حجةٍ بارعة أقنعت الناس بأنه ذهب، وصدق الناس دعواك، وهو في الحقيقة ليس ذهباً إنه معدنٌ رخيص، من هو الخاسر؟ هو أنت، وإذا كان معك ذهبٌ، واتهمك الناس بأن هذا المعدن رخيص، من الرابح؟ هو أنت، فخيرك منك، وشرك منك، لا شأن للناس بك، لذلك ورد: "يا رب أي عبادك أحب إليك حتى أحبه بحبك؟ قال: أحب عبادي إليّ تقي القلب نقي اليدين، لا يمشي إلى أحدٍ بسوء، أحبني وأحبّ من أحبني وحببني إلى خلقي".

 

الناس رجلان برّ كريم وخَبّ لئيم فالمؤمن متصل بالله والكافر منقطع عنه:


إذاً الناس رجلان ؛ مُقَرِّب إلى الله ومُبَعِّد عن الله، مُحَبِّب ومُبَغِّض، مبيِّن ومضلل، محسن ومسيء، منضبط ومتفلت، على اختلاف أجناس الناس، وعلى اختلاف أعراقهم، وأنسابهم، واتجاهاتهم، ومللهم، ونحلهم، وتفكيرهم، وطبقتهم، وانتماءاتهم، بالنهاية الناس رجلان؛ بر كريم وخَبٌ لئيم، فالمؤمن يُقَرِّب، المؤمن يُحَبِّب، المؤمن يُبَيِّن، المؤمن ينضبط، المؤمن محسن، المؤمن مصلح؛ الكافر مُبَعِّد، مُبَغِّض، مُضَلِّل، مُتَفَلِّت، مسيء، مفسد، هذا هو التقسيم الحقيقي لبني البشر، متصل بالله ومنقطع عنه. 

المؤمن جهده الأكبر وهدفه الأقصى أن يقرب الناس من الله، أولاً: بدعوته، ثانياً: بقيَمِهِ، ثالثاً: بقدوته، بسلوكه، بأعماله، بأفعاله، بأقواله، بحرفته، بصنعته، كل شيءٍ في المؤمن يدعو إلى الحق، وكل شيءٍ في الكافر يدعو إلى الباطل، فهنيئاً لمن كان معواناً للخير، هنيئاً لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه، هنيئاً لمن أطلق لسانه في الحق، والويل لمن أطلق لسانه في الباطل، هنيئاً لمن قرَّب الناس من الله، والويل لمن أبعدهم عنه، هنيئاً لمن حبب الناس بالله، والويل لمن بَعَّد الله إليهم، عن طريق قسوتهم، وعن طريق جفوتهم. 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أسلوب تربوي رائع، أن إياكم أن تكونوا كأصحاب موسى، إياكم أن تكونوا في تعاملكم مع نبيكم - طبعاً القصة لها معنى- عندما تكلم بعض من عاصر النبي عليه الصلاة والسلام فقالوا: كيف يتزوج زوجة متبناه؟ هذا الحديث الذي ساقه بعض من عاصر النبي عليه الصلاة والسلام الله عزَّ وجل يرد عليهم، قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69)﴾ ، النبي له مقام، أما أن يمر النبي في الطريق فيرى باباً مفتوحاً، فينظر إلى امرأةٍ يبدو له منه جمالها، فيقول: سبحان الله متأوِّهاً، وتسمع زينب كلامه فتخبر زيداً، الأنبياء فوق هذا المستوى، فوق هذا بكثير، هذا اتهامٌ باطل، هذا جهلٌ بمقام الأنبياء، المؤمن الورع يبدو أرقى من هذا المستوى.

 

اتقاء الشبهات ومواطن التهم:


﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69)﴾ هكذا قيل: "ابتغوا الرفعة عند الله"، إذا كنت عند الله وجيهاً فلا عليك، قل مع من قال: وكل الذي فوق التراب تراب، لكن النبي علمنا أن نتَّقي الشبهات، أن نتقي مواطن التهم، علمنا كما فعل حينما رأى صحابيين أنصاريين يمشيان في الليل وقد رأيا النبي مع زوجته، فقال عليه الصلاة والسلام:

(( فعن صَفِيَّةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزُورُهُ فِي اعْتِكَافِهِ فِي الْمَسْجِدِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، فَتَحَدَّثَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً ، ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ، فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهَا يَقْلِبُهَا، حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ بَابَ الْمَسْجِدِ عِنْدَ بَابِ أُمِّ سَلَمَةَ مَرَّ رَجُلَانِ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَسَلَّمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ لَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَى رِسْلِكُمَا- أي تمهلا وقفا- إِنَّمَا هِيَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ، فَقَالَا: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ!!! وَكَبُرَ عَلَيْهِمَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ يَبْلُغُ مِنْ الْإِنْسَانِ مَبْلَغَ الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَيْئًا . ))

[ متفق عليه ]

فاستحيا وأسرعا، فقال: على رسلكما- أي انتظرا - هذه زوجتي فلانة، فقالوا: أبِكَ نشك يا رسول الله؟ قال: لئلا يدخل الشيطان بينكما، أنت كمؤمن مكلف أن تتقي الشبهات، مكلف أن تبتعد عن مواطن التهم، وبعدئذٍ لا عليك لأن الله هو الحق، وهو الذي سيظهر الحق، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا﴾ بل إن من أسماء الله الحسنى الحق، ومن معنى هذا الاسم أنه سيظهر الحق، فأي متهمٍ بريء سوف يبرِّئه الله عزَّ وجل، وأية تهمةٍ كاذبةٍ سوف يكشفها الله عزَّ وجل، وأي تطاولٍ ظالم سوف يضع الله صاحبه عند حَدِّهِ، هو الحق لأنه الحق: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا﴾ .

 

الدنيا فيها ابتلاء ولكن الأمور لا تستقر إلا على رفعة المؤمن ونصرته وتوفيقه:


الشيء الثاني؛ ﴿وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا﴾ كان عند الله ذا شرفٍ وشأنٍ عظيم، الشيء الأساسي أن هذه الآية التي لا تزيد عن كلمتين، لو عقلهما الإنسان عقلاً صحيحاً لتغيرت حياته من أساسها، الآية: 

﴿ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)﴾

[ سورة الأعراف ]

النهاية مع المؤمن، الدنيا فيها ابتلاء، وفيها امتحان، يصعد هذا ويهبط هذا، يغتني هذا ويفتقر هذا، يُعَز هذا ويُذَل هذا، هذا في الدنيا، ولكن الأمور لا تستقر إلا على رفعة المؤمن، ونصرة المؤمن، وتوفيق المؤمن، هكذا قال الله عزَّ وجل: 

﴿ وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3)﴾

[ سورة القمر  ]

 

اتهام الناس لا يقدم ولا يؤخر لأن الحقيقة هي الشيء الثابت:


ائت بكرة وليكن في داخلها قطعة رصاص ودحرجها، مهما تدحرجت لا تستقر إلا على وضعٍ واحد، أن تكون هذه القطعة الثقيلة على الأرض: ﴿وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌ﴾ لك أن تقول ما تشاء، ولك أن تدَّعي ما تشاء، ولك أن تبالغ، ولك أن تطعن، ولك أن تفنِّد، ولك أن تنتقد، ولك أن تتهم، افعل ما تشاء، لكن كل الكلام الذي تقوله لا يقدِّم ولا يؤخِّر، حقيقةٌ ثابتة، شيء بسيط جداً: مركبة، سمَّها ما شئت، هي مركبة، لها معمل صنعها، ولها شكلها، ولها أناقتها، ولها إمكاناتها، ولها ميزاتها، إذا اتهمتها بأنها مركبة قديمة تبقى جديدة، قل عنها قديمة هي جديدة، قل عنها بطيئة هي سريعة، قل عنها رخيصة هي غالية، قل عنها ما شئت، كلامك لا يقدم ولا يؤخر ولا يغير شيئاً من الواقع، قل عن هذه الورقة كتاب تبقى ورقة، فالكتاب كتاب، قل عن الكتاب ورقة يبقى الكتاب كتاباً. 

أردت من هذه الأمثلة أن أبين لكم أن اتهام الناس لا يقدم ولا يؤخر، ولا يرفع ولا يخفض، ولا يجعل الغث ثميناً ولا الثمين غثاً، ولا الصالح طالحاً ولا الطالح صالحاً، ولا المحسن مسيئاً ولا المسيء محسناً، ولا المؤمن كافراً ولا الكافر مؤمناً، كلامٌ يلقى على عواهنه، لكن الحقيقة هي الشيء الثابت، الحق الشيء الثابت.

 

المنافقون أغبياء لأن أمرهم بيد الله:


قلت اليوم بالخطبة: لو أن إنساناً عاصر النبي عليه الصلاة والسلام، واستطاع – قلت هكذا - بذكاءٍ حاد، وحجةٍ قوية، وطلاقة لسان أي ينتزع من فم النبي عليه الصلاة والسلام، وهو سيد الخلق وحبيب الحق، أن ينتزع منه حكماً في خصومةٍ لصالحه، وهو ليس مُحِقَّاً، قلت: على الرغم من أن هذا الرجل الذكي قوي الحجة، طليق اللسان، الذي استطاع أن ينتزع حكماً من فم النبي عليه الصلاة والسلام لصالحه في خصومةٍ، على الرغم من كل ذلك لا ينجو من عذاب الله! الدليل هو قول النبي عليه الصلاة والسلام قال:

(( عن أم سلمة أم المؤمنين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنَّما أنا بَشَرٌ وإنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ، إنَّما أنا بَشَرٌ وإنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ، ولَعَلَّ بَعْضَكُمْ أنْ يَكونَ ألْحَنَ بحُجَّتِهِ مِن بَعْضٍ، فأقْضِي علَى نَحْوِ ما أسْمَعُ، فمَن قَضَيْتُ له مِن حَقِّ أخِيهِ شيئًا، فلا يَأْخُذْهُ فإنَّما أقْطَعُ له قِطْعَةً مِنَ النَّارِ. ))

[ صحيح البخاري  ]

فإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام وهو سيد الخلق، وهو المعصوم، لا ينفعك أن يحكم لك إن لم تكن مصيباً، إن لم تكن مع الحق، فهل ينفعك إنسانٌ دون النبي؟! إذا كان النبي عليه الصلاة والسلام لا يستطيع أن ينفعك في ظُلامة، هل ينفعك من دونه؟! من باب أولى طبعاً لا ينفعك، علاقتك مع الله، لذلك المنافقون أغبياء، لأن أمرهم بيد الله، هم نسوا ربهم واتجهوا إلى غيره، فأحبط أعمالهم، العصاة أغبياء، من ابتغى أمراً بمعصيةٍ كان أبعد مما رجا. 


البطولة أن تثبت حجتك يوم القيامة وأن تنجو من هول ذلك اليوم:


قلت أيضاً في الخطبة اليوم: سيدنا سعد بن أبي وقاص- هذا صحابي جليل- هو الصحابي الوحيد من بين أصحاب رسول الله الذي كان إذا قدم على النبي عليه الصلاة والسلام، النبي يحييه أجمل تحية ويداعبه، يقول: هذا خالي فليرني امرؤ خاله، في السيرة النبوية الشريفة، النبي عليه الصلاة والسلام ما فدى إنساناً بأمه وأبيه إلا سيدنا سعد بن أبي وقاص، في أُحُدٍ قال: عن علي بن أبي طالب: ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم جمع أبويه لأحد إلا لسعد بن مالك، فإني سمعته يقول يوم أحد :

(( يا سعد ارم، فداك أبي وأمي. ))

[ صحيح البخاري  ]

قال له عملاق الإسلام سيدنا عمر كلمةً رائعة: "يا سعد لا يَغُرَّنَكَ أنه قد قيل خال رسول الله، فالخلق كلهم عند الله سواسية، ليس بينه وبينهم قرابةٌ إلا طاعتهم له" ، أبلغ من هذا؟! قال النبي الكريم لابنته الحبيبة إلى قلبه:

(( عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) قَالَ: (يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ - أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا - اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ ، لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ، وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا. ))

[ رواه البخاري ومسلم  ]

(( عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسام: مَن سلَك طريقًا يطلُبُ فيه عِلمًا سهَّل اللهُ له به طريقًا مِن طُرقِ الجنَّةِ ومَن أبطَأ به عمَلُه لَمْ يُسرِعْ به نسَبُه. ))

[  صحيح ابن حبان أخرجه في صحيحه ]

أي علاقتك مع الله في كسب المال، في نصح المسلمين، أقول هذه الكلمة دائماً: البطل هو الذي يهيِّئُ جواباً لله عزَّ وجل يوم القيامة، لمَ طلقت هذه المرأة؟ معك جواب؟ لمَ كتبت لك بيتها ثم طلقتها؟ لمَ غششت هذا الذي اشترى منك هذه البضاعة؟ لمَ أخفيت عنه العيب؟ هل معك جواب؟ لمَ أعطيت فلاناً؟ لمَ منعت فلاناً؟ البطولة أن تثبت حجتك يوم القيامة، البطولة أن تنجو من هول يوم القيامة، هذه البطولة، فهذه الدنيا دار ابتلاء، دار امتحان، دار عمل، ولكن الآخرة دار جزاء، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا(71)﴾

 

الدين كلمتان؛ معرفة بالله وطاعة له:


أيها الأخوة الأكارم؛ الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ﴾ هذه الآية فيها كل الدين، إذا آمنت بالله أطعه، إن آمنت به ولم تطعه فكأنك ما آمنت به، أما أن تطيعه من دون أن تؤمن به فهذا مستحيل، أن تؤمن به ثم تعصيه فهذا إدعاء، وهذا كلامٌ فارغ، وهذا في الحقيقة ليس إيماناً، فلو قال لك أحدهم- لا سمحَ الله- على كتفك عقربٌ، لو قلت له: شكراً، أنا شاكر لهذه الملاحظة القيِّمة، وسوف أكافئك عليها إن شاء الله في المستقبل، لو قلت هذا الكلام بهذا الهدوء معنى هذا أنك لم تفهم هذا الكلام الذي قاله لك، لو قلت له: شكراً على هذه الملاحظة التي ينبغي أن أقدِّرها حق قدرها، إذا قلت هذا الكلام بهذا الهدوء، لم تفهم ماذا قال لك، لو أنك عرفت ما هي العقرب، وأن لدغتها مميتة، لقفزت من على الأرض حينما سمعت كلمة عقرب، لأنك آمنت بأن الحياة صارت خطرة، فما دمت لم تأبه معنى ذلك أنك ما عرفت معنى الكلمة، أو ما عرفت العقرب ما هي، أو لم تسمع منه بدقة، فمن لوازم الإيمان الطاعة، الإيمان من دون طاعةٍ لا جدوى منه، الأصح أنه ليس إيماناً، أما الطاعة من دون إيمان هذا شيء مستحيلـ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ﴾ ، إن كنت آمنت بالله فاتقِ الله، نهاية العلم أن تؤمن بالله، التوحيد، ونهاية العمل أن تطيع الله عزَّ وجل، وما الدين كله إلا كلمتان؛ معرفة الله وطاعة له، الطاعة لا تكون قبل المعرفة، والمعرفة الحقيقية لا تثمر إلا طاعة. 

 

كل اعتقادٍ صحيح يؤدِّي إلى قول سديد:


﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا(70)﴾ من بعض معاني هذه الآية أن الإنسان إذا اعتقد اعتقاداً صحيحاً قال قولاً سديداً، فإذا نصح أحد شاباً مُقْدِماً على الزواج، أن يذيب أوقية من الملح في ماء وأن يصب هذا الماء أمام بيت المتزوج، من أجل أن يكون الوفاق بينهما، هذا الكلام غير سديد، لماذا؟ لأن الاعتقاد غير صحيح، الاعتقاد غير الصحيح يثمر كلاماً غير سديد، وإذا قال أحدهم للآخر: إن لم تغش الناس لن تستطيع أن تكسب قوت يومك، هكذا الدنيا، هذا كلامٌ غير سديد، لأنه بُنِي على اعتقادٍ غير صحيح، فإذا أُمرنا أن نقول قولاً سديداً فالقصد أن نعتقد اعتقاداً صحيحاً، لأن كل اعتقادٍ صحيح يؤدِّي إلى قول سديد، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا(70)﴾ أي أخطر شيءٍ في حياة الإنسان عقيدته، إن صحَّت صَحَّ عمله، وإن زاغت زاغ عمله، إن صحت صحّ سلوكه، وإن فسدت فسد عمله، فإذا طُلِب منك أن تقول قولاً سديداً، أي أنك مطالبٌ ضمناً أن تعتقد اعتقاداً صحيحاً حتى تقول قولاً سديداً، أيَّة نصيحة تسديها للناس إذا كان أساسها المعصية فهذا قولٌ غير سديد، أي لن ترتقي في عملك إلا إذا كذبت، هذا كلام غير سديد، أيها المحامي لن تربح أرباحاً طائلةً إلا إذا بنيت عملك على الكذب، هذا كلام غير سديد، أيها التاجر لا بدَّ من التدليس في البضاعة حتى تباع سريعاً، هذا كلام غير سديد، إذاً كل كلام غير سديد معنى غير سديد أي غير صحيح، أو غير صادق، أو غير صائب، أي لا يطابق الواقع، غير صادق، ولا يطابق الواقع أي فيه خطأ، فيه خلل، فأي كلامٍ غير سديد أساسه اعتقاد غير سديد، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70)﴾ أي اعتقدوا اعتقاداً صحيحاً، هذه واحدة. 

 

القول السديد هو عملٌ سديد ومن لوازم القول السديد العمل الصحيح:


المعنى الثاني: أنك إذا قلت قولاً سديداً، أي إن لم تكذب، ما كذبت أبداً، ولا اغتبت، ولا نممت، ولا كان كلامك فاحشاً، ولا بذيئاً، ولا فيه سبابٌ، ولا فسوق، ولا عصيانٌ، ولا فيه تحقيرٌ، قال عليه الصلاة والسلام:

(( عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يكذبه، ولا يحقره، التقوى هاهنا - ويشير إلى صدره ثلاث مرات- بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه  . ))

[  صحيح مسلم ]

إذا قلت قولاً سديداً بشكلٍ طبيعي صار عملك صحيحاً، من لوازم القول السديد العمل الصحيح. 

صار عندنا أشياء ثلاث: عقيدة صحيحة تفرز قولاً سديداً، والقول السديد يفرز عملاً صالحاً، إذا إنسان ضبط لسانه يصبح عمله جيداً، لو فرضنا عمل بالتجارة، وقال له شخص ما: هذه البضاعة من أين مَنْشَؤها؟ ما دام عاهد نفسه ألا يكذب تكلم كلاماً صحيحاً، وباعها بسعرٍ معقول، وأظهر عيبها، إذاً هذا القول السديد صار عملاً سديداً، لأن الأقوال أعمال، لم يكذب، ولم يدلس، ولا أخفى، في موطن الكلام تكلم، في موطن السكوت سكت، هو في جلسة وجاءت قصة زيد، سكت، يعرف عنه قصصاً ممتعةً جداً، لو تكلم بها لوقع في الغيبة، إذاً سكت، أو تكلم، نصح، إذاً هذا القول السديد هو في الحقيقة عملٌ سديد، من هو التاجر؟ هكذا قيل: "إن أطيب الكسب كسب التجار الذين إذا حدثوا لم يكذبوا- صار الكلام عملاً- إذا حدثوا لم يكذبوا، وإذا ائتمنوا لم يخونوا، وإذا وعدوا لم يخلفوا- الوعد أيضاً كلام- وإذا اشتروا لم يذموا- أيضاً كلام - وإذا باعوا لم يطروا" كلام، تقريباً الصفات السبعة صفات كلامية، قيل: "التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء" .

 

الإيمان من لوازمه العمل أما العمل من دون إيمان فلا يكون:


﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾ اعتقادٌ صحيح يؤدِّي إلى قولٍ سديد، والقول السديد من لوازمه عملٌ رشيد، اعتقادٌ صحيح، قولٌ سديد، عملٌ رشيد، والإيمان من لوازمه العمل، أما العمل من دون إيمان فلا يكون، الإيمان بلا عمل جنون، والعمل من دون إيمان لا يكون، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70)﴾ آمنت بالله ماذا تنتظر؟ لمَ لا تطيعه؟ أنت ثقافتك عالية، أيقنت أن هذه الرائحة رائحة غاز الاحتراق في البيت؟ نعم، وأيقنت أن هذا الغاز قابل للانفجار؟ نعم، وأيقنت أنه في كل لحظة يمكن أن ينفجر البيت؟ نعم، فلماذا أنت واقف؟ لمَ لا تذهب وتغلق هذا الصنبور؟ لمَ؟ لأن هذا الشيء لا يعقل، إذا آمنت بأن هذا الغاز منفجر، وربما أحرق البيت كله، والرائحة ثابتة، وأنت متحرِّك، لماذا أنت واقف؟ فعلاً هذا سؤال كبير جداً، هل تعلم أن غض البصر أمر إلهي؟ نعم، كيف تطلق بصرك؟ إذا قلت أنا: هل هذا الكلام كلام الله؟ كلام الله، عندك شك؟ لا، أعندك شكٌ أن هذا القرآن ليس كلام الله؟ لا، والحمد لله، لكنه يأمرك أن تفعل هكذا، أعندك شك أن هذا القرآن ليس كلام الله؟ لا وأعوذ بالله، هو يأمرك ألا تأكل أموال الناس بالباطل، هناك سؤال خطير جداً، سؤال محرج: ما دمت قد آمنت بالله لماذا أنت واقف؟ أين حركتك؟ أين مبادرتك إلى طاعة الله؟ أين هروبك من المعصية؟ أين المَنْهَل الذي تشرب منه؟ آمنت أن العلم هو كل شيء؟ آمنت أن العلم هو الطريق الوحيدة إلى الله عزَّ وجل؟ آمنت أن رتبة العلم أعلى الرتب؟ نعم، آمنت أن أعلى كتابٍ في الكون هو كتاب الله عز وجل؟ نعم، فلماذا لا تسعى إلى فهمه؟ لماذا؟ ما الذي يمنعك عن أن تفهم كلام الله؟ موعد؟ ما هذا الموعد؟ لقاء؟ ضيف؟ استقبال شخص؟ ألا ترى أن أي نشاطٍ تفعله وقت مجلس العلم نشاطٌ تافه؟! تافه جداً، استقبلت إنساناً، يقول لك: والله يوجد مطر الحمد لله، الأسعار عندكم؟ الأمطار؟ هذا الكلام؟ أحياناً تمضي وقتاً بموضوعٍ سخيفٍ جداً، وتضيِّع عليك شيئاً ثميناً جداً وهو معرفة كلام الله عزَّ وجل، منهجك في الحياة. 

 

مفهوم اللهو كما فسره العلماء:


لذلك ما هو اللهو كما فسره العلماء؟ أن تشتغل بالخسيس عن النفيس، إنسان غاص في البحر، وتعرض لأخطار أسماك القرش، وأخطار الاختناق، وأخطار تعطل غاز الأوكسجين، وأخطار الجزر المرجانية، وأخطار بعض الأفاعي في البحار، وغير ذلك من الأخطار، ووصل إلى قاع البحر، فرأى اللؤلؤ ورأى الصدف، ترك اللؤلؤ وحمل الصدف وصعد به إلى وجه الماء! نقول: هذا يلهو، لأنه ترك النفيس واشتغل بالخسيس، وشأن الناس الآن أكثرهم هكذا، يَدَعون مجالس العلم، يَدَعون فهم كلام الله، يَدَعون فهم سنة رسول الله، يَدَعون عبادة الله، يدَعون الأعمال الصالحة التي ترفعهم عند الله، وهم غارقون إلى قمة رأسهم في الأشياء الخسيسة، التي عند الموت لا تقدم ولا تؤخر، ولا تعطيهم شيئاً:

﴿ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56)﴾

[  سورة الزمر  ]

فلذلك: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾ .

 

العلم بالله هو الطريق الوحيدة إلى الله وهو طريق سعادة الدنيا والآخرة:


ملخص الملخص: أنك مخلوقٌ للجنة، ففيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، خُلِقْتَ لها، والجنة كما قال الله عزَّ وجل:

﴿ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)﴾

[ سورة النحل ]

تحتاج إلى عمل صالح، والعمل الصالح لا يمكن أن يكون من دون علم- أنا أسلسل الأمور- أنت مخلوقٌ للجنة، والجنة ثمنها العمل الصالح، والعمل الصالح من غير علمٍ لا يكون، ألا ترى معي أن العلم بالله هو الطريق الوحيدة إلى الله، طريق سعادة الدنيا والآخرة، هذا الذي قاله الإمام الشافعي رضي الله عنه قال: "إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم"

أحياناً شركة تطور صناعتها، تنفق على التطوير مئات الألوف، بل ألوف الملايين، من أجل تطوير صناعة، فإذا نجحت بِيع إنتاجها في العالم كله، وقف الناس بانتظار أن يتاح لهم شراء هذه البضاعة، وتصبح شركةً تبيع في كل أقطار العالم بفضل التطوير العلمي لإنتاجها، وأما الصناعة التي بعيدة عن التفكير العلمي في التطوير فتبقى كاسدة، فكلام الإمام الشافعي صحيح: "إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم" ، حتى بمجال كسب المال الذي يفكر بطريقةٍ علمية يحقق أهدافه كلها، والذي يفكر بطريقةٍ أساسها الجَهل، قد يفاجأ، قد يحبط عمله، فإذا أردت الدنيا فعليك بالعلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم. أنا ألح على هذه الفكرة لأن هذا يقيني؛ أنك لن تصل إلى الله إلا بالعلم، أي هذا الذي يجعل خرق العادات هو الوسيلة الوحيدة بتعريف الناس بالله، هذا إنسان ضال مضل، ماذا يجدي الناس؟ أن تقوم بأعمال أمامهم غير اعتيادية، ماذا يجديهم أو ينفعهم؟ أن تخرق العادات، لهم أمراض، لهم أسئلة كثيرة جداً، لهم مشكلات، لهم شُبُهَات، يجب أن تجيب أسئلتهم، وأن تحل مشكلاتهم، وأن توضح الشبهات حتى ترقى بهم إلى الله عزَّ وجل، فلذلك لابدَّ من العلم، والعلم له مكان، لا يوجد إنسان أخذ دكتوراه في الطب وهو في بيته، مستحيل، إنسان يصل لأهدافه وهو جالسٌ في بيته، هذا من رابع المستحيلات، فالله سبحانه وتعالى أراد أن تكون صلاة الجمعة فريضةً، لماذا؟ من أجل العلم.

 

كلما زادت الشبهات والشهوات احتجنا إلى علمٍ صحيح وقدرةٍ على ردِها:


في هذا الدين العظيم فريضةٌ نص عليها القرآن الكريم:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9)﴾

[ سورة الجمعة ]

ماذا في صلاة الجمعة؟ ماذا تزيد صلاة الجمعة على صلاة الظهر في المسجد؟ الخُطبة، معناها أراد الله عزَّ وجل أن تطلب العلم، يوجد في الخطبة آية، حديث، حكم فقهي، تذكرة بالآخرة، قصة عن أصحاب رسول الله، هكذا، وكلما زادت الشبهات والشهوات أصبحت بحاجةٍ ماسةٍ إلى علمٍ صحيح، وإلى عقيدةٍ راسخة، وإلى فهمٍ دقيق، وإلى إدراكٍ عميق، وإلى قدرةٍ على ردّ كل الشبهات: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ كل بني آدم خَطَّاء، لكن العبد - قلت لكم دائماً - عندما يكون الإنسان مؤمناً بالله عزَّ وجل، مؤمناً بضعفه، يعرف حجمه، يذعن لله عزَّ وجل في كل ما أمر، هذا الإنسان قد تزل قدمه أحياناً، قد يقع في خطأ غير مقصود، ما دام قد آمن بالله، واعترف بعبوديته له، وما دام في الحياة، فطريق التوبة وطريق غفران الذنب طريقٌ واضح، فلذلك هذا تطمين، النبي عليه الصلاة والسلام هو المعصوم، ولكن المؤمن لو أنه أخطأ، لو أنه قَصَّرَ، لو أنه أساء عن غير قصدٍ منه، فإن باب التوبة مفتوح، باب الإصلاح مفتوح. 

 

من كانت مقاييسه منطبقةً مع كلام الله عزَّ وجل فسوف يفوز فوزاً عظيماً:


﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)﴾ ..

أيها الأخوة الأكارم؛ بربِّكم من تراه أنت في أعماقِك من دون رقابة؟ من تراه فاز فوزاً عظيماً؟ قل لي من هو الفائز عندك أقل لك من أنت؟ إنسان اشترى أرضاً، باعها بخمسين ضعفاً، هل تقول هنيئاً له؟ إنسان اشترى بيتاً، ارتفع سعره ثلاثين ضعفاً؟ خمسين ضعفاً؟ إنسان حقق بتجارته أرباحاً مذهلة؟ إنسان اقترن بامرأةٍ تروق له؟ إنسان اقتنى أجمل التحف؟ من هو الفائز؟ قل لي من هو الفائز في نظرك أقل لك من أنت، أما إذا كانت مقاييسك منطبقةً مع كلام الله عزَّ وجل: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)﴾ قد تكون أنت وصديق لك في مقعد دراسة واحد، أن تكونا صغيرين على مقعدٍ واحد، وأنت عرفت الله، وأطعته، وأنت في طريق مرضاته؛ لكن دخلك قليلٌ قليل، وحياتك خشنة، وبيتك صغير، وهذا الصديق الذي كان إلى جانبك على مقعدٍ واحد صار يتكلم بألوف الملايين، وله من البيوت أجملها، ومن المركبات أكثرها حداثةً، وأغلاها ثمناً، وله من المزارع أجملُها، إذا قلت مرةً: هنيئاً له، لقد أعطاه الله وحرمني، فأنت لا تعرف الله أبداً، وأنت لست في مستوى هذه الآية. 

 

إن لم تكن رؤيتك للفوز العظيم كما يقول الله عزَّ وجل فلست مؤمناً:


خالق الكون يقول لك: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)﴾ أنت ماذا ترى الفوز؟ في كسب الدرهم والدينار؟ في اقتناء البيوت الفخمة؟ في ركوب السيارات الفارهة؟ في إنفاق الأموال الطائلة؟ في المظاهر الفخمة؟ في تجارةٍ عريضة؟ في منصبٍ حساس؟ في مركزٍ رفيع؟ ماذا ترى أنت الفوز العظيم؟ إن لم تكن رؤيتك للفوز العظيم كما يقول الله عزَّ وجل فلست مؤمناً، هذا الذي له دخلٌ قليل قليل، وبيتٌ صغيرٌ صغير، وحياةٌ خشنةٌ حشنة، لكنه مطيعٌ لله عزَّ وجل، يعرف لماذا خلق وإلى أين المصير؟ هذا الذي يرى صديقه الذي كان إلى جانبه على مقعد واحد، قد صار يتحدث بالملايين، بمئات الملايين، وله من الدنيا العريضة ما شاء، إن قال هذا الأول هنيئاً للثاني فهو لا يعرف الله، يجب أن يقول: هنيئاً لي بمعرفة الله، وأرجو الله له الهدى، هكذا، هنيئاً لك بمعرفة الله، هنيئاً لك بطاعته، هنيئاً لك بمرضاته، هنيئاً لك بإنفاق زكاة مالك، هنيئاً لك بخدمة الناس، هنيئاً لك بفهم كلام الله، هنيئاً لك بذكر الله.

 

الفرق بين كلام أهل الدنيا وكلام أهل العلم:


﴿ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79)﴾

[ سورة القصص ]

أحياناً الشخص يتأوَّه تأوُّهاً تحس أنه انزعج بشدة، يقول لك: بيته أربعمئة متر، وهو عنده غرفة ونصف، سيارته ثمنها اثنا عشر مليوناً، خير إن شاء الله: ﴿يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ(79)﴾ هذا كلام أهل الدنيا: 

﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80)﴾

[  سورة القصص ]

هذا الجواب، فلذلك: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)﴾ والحمد لله رب العالمين، كنت أظن أن هذا الدرس هو الأخير من سورة الأحزاب، لكن من فضل الله عزَّ وجل شُرِحَت هذه الآيات بالتفصيل. 

 

الآيات التالية هي آيات التكليف والأمانة:


بقي علينا قوله تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)﴾ هذه الآيات مهمة جداً، وهي آيات التكليف والأمانة، وأرجو الله سبحانه وتعالى في الدرس القادم أن يوفِّقنا إلى شرحها شرحاً دقيقاً لأنها أصل التكليف، أنت إنسان مكلَّف، أنت المخلوق الأول، أنت المخلوق المكرَّم، أنت الذي سُخِر له ما في السماوات والأرض، يجب أن تعرف ذاتك، يجب أن تعرف من أنت؟ لأنه من عرف نفسه عرف ربه، يجب أن تعرف المهمة التي من أجلها خُلِقت، يجب أن تعرف الرسالة التي حملت، يجب أن تعرف الدار التي أنت عليها مُقبل، يجب أن تعرف الحساب الذي أنت سوف تحاسب به، فهذه أسئلة خطيرة جداً، فأنت الإنسان الأول والمكرم الذي خُلِق الكون من أجلك، قال تعالى: 

﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)﴾

[ سورة الجاثية ]

في الدرس القادم إن شاء الله نشرح هذه الآيات.

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور