وضع داكن
19-04-2024
Logo
الدرس : 18 - سورة النور - تفسير الآيات 43 – 49 قانون الأمطار
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما، وأرنا الحق حقا، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا، وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الثامن عشر من سورة النور، وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى:

﴿  أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ(41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ(42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ(43)﴾

[ سورة النور ]


تعليق مهمٌّ: الإنسان مدعوٌّ إلى التفكر في خلق السماوات والأرض:


 وهذه الآية تم شرحها في الدرس الماضي، ولكن إذا كان من تعليق عليها، فهو: أن الإنسان مدعوٌّ بنص هذه الآية إلى التفكر في خلق السماوات والأرض، لأن الله سبحانه وتعالى كرّم الإنسان بالعقل، وهذا العقل كُرِّم به الإنسان لا ليستخدمه في شؤونه الدنيوية، ويأتي يوم القيامة مفلساً، بل عليه أن يستخدمه في التعرف إلى الله سبحانه وتعالى، وقد مر بنا في درس سابق أن الحيوانات المائية التي تعيش في قيعان البحار، ليس عندها أدوات بصر، لماذا؟ لأن الضوء منعدم هناك، فإذا لم يكن هناك ضوء فما الحاجة إلى هذه العيون؟ فحينما يخلق الله العين، فمعنى ذلك: أن لها وظيفة خطيرة، وحينما يخلق الله العقل، فمعنى ذلك أن له وظيفة خطيرة، فمن اعتمد على عقله في كسـب رزقه، وفي حل مشكلاته، وفي تأمين حاجاته، ولم يستخدم عقله في التعرف إلى الله عز وجل فقد مسخ هذا العقل، واحتقره، وكيف لا؟ وقد كرم الله الإنسان بهذا العقل، ولذلك فالإنسان حينما ينظر إلى ملكوت السماوات والأرض، ولا يقف في نظراته متأملاً، بل يمر عليها مر الغافلين، عندئذ سيندم هذا الإنسان أشد الندم، فربنا سبحانه وتعالى جعل بين أيدينا، ومن خلفنا، وعن أيماننا، وعن شمائلنا، وفي كل شيء آيات صارخة ذات دلالة قاطعة، فربنا سبحانه وتعالى يقول:


السحاب:


﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا﴾ ما هو السحاب؟ وما العلاقة بين الماء والهواء؟ وكيف يحمل الهواء الماء؟ وكيف يحمله بشروط دقيقة؟ كيف أن كل درجة من درجات الحرارة تجعل الهواء يحمل عدداً من الغرامات من بخار الماء؟ من جعل ذلك؟ من قال ذلك؟ ومن قنّن ذلك؟ إذا ارتفعت الحرارة حمل الهواء ما يزيد عن مائة وثلاثين غراماً من بخار الماء، حملها وأنت لا تراها، فإذا صعد الهواء المحمَّل ببخار الماء إلى أعالي الطبقات كلما ارتفعنا مائة وخمسين متراً هبطت الحرارة درجة، فإذا هبطت الحرارة في أعالي الجو، عاد الهواء ليتخلى عن بخار الماء الذي حمله على سطح البحر، فإذا تخلى عن حمله انعقد بخار الماء سحاباً، وهذا الذي نراه في أعالي الجو هو بخار ماء مُنعقدٍ كان على سطح الأرض محمولاً بالهواء، فلما ارتفع الهواء إلى طبقات عليا انعقد بخار الماء سحاباً، وربنا سبحانه وتعالى يرسل الرياح، والرياح وحدها آية دالة على عظمة الله سبحانه وتعالى، ففي خط الاستواء حيث الحرارة مرتفعة، وارتفاع الحرارة يعني تمدد الهواء، وتمدد الهواء يعني خلخلة الهواء، وفي القطبين حيث الحرارة منخفضة يثقل الهواء، أيْ ينكمش، وفي القطبين ضغط مرتفع،

وعند خط الاستواء ضغط منخفض، ومن تباين الضغطين تنشأ حركة سطحية للهواء، تلك هي الرياح، ولولا تباين درجات الحرارة بين القطب وخط الاستواء لمَا كانت الرياح، وهذا تفسير مبسط جداً جداً للرياح، وهناك تفسيرات بالغة التعقيد، فالرياح الشمالية، والرياح الجنوبية، والرياح البحرية، والرياح الجافة، والرياح الموسمية، هناك تفسيرات، ونظريات بالغة التعقيد لتفسيرها،

لكن الرياح بشكل مبسط هي مكان حار، ذو ضغط منخفض، ومكان بارد، وذو ضغط مرتفع، ومن اختلاف ارتفاع الضغط وانخفاضه تنشأ التيارات السطحية التي تسوق السحاب إلى أرض عطشى، مشتاقة للماء، فيأتي الماء غيثاً يغيث عباد الله عز وجل، ألم تر أيها الإنسان! تقول: البادية جاءها موسم طيب، فأنبتت الكلأ، وكثر الخير، وهذا من فعل من؟ من فعل الله سبحانه وتعالى، الرزاق ذي القوة المتين.

﴿ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَه﴾ السحب كما قلت لكم في درس سابق قد تغطي مساحات شاسعة، فالسحابة الواحدة قد تحمل آلاف الأطنان من الماء، فلو أنه هطل على قطرنا ما يعادل ثلاثين ميليمتراً من الماء، أي أن حجم الماء يزيد عن خمسة مليارات طن، أي خمسة آلاف مليون طناً من الماء نزل من السماء، وكان في البحر فمن ساق الماء؟ قال سبحانه: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا﴾ هذه الغيوم الركامية التي يزيد ارتفاعها عن سبعة كيلو مترات محملة بخيرات لا يعلمها إلا الله.


الماء:


 ﴿فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ﴾ هذا البرق، هذه الغيمة بعضها مشحون بشحنات كهربائية إيجابية، وبعضها مشحون بشحنات سلبية، وحينما تتصادم الغيمتان، أو حينما تتصادم أجزاء الغيمة الواحدة ينعقد البـرق، وهـو (الودق) في نص هذه الآية: ﴿فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ﴾ وقد ترتفع حرارة البرق إلى أربعة آلاف درجة، ولا تنسوا أن حرارة سطح الشمس ستة آلاف درجة، وهذه هي الصواعق التي تحرق الأخضر واليابس.

﴿فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ﴾ فإذا سار البرق في الهواء تمدد الهواء بفعل الحرارة المرتفعة، وبعد التمدد يعود الهواء البارد ليملأ هذا الفراغ، فيكون الرعد، والرعد في القرآن الكريم مذكور في آيات عديدة.

﴿فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ﴾ أي حجم المياه التي ينزّلها الله سبحانه وتعالى يعادل حجم الجبال، بل إنك إذا ركبت الطائرة، وحلّقت في أجواء السماء فوق الغيم ما وسِعك إلا أن تسبح الله سبحانه وتعالى على هذا التشبيه الذي ما عرفه الإنسان إلا بعد ركوب الطائرة، إنه يطير فوق جبال من الغيوم، جبال ووديان، وأكَمات، وتلال، بعضها فوق بعض.

﴿وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ﴾ هذا السحاب حينما يواجه جبهة باردة ينعقد قطرات من الماء، فإذا كان هذا الانعقاد في جو بارد يزيد عن خمسين درجة تحت الصفر في أعالي الجو، ربما انعقد الماء برَداً، وهذا البَرَد ينزل بفعل الجاذبية، ثم يواجه تيارات صاعدة تحمله نحو الأعلى، فكلما ارتفع نحو الأعلى زاد من حجمه، وكسته طبقة جديدة من الماء، وكلما هبط نحو الأسفل زاد من حجمه، إلى أن تصبح حبة البرَد كحبة البرتقالة، وهذه الحبة لو نزلت على رؤوس الناس لقتلتهم، ولو نزلت على مدينة لأهلكتها، ولو نزلت على بستان لكسّرت أغصان الأشجار، لكن الله لطيف فبفعل احتكاك هذه الحبات بالهواء، وبفعل الحرارة في طبقات الجو الدنيا، تصغر، وتصغر حتى تصبح كحبة الحمص.

﴿وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ﴾


قانون الأمطار:


 لذلك فهذه الأمطار لها قانون يعرفه علماء الجغرافيا، ولها قانون يعرفه علماء التوحيد، فعلماء الجغرافيا يحللون المطر بتبخر سطح البحر، وانعقاد البخار سحباً، ثم تحوُّل السحب إلى قطرات ماء تسقط بفعل الجاذبية، وهذا تفسير المطر عند علماء الجغرافيا، أما تفسير المطر عند علماء التوحيد فهو مستنبط من قوله تعالى:

﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)﴾

[ سورة الأعراف ]

 وقال سبحانه:

﴿  وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً(16) لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ۚ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا(17)﴾

[ سورة الجن ]

 وقال عز وجل:

﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ۚ مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ(66)﴾

[ سورة المائدة ]

 معنى ذلك: أن الله سبحانه وتعالى حينما يقنن الأرزاق يقننها تقنين تأديب، ولا يقننها تقنين عجز، فالإنسان إذا ضاقت عليه المسالك فعليه بمحاسبة نفسه، إذا ضاقت عليه المسالك فعليه بمراجعتها، إذا ضاقت عليه المسالك عليه أن يسأل نفسه هل هناك تقصير؟ وهل هناك عدوان؟ وهل هناك مخالفة ؟ ومعصية؟ واستخفاف؟ واستهتار؟ 

((  مَا مِنْ عَثْرَةٍ، وَلاَ اخْتِلاَجِ عِرْقٍ، ولا خَدْشِ عُودٍ إِلاَّ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَمَا يَعْفُو اللَّهُ أَكْثَرُ ))

[ رواه البيهقي في شعب الإيمان من قول أبي بن كعب وهو ضعيف ]

 قال تعالى:

﴿ مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا(147)﴾

[ سورة النساء ]

 وقال:

﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)﴾

 

[ سورة النحل ]

 وقال:

﴿  وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125)﴾

[ سورة طه ]

 وقال:

﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ(21)﴾

[ سورة الجاثية ]

 إذاً: ﴿فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ﴾ إذا أحب الله قوماً أمطرهم ليلاً، وأطلع عليهم الشمس نهاراً، وربنا عز وجل أحياناً تُصاب البلاد بسنوات جفاف متتابعة، إلى أن يقول الناس: لقد تصحّر الجو، وشحّت السماء، وانتقلت خطوط المطر، وتستمع إلى تفسيرات وتفسيرات ما أنزل الله بها من سلطان، وأحياناً يريد ربنا سبحانه وتعالى أن يعلّم الناس أن ليست تفسيراتكم صحيحة، إنما هو تقنين التأديب، فلو أردت لأنزلت عليكم ماءً غدقاً تُفتنون فيه، والله سبحانه وتعالى أرانا من كرمه، ومن فضله في العام الماضي كيف أن الأراضي ارتوت بوفرة مياه الأمطار، وحينما يئس الناس في أول العام، وكدنا نظن أن هذا العام عام قحط وجدْب أكرمنا الله سبحانه وتعالى بأمطار وفيرة، كانت سبباً لإحياء الأمل، وتوقع الخير، إن شاء الله تعالى. 


تعاقب الفصول: يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ


  ﴿يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ﴾ توجيه كريم من الله الحكيم، أن هذه العين التي أكرمك الله بها إنه مِمّا يؤذيها أن تنظر فيها إلى النور المبهر. ﴿يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ﴾ .  

﴿ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ(44)﴾

[ سورة النور  ]

 ألم يَأْنِ لنا أن نفكر في هذه الأرض، لمـاذا فيها ليل ونهار؟ لأن الأرض تدور حول نفسها، ومحورها ليس موازياً لمستوى دورانها حول الشمس، ولو أن محور الأرض كان موازيًا لمستوى دورانها حول الشمس لما كان هناك ليل ولا نهار، وعلى الرغم من الدوران تدور هكذا الشـمس من هنا، هنا نهار سرمدي، وهنا ليل سرمدي، لا يكفي أن تدور حتى يكون الليل والنهار، لابد أن تدور على محور مخالف لمستوى دورانها حول الشمس، ولو أن هذا المحور متعامد مع مستوى الدوران، الشمس هنا، ومحور الأرض هكذا تدور حول نفسها، فما الذي يحصل؟ تنعدم الفصول؛ فلا صيف ولا شتاء، ولا ربيع ولا خريف، لأن أشعة الشمس تكون في مكان ثابت عمودية، وفي مكان آخر مائلة، وفي مكان ثالث شديدة الميل، ولو أن محور الأرض متعامد مع مستوى دورانها حول الشمس لما كانت الفصول، فمن الذي قرر أنه لا بد أن تدور الأرض حول محور مائل، ودرجة الميل هي ثلاث وعشرون درجة؟ فهذا تصميم من؟ وصنع من؟ فبميل محورها، ودورانها حول الشمس تتبدل الفصول؛ من صيف، إلى شتاء، إلى ربيع، إلى خريف، فإذا كان محورها هكذا، والشمس من هنا جاءت أشعة الشمس العمودية على قسمها الجنوبي، فكان نصف الكرة الجنوبي صيفاً، ونصفها الشمالي شتاء، فإذا انتقلت الأرض إلى هنا هكذا تكون أشعتها على قسمها الشمالي عمودية، فيكون الصيف، وعلى قسمها الجنوبي مائلة، فيكون الشتاء، فهذه المناطق الأرضية يأتيها صيف، ويأتيها ربيع، ويأتيها خريف، ويأتيها شتاء بفضل هذا الميل، فمن جعل الليل لباساً، والنهار معاشاً؟ ومن جعل الليل بارداً، والنهار حاراً؟ ومن جعل الليل مظلماً، والنهار مشرقاً؟ ومن جعل الليل كي تسكن في بيتك، والنهار كي تسعى في رزقك؟ من جعل هذا وذاك؟ أليس الليل والنهار آيتين من آيات الله الدالة على عظمته؟ يقول ربنا سبحانه وتعالى: ﴿يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ﴾ فمن جعل النهار في الصيف طويلاً، وفي الشتاء قصيراً؟ والشتاء ربيع المؤمن، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: 

((  الشِّتَاءُ رَبِيعُ الْمُؤْمِنِ  ))

[ مسند أحمد، والبيهقي في السنن الكبرى وهو ضعيف ]

طال ليله فقام وقصر نهاره فصام، فمن جعل الليل والنهار يختلفان في الطول والقصر؟ وفي الضوء والظلام؟ وفي الحر، والبرد؟ وفي وظيفة الكسب، ووظيفة السكنى؟ إنه الله سبحانه وتعالى، فهذا العقل، أو هذا الفكر لا ينبغي له أن يبقى مأسوراً في كسب الرزق، بل ينبغي أن ينطلق إلى آفاق الكون، وإلى آيات الله الدالة على عظمته، وينبغي له أن يتفكر، وأن يتأمل، وأن يقلب، وأن يدقق، وأن يوازن، وأن يتحقق، وأن يتدبر.

﴿يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾ إنّ أشعة الشمس في الشتاء تدخل إلى أعماق الغرف، أليس هذا من حكمة الله؟ وأشعة الشمس تكون في الشتاء مائلة، ومعنى ميلها: أنها تصل إلى جوف البيت، وفي الصيف تكون عمودية، ومعنى أنها عمودية: أنها لا تتجاوز بضع سنتيمترات من الغرفة، هذا من فضل الله عز وجل، ففي الفصل الذي أنت بحاجة إلى الشمس تأتيك إلى أعماق الغرفة، وفي الفصل الذي أنت بحاجة إلى الظل تقف على النافذة، ولا تقتحم عليك غرفتك، هذا من فضل الله عز وجل، والله ﴿يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الْأَبْصَارِ﴾ وهؤلاء الذين لا يفكرون ليسوا من أولي الأبصار.

﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)﴾

[ سورة الحج ]

 وهؤلاء الذين لا يدققون بماذا تفكرون؟ أي شيء نفكر فيه ينتهي عند الموت، لكنك إذا فكرت في خلق السماوات والأرض فهذا التفكير ينقلك إلى تعظيم الله سبحانه تعالى، وتعظيم الله سبحانه وتعالى يحملك على طاعته، وطاعته تحملك على الإقبال عليه، والإقبال عليه يسعدك في الدنيا والآخرة، لذلك: ﴿يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الْأَبْصَارِ﴾ مرة ثانية مصادر المعرفة كثيرة، لو تأملت في الكون لعرفت الله سبحانه وتعالى، ولو تلوت هذا الكتاب لعرفت الله سبحانه وتعالى، ولو نظرت في أحوال الناس لعرفت الله سبحانه وتعالى، فالكون قرآن صامت، والقرآن كون ناطق، وأفعال الله سبحانه وتعالى قرآن مطبق. 

ثم يقول الله سبحانه وتعالى متابعاً الحديث عن الآيات الكونية، ولماذا الحديث عن الآيات الكونية بعد الحديث عن نور الله الذي يتمثل في قلب المؤمن كالزجاجة التي يضيء فيها مصباح وضّاء، وبعد الحديث عن نور الله في قلب المؤمن يبين الله لنا سبحانه وتعالى طريق اكتساب هذا النور، وطريق امتلاكه، إنه في التفكر في خلق السماوات والأرض، والله سبحانه وتعالى خلق كل دابة من ماء، والدابة كل مخلوق يدب على وجه الأرض، أي يسير عليه، وسيدنا هود يقول الله سبحانه وتعالى على لسانه:

﴿ مِن دُونِهِ ۖ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم ۚ مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ۚ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (56)﴾

[  سورة هود  ]

 فالدابة هنا أي مخلوق يدب على وجه الأرض ﴿مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِه﴾ .

 وقال سبحانه:

﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ(6)﴾

[ سورة هود ]

 فالدواب جميعاً، ونحن البشر مشمولون بهذه الآية، الدواب جميعاً على الله رزقها، والله سبحانه وتعالى آخذ بناصيتها، فلمَ الخوف إذاً؟ ولمَ المعصية إذاً؟ لمَ تعصي الخالق لترضي المخلوق، إذا كان رزقك على الله عز وجل، وإذا كانت كلمة الحـق لا تقطع رزقاً، ولا تقرب أجلاً؟ فسرُّ العزة هو التوحيد، سر عزتك أن تعرف أن أمرك بيد الله وحده.

﴿  وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(45)﴾

[ سورة النور ]


من الإعجاز العلمي في القرآن: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ


 هذه الآية من إعجاز القرآن العلمي، فلم يكن حين نزل القرآن الكريم يعرف أن الإنسان مؤلف من 70% من وزنه ماء، فعِلمُ الخلية يؤكد أن الماء هو المكون الأساسي من مكونات الخلية،

ولولا الماء لما كانت خلية، ولولا الخلية لما كان المخلوق، وإن كل كائن حي تعد الخلية أصغر وحدة وظيفية فيه، وكان العلماء يظنون أن الخلية هي أصغر وحدة بنائية، ثم اكتشفوا أن الخلية هي أصغر وحدة وظيفية، ولها غشاء، ولها هيولّى، ولها نواة، وعلى النواة مورثات، وهذه المورثات تحمل خمسة آلاف مليون معلومة، تسهم في تشكيل الإنسان، فالحوين المنوي خلية، والبويضة خلية، والخلية كما قلت قبل قليل أصغر وحدة وظيفية في الكائن الحي، والنبات له خلايا، ولو وضعنا ورقة نبات تحت مجهر لرأينا الخلايا أصغر وحدات وظيفية فيها، فالنبات مكون من خلايا، والحيوان مكون من خلايا، والإنسان مكون من خلايا، والإنسان مكون من آلاف الملايين الملايين من الخلايا، فأول شيء يعد الماء أهم مكون للخلية، والكائن الحي مؤلف من مجموعة خلايا، وربنا سبحانه وتعالى حينما قال: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ﴾ يعني أن الماء يسهم في بنية الخلية.


الماء ضروري لحدوث التفاعلات والتحولات في الكائنات الحية:


  شيء آخر؛ يقول علماء الأحياء: "إن الماء ضروري لحدوث جميع التفاعلات والتـحولات التي تتم داخل الكائنات الحية"، فعملية الهضم تحتاج إلى ماء، وعملية الدوران تحتاج إلى ماء ، وعملية طرح الفضلات تحتاج إلى ماء، وأي نشاط حيوي في الجسم البشري، وجسم الحيوان، وفي النبات يحتاج إلى ماء، فالماء وسيط، وما دام الماء وسيطاً في كل تفاعل أو تحول يتم في جسم النبات والحيوان والإنسان، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ﴾ .


الماء ضروري لقيام كل عضو بوظيفته:


 وشيء آخر؛ إن الماء ضروري لقيام كل عضو بوظيفته، وأي عضو في جسم الإنسان لا يقوم بوظيفته إلا عن طريق الماء، فالماء إذاً ضروري أن نشربه كي تتم عمليات الهضم، وتتم عمليات تصفية الدم، وطرح البول، فالإنسان يتألف من 70% من وزنه ماء، فإذا كان وزنه 70كغ فيه 50 كغ من الماء.


الماء ضروري لحياة الإنسان:


 وشيء ثالث؛ هو أن الإنسان بإمكانه أن يعيش دون طعام 60 يوماً، ولكنه ليس بإمكانه أن يعيش دون ماء أكثر من ثلاثة أيام،

وقد تصل إلى ستة أيام على أبعد تقدير، إذاً الماء مكون أساسي في الكائن الحي، وهذه السوائل التي نحن في أمس الحاجة إليها، الدم قوامه الماء، والسائل اللمفاوي قوامه الماء، والسائل النخاعي قوامه الماء، وماء العين قوامه الماء، وإفرازات الجسم كالبول، والعرق، والدموع قوامها الماء، واللعاب قوامه الماء، والصفراء قوامها الماء، وحليب الأم قوامه الماء، والسوائل الموجودة في المفاصل قوامها الماء، والماء كما يقول علماء الطب سبب ليونة الجسم، وسبب رطوبته، ولو أن الإنسان خسر من مائه 20% فقط لواجه الموت، ففي بجسم الإنسان 70% من وزنه ماء، لو خسر من هذه 70% خُمسَها لواجه الموت، ولو بقيت أربعة أخماس الكمية في جسم الإنسان يواجه الموت، والمواد الغذائية لا تنتقل إلى الدم إلا عن طريق الماء، وهذا الذي تأكله لماذا تحتسي معه الشراب، الشاي مثلاً، ولماذا تشرب معه الماء؟ لأن هذه المواد الغذائية لا يمكن أن تُهضَم إلا إذا حُلَّت بالماء، فإذا حُلَّت بالماء أصبحت سائلاً تمر في الأمعاء الدقيقة، وتمتصها الزغابات المعوية، وتحيلها إلى الدم، وذلك عن طريق الماء.

﴿وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ﴾ والنبي عليه الصلاة والسلام في أثناء الهجرة واجه مع الصديق رضي الله عنه رجلاً متجهم الوجه، قال: من أنتما؟ أو قال: من أين أنتما: فقال عليه الصلاة والسلام: 

((  نَحْنُ مِنْ مَاءٍ  ))

[ سيرة ابن هشام ]

 وهذه حقيقة، نحن من ماء، وكأن النبي عليه الصلاة والسلام كشفت له الحقيقة؛ أن قوام الكائن الحي هو الماء، ولذلك حيثما ترى الماء ترى المدن والقرى، وترى الحضارات، وأكبر حضارات الأرض نشأت حول ضفاف الأنهار، كحضارة النيل، وحضارة الرافدين، وما من مجمع سكاني كبير إلا والماء شريانه الحيوي، وما قيمة الشام إذا كانت دون نهر بردى، ونبع الفيجة؟ وما قيمة هذه البلاد المبعثرة في شتى بقاع الأرض لولا ينابيع الماء، والأنهر التي أجراها الله في هذه البلاد؟.

 لذلك: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ﴾ .  


فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ


  ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ﴾ وربنا سبحانه وتعالى جعل بعض الحيوانات تمشي على بطنها، كالحية، والثعبان، وتمشي مجازاً، وإنما هي تزحف على بطنها، والأسماك، تُضم إلى قائمة الحيوانات التي تمشي على بطنها، فلها زعانف، وتسبح بالماء، وكأنها تزحف على بطنها، والدود يمشي على بطنه..


الإنسان مكرَّم: وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ


 ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ﴾ الإنسان مكرم فجعل الله يديه طليقتين، ومن طلاقة يديه، ومن إطلاقهما بُنيت هذه الحضارة الإنسانية، فالحيوان يمشي على أربع، وليس له إلا لسانه وفمه، ويبحث في الأرض بها، ولكن الإنسان يمشي على رجلين، ويداه طليقتان، وبهما يبني، ويحيك ثوبه، ويصنع بابه، ويخصف نعله، ويزرع أرضه، ويبذرها، ويحصد محصوله، وينقله، وكل أعمال البشر تتم عن طريق اليدين، حتى إنهم يقولون: اليد العاملة، والعنصر البشري هو عنصر أساسي في كل مشروع، وفي كل عمل إنتاجي، واليد العاملة هي الشيء الأساسي في كل عمل.

﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ﴾ وقد أضاف بعض العلماء الطير، إنه يمشي على رجلين، والنعام يمشي على رجلين. 


وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ


  أي: أربع أرجل، هذه الدواب، والخيل، والبغال، والحمير، والأنعام؛ من الجمال، والأغنام، والأبقار، كلها تمشي على أربع، وقد يقول قائل: هناك حشرات تمشي على ست أرجل، أو تمشي على ثماني أرجل، أو تمشي على أربع وأربعين رجلاً، لكن الشيء الذي يلفت النظر أن هذه الحشرات التي لها كل هذه الأرجل تستطيع أن تستقر على أربع منها فقط، وأما الباقي فلها وظائف أخرى، ولذلك يقول ربنا سبحانه وتعالى: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾ وقد قال بعض العارفين بالله: "والله يا رب، لو تشابهت ورقتا زيتون لما سُميت الواسع" ، وما من ورقتي زيتون على سطح الأرض متشـابهتان، وما من إنسان يشبه إنساناً آخر! وفي الأرض خمسة آلاف مليون من البشر، وكل إنسان له شكل لوجهه خاص، وطريقة في الحديث، وطريقة في التكلم والانفعال، وله نبرة خاصة، وله تركيب دم خاص، وله بصمة خاصة، وله موجة خاصة! نعرف بها صوته، وله رائحة خاصة، وله تركيب حيوي خاص! وهذا من تكريم الله للإنسان، لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 

((  خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ. ))

[ البخاري، مسلم ]

 يعني على صفاته، ومن صفاته سبحانه وتعالى أنه فرد لا شبيه له، وكذلك الإنسان جُعل بشكل لا يشبه مخلوقاً آخر. 

﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾ وهناك آيات كثيرة لو فكرنا فيها لذابت نفوسنا شوقاً إلى الله عز وجل، المفصل، ولولا هذا المفصل كيف نأكل؟ لابد أن نضع الصحن على الأرض، وأن نستلقي عليها، ونأكل بفمنا مباشرة! لولا هذا المفصل، فالمفصل آية من آيات الله الدالة على عظمته، فهذه الرسغ، وهذه الأصابع، وهذا الإبهام، وهذا الجلد المرن، وهذه العضلات، وهذه الأعصاب، وهذا الأنف فوق الفم، وهاتان العينان في المحجرين، وهذا الدماغ في الجمجمة، وهذا النخاع الشوكي في العمود الفقري، هذه المعامل معامل كريات الدم في نقي العظام. 


يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ


  ﴿يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾ لكن الذي يلفت النظر هو أن الإنسان يشبه الحيوان في بنيته، ولكن الله سبحانه وتعالى كرمه، فشتان بين الإنسان والحيوان، وقد نقف على قصّاب، فنرى لهذا الخروف عضلات، وأوتاراً وأوردة، وشرايين، وقلباً، وعظاماً، وجهاز تنفس، وجهاز هضم، وجهاز إفراز، ورأساً، وعينين، وأذنين، ورأساً، وفماً وأسنانًا كما في الإنسان! ولكن شتان بين الإنسان والحيوان، قال الخلاَّق العليم:

﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا(70)﴾

[ سورة الإسراء ]

 شيء آخر:

﴿  وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(45) لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(46)﴾

[ سورة النور ]


لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ


 وربنا سبحانه وتعالى نصب في الكون أدلة على وجوده، وأدلة على أسـمائه الحسنى، وأدلة على صفاته الفضلى، وأدلة على ربوبيته، وأدلة على ألوهيتته، وأدلة على علمه، وأدلة على خبرته، وأدلة على قوته، وأدلة على رحمته، وأدلة على لطفه، وأدلة على عطفه، وأدلة على تربيته، ألا ينبغي لنا أن نقف عند هذه الآيات، وعند هذه الأدلة؟

﴿لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ﴾ فالآيات هي العلامات قد تُحمل على آيات القرآن، وقد تحمل على آيات الأكوان، ففي الأكوان آيات، وفي القرآن آيات، وآيات الأكوان كآيات القرآن دالة على الواحد الديان، فإذا أكرمك الله عز وجل فتفكر في الأكوان مرة، واقرأ كتاب الله مرة، تفكر في الكون، ودقق في آيات اللـه التي بين يديك، فهذه الآيات كـلها دالة على عظمة اللـه عز وجل.

 وقد مر معنا في الخطبة اليوم أن عمير بن وهب حين أخذ العفو لصفوان من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله إن صفوان هرب إلى جدة ليركب البحر أو ليلقي نفسه في البحر فأمِّنه صلى الله عليك إنه سيد قومه، قال عليه الصلاة والسلام: "هو آمن"  وعندها سأله عمير بن وهب رضي الله عنه يا رسول الله: أعطني آية يعرف بها أنك أمّنَتْه فأعطاه النبي عليه الصلاة والسلام عمامته التي دخل بها مكة، فقال: "خذ هذه العمامة، وأعطها إياه" فلما لحقه، وهو يهم بركوب البحر، قال: يا صفوان هذه عمامة النبي لقد أمّنَكَ. 

فإذاً وقفت عند كلمة أعطني آية، يعرف منها أنه أمنه، فالقرآن آيات معرفة الله أساس الدين، وأصل الدين معرفته

 وعن عبد الله بن المسور أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله علمني من غرائب العلم قال: 

((  مَا فَعَلْتَ فِي رَأْسِ الْعِلْمِ فَتَطْلُبَ الْغَرَائِبَ؟ قَالَ: وَمَا رَأْسُ الْعِلْمِ؟ قَالَ: هَلْ عَرَفْتَ الرَّبَّ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ فَمَا صَنَعْتَ فِي حَقِّهِ؟ قَالَ: مَا شَاء اللَّهُ، قَالَ: عَرَفْتَ الْمَوْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مَا أَعْدَدْتَ لَهُ، قَالَ: مَا شَاءَ اللَّهُ، قَالَ: انْطَلِقْ فَاحْكُمْ هَاهُنَا، ثُمَّ تَعَالَ أُعَلِّمْكَ مِنْ غَرَائِبِ الْعِلْمِ ))

[ سنن النسائي ]

 أيْ إذا عرفت الأمر قبل أن تعرف الآمر فلن تطبق الأمر، بل تحتال عليه، وتنتقص منه، وتستخف به، وهذا حال المسلمين الذين تعلموا أوامر الله، ولم يعرفوا الله عز وجل، ولذلك لابد أن نسلك كما سلك النبي عليه الصلاة والسلام في تعريف أصحابه بربهم، ثم جاء الشرع فبين لهم كيف يعبدونه، فأنت بالكون تعرفه، وبالشرع تعبده، أي بالكون تتعرف إلى عظمته، وأسمائه، وقدرته، ولطفه.

 أليس هذا البَرَد الذي يصبح بحجم العدس أو حجم الحمص بردَاً يعبر عن لطف الله عز وجل؟ وحينما يُقتلع سن طفل من أسنانه اللبنية، أليس اقتلاع هذا السن دليلاً على لطف الله عز وجل؟ لا ألم، ولا مخدر، ولا ضغط، ولا وخزة، ولا شيء من هذا القبيل فهناك آيات دالة على لطفه، وهناك آيات دالة على رحمته، وهناك آيات دالة على حكمته، وهناك آيات دالة عـلى قوته، وهناك آيات دالة على مغفرته. 


وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ


 ﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ أيْ إذا شئت الهدى شاء الله لك الهدى، وإذا عزيت المشيئة إلى الله فهي المشيئة الجزائية المبنية على المشيئة الاختيارية، وإذا عزي الإضلال إلى الله عز وجل فهو الإضلال الجزائي، الذي يُبنى على الضلال الاختياري. 

﴿وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ والصراط المستقيم واحد، بينما الطرق الأخرى متعددة، فطوبى لمن كان على الصراط المستقيم، فالله سبحانه وتعالى يهديه إلى سواء السبيل. 

 وبعد هذا الحديث عن الآيات الكونية الدالة على عظمة الله سبحانه وتعالى ننتقل إلى حالة ثالثة؛ هناك مؤمنون، وقد بيّن الله سبحانه وتعالى أثر نوره في قلوبهم، وهناك كافرون.

﴿ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ(40)﴾

[ سورة النور ]

 هناك مؤمنون مستنيرون، وهناك كفار في غياهب الظلمات. 


هذه هي صفات المنافقين:


الصفة الأولى: مخالفة الظاهر للباطن:

 ثم بيّن الله سبحانه وتعالى طريق معرفته من خلال الكون، والآن يأتينا أول مرة في سورة النور صنف ثالث، لا هم بالكفار الذين ينكرون حقائق الدين، ولاهم بالمؤمنين الصادقين الذين يتمثلون أوامر الدين، إنهم المنافقون، هؤلاء المنافقون يقولون: آمنا بالله وبالرسول، وتعبيره الملفوظ مؤمن يعترف بوجود الله، ويعترف بنبوة النبي عليه الصلاة والسلام، وأقواله مطابقة لأقوال المؤمنين، قال عز وجل:

﴿ وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ ۚ وَمَا أُولَٰئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ(47)﴾

[ سورة النور ]

 ويؤكدون أنهم يطيعون الله عز وجل، أيْ أقوالهم طيبة.

﴿ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ ومعنى يتولى يدير ظهره، ويتخلف، ولا يطيع، ولا يكون مع رسول الله، ولا يقف معه، ولا يأتمر بأمره، ولا ينتهي عما عنه نهى، فأقواله مخالفة لأفعاله، وهناك مسافة كبيرة بين أقواله وأفعاله، وهؤلاء هم المنافقون.

﴿وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ﴾ صار الإيمان عملاً، وصار الإيمان التزاماً، صار الإيمان تطبيقا، صار الإيمان مواقف مطابقة لاعتقاد المـسلم، فإذا انزاحت مواقفه عن معتقداته، وانزاحت أعماله عن أقواله، وقال شيئاً، وعمل شيئاً آخر دخل في صنف ثالث - نعوذ بالله أن نكون منهم - إنهم المنافقون، قال تعالى:

﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا(145)﴾

[ سورة النساء ]

الصفة الثانية: الإعراض عن حُكم الله تعالى:

﴿ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ(48)﴾

[ سورة النور ]

فالمنافق لا يريد أن يكون الرسول حكماً بينه وبين خصومه، وكأنه يظن أن النبي لن يحكم بالحق، وأنه سيحيف عليه، وهذا ظنهم بالنبي عليه الصلاة والسلام.

﴿  وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ(48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ(49)﴾

[ سورة النور ]

 إذا كان الحق إلى جانبهم سارعوا إلى النبي ليحكم بينهم. 

﴿ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ(50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(51)﴾

[ سورة النور  ]

 هذه الآيات إن شاء الله تعالى سوف نقف عندها وقفة طويلة في الدرس القادم، صفات المنافقين، وصفات المؤمنين، ولا سيما في علاقاتهم المالية والاجتماعية.

﴿  وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ(52)﴾

[ سورة النور  ]

والحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور