وضع داكن
29-03-2024
Logo
الدرس : 08 - سورة النور - تفسير الآيات 27 – 29 آيات الاستئذان.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقا، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً، وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الثامن من سورة النور، انتهى بفضل الله وعونه في الدرس الماضي تفسير حديث الإفك، والآن ننتقل إلى ما بعد هذه الآيات التي تتحدث عن حديث الإفك.

﴿  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ(28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ(29)﴾  

[ سورة النور ]


علاقة هذه الآيات بما سبق: التدابير الاحترازية من الزنى:


 هذه آيات هذا الدرس، الحقيقة بعد أن بين الله لنا سبحانه وتعالى موضوع الزنى، وكيف أنه شيء يقبح بالإنسان فعله، وكيف أن الزاني لا ينكح إلا زانية، وكيف أن الزاني عليه حد يُقام تطهيراً للمجتمع من هذه الجريمة، وكيف أن الذي يقذف محصنة عليه جلد، وعليه إقامة حد؛ هو حد القذف، وكيف أن حديث الإفك الذي تورط به بعض مَن كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف كان عند الله عظيماً، وكيف أنَّ الله جل وعلا برّأ السيدة عائشة من هذه التهمة التي أُلصقت بها، هذه الآيات التي سبقت قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ﴾ قد يسأل سائل: ما علاقة هذا التوجيه بالآيات السابقة؟ الإجابة عن هذا السؤال واضحة، وهي أن الله سبحانه وتعالى في الآيات التالية يبين لنا التدابير الاحترازية من الزنى، كيف تكلم المتكلمون، وكيف أرجف المنافقون، كيف استطاع بعض الناس أن ينالوا من سمعة هذه السيدة الطاهرة؛ السيدة عائشة، لحصول هذه الخلوة التي كانت بين صفوان وبين عائشة، فلو لم تكن هذه الخلوة ما كان لأحد أن ينطق بكلمة سوء في حق هذه السيدة الطاهرة، لذلك من المنزلقات إلى الزنى، أو إلى أن يُتَّهم الإنسان بالزنى، من المنزلقات الخطيرة الخلوة، لهذا يقول عليه الصلاة والسلام:

(( لا يخلوَنَّ رجلٌ بامرأةٍ إلَّا وكانَ الشَّيطانُ ثالثَهما ))

[ صحيح الجامع ]


مخاطبة الله للمؤمنين على سبيل التخصيص والتشريف:


 الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات التي هي موضوع هذا الدرس يبين التدابير الاحترازية التي تمنع من الزنى، أو تمنع من تهمة الزنى، من هذه التدابير أن الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فإذا كنت مؤمناً حقا تشعر في أعماقك بأنك معنيٌّ بهذا الخطاب: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وكأن الله سبحانه وتعالى لعلمه بأن هؤلاء الذين آمنوا يحرصون على تنفيذ أمر الله، ويستجيبون له، ويتأدبون بآداب الإسلام، لذلك وجّه الله سبحانه وتعالى لأولئك المؤمنين في كل زمان ومكان هذا التوجيه، وهذا التوجيه ينضوي تحت باب الآداب العامة، هناك عبادات؛ من صوم، وصلاة، وحج، وزكاة، وهناك معاملات؛ من بيع، وإرث، وزواج، وطلاق، وشركة، ولُقطة، وقرض، وإيجار، وما شاكل ذلك، وهناك الأخلاق؛ ومن الأخلاق الآداب، وهذه الآيات تتحدث عن آداب الاستئذان، لذلك مما يميز المسلم عن سواه أنه متأدب بآداب القرآن، وسوف تأتي تفصيلات هذه الآيات، والقصد منها أن نتأدب جميعاً بآداب الاستئذان، لأن هذه الآداب من صفات المؤمنين الذين ينصاعون لأمر الله، ولتوجيهه. 


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ


  شيء آخر، هو أن الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا﴾ وكما قلت لكم من قبل هذه الكلمة: ﴿بُيُوتًا﴾ نكرة، وكيف عرفنا أنها نكرة؟ من التنوين، والتنوين علامة التنكير، تقول مثلاً: البيت، فهي معرفة، أما بيتٌ فنكرة، نهر بردى معرفة، أما نهرٌ فنكرة، فكلمة: ﴿بُيُوتًا﴾ جاءت نكرة، وشيء آخر: جاءت في سياق النفي أو النهي، وإذا جاءت النكرة في سياق النهي أصبحت شاملة، فهذه الآية تشمل أيَّ بيت، فأيّ بيت لابد أن تدخله بعد استئذان. 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا﴾ أيَّ بيت ﴿لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا﴾ قد يقول قائل: هذا بيت أخي، هذا بيت أختي، هذا بيت بنتي، هذا بيت عمي، هذا بيت والدي.

﴿لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا﴾ لأن الكلمة جاءت نكرة، وجاءت في معرض النهي فالكلمة تفيد الشمول. 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ﴾ أي ليست بيوتكم، إذاً هناك حكم للبيت الذي تملكه، أو للبيت الذي تسكنه، هذا حكم خاص، الآيات توجهنا إلى البيوت التي ليست لنا على التحديد، فهي المعنية بهذه الآية.


معنى الاستئناس:


المعنى الأول: العلم:

 ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا﴾ معنى الاستئناس هنا العلم، كقوله تعالى:

﴿ وَابْتَلُوا الْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ۖ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُوا ۚ وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ ۖ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ۚ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا(6)﴾

[ سورة النساء ]

 أيْ فإن علمتم منهم رشداً، حتى تستأنسوا أيْ حتى تعلموا أن أصحاب هذا البيت راغبون فيكم أو غير راغبين، لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تعلموا أن أصحاب هذا البيت راغبون في دخولكم هذا البيت، أو أنتم أناس غير مرغوب فيكم، هذا معنى حتى تستأنسوا، فيجب أن تأخذوا موافقة بالدخول، أو يجب أن تتلقوا رفضاً وتوجيهاً بعدم الدخول، وهذا هو الاستئذان. 

المعنى الثاني: الاستئذان:

﴿حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا﴾ بمعنى حتى تستأذنوا، السلام عليكم أنا فلان، أأدخل؟ هذا هو الاستئذان، ولماذا عبّر ربنا سبحانه وتعالى وهو الحكيم العليم عن الاستئذان بالاستئناس؟ لأن الاستئذان من ثمراته الاستئناس، فإذا طرقت الباب فقيل لك: من الطارق؟ قلت: فلان، قيل لك: أهلاً وسهلاً، تفضل، ترتاح نفسك، أنت تستأنس إن سمح لك بالدخول، لذلك جاءت كلمة استئناس مكان استئذان لتفيد معنيين في الوقت نفسه، تفيد معنى طلب الدخول، أعلمتهم من أنت، وانتظرت أن تأخذ موافقتهم، فإذا أخذت موافقتهم على الدخول تشعر بالأنس، ترى أنك إنسان مرغوب فيه، هذا المعنى الأول، والثاني معنى الإعلام، وطلب الإذن، ومعنى الاستئناس. 

المعنى الثالث: ذكر اسم المستأذِن:   


المعنى الثالث حينما تزمع أن تدخل بيتاً فلابد أن تُعلِم الناس مَن أنت، فلو أنك فاجأتهم لأخذتهم، أو لأشعرتهم بالوحشة، لذلك المعنى الثالث للاستئذان أن تعلن عن اسمك، من آداب الاستئذان أن تقول: أنا فلان، من الطارق؟ فلان، إذا أول معنى تُعلِمهم، تطلب أن يُعلِموك ما إذا كانوا موافقين على دخولك، أو غير موافقين، هذا أول معنى، فإذا وافقوا على دخولك فهذا يمنحك الأُنس والطمأنينة، هذا المعنى الثاني، والمعنى الثالث يجب أن تُعلِمهم من أنت، أنا فلان، فإذا كان طرق الباب ليلاً، وفي وقت متأخر، وفي ساعة متأخرة، وفي مكان موحش، في بيت متطرف، في ظرف عصيب، في وقت شديد، في حالات خاصة،في مكان وزمان معينين يجب أن تقول من أنت، أنا فلان.

قد يقول قائل: أنا، من الطارق؟ أنا، من أنت؟ قد يخشون أن يفتحوا لك الباب فلابد أن يستمعوا إلى صوتك، وإلى هويتك، وإلى قرابتك، هذا هو المعنى الثالث. 

المعنى الرابع: استئناس أهل البيت:

 فإذا أعلمتهم من أنت أدخلت الأُنس على قلوبهم، أعلمتهم من أنت فاستأنسوا، ووافقوا لك على الدخول فاستأنست.

هذه أربعة معانٍ جمعتها كلمة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا﴾ أعلمتهم من أنت فرحبوا بك فاستأنست، وأعلموك بالموافقة، فرحبوا بك فاستأنست، أعلمتهم، وأعلموك، وآنستهم، وآنسوك، أربعة معان مستفادة من كلمة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا﴾ المؤمن ظله خفيف، المؤمن لا يفزع الناس، لا يخيفهم، لا يخجلهم، لا يربكهم، لا يوقعهم في شك، في حيرة، لذلك قيل: البيان يطرد الشيطان.

 أُثر عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه كان إذا طرق باباً حمِد الله، وسبّحه، وكبره، إذاً هذا معنى خامس، إنك إذا حمدت الله، وسبحته، وكبرته، قلت: سبحان الله، الله أكبر، الحمد لله، لا حول ولا قوة إلا بالله، فهذه الكلمات الطيبة التي فيها ذكر لله عز وجل ربما تبث الأنس في قلوب الناس، إذاً تعلمهم فيستأنسون، ويأذنون لك فتستأنس، وحريٌّ بك أن تُذَكِّرهم بالله عز وجل، فإن ذكر الله عز وجل يطمئن القلوب، فإذا التقيت بإنسان لا تعرفه، فقام فصلى أمامك تطمئن له، إذا قال: سبحان الله تطمئن له، إذا قال: الحمد لله تطمئن له، إذا قال: الله أكبر تطمئن له، إذا شعرت أن هذا الذي أمامك، أو أن هذا الذي يدخل عليك يعرف الله عز وجل عندئذ لا تخاف، هذا الذي لا يخافك يجب أن تخاف منه، والمؤمن كما قال عليه الصلاة والسلام:

((  المُؤْمِنُ كَيِّسٌ فَطِنٌ حَذِرٌ  ))

[ القضاعي في مسند الشهاب عن أنس وهو ضعيف ]

 وسيدنا عمر كان يقول: 

 لست بالخب، ولا الخب يخدعني.


الحكمة من الاستئذان:


 من الحكمة التي رآها بعض العلماء حول موضوع الاستئذان أن الذي يدخل البيت من غير استئذان ربما وقعت عينه على عورات البيت، على عورات أهله، أو على نقاط ضعفه، فإذا دخلت من دون استئذان قد يكون هذا الذي تدخل عليه جالساً مع زوجته، قد تكون الزوجة متبذّلة في ثيابها، فكيف ترضى أن تدخل على بيت ليسوا مستعدين لاستقبالك، لذلك عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ:

((  اطَّلَعَ رَجُلٌ مِنْ جُحْرٍ فِي حُجَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِدْرًى يَحُكُّ بِهِ رَأْسَهُ، فَقَالَ: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْظُرُ لَطَعَنْتُ بِهِ فِي عَيْنِكَ إِنَّمَا جُعِلَ الاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ ))

[ البخاري، الترمذي، وأحمد ]

 لئلا تقع عينك على قبيح، لئلا ترى عورات النساء، لئلا ترى ما لا يحل لك، لئلا ترى منظراً مزعجاً جُعِلَ الاستئذان.

أحيانا تقول: أخي هذا البيت فيه شباب، وليس فيه نساء، لعل هؤلاء الشباب غرفتهم غير منظمة، لعلهم يقومون بأعمال في البيت، أحدهم يطلي هذا البيت، وآخر يقوم بأعمال لا يحب أن تراه يفعلها، قد يأكل طعاماً خشناً، قد يأكل طعاماً لا يحب أن ترى ماذا يأكل، لا يحب أن ترى ماذا يلبس في البيت، ربما لا يملك ثياباً في البيت يمكن أن يستقبلك بها، فإذا دخلت عليه من دون استئذان أحرجته، وأوقعته في الخجل.

 موضوع الاستئذان من أجل ألا تنظر إلى عورات النساء في البيت، ومن أجل ألا تنظر إلى عورات البيت، البيت له عورات، الإنسان أحياناً ينظم غرفة الاستقبال، ولكنه لا ينظم غرفة الجلوس بشكل دائم لاستقبال الضيوف، المطبخ أحياناً غير منظم، وغير جاهز لاستقبال الضيوف، لذلك: (إِنَّمَا جُعِلَ الاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ) .


الفرق بين حكم الاستئناس والاستئذان:


  الآية الكريمة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا﴾ .

فرّق العلماء بين حكم الاستئناس أي الاستئذان، وبين حكم التسليم، إلقاء السلام، فالاستئذان واجب، بينما إلقاء السلام مندوب، لكن رد السلام واجب، قال تعالى:

﴿ وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86)﴾

[ سورة النساء ]

 فإن قال لك أحد: السلام عليكم فيجب عليك أن ترد عليه السلام، ولكن إلقاء السلام مندوب، بينما طلب الإذن واجب، فلا توجد قضية اختيارية، لا يحق لك أن تدخل البيت قبل أن تستأذن، وبعضهم قال: الاستئذان قبل السلام، لأن كلمة الاستئذان وردت في الترتيب الذكري قبل إلقاء السلام، وبعضهم قال: لا، تسلم، ثم تستأذن، بعضهم قال: تستأذن ثم تسلم مراعاة للترتيب الذكري، وبعضهم قال: تسلم ثم تستأذن، وقد ورد: "السلام قبل الكلام" تسلم وتسأل، تسلم وتساوم، تسلم وتستفهم.

 وبعضهم قال كحلٍّ وسط: إن وقعت عينك على أحد في البيت فسلّم، واستأذن، وإن لم تقع فاستأذن وسلم، على كل لابد من الاستئذان، فهو واجب، ولابد من إلقاء السلام، فهو مندوب، وقال بعضهم، الاستئذان ليس مقيدًا بعدد، فما دام ورد الاستئذان في القرآن غير مقيد فهو مطلق، يعني السلام عليكم مرة واحدة. 


السُّنّةُ الاستئذان ثلاثا:


  وبعضهم قال: الاستئذان ثلاث مرات، مرة تُسمِع أهل البيت، ومرة يتهيّؤون لاستقبالك، ومرة يأذنون لك، المرة الأولى كأنه الآن قرع الجرس، أو قرع هذه التي يُقرع بها الباب، كأنها نوع من الاستئذان، الأَولى أن يقرع الإنسان ثلاث مرات، وبين المرة والمرة كما ورد عند الفقهاء مقدار صلاة أربع ركعات، لماذا؟ لأن هذا الذي تطرق بابه ربما وقف يصلي الظهر، فلن يقطع الصلاة من أجلك، فإذا طرقت كثيراً، وألححت في طرق الباب فقد شوشت عليه صلاته، لذلك من كمال الأدب أن تطرق الباب مرة، وأن تنتظر مقدار صلاة أربع ركعات، فقد يكون الإنسان في الحمام، قد يكون في قضاء حاجة، قد يكون في مشكلة، قد يكون مكانه صعبًا، قد يكون على سقيفة البيت، يحتاج إلى من يضع له السلم، هذا الذي يطرق بعنف، وبتتابع هذا إنسان ليس متأدباً بآداب الإسلام، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ:

((  كُنْتُ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الأَنْصَارِ، إِذْ جَاءَ أَبُو مُوسَى كَأَنَّهُ مَذْعُورٌ، فَقَالَ: اسْتَأْذَنْتُ عَلَى عُمَرَ ثَلاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي فَرَجَعْتُ، فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ ؟ قُلْتُ: اسْتَأْذَنْتُ ثَلاَثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي فَرَجَعْتُ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلاثاً فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَتُقِيمَنَّ عَلَيْهِ بِبَيِّنَةٍ، أَمِنْكُمْ أَحَدٌ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: وَاللَّهِ لا يَقُومُ مَعَكَ إِلا أَصْغَرُ الْقَوْمِ، فَكُنْتُ أَصْغَرَ الْقَوْمِ فَقُمْتُ مَعَهُ فَأَخْبَرْتُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَلِكَ. ))

[ البخاري، مسلم، أبو داود، أحمد  ]

 ثلاث مرات فقط، أما أربع، خمس، عشر، عشرون، هذا صار إقلاق راحة وإزعاجًا. ثلاث مرات، ما دام أحد لم يجب فليس هناك إذن بالدخول، هذا المعنى، سواء كانوا في البيت أو خارج البيت، لكن قال العلماء: إن واجب الاستئذان مرة واحدة، لكن من حق الداخل أن يطرق الباب ثلاث مرات، الواجب مرة، فلو لم يؤذن له، له أن يذهب، لكن إن كان مُلحّاً في الدخول، وإن كان يعلق آمالاً على الدخول فله الحق أن يستأذن ثلاث مرات: أول مرة، والثانية، والثالثة، ومن أحكام الاستئذان ألا يقف طارق الباب أمام الباب، فلو أنهم فتحوا الباب ربما وقعت عينه على امرأة داخل البيت، من آداب الاستئذان أن تعطي ظهرك للباب، تطرق الباب، وتعطي ظهرك للباب، فلو فُتح الباب أنت في جهة أخرى، وباتجاه مكان غير الباب، فهذا من آداب الاستئذان، فَتعْرفُ أنت المسلم المتأدب بآداب القرآن من غير المسلم المتأدب من طريقة طرق الباب، يطرق الباب، وعينه على مصراعي الباب، وكأنه ينتظر لينظر، هذا ليس متأدباً بآداب الإسلام، ولا تعنيه آداب القرآن، لكن المؤمن يدير ظهره للباب، ويطرق، والعلماء قالوا: الاستئذان واجب، ولو للأعمى، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إِنَّمَا جُعِلَ الاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ) هذا لا ينظر، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إِنَّمَا جُعِلَ الاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ) لأن من أكبر المسوغات للاستئذان النظر، وليس معنى هذا أن النظر هو المسوغ الوحيد، هناك عورات سمعية؛ فإذا كان هناك شجار في البيت، ودخلت فجأة، وجدتهم يشتمون بعضهم، وهم لا يريدون لإنسان أن يطّلع على المشكلة، فأنت حين دخلت على البيت فجأة رأيت صياحاً، وبكاء، وعويلاً أضفت إلى مصيبتهم مصيبة، مصيبة المشكلة والصراع، ومصيبة الفضيحة، لذلك هناك عورات تُرى بالعين، وهناك عورات تُسمع بالأذن، ومن علا صياحه في البيت فسمِعَه مَن في الطريق فهذا مما يخدش عدالته. 


حكم الاستئذان عام في الرجال والنساء:


  شيء آخر؛ هو أن حكم الاستئذان ليس خاصاً بالرجال، الأحكام الشرعية في القرآن الكريم أكثرها مُوجّه إلى الرجال، أما النساء فينطبق عليهن الحكم الشرعي بشكل طبيعي، لأن هذا اسمه في علم الأصول التغليب. 

فإذا قال ربنا عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ﴾ فكأنه يقول: يا أيتها المؤمنات لا تدخلن بيوتاً غير بيوتكن، وربما كان دخول المرأة إلى بيت لا تعلم من فيه من دون استئذان أكثر خطراً عليها من دخول الرجل، فربما وقعت الواقعة من هذا الدخول المتعجِّل، لذلك الحكم الشرعي المتعلق بالاستئذان ينطبق على النساء والرجال معاً، بل ربما كان انطباقه على النساء أشد من انطباقه على الرجال؛ خشية أن يقع لهذه المرأة مكروه. 


الاستئذان ضمان وسلامة:


﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ وكما قلت اليوم في الخطبة: العلاقة بين الطاعة ونتائجها علاقة علمية، بمعنى أنها علاقة سبب بنتيجة، والعلاقة بين المعصية وتبعاتها علاقة علمية، بمعنى أنها علاقة سبب بنتيجة، فإذا فعلت هذا كنت في حِرْز حريز، وفي حصن حصين، لا يتمكن أحد أن ينال منك ما دمت قد تأدبت بآداب القرآن، لا يمكن لأحد أن ينال من هذه المرأة ما دامت لم تدخل هذا البيت إلا بعد أن استأنست، وعرفت من فيه، إذا هذه الآيات ليست تقييداً لحريتنا، بل هي ضمانة لسلامتنا. 


ما حكم دخول الإنسان إلى بيته ؟


  أما كلمة: ﴿لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ﴾ فما حكم البيت؟

 الآن سؤال ثانٍ: ما حكم الدخول إلى بيتك؟ هذا البيت الذي تسكنه، هناك ثلاثة احتمالات؛ إما أن تسكنه مع أجانب، هناك بيوت مؤجرة غرفاً غرفًا، فيوجد أجانب في هذا البيت، ربما كانت امرأة صاحب هذه الغرفة في المطبخ، ربما كانت أخت صاحب هذه الغرفة في الحمام، فالبيت الذي تسكنه إذا كان فيه أجانب حكمه حكم البيت الذي لا تسكنه، فيحتاج إلى استئذان، أما إذا كان في البيت محارم، هناك الأم، أو الأخت، أو بنت الأخ، أو بنت الأخت، أو الأقارب هذا حكم آخر، فَعَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: 

((  يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَسْتَأْذِنُ عَلَى أُمِّي؟ فَقَالَ: نَعَمْ، قَالَ الرَّجُلُ: إِنِّي مَعَهَا فِي الْبَيْتِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا، فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنِّي خَادِمُهَا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا، أَتُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً ؟قَالَ: لَا، قَالَ فَاسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا. ))

[ مالك في الموطأ، والبيهقي في السنن الكبرى وهو ضعيف ]

 الحكم غريب، أمه، قال عليه الصلاة والسلام: (نعم، فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنِّي خَادِمُهَا، فقال عليه الصلاة والسلام: اسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا) أيْ كلما دخلت، فلما رأى النبي عليه الصلاة والسلام دهشة هذا السائل قال: (أَتُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً) ؟ وإن تكن أمك ـ (أَتُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً؟ قال: لا، قال فَاسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا) .

 حتى بيتك فيه والدتك، مثلاً أختك في البيت، بنت أختك، بنت أخيك يجب أن تدخل مستأذناً لئلا تقع عينك على شيء لا يحل لك أن تنظر إليه، بعض الناس يتوهمون، وهذا سوف يأتي معنا بالتفصيل أن لك أن تنظر إلى المرأة التي حُرِّمت عليك، حُرِّم عليك زواجها؛ كالأخت والأم، حتى هذه المحارم لابد من حدود في النظر إليهن، العلماء سموا ثياب الخدمة؛ الصدر مستور، والعضد مستور، والفخذ مستور، فيبدو الساق، والساعد، والرقبة فقط، أما هذا الذي ينظر إلى محارمه، وهن في أبهى زينة هذا مخالف لآداب الإسلام، وهذا يأتي معنا بالتفصيل في آيات أخرى، فصار في البيت ثلاثة احتمالات؛ أن يكون فيه أجنبيات، وحرمة الدخول إلى هذا البيت وفيه أجنبيات أشد من حرمة الدخول على بيت فيه محارم، لماذا؟ لأن الأجنبية ليس لك أن ترى منها شيئاً، فهي كلها عورة، لكنك إذا دخلت بيتًا فيه بعض محارمك، ونظرت إلى وجهها، وجهها مباح بالأصل أن تراه، والحرمة أخف، لكنك إذا دخلت إلى بيت ليس فيه إلا زوجتك فهل أنت بحاجة إلى استئذان؟ الجواب: نعم، ربما كانت عندها ضيفة، ربما كانت أختها عندها، وأختها لا يحل لك أن تنظر إليها، ربما كان عندها جارتها، فالاستئذان حتى في البيت ضروري. 

حالة أخرى: أنت خرجت من البيت، ودخل في ساحة نفسها أن البيت فارغ، فإذا فتحت الباب من دون أن تشعر، وفاجأتها في المطبخ ربما صعقت، وظنت أن هناك رجلاً أجنبياً دخل عليها، فأيضاً الآداب الإسلامية تقتضي لو أنك تملك مفتاحاً للبيت، وأردت أن تدخله أن تُعلِم أهلك أنني رجعت. 


استثناءات الاستئذان:


  هناك استثناءات، من هذه الاستثناءات: لو أن حريقاً شبّ في بيت، المسلم له أن يدخل هذا البيت لإطفاء الحريق من دون استئذان.

 لو أن صراخاً في البيت يستجير صاحبه من لصوص، فلك أن تقتحم البيت من دون استئذان لتنقذ أهله من اللصوص. هناك حالات استثنائية قاهرة يُعطَّل فيها هذا الحكم الشرعي.

 هناك شيء أخطر من دخول البيت من دون استئذان، لو أن إنساناً دخل بيتاً من دون أن يُعلِم أحداً، ومن دون أن يستأذن، ومن دون أن يستأنس، ومن دون أن يطرق الباب، وفاجأ أهل البيت، وهم في ساحته ماذا يفعلون؟ يأخذون حذرهم، يدخلون إلى غرف، يضعون على رؤوسهم شيئاً، أما هذا الذي ينظر من ثقب الباب إلى أهل البيت فالأمر خطير فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:

(( مَنِ اطَّلَعَ فِي دَارِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ فَفَقَئُوا عَيْنَهُ فَقَدْ هَدَرَتْ عَيْنُهُ. ))

[ أبو داود ]


حُكمُ مَن يختلس النظر في عورات البيوت:


 واختلف العلماء، بل اختلف الفقهاء في هذا الحكم، فهذا الذي ينظر إليك من دون أن تشعر يتلصص عليك في النظر، يسترق النظر إليك، وأنت غافل، فلو انتبهت، وفقأت عينه هل عليك شيء، أم لا شيء عليك؟ الأرجح أنه عليك شيء لقوله تعالى:

﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ۚ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ(45)﴾

[ سورة المائدة ]

 ولكن هذا الحديث الشريف حُمِل على المبالغة في الزجر.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ .


حُكمُ البيوت غير المسكونة


الحكم الأول: عدم الدخول إلا بالإذن:

 الآن: ﴿فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا﴾ طُرِق بيت بابه مفتوح، لم يجب أحد، فليس لك أن تدخل إليه، فلو دخلت إليه أوقعت نفسك في ورطة، أو أوقعت نفسك في شبهة، فلو ادعى عليك صاحب البيت أنه فقد منه مائة ألف لأُلصِقت هذه التهمة بك، لذلك فإنّ الله سبحانه وتعالى من تتميم تأديبه لنا يحظّر علينا دخول البيت حتى لو لم يكن فيه أحد، لكن دقة القرآن الكريم ليس لها حدود، وكلما فهمنا شيئاً من إعجازه نتأكد أن هذا الكلام ليس كلام البشر، إنما كلام خالق البشر، لم يقل: فإن لم يكن بها أحد، بل قال: ﴿فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا﴾ فإذا سبق لظنك أن هذه البيت خالية لا يحق لك أن تدخلها، فلو دخلتها ففوجئت أن فيه أشخاصاً، وقلت لهم: معذرة، كنت أظن أن هذه الدار خالية، هذا عذر أقبح من ذنب، لأن الله سبحانه وتعالى نهاك أن تدخلها مسكونة أو غير مسكونة.

 قال ربنا عز وجل: ﴿فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا﴾ أيْ إذا غلب على ظنكم أن ليس بها أحد، مع العلم أنه قد يكون بها أحد، فالعبرة أن يغلب على ظنك أنه ليس بها أحد، فلا ينبغي أن تدخلها حتى يُؤذن لكم، فكيف يؤذن لكم؟ ليس بها أحد، يكون صاحبها قد أعطاك الإذن، أعطاك المفتاح، أعطاك تفويضاً، فإذا انتبه الجار، وقال لك: أين تدخل؟ قلت: هذا المفتاح، وهذا تفويض بتوقيع صاحب البيت، فإذا أنت أردت أن تدخل فهذا يحدث، أعارك إنسان بيتًا في مصيف، وقال: خذ المفتاح، يقول: أريد ورقة، لا يكفي المفتاح، بل يجب أن يكون هناك إذن خطي، حتى إذا سألك الجيران إن كان معك إذن خطي أريتَه لهم، هذه آداب القرآن: ﴿فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ﴾ أي معك إذن مسبق. 

الحكم الثاني: وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا

 ﴿وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا﴾ إنْ وجدت في البيت أحدًا، فالآية عجيبة، إذا دخلت البيت، وفيه إنسان غير مالكه، ومنعك من الدخول فمعه حق. 

﴿وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا﴾ قد يكون البيت في مصيف، وصاحب البيت أعطاه لصديق له، وسمح لك أن تذهب إليه، ذهبت إليه، فإذا هو مشغول، حصل هناك خطأ في المواعيد، يقول لك الذي في البيت: لا تدخل، أنا هنا، فارجع أنت.

﴿وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا﴾ هذا حكم ثان للبيت غير المسكون، إن أردت دخوله فلابد من إذن واضح، وإن كان به إنسان لا يملكه، ومنعك من الدخول فله الحق في ذلك، وإذا غلب على ظنك أن هذا البيت ليس فيه أحد فليس لك أن تدخله، مع أنه خالٍ من السكان، هذه بعض الأحكام التي تؤخذ من قوله تعالى: ﴿فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ﴾ .


هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ


 أطهر، أزكى لسمعتكم، أزكى لكرامتكم، أزكى لمكانتكم، أزكى لشخصيتكم.

﴿هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ هذا تهديد، فإنّ الله سبحانه وتعالى يقول: أنا أعلم بما تعملون، أعلم الدوافع الخفية التي وراء أعمالكم، أعلم ما إذا كنتم توهمتم أن أحدا في البيت ليس موجودا، أو موجودا فهذا يعلمه الله عز وجل، أعلم نواياكم في دخول البيت، أعلم كل شيء، كل أعمالكم مكشوفة عند الله عز وجل، قال بعض العلماء: هذا تهديد من الله عز وجل، أي أيها العباد أنا عليم خبير بطوايا نفوسكم، بنواياكم، بما يعتلج في صدوركم، ومن قوله تعالى: ﴿وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا﴾ ماذا يفهم من هذا الحكم؟ يفهم من هذه الآية أن عليك ألا تلح في الدخول، لأنّ الإلحاح ليس من صفات المؤمن، وفي الحديث: 

(( اِبْتَغُوا الْحَوَائِجَ بِعِزَّةِ الأَنْفُسِ فَإِنَّ الأُمُورَ تَجْرِي بِالْمَقَادِيرِ ))

[ المقدسي في الأحاديث المختارة عن عبد الله بن بسر وهو ضعيف ]

 لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه ﴿وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُم﴾ أيْ أزكى لعملكم، لشخصيتكم، لمكانتكم، لكرامتكم، لشأنكم. 


لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ


  ثم يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ﴾ المحلات التجارية لك أن تدخل من دون استئذان، لأن هذا المحل التجاري بالأساس مهمته استقبال الناس، فليس معقولاً أن تقول اسمح لي، أأدخل؟ صاحب المحل يريد أن يبيع ويشتري، والفندق مكان عام، الحمام في الماضي، المرافق العامة، الحوانيت التجارية، أحياناً مكان مثل النادي الرياضي مفتوح الأبواب لكل الداخلين، فهذه النوادي، البيوت المعدة مثلاً لاستقبال الأجانب، للتأجير فرضاً، الفنادق، الأماكن العامة، الحوانيت التجارية هذه كلها لك أن تدخلها من دون إذن، فطبيعة المحل يقتضي أن تدخله بلا إذن، لكن يقول الله عز وجل: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ﴾ لكم في هذا البيت حاجة. 


وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ


  لكن: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ﴾ في هذا المحل نساء متبذلات، ندخل المحل ونسأل سؤالاً لا جدوى منه؛ عندك الحاجة الفلانية؟ فربنا عز وجل يعرف ما نيتك من هذا الدخول، أنت حينما دخلت إلى هذا الحانوت ليس في نيتك أن تشتري، نيتك أن تنظر إلى هؤلاء النسوة المتبذّلات، فربنا عز وجل؛ دخول فندق، دخول مكان عام، دخول نادي، فالإنسان يكون مضطراً أحياناً، لكن هناك حالات وراء الدخول الاستمتاع بما حرم الله، فدخوله صار مُحرّماً، ربنا عز وجل يقول: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ﴾ هناك أسواق تجارية، إذا كان الإنسان يمشي في هذه الأسواق بغية النظر للنساء فهذا إثم كبير، والله سبحانه وتعالى يتهدده في هذه الآية، أحياناً في هذا السوق مُحلِّل، يحتاج هذا الإنسان لتحليل دم، فمر في هذا السوق، ودخل إلى مكتب المُحلِّل، هذا له حاجة، والله سبحانه وتعالى يعلم نيته، فكل إنسان يذهب إلى أماكن عامة فيها نساء كاسيات عاريات له هدف آخر غير الانتفاع بهذه الحوانيت فهو آثم. 

﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ﴾ غير معدة للسكن، هذه معدة للتجارة، للبيع، للشراء هذا مرفق عام، ﴿فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ﴾ فالله سبحانه وتعالى يعلم علم اليقين ما تنطوي عليه أنفسكم من نوايا شريرة أو خيّرة.

 هذه الآيات الثلاث نوع من التدابير الاحترازية التي تمنع الخلوة، والخلوة باب الزنى، فعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: 

((  لَا يَخْلُوَنَّ أَحَدُكُمْ بِامْرَأَةٍ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ ثَالِثُهُمَا. ))

[ أحمد ]

 وفي درس قادم نتحدث عن غض البصر الذي هو التدبير الثاني الذي يمنع من الزنى، نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء.

هذه السورة مهمة جدا، وأرجو الله سبحانه وتعالى أن تنتقل من عقولنا إلى سلوكنا، أن تصبح هذه الآداب آداباً نعيشها لا آداباً نستمع إليها.

والحمد لله رب العالمين.


دعاء


اللهم أغننا بالعلم، وزينا بالحلم، وأكرمنا بالتقوى، وجملنا بالعافية، وطهر قلوبنا من النفاق وأعمالنا من الرياء، وألسنتنا من الكذب، وأعيننا من الخيانة، فإنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مباركاً مرحوماً، واجعل تفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور