وضع داكن
20-04-2024
Logo
الدرس : 2 - سورة يس - تفسير االآيات 13-32، من وجد توجيهاً بشرياً يتناقض مع توجيه إلهي فلا يعبأ بكلام البشر
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين. 

 

من لم يتبِّع رسالة الرسل تعمى بصيرته ويُحجب عن سعادة الدنيا والآخرة:


أيها الأخوة الأكارم؛ مع الدرس الثاني من سورة يس.

في الدرس الماضي وصلنا إلى قوله تعالى: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13)﴾ أيها الأخوة؛ في القرآن الكريم ترابط، تسلسل، كل آية تُفضي إلى أختها، آيات السورة الواحدة يأخذ بعضها برقاب بعض، ومن قدَّر الله له أن يفهم السورة الواحدة كوحدة مترابطة متسلسلة فهذا من نعم الله عليه.

في الدرس الماضي بينت لكم أن الله سبحانه وتعالى أرسل الأنبياء أو أرسل المرسلين ومعهم الحق ومعهم الكتاب، لينذروا قوماً كالذي أُنذِر آباؤهم من قبل. 

وبيّنت لكم أيضاً أن الذي يرفض رسالة الرسل يُقَيَّدُ بقيدٍ، إمَّا أن تؤمن بالحق، وإما أن تتبع الهوى، ليس هناك حالة بين حالتين، إما أن تكون مع الحق أو مع الباطل، مع العقل أو مع الشهوة، مع الآخرة أو مع الدنيا، فإن لم تكن مع الآخرة فأنت مع الدنيا، إن لم تكن مع الحق فأنت مع الباطل، إن لم تكن مع العقل فإنك مع الشهوة. فالإنسان حينما يرفض رسالة الرسل، تستحكم الشهوة في نفسه، ومن تستحكم الشهوة في نفسه يصبح مغلول اليدين، أعمى البصيرة، سَدٌّ أمامه وسَدٌّ من خلفه، محجوب عن سعادة الدنيا، ومحجوب عن سعادة الآخرة، لا يرى الحقائق، مغلولة يداه، محجوب عن سعادة الدنيا، وعن سعادة الآخرة هذا وضع مَنْ يرفض رسالة الرسل، أما الآيات الآن تتكلم عن مثل، أي هذه الرسالة إن اتبعتها: ﴿إِنَّمَا تُنذِرُ مَنْ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ(11)﴾ وإن لم يتبِّع الإنسان هذه الرسالة، تعمى بصيرته، وتُقيد يداه، ويصبح محجوباً عن سعادة الدنيا وعن سعادة الآخرة. 

 

الإنسان إما أن يفهم بالأفكار أو أن يفهم بالحوادث:


بعد أن بيّن الله لنا نتائج مَنْ يَقْبَل رسالات الله ومن يرفضها، الآن ضرب لنا أمثلة واقعية، ربنا عز وجل يقول: يا محمد: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ﴾ من هم ؟ كفار قريش الذين بُعِثَ النبي إليهم، ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ﴾ فالإنسان أحياناً إما أن يفهم بالأفكار، وإما أن يفهم بالحوادث، مثلاً هناك من يقرأ مقالات عديدة عن مضار التدخين وهو يدخن إلى أن يرى قريباً له أُصِيب بسرطان في رئتيه، أو بجلطة في دمه، أو بأزمة صحية ضارية، عندئذ يرعوي، فالإنسان كلما كان أكثر عقلا، وأكثر ذكاءً، يتعظ بالفكر فقط، قد تقرأ مقالة عن مضار شيء، هذه المقالة تكفي أن تتعظ بها، وأن تدع هذا الشيء، لكن هناك أناس أقل مستوى من هؤلاء لا يتعظون إلا بالوقائع، إلى أن يمر بتجربة مريرة، إلى أن يمر بخبرة مؤلمة، إلى أن يدفع الثمن باهظاً، عندئذ يقول: والله حق، والله إنّ الربا محرم وإن الله يُدمر المرابي، الإنسان العاقل يخاف بفكره، وكلما نقص عقله خاف بعينيه، أقل درجات الإنسان عقلاً مَنْ يخاف بعينيه وأعظمها رفعة من يخاف بفكره. 

 

العاقل من وقف عند الآيات الكريمة دون محاولة البحث عن شيء أغفله الله:


ربنا عز وجل بيّن هذه الرسالات، وبَيَّنَ بشكل نظري مصيرَ مَنْ يرفضها، مِنْ غِلّ في يديه، وعمىً في بصيرته، وحَجْبٍ عن سعادة الدنيا وعن سعادة الآخرة، ومن لم يفهم بشكل نظري... من لا يفهم إلا بالتطبيق العملي إليكم هذه القصة: ربنا عز وجل قال: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ﴾ الآن هناك سؤال؟ أية قرية هذه؟ من هم أصحاب القرية؟ من هم القوم الذين كانوا أصحاب هذه القرية؟ لِمَ لَمْ يذكر ربنا جلّ جلاله اسم هذه القرية؟ لِمَ لَمْ يذكر موقعها؟ لِمَ لَمْ يذكر أصحابها؟ هنا السؤال. 

قال بعضهم: إذا أبهم القرآن شيئاً فلا تبحث عن تعريفه، إذا أغفل الله اسم القرية إياك أن تبحث عن اسمها، لأن لله حكمة بالغة من إغفال اسم أهل القرية، لأنه لو ذكر اسم القرية، وموقعها، وزمانها، ومكانها، واسم أصحابها، أعطاك التفاصيل، ما الذي يحدث؟ تظن أن هذه قصة وقعت مرة واحدة، أما حينما يُغْفل الله اسم القرية، واسم أصحابها، والتاريخ، والزمان، والمكان، والتفاصيل، أراد أن يجعلها نموذجاً متكرراً، إذا أنت بحثت عن اسم القرية، وعن اسم أصحابها، وعن زمانها، وعن مكانها، كأنك تُفْسد على الله حكمته، قِفْ عند الآيات الكريمة ولا تحاول أن تبحث عن شيء أغفله الله، لماذا؟ لأنك يمكن أن تأخذ الموعظة البالغة من الآيات من دون أن تعرف اسم القرية، هذا الموضوع أنا مرة عبّرت عنه بِمَثَلٍ: أستاذ في الجامعة في كلية التجارة، أراد أن يبين لطلابه عوامل نجاح التجارة، فقال: لي صديق اشترى محلاً في موقع مزدحم، أول بند الازدحام، قيل: "ابتغوا الرزق عند تزاحم الأقدام" ، وجعل البضاعة أساسية في حياة الإنسان، وانتقاها من أجود نوع، وكان سعره معتدلاً، وعاملَ الزبائن معاملة لطيفة، فربح أرباحاً جيدة، واشترى بيتاً، وتزوج، وعاش حياة، أي أراد أستاذ الجامعة أن يبيّن لطلابه عوامل نجاح التجارة، الموقع، نوع البضاعة، مستوى البضاعة، السعر، المعاملة الطيبة، وأنه ما باع دَيْنَاً. فقال له طالب: هذا القريب يا أستاذ ما اسمه؟ وهذا القريب ما لونه؟ أبيض أم أسمر؟ طويل أم قصير؟ هذه التفاصيل لا علاقة لها بمغزى القصة، الأستاذ أراد من هذه القصة أن يعطي الطلاب عوامل نجاح التجارة، فجاء الطالب ووجه الأستاذ أو سأل الأستاذ عن اسم هذا التاجر، وعن عِرْقِهِ، وعن لونه، وعن صفاته، وعن بيته، وكل هذه التفاصيل لا علاقة لها إطلاقاً بمغرى القصة. 

 

الأدب مع الله عز وجل:


ترى الإنسان يجهد في البحث، أية قرية هذه؟ قالوا: أنطاكية، من هم أصحاب القرية؟ قوم فلان، من هم المرسلون؟ قال: فلان وفلان وقيل كذا وقيل كذا، دخلت في متاهة طويلة لا نهاية لها وأنت في غنى عنها، لأن الله أغفلها، وكان من الممكن أن يذكرها، ألم يقل في آيات أخرى:

﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)﴾

[ سورة الفيل  ]

﴿ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10)﴾

[ سورة الفجر  ]

يوجد آيات أخرى ذكر الاسم، إذاً الأدب مع الله عز وجل أن الله جلّ جلاله إذا أغفل تفاصيل، جزئيات، أسماء أماكن، أزمنة، فيجب أن تتجه لا إلى هذه التفاصيل، بل إلى المغزى الكامن وراء هذه القصة. 

في هذه القصة مغزى عظيم، ودلالات كبيرة جداً، يمكن أن تضع يدك عليها من دون أن تفهم التفاصيل التي لو ذُكِرت لانقلبت القصة من قانون إلى حدث تاريخي وقع ولن يقع مرة ثانية، الله عز وجل لا يريد أن يقول لكم: هذه قصة تاريخية وقعت ولن تقع... لو قلت لكم: إن فلاناً ابن فلان أمه فلانة، بيته في المكان الفلاني، طوله كذا، لونه كذا، فعل كذا وكذا، فلقي النتائج التالية هذه التفاصيل لو بالغت في ذكرها لغفلنا عن الحكمة، أما أي طالب يدرس ينجح، قانون! 

 

من أعرض عن رسالات الأنبياء فله جهنم وبئس المصير:


لذلك ربنا عز وجل إذا ذكر لنا أحداثاً، وقصصاً، وأشخاصاً، وأقواماً، القصد المغزى، الحقيقة، القصد أن تنقلب هذه القصة إلى نموذج متكرر، إلى سنة من سنن الله عز وجل، إلى قاعدة، إذاً إذا أغفل الله شيئاً لا تبحث عنه، إذا سكت الله عن شيء فاسكت عنه، وابحث عن المغزى الذي أراده الله عز وجل، هذا الذي يدعوني إلى أن أُعْرِضَ قصداً عما قيل في كل التفاسير عن من هم أصحاب هذه القرية؟ هل هي أنطاكية، وما الدليل؟ بعض روايات بني إسرائيل، وما الدليل؟ هناك دليل ضعيف ودليل قوي، من هم المرسلون؟ ما أسماؤهم؟ من أرسلهم؟  هم رسل من عند عيسى ابن مريم يا ترى؟ كل هذه متاهات نحن في غنى عنها.

﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13)﴾ هنا ﴿إِنَّكَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ﴾ يا محمد ﴿عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(4)تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ(5)لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ(6)﴾ حينما أعرضوا عن هذه الرسالات انطبقت عليهم القوانين: ﴿لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ(7)إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ(8)وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ(9)﴾ هذا كلام نظري وأما التطبيق العملي: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ(13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا﴾ .

 

سبب تكذيب الكفار للأنبياء:


هنا سؤال: لماذا يكذب الكفار عادة الأنبياء؟ الأنبياء جاؤوا بمنهج، والمنهج: افعل ولا تفعل، المنهج فيه أمر وفيه نهي، وغالباً النواهي تحُدُّ من شهوات الكفار، لذلك الإنسان إذا أقام على شهواته واتبع أهواء نفسه أغلب الظن أنه يرفض الهدى، والدليل:

﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)﴾

[ سورة القصص ]

المرابي الذي يُصِرّ على أكل الربا، لن يقنع معك بأن الربا حرام، يحاور، ويناقش، ويماري، ويخادع، ويختل، والذي يقيم على معصية من نوع آخر لن يقنع معك، فلذلك لماذا رفض الكفار دعوة الأنبياء؟ لأنهم مقيمون على المعاصي، متبعون للشهوات. ومنهج الأنبياء يَحُدّ من شهواتهم، ويوقفهم عند حدهم، وكيف يتوازنون مع أنفسهم؟ لو جاء النبي بمنهج والكافر رأى هذا المنهج يَحُد من شهواته، فإذا أقرّ به وقع في مشكلة مع نفسه، ماذا ينبغي أن يقول لك؟ أيها النبي إنك كاذب. إذاً: الكافر حتى ينسجم مع نفسه يُكَذب دعوة الأنبياء، منهج الأنبياء يحد من شهواته، ولأنه مُصِر على شهواته يرى من السهولة بمكان أن يكذب الأنبياء. 

إذاً هؤلاء أصحاب القرية شأنهم شأن كل الكفار الذين تشبثوا بالدنيا، واستحكمت فيهم الشهوات، وأصروا عليها، فأعمت أبصارهم، فكذبوا الأنبياء، واتهموهم بالكذب.

 

التعزيز أسلوب من أساليب الله عز وجل ليعود الإنسان إلى الطريق الصحيح:


﴿إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ﴾ انظر التعزيز، هو من أسلوب ربنا عز وجل، يجعل صديقاً لك يذكرك بالحق، هذا أول تنبيه، ما استجبت، يرسل لك مشكلة، المشكلة تعزيز، تقرأ القرآن، يقول لك ربنا في القرآن:

﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)﴾

[  سورة طه  ]

هذا كلام رب العالمين، تُعْرض عن ذكر الله تلقى الحياة الصعبة، تلقى المعيشة الضنك، فالمعيشة الضنك تعزيز للآية الكريمة، تغض بصرك عن محارم الله تشعر بسعادة في بيتك، هذه السعادة تعزيز للآية الكريمة، تكسب مالاً حراماً فيتلف الله مالك كله، إتلاف المال تعزيز لقول الله عز وجل، إذاً دائماً أنت مع قرآن والأحداث كلها تعززه، معنى تعززه أي تؤكده:

﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)﴾

[ سورة هود ]

تستمع إلى قرية دمرها الله بزلزال أو بحرب أهلية، أو تجد أن فيها الزنى، واللِواط، والخمر، والمخدرات، والدعارة، كأن الأحداث تُعَزز القرآن الكريم، ربنا عز وجل يستخدم دائماً أسلوب التعزيز، لكن ربنا رحيم، يبدأ معك بالموعظة النظرية، يُلْهم أحداً أن يعظك، تستمع إلى خطبة، تجلس في مجلس علم، كلام نظري طيب لطيف، إن لم تستجب يوجد تعزيز، هناك مشكلة، إن لم تستجب يُرْفع مستوى المشكلة، هذا العذاب الصعد، من هو السعيد إذاً؟ من استجاب لله عز وجل استجابة طوعية من دون تعزيز، التعزيز؛ الطبيب أحياناً يعطيك عيار خمسين، لم يؤثر، يقول لك: ارفعه للمئة، ما أثَّر يرفعه للمئتين، خمسمئة، ألف، كلما رأى الطبيب أن هذا الدواء لا أثر له في الشفاء يرفع مستوى الفاعلية، هذا هو التعزيز، فربنا عز وجل قال:﴿إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِث﴾ كلما ساق الله عز وجل لك دعوة أو أسلوباً ولم تستفد منه، رفع الله عز وجل المستوى. 

 

المؤمن سريع الفهم والإنسان كلما ارتقى يفهم على الله بأدنى إشارة:


لذلك الإنسان كلما ارتقى يفهم على الله بأدنى إشارة، وإذا كان حسه تلبد، لم يعد يفهم إلا بمرض خبيث، لم يعد يفهم إلا بمرض عضال، لم يعد يفهم إلا بإهانة شديدة، لم يعد يفهم إلا بإفلاس كامل، تجد المؤمن سريع الفهم، يرى أن الأمور تغيرت، من الذي غيرها؟ الله عز وجل:

﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)﴾

[ سورة الرعد ]

أنا أكاد أقول: كلما رأيت أخاً كريماً بدأ يفهم على الله، هذه من أجل هذه، أقول له: والله فرحت لك، وهنيئاً لك فَهْمك على الله، لقد قطعت أربعة أخماس الهدى، حينما تفهم كل شيء يسوقه الله لك، حينما تُفسِّر الأشياء تفسيراً إلهياً لا دنيوياً، فهذا من نعم الله عليك. 

إذاً دائماً الله يُعَزز، أول شيء يدعوك دعوة لطيفة من خلال صديق، من خلال أخ، من خلال أستاذ، من خلال مدرس، من خلال خطيب مسجد، من خلال مقالة تقرؤها، يدعوك إليه دعوة لطيفة، دعوة نظرية، فإن لم تستجب هناك تعزيز، هناك تضييق، شبح مصيبة، ليست مصيبة، فإن لم تستجب مصيبة حقيقية، فإن لم تستجب مصيبة أعلى، لن يدعك الله وشأنك لأنه يحبك، ولأنه يريدك، ولأنه يطلبك، ولأنه خلقك ليسعدك، فأنت مطلوب، بعض الأقوال المأثورة: "يا داود لو يعلم المعرضون حبي لهم، وانتظاري إليهم، وشوقي إلى ترك معاصيهم، لتقطعت أوصالهم من حبي، ولماتوا شوقاً إليّ، يا داود هذه إرادتي في المعرضين فكيف إرادتي في المقبلين؟" . مع المعرض هكذا. 

 

مَنْ لم تحدث المصيبة في نفسه موعظة فمصيبته في نفسه أكبر:


إذاً: ﴿إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ﴾ أردت أن أنطلق من كلمة فعززنا إلى أسلوب التعزيز الذي يستخدمه الله عز وجل مع عباده، فأنت كلما جاءتك دعوة لطيفة: أحياناً ترى مناماً، إذا كنت موفقاً جداً، وحساساً جداً، وعلى مستوى عال من الإدراك، يكفيك منام تحذيري، أحياناً كلمة، أحياناً انقباض، هذا الطريق فيه انقباض لا يحبه الله، هذه النزهة لا ترضي الله، يقول لك: متضايق، هذه السهرة لا ترضي الله، هذه الشركة لا ترضي الله، هذه الصفقة لا ترضي الله، هذا الدخول لهذا البيت لا يرضي الله، اللقاء مع فلان لا يرضي الله، الانقباض إشارة من الله عز وجل، فإذا الإنسان فَهِم على الله عز وجل نعمة كبيرة، أحياناً رؤيا، أحياناً انقباض، أحياناً كلام واضح، صديقك ينصحك يا أخي أنت أخ مؤمن، وهذا الذي أنت فيه لا يرضي الله، احذر...مادمت أنت على مستوى أن تستجيب لنصيحة، أو لدعوة، أو لآية كريمة، أو لحديث شريف، أو لمنام حقيقي تراه، وتفهمه على الله تماماً، هذه نعمة، أو بانقباض، أما الذي لا يفهم إلا بالمشكلة الكبيرة، والضيق الشديد، والتضييق، فهذا حسه متلبد. 

أيها الأخوة؛ اسمعوا هذه الكلمة: مَنْ لم تحدث المصيبة في نفسه موعظة فمصيبته في نفسه أكبر، هذا الذي تأتيه المصيبة من الرحمن الرحيم لتلفت نظره، لتدفعه، لتقربه، لتجعله يتوب، لتحمله على طاعة الله، لتجعله يزداد من الله قرباً وحباً، فلا يستفيد منها هو المصيبة، نفسه هي المصيبة.

 

النبي الكريم سيد البشر تجري عليه كل خصائص البشر:


﴿إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ﴾ فقالوا جميعاً ﴿إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا (15)﴾ أي إذا كان النبي بشراً، يأكل كالبشر، ويجوع، ويشبع، ويعطش، ويرتوي، ويتعب، ويعرق، ويُحِس بالحر، ويُحِس بالبرد، ويأوي إلى الظل، ويتزوج، إذا كان الرسول تجري عليه كل خصائص البشر، هذا مما يُنْقِص قدره؟ بالعكس هذا الذي يعلي قدره، لأن الذي لا يخاف لا يسمى شجاعاً، لو وضعنا في ساحة معركة قطعة خشب، تبقى واقفة لا تخاف، ليس فيها إدراك، قطعة خشب، هل لها فضل هذه القطعة؟ أما الإنسان لأنه يخاف ويبقى ثابتاً ويُقبل على العدو فيسمى شجاعاً، لولا أنك تخاف لما كنت شجاعاً، ولولا أنك تجوع لما صرت صائماً وصابراً، فالنبي الكريم لو لم يكن من البشر، ولو لم تجري عليه كل خصائص البشر لما كان بهذه العظمة، لأنه لو أن الله عز وجل أرسل مَلَكاً مكانه، وقال المَلَكُ يا أيها الناس غضوا أبصاركم وأنا أغض بصري، الجواب أنت مَلَك ولست بشراً، أنت لا تحس بما نحس، أنت لا تشتهي ما نشتهي، أنت غير واقعي، لا يستطيع نبي أن يقنع الناس بأحقية الحق إلا إذا كان من بني البشر. 

 

للنبي الكريم مهمتان:


لذلك النبي له مهمتان؛ المهمة الأولى مهمة إبلاغية، وهذه مهمة إذا قيست بالمهمة الأخرى فهي ضئيلة، والمهمة الكبرى مهمة القدوة والأسوة، أي أنت أيها الإنسان مهما كان الكلام دقيقاً، وبليغاً، ومنمقاً، وواقعياً، ومعه أدلة وبراهين، وعميق، ومعه تحليل، إن لم تجده مطبقاً بالحياة فلا قيمة له، يقول لك كلام بكلام، لكن إذا رأيت إنساناً يضحي فعلاً، إن رأيت إنساناً وقافاً عند كلام الله، يُنفذ وعده، وقد كلفه ذلك ثمناً باهظاً، إن رأيت منصفاً، إن رأيت من يقول الحق ولو كان مراً، عندئذ تخشع، لا يستطيع أحد أن يُلْفتك إليه إلا بأعماله لا بأقواله، لذلك الأنبياء كانوا قدوة، معهم منهج، وقد طبقوا هذا المنهج، لولا أنهم طبقوا هذا المنهج، لا قيمة لهذا المنهج، المناهج لا قيمة لها من دون تطبيق، فمهمة النبي أنه قدوة وأسوة ومثل أعلى أبلغ بكثير من مهمته كمبلغ، والدليل بعد الأنبياء والرسل آلاف آلاف الدعاة، والمتكلمون، والخطباء، والعلماء، والكتّاب، والمؤلفون، لماذا لم يؤثروا في الناس؟ لأنهم في واد وكتاباتهم في واد، الإنسان إذا لم يطبق المنهج لا قيمة لمنهجه إطلاقاً، لولا أنه بشر تجري عليه كل خصائص البشر مثلاً دخل النبي على زوجته السيدة عائشة، جاءها طبق من عند أختها صفية - طبق طعام- أصابت الغيرة السيدة عائشة فألقت الطبق على الأرض فجاء مهشماً، أليس هذا فيه استفزاز للنبي عليه الصلاة والسلام؟ أليس بإمكانه أن يفعل كذا وكذا!؟ خرج من البيت وقال: غضبت أمكم غضبت أمكم، هذا الموقف الكامل، الله جعله أسوة لنا، الزوجة إذا أصابتها الغيرة، قل: غضبت أمكم غضبت أمكم، انظر الموقف اللطيف الكامل، دخل المعركة، وجُرِحت وجنته، وكُسِرت ثنيته، تجري عليه كل خصائص البشر، تزوج زوجات عديدات لسن في المستوى المطلوب، كبيرات في السن ولهن أولاد، وثيبات لأسباب تُرْضي الله عز وجل، ألا يشتهي الأبكار؟ يشتهيها لأنه هو من بني البشر، أي كل عظمته، وكل فضله، وكل كماله، لأنه بشر، لأنه تجري عليه خصائص البشر، وأنت إن لم تَجُع فلست صابراً، وإن لم تخف فلست شجاعاً، وإن لم تحب المال فلست سخياً، لماذا فلان سخي؟ يعاكس ما جبل عليه:

﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)﴾

[  سورة آل عمران  ]

هذه الشهوات نرقى بها إلى رب الأرض والسماوات. 

 

لولا أن الرسول بشر لما أقنعنا بهذه الرسالة:


إذاً كل من يقول: هو بشر، نعم وأكرم به من بشر، ولأنه بشر كان سيد البشر، ولأنه بشر كان سيد الخلق، ولأنه بشر كان حبيب الحق، ولن يكون عظيماً إن لم يكن بشراً: 

﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6)﴾

[ سورة فصلت ]

أي تجري عليّ كل خصائص البشر:

(( كَانَتْ عِنْدَ أُمِّ سُلَيْمٍ يَتِيمَةٌ وَهِيَ أُمُّ أَنَسٍ فَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَتِيمَةَ فَقَالَ آنْتِ هِيَهْ لَقَدْ كَبِرْتِ لا كَبِرَ سِنُّكِ..... فَقُلْتُ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَرْضَى كَمَا يَرْضَى الْبَشَرُ، وَأَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ، فَأَيُّمَا أَحَدٍ دَعَوْتُ عَلَيْهِ مِنْ أُمَّتِي بِدَعْوَةٍ لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ أَنْ يَجْعَلَهَا لَهُ طَهُورًا وَزَكَاةً وَقُرْبَةً يُقَرِّبُهُ بِهَا مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. ))

[ مسلم عن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه ]

هو محمد بشر وليس كالبشر             فهو ياقوتة والناس كالحجر

[ الإمام أبو العزايم ]

* * *

الياقوت حجر ولكنه ليس حجراً عادياً، يقول لك: قطعة صغيرة من الألماس ثمنها مئة ألف، مئتا ألف، خمسمئة ألف، مليون، خمسة ملايين ثمن قطعة صغيرة جداً، وتجد بالمقابل حجاراً في بعض السهول عدد الحصى، محمد بشر وليس كالبشر، أي أنت تجوع تصبر، تشعر بالحر إذا كنت بالحج هناك حر شديد فلأنك بشر والحر شديد وأنت صابر، تلبي دعوة الله عز وجل، لبيت نداء الله عز وجل، هذا الذي يرقى بك، أنك تُحِس بالحر، تُحِس بالجوع، في رمضان في الصيف، تُحِس بالعطش، إذا استفزك إنسان تغضب، لأنك تغضب وكظمت غيظك لهذا ترقى، إذاً: ﴿قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا﴾ نعم بشر، لولا أن الرسل بشر لما قنعنا بهذه الرسالة، لأن النبي قدوة لنا، ﴿وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ﴾ حتى يتوازن الكفار لأنهم مقيمون على شهواتهم، لأنهم مصرون عليها، كذبوا الرسل وقالوا: ﴿وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15)﴾ .

 

من نعم الله علينا أن الله يعلم:


أيها الأخوة الأكارم؛ من نعم الله علينا أن الله يعلم، قد تكون بريئاً وتُتهم، قل: الله يعلم، قد تكون صادقاً وتُتهم بالكذب قل: الله يعلم، قد تكون ناوياً للخير ويأتيك من يُشَكك في نواياك قل: الله يعلم، يَطْعَنُ فيك وأنت عفيف لكنك إذا عرفت نفسك ما ضرتك مقالة الناس بك، أنت احرص على أن تَجبَّ عن نفسك الغيبة، ولكن إذا كنت حريصاً والناس اتهموك والله يعلم إنك بريء فلا ضير عليك، مع الله عز وجل لا تحتاج إلى يمين تحلف له، لأنه يعرف، ولا حتى لإيصال... معي إيصال يا ربي..أي إيصال هذا!! يعرف أنك أنفقت هذا في سبيله، يعرف كل إنفاقك، كل نواياك، كل مواقفك، كل ورعك، كل مطالبك، فلذلك الحمد لله على وجود الله، الحمد لله على أن الله يعلم، كم من متهم وهو بريء!؟ كم من مُكَذَب وهو صادق!؟ كم من مطعون فيه وهو نقي!؟ كم من متهم بما هو شائن وهو عفيف!؟ لذلك كلام لطيف: ﴿رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ﴾ أنتم تقولون: إنَّا كاذبون، لكن الله يعلم وكفانا راحة وطمأنينة أن الله يعلم. 

 

كل إنسان له اختيار فليس عليك إلا أن تنصح وتبين وعلى الله الباقي:


﴿قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ(16)وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ(17)﴾ أنت مخيّر، الإنسان مخير، كثير من الأخوان يسألني ماذا أفعل؟ لا أستطيع إلا أن أنصحه، لأنه مخيّر، أحياناً قد يكون لك ابن، أو قريب، أو صديق، أو شريك، منحرف، ماذا أفعل؟ انصحه، إذا النبي وعظمته الله عز وجل قال:

﴿ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)﴾

[ سورة البقرة ]

أي لست مسؤولاً عنهم، والآية الثانية:

﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)﴾

[ سورة القصص ]

لا تستطيع، لأن الإنسان مخير، فكل إنسان له اختيار، ليس لك إلا أن تنصح، إلا أن تبين، إلا أن توضح، إلا أن تأتي بالبراهين، بالأدلة، وعلى الله الباقي، أنت عليك أن تنصح.

﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)﴾

[  سورة طه ]

بيّن لفلان أنه على خطأ، وبيّن له الدليل، بيّن حكم الله عز وجل، أما إنسان يقدر أن يلقي الهدى بقلب إنسان فهذا شيء مستحيل، فوق طاقة البشر، وحتى ليس في إمكان الأنبياء، كل إنسان أعطاه الله اختياراً، فالنبي يبين، يؤدي، اللهم نشهد أنك بلغت الرسالة وأديت الأمانة، لكن:

﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)﴾

[ سورة فصلت  ]

﴿ مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)﴾

[ سورة الروم ]

فالقضية متعلقة بك، والآية لطيفة جداً. 

 

من فقد الحجة لجأ إلى الخزعبلات والأباطيل والترهات والأوهام:


﴿قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ(16)وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ(17)قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ﴾ نحن تشاءمنا منكم، التشاؤم كلام فارغ، كلام فارغ مضحك، هناك أناس يتشاءمون من يوم الأربعاء، أو من رقم 13، أو دخل شخص على المحل ففشلت البيعة، قدمه شؤم، كله كلام فارغ، ﴿قَالُوا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ﴾ تشاءمنا منكم، عندما فقدوا الحجة، الإنسان يلجأ للخزعبلات وللأباطيل وللترهات والأوهام متى؟ إذا فقد الحجة: ﴿تَطَيَّرْنَا بِكُمْ﴾ تشاءمنا منكم:﴿لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ(18)﴾ .

 

الإنسان قوي بالمنطق و الحجة:


بالمناسبة إذا كان هناك حوار بين شخصين، من هو الضعيف في النقاش؟ هو الذي يسب، حينما يلجأ الإنسان للسباب فهو ضعيف في النقاش، يقول له: كذاب، كلمة كذاب دليل ضعف النقاش، والأشد ضعفاً أن تضربه، تفقد الحجة الكلية عندها تهجم، لو معك حجة، جاء ببيان ائته ببيان آخر، جاء برأي بيّن له حقيقة الرأي، الإنسان قوي بالمنطق، قوي بالحُجة، قوي بالعلم، إذا ضعفت حجته وعلمه ضعف يلجأ للسباب، فالسباب سلاح الضعيف، والضرب سلاح الأضعف، درجتان: أولاً الخرافات، ﴿تَطَيَّرْنَا بِكُمْ﴾ تشاءمنا منكم، مثلاً إنسان لا يصلي تدعوه للصلاة، عندما يصلي يقول: والله بعدما صليت الأمور ساءت، الغلة قلّت، الناس يتجادلون في المحل، لا أريد هذا الدين كله، الإنسان عندما يرد الحق يرده بشكل مضحك، يرده بشكل خرافي، ثم يلجأ للسباب؛ دجال، كذاب....، إذا اكتشف أن هناك إصراراً وكان هو قوياً يلجأ للضرب: ﴿قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ – لنقتلنكم- وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ(18)﴾ العلماء قالوا:"العذاب الأليم التعذيب قبل القتل" ، سلخ الجلد مثلاً، بَقْر البطن، قلع العينين: ﴿لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ(18)﴾ .

 

من أصابه خير فمن حسن استقامته ومن أصابه شرّ فمن تقصيره:


يا أيها الأخوة الأكارم؛ سورة يس هي قلب القرآن: ﴿قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ ﴾ والله على هذه الكلمة تُكْتب مجلدات، خيرك منك وشرك منك، كل شيء خارجي بريء، إذا أصابك الخير فمن حسن استقامتك، من نواياك الطيبة، من إخلاصك، من حبك لله، من التزامك بأمر الله، وإن أصابك الشر فمن تقصير، من ذنب.

﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ(30)﴾

[ سورة الشورى ]

الإنسان لا يتشاءم، التشاؤم لا معنى له، خيرك منك وشرك منك، النبي الكريم بحديث موجز قال: "لا يخافن العبد إلا ذنبه" ، لا تخف أحداً، لأن أي أحد بيد الله، لا تخف من الشريرين، الأشرار بيد الله، الأقوياء بيد الله، الأشخاص المخيفون بيد الله، الحيوانات المفترسة بيد الله، حتى الأخطار في الطرقات بيد الله، أخي هذا السائق نام اصطدم بنا فأصابنا بأذى، السائق بيد الله. 

 

التشاؤم لا معنى له لأن خير الإنسان منه وشره منه:


لكل شيء حقيقة وما بلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، انظر إلى دقة الفكرة، كل شيء مخيف بيد الله: 

أطع أمرنا نرفع لأجلك حجبنا            فإنا منحنا بالرضا من أحبنـا

ولذ بحمانا واحتــــــمِ بجنابنــا            لنحميك مما فيه أشرار خلقنا

[ علي وفا الشاذلي ]

* * * 

هناك أشخاص شريرون مخيفون، أقوياء جبابرة، بطّاشون لا يخافون الله، لا يرحمون، أي ليس في قلبهم رحمة إطلاقاً. 

من علامات قيام الساعة أن يُنْزع الحياء من وجوه النساء، وتذهب النخوة من رؤوس الرجال، وتنزع الرحمة من قلوب الأمراء، لا يوجد رحمة، ولا حياء، ولا نخوة، نساء كاسيات عاريات وأزواجهن يفتخرون بهن، فلذلك: ﴿قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ﴾ خيرك منك وشرك منك، الشر من ذنب، "لا يخافن العبد إلا ذنبه" ، صار هناك تقصير دائماً خذ النصيحة، كلما أصابك شيء لا ترضى عنه فاتهم نفسك، اسمعوا الحديث القدسي:

(( يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلا مَنْ هَدَيْتُهُ فَسَلُونِي الْهُدَى أَهْدِكُمْ، وَلَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَحَيَّكُمْ وَمَيِّتَكُمْ وَرَطْبَكُمْ وَيَابِسَكُمُ اجْتَمَعُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ عَبْدٍ مِنْ عِبَادِي مَا زَادَ ذَلِك فِي مُلْكِي جَنَاحَ بَعُوضَةٍ وَلَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَحَيَّكُمْ وَمَيِّتَكُمْ وَرَطْبَكُمْ وَيَابِسَكُمُ اجْتَمَعُوا عَلَى أَشْقَى قَلْبِ عَبْدٍ مِنْ عِبَادِي مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي جَنَاحَ بَعُوضَةٍ وَلَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَحَيَّكُمْ وَمَيِّتَكُمْ وَرَطْبَكُمْ وَيَابِسَكُمُ اجْتَمَعُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلَ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ مَا بَلَغَتْ أُمْنِيَّتُهُ فَأَعْطَيْتُ كُلَّ سَائِلٍ مِنْكُمْ مَا سَأَلَ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي إلا كَمَا لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ مَرَّ بِالْبَحْرِ فَغَمَسَ فِيهِ إِبْرَةً ثُمَّ رَفَعَهَا إِلَيْهِ ذَلِكَ بِأَنِّي جَوَادٌ مَاجِدٌ أَفْعَلُ مَا أُرِيدُ عَطَائِي كَلامٌ وَعَذَابِي كَلامٌ إِنَّمَا أَمْرِي لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْتُهُ أَنْ أَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.  ))

[ مسلم عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه ]

كما أن الله عز وجل يعطي فيدهش أحياناً يأخذ فيدهش، حدثني أخ كريم: شخص معه مئات الملايين، الآن لا يوجد معه ثمن رغيف خبز، يتكفف الناس، ممكن، إذا أعطى أدهش وإذا سلب أدهش، في الحالتين: ﴿قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ﴾

 

الله غنيّ عن تعذيب العباد فمن وجد شيئاً لم يعجبه فليبحث عن المعصية التي ارتكبها:


القاعدة:"الخير بيدي والشر بيدي، ذلك لأن عطائي كلام وأخذي كلام - دققوا الآن- فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه" فكل إنسان أصابه شيء لم يعجبه، الله غني عن تعذيبه، غني عن ظلمه، يدقق هل في دخله مال حرام؟ هل بعلاقاته علاقات غير شرعية؟ بندواته، بسهراته، بنزهاته، ببيعه، بشرائه يوجد غش؟ يوجد كذب؟ يوجد احتيال؟ مثلاً هذا دفَّعنا خمسمئة ألف، الله لا يوفقهم، لماذا؟ انظر أنت ماذا فعلت؟ لأن ذلك مثل الذباب يأتي مكان القذر، فدائما أنت ابحث عن المعصية.. بالأمن الجنائي عندهم قاعدة كلما رأوا جريمة يقولون: ابحث عن المرأة، أنا أعطيتهم قاعدة أخرى دينية: ابحث عن المعصية، شيء لم يعجبك، إنسان أهانك، مال ذهب منك بشيء مزعج، ابحث عن المعصية، ابحث عن كلمة قلتها متجبراً، لعل الله أدبك بها. 

أخ كريم قال لي: شخص دخل إلى معمله يريد قطعة أو قطعتين من إنتاجه، هو يبيع مئتي دزينة، وجدها إهانة له، قال له بانزعاج: أنا لا أبيع مفرقاً، قال له: أمرك، يقول هذا الأخ: ثلاثة وعشرون يوماً لم يدخل إنسان لمعمله ليشتري، الله أدبه، ترفّع عن بيعة شخص فقير وقال له: أنا لا أبيع مفرقاً، فأدبه الله، فإذا رأيت شيئاً لم يعجبك ابحث عن المعصية، اتهم نفسك، الله غني عن تعذيبنا، وغني عن إيلامنا، وغني عن مضايقتنا، لكن الله عز وجل يحب أن نكون كُمَّل، فإذا كان هناك خطأ لسان حال المؤمن يقول: اللهم عالجني قبل أن أموت، لا تُمِتني قبل أن ترضى عني. 

 

المؤمن الصادق يتمنى أن يعالجه الله ويهذبه ويكمله في الدنيا:


المؤمن الصادق يتمنى أن يعالجه الله ويهذبه ويكمله في الدنيا، حتى إذا جاء ملك الموت استحق الجنة فوراً: ﴿قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ﴾ هذه الآية يجب أن يُكتب عنها مجلدات: خيرك منك وشرك منكم، لا تتشاءم، تقول فلان، هذا البيت شؤم، إذا أنت طبعاً اخترته في حيّ ساقط طبعاً شؤم، صار هذا ذنبك، هذه الزوجة شؤم، النبي قال: شؤم في الزوجة إذا اخترتها لجمالها، ولم تعبأ بأخلاقها ودينها هذا ذنب من ذنوبك تحَمَّل إذاً!... إياكم وخضراء الدمن... بيت في حيّ ساقط، أو حيّ فيه أجانب، معاصيهم كثيرة جداً، سهراتهم حمراء، انحرافاتهم مكشوفة، طبعا إذا كان عندك أولاد، عندك فتيات، ابحث عن حيٍّ محافظ، الشؤم في البيت، وفي المرأة، وفي الفرس، هذا شؤم أساسه معصية، أما: ﴿قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ﴾ أي خيرك منك وشرك منك.

﴿أئن ذكرتم﴾ أي يا أهل هذه القرية، يا أصحاب القرية، تتوعدوننا أن ترجمونا، وأن يمسنا منكم عذاب أليم لأننا ذكّرناكم ﴿أئن ذكرتم﴾ كل هذا الوعيد والتهديد لأننا ذكّرناكم، هذا جزاء الإحسان؟ وهذا الذي يقع، كيف بكم إذا أصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً؟ الفسق والفجور مقبول، أما التدين غير مقبول، المعاصي كلها مقبولة، يقول لك: سبور، أما الطاعات فهي مرفوضة، يقول لك: يصلي؟ كيف بكم إذا أصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً؟ كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف؟ كيف بكم إذا خوَّن الأمين وأؤتمن الخائن؟ وكُذب الصادق وصدق الكاذب؟ طبعا هذا من مفارقات الحياة، "إذا كان أمراؤكم خياركم وأغنياؤكم سمحاءكم، وأمركم شورى بينكم، فظهر الأرض خير لكم من بطنها، وإذا كان أمراؤكم شراركم وأغنياؤكم بخلاءكم، وأمركم إلى نسائكم فبطن الأرض خير لكم من ظهرها"

 

الله عز وجل أكرمنا بهذه الدعوة حيث كنا في ضلال فاهتدينا وفي شقاء فسعدنا:


سورة يس كما تكلمنا في الدرس الماضي من السنة أن تقرأها كل يوم، فإذا إنسان كان يمشي في الطريق، عوضاً أن ينظر في المحلات، يقرأ سورة يس، راكب بالسيارة إلى بيته والطريق ربع ساعة كلها ست صفحات، عوّد نفسك أن تقرأها باليوم مرة أو مرتين والأكمل مرتين، إن قرأتها صباحاً فأنت في سرور حتى المساء، وإن قرأتها ليلاً فأنت في سرور حتى الصباح، لأن هناك آيات دقيقة: ﴿قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ﴾ كل هذا التهديد والوعيد لأننا ذكّرناكم: ﴿بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ﴾ هذا إسراف، إسراف العدوان، إنسان نصحك، قدم لك النصيحة، أراد لك الهداية، أراد لك الرشاد.

هناك صنف آخر، هؤلاء أصحاب القرية رفضوا دعوة الأنبياء، الصنف الآخر: ﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى﴾ إنسان استفاد من هذه الدعوة، جزاه الله خيراً، الله عز وجل أكرمنا بهذه الدعوة، كنا في ضلال فاهتدينا، كنا في شقاء فسعدنا، كنا في حيرة فوجدنا أنفسنا، عرفنا قيمتنا، عرفنا مهمتنا، عرفنا أننا مكلفون، عرفنا ربنا، عرفنا ماذا ينتظرنا من نعيم مقيم، ماذا ينتظرنا من عذاب أليم لو حِدنا عن طريق الحق: ﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20)﴾ هنا يوجد حركة، إنسان آمن، تحرك، لم يبقِ قاعداً، تجد شخصاً قانعاً بالحق وقاعداً ببيته، لا منه خير ولا شر...! تحرك حركة، تكلم كلمة، انصح أخوك، انصح ابن أخيك، اعمل درساً صغيراً لأولادك، لك جيران، لك شركاء، لك أقرباء، لك أخوات بنات، اعمل كلمتين ثلاث، زرهم بالأسبوع مرة، فسر لهم آية سمعتها من خطيب مسجد، لا يوجد شيء غير تجارته، بيعه وشراؤه، يقول لك: هناك فساد عام، لا حول الله،  ليس لك حركة، ليس منك شيء أبداً.  


المؤمن يبتغي عند الله الأجر و الثواب:


انظر: ﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى﴾ هذه الحركة دليل الإيمان والهدى، أنت إذا مؤمن يجب أن يكون لك نشاط، لك دعوة إلى الله عز وجل، تسمع دروساً من خمس وعشرين سنة، من عشرين سنة، من خمس عشرة سنة، من عشر سنوات، من خمس سنوات، من سنتين، ألم يحن الأوان أن تلقي؟ تعطي؟ أخْذَ أخْذ إلى متى تأخذ؟ يجب أن يظهر لك تأثير في أولادك، في أسرتك، في زوجتك، في جيرانك، في أخواتك البنات، في أخواتك الذكور، في أصهارك، فيمن يلوذ بك، في عمالك، في موظفيك، انصح، وَجِّهْ، بَيِّنْ تفسير آية، تفسير حديث، انظر إلى هذا الرجل سمع الحق فانطلق إلى أصحاب هذه القرية: ﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20)﴾ من هم الصادقون؟ ﴿اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ(21)﴾ كل إنسان له هدف، إن كان مادياً يريد أجراً، وإن رأيته منزهاً عن الأجر معنى هذا أنه يبتغي ما عند الله من أجر، أما إنسان يتحرك بلا ثمن فلا تصدق، مستحيل، حتى المؤمن، لكن المؤمنين يبتغون عند الله الأجر، يتعب معك، يجلس معك، يبذل وقته، يبذل ماله أحياناً، يبذل خبرته، يبذل جهداً كبيراً، فإذا اهتديت يبتغي عند الله الأجر، يبتغي عند الله الثواب، يبتغي أن يرضى الله عنه، يبتغي أن يكون عند الله مقرباً. 

 

ترفع أهل الحق عن كل أجر:


كل إنسان يترفع عن الماديات: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ(20)اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ(21)﴾ هي علامة، هذه علامة في القرآن الكريم، قطعية الدلالة على أن أهل الحق يترفعون عن كل أجر، لا معنوي، ولا مادي، ولا قريب، ولا بعيد، ولا كبير، ولا صغير، لا يبتغي إلا رضاء الله عز وجل، إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ(20)اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ(21)﴾ .

 

من وجد توجيهاً بشرياً يتناقض مع توجيه إلهي فلا يعبأ بكلام البشر:


السيدة بلقيس عرفت ذلك: 

﴿ وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ(35)﴾

[ سورة النمل  ]

فإذا قبلوها ورحبوا بها فهم كاذبون، وإذا رفضوها فهم مرسلون.

ثم يقول هذا الرجل بأسلوب ذكي جداً، بأسلوب تربوي، أحياناً أنت تنصح إنساناً: استقم، آمن بالله عز وجل، هذه التجارة كلها حرام، اتركها!! تعمل عليه واعظاً، هناك طريق لطيف يقول: يا أخي أنا فكرت بمستقبلي وجدت مستقبلي مع الله، وجدت عند الموت لا ينفعني إلا عملي الصالح، بدل أن توجه الكلام للطرف الآخر، اذكر للطرف الآخر ما فعلته بنفسك أنت، هذا أسلوب لطيف ليس فيه إحراج، يقول هذا الرجل: ﴿وَمَا لِي لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(22)أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنقِذُونِ(23)﴾ أي إذا الله عز وجل أراد لإنسان شيئاً مزعجاً، أو مرضاً عضالاً، أو مشكلة في كرامته، إهانة، حجز حرية، إفقاره، من يستطيع أن ينقذك؟ أقرب الناس إليك يزورك، يقول: والله قلبنا عندك، أكثر شيء يحضر لك معه باقة ورد، والآخر يتلوى من الألم وهو خائف ومصاب بآلام نفسية وآلام جسمية، العُوّاد يقدمون له كلاماً لطيفاً وهدية متواضعة وانتهى الأمر: ﴿إِنْ يُرِدْنِي الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنقِذُونِي(23)﴾ كما قلت لكم سابقاً: الحسن البصري كان عند والي البصرة، جاءته رسالة من يزيد، يبدو أن فيها توجيهاً لا يرضي الله عز وجل، فسأل الحسن البصري ماذا أفعل؟ فقال له كلمة- هذه الكلمة تكتب بماء الذهب- قال له: "إن الله يمنعك من يزيد ولكن يزيد لا يمنعك من الله"، هذه طبقها بكل حياتك، قال إنسان قوي لك: افعل كذا و كذا، قُل أنت: إذا نفذت أمره والله أراد أن يعاقبني لا يمكن لهذا الشخص أن يوقف العقوبة، لكن إذا نفذت أمر الله عز وجل وغضب الله يحميني منه، هذا مبدأ يا أخوان. 

كلما وجدت توجيهاً بشرياً يتناقض مع توجيه إلهي لا تعبأ بكلام البشر، لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، قل: إن الله يمنعني من فلان ولكن فلاناً لا يمنعني من الله، أكثر المعاصي تكون من ضغط من إنسان قوي، يكون جاهلاً، قل: إن الله يمنعني من فلان ولكن فلاناً لا يمنعني من الله، ﴿وَمَا لِي لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(22)أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنقِذُونِ(23)إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ(24)﴾ هذا الرجل آمن بهؤلاء الرسل، وانطلق إلى أصحاب هذه القرية يدعوهم إلى الإيمان، وقال هذا الكلام، لكنهم قتلوه. 

 

المؤمن لا يقبل أي ضغط لأنه يرى أن الله هو كل شيء:


اسمعوا الآن: ﴿إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِي(25)قِيلَ ادْخُلْ الْجَنَّةَ﴾ بدل أن يدعو عليهم: ﴿قَالَ يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ(26)بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُكْرَمِينَ(27)﴾ فالإنسان حينما يطّلع على مقامه في الجنة يقول: لم أر شراً قط في حياتي. مركز الثقل في الآية هو: ﴿إِنْ يُرِدْنِي الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنقِذُونِي(23)﴾ أقل مثل هو وزوجته، لو أنها ضغطت عليه ليعصي الله، ليُؤَمِّن لها حاجة بدخل غير مشروع، لو أن الله أراد أن يعالجه هل تمنعه الزوجة؟ أما إذا غضبت فالله يرضيها، هذه قاعدة أساسية في حياتنا، كلما جاءك ضغط لتعصي الله قل: إن الله يمنعني من فلان ولكن فلاناً لا يمنعني من الله، فهذا المؤمن لا تأخذه في الله لومة لائم، لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، سيدنا الصّدّيق قال:   "أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإن عصيت...." فالمؤمن لا يقبل أي ضغط، يرى أن الله هو كل شيء، وأن الخير كله بيده، وأنه يصرف عنه كل شرٍّ، فأنت اعمل لوجه واحد يكفك الوجوه كلها. 

 

نسيان المؤمن المتاعب التي عانى منها في الدنيا عندما يرى ما أعدّ الله له:


الشيء المهم أن المؤمن حينما يأتيه ملك الموت ويرى ما أعدّ الله له من نعيم مقيم قيل: يعرق.. عرق الخجل، كل المتاعب ينساها حتى لو أنه قُتِل، هنا قتلوه، لكن عندما أراه الله عز وجل مقامه في الجنة: ﴿قِيلَ ادْخُلْ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ(26)بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُكْرَمِينَ(27)﴾ لو علموا هذا ما قتلوني، واستجابوا إلي.

 

من مات عاصياً أو كافراً تتولد عنده حسرة لو وُزِعت على أهل بلد لكفتهم:


هؤلاء القوم الذين كفروا قال: ﴿وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ(28)﴾ هم أهون على الله من أن يعذبهم بجنود من السماء، عذبهم بصيحة واحدة: ﴿إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ(29)﴾ أي الله عز وجل قوله: كن فيكون، زل فيزول، لا يوجد حاجة لجند من السماء: ﴿إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً﴾ تجد شخصاً ملء السمع والبصر، قلب ومات بلا سبب، يقول لك: سكتة دماغية، خير إن شاء الله، سكتة قلبية، خير إن شاء الله، موت مفاجئ، هذه  صيحة واحدة: ﴿إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ(29)يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ﴾ حينما يموت الإنسان عاصياً، أو كافراً، أو رافضاً دعوة الرسل، يتولد عنده حسرة لو وزعت على أهل بلد لكفتهم... قيل: الكافر إذا رأى مكانه في النار يصيح صيحة لو سمعها أهل الأرض لصعقوا لهولها: ﴿يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون(30)أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ(31)﴾ .

 

ما بعد الموت أشد من الموت:


أين عاد وثمود؟ أين الفراعنة؟ أين الرومان؟ الذي عتوا، وبغوا، واستطالوا، واستعلوا، وكفروا، أين هم الآن؟ أحاديث، الله قال:

﴿ فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)﴾

[ سورة سبأ ]

﴿وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ(32)﴾ .

﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26) ﴾

[ سورة الغاشية ]

فهذا مثل حقيقي، هؤلاء الذين رفضوا دعوة الرسل: ﴿إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ(29)﴾ أُهْلِكوا، وما بعد الموت أشد من الموت، والذي آمن قُتِل لكن أكرمه الله بالجنة، فلما رأى مقامه في الجنة: ﴿قِيلَ ادْخُلْ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ(26)﴾ أول السورة دعوة نظرية، وهذا مثل عملي: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ﴾ الذين استجابوا ما مصيرهم؟ والذين لم يستجيبوا ما مصيرهم؟ قُتِلوا فدخلوا الجنة، وكَذَّبوا فجاءتهم صيحة واحدة فإذا هم خامدون.

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور