وضع داكن
19-04-2024
Logo
الدرس : 02 - سورة الروم - تفسير الآيات 10 - 16 مقومات الأمانة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 أيها الإخوة المؤمنون مع الدرس الثاني من سورة الروم.


مقوِّمات الأمانة التي كلَّف الله بها الإنسان:


 الآيات التي فُسِّرَت في الدرس الماضي يمكن أن يُلقى عليها ضوءٌ جديد، فمثلاً حينما قال الله سبحانه وتعالى في هذه السورة:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿  الم(1) غُلِبَتِ الرُّومُ(2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ(3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ(4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(5)﴾

[  سورة الروم  ]

 إلى آخر الآيات، أي أن الله سبحانه وتعالى حينما خلق الكون، وحينما خلق الإنسان، هذا الإنسان هو المخلوق الأوَّل، المخلوق المكرَّم الذي أعدَّه ليَسْعَدَ في جنَّاتٍ عرضها السماوات والأرض، هو في الدنيا أودع فيه الشهوات ليرقى بها إلى الله، أعطاه العقل ليكون قوةً إدراكيّة، مَنَحَهُ حريَّة الاختيار لتُثمَّن أعماله، خلق له الكون وسخَّره له؛ تسخير تعريفٍ وتسخير تكريم، أعطاه فيما يبدو قوَّةً، فهذه القوة، وتلك الشهوة، وهذا الاختيار، وذاك العقل، وتلك الفطرة، وتسخير الكون، هذا كلُّه من مقوِّمات الأمانة التي كلَّفه بها، والأمانة أن يعرف الله أولاً، وأن يعبده ثانياً، ليسعد في الدنيا والآخرة ثالثاً.


الخروج عن منهج الله تعالى سبب شقاء الإنسان:


 أنا الآن أُلَخِّص، أجمع ما تفرَّق من معاني في كلماتٍ موجزة، فما منا واحدٌ إلا ويتمنى أن يسلَم، ما منا واحدٌ إلا ويتمنَّى أن يسعد، متى يشقى الإنسان؟ إذا خرج عن منهج الله، فربنا سبحانه وتعالى خلق الكون، وخلق الإنسان، وكلَّفه بالأمانة، وقَبِلَ بها:

﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)﴾

[ سورة الأحزاب ]

 لمَّا قَبِلَ بها أعطاه العقل قوَّةً إدراكيَّة، سخَّر له الكون مظهراً لأسماء الله الحُسنى وصفاته الفُضلى، سخَّره تعريفاً به وتكريماً له، أعطاه الشهوة كي يرقى بها، أعطاه حريَّة الاختيار كي تُثَمَّنَ أعماله، أعطاه فيما يبدو قوَّةً كي يتحرَّك بها.

 الآن إذا عطَّل عقله، ولم يفكرّ في ملكوت السماوات والأرض، واتبع شهوته، لابدَّ من رسولٍ يذكره بفطرته، لابدَّ من رسولٍ يذكره بالأمانة التي حملها، لابدَّ من رسولٍ يذكره بالمهمَّة التي جاء من أجلها قبل أن ينتهي أجله ويشقى إلى أبد الآبدين.

 الآن الله سبحانه وتعالى اقتضت حكمته واقتضت رحمته أن يُرسل لهذا الإنسان رسولاً، كيف يصدِّق الإنسان أن هذا رسول الله؟ كيف؟ إنسان من بني آدم، من طين البشر، شكله كشكل البشر، أعضاؤه كأعضائهم، كيف يُصَدِّق هؤلاء الناس الضالون، المنحرفون، الذين انغمسوا في شهواتهم واتبعوا أهواءهم، كيف يصدِّقون أن هذا الإنسان رسول الله؟

 أعطاه معجزة، سيدنا موسى أعطاه العصا، ليس في طاقة البشر كلِّهم أن يصنعوا من العصا ثعباناً، أعطى السيِّد المسيح قوَّة إحياء الموتى، كأن الله يقول لهؤلاء البشر: هذا رسولي، أعطى لسيدنا موسى السحر، أعطاه أن تكون العصا ثعباناً مبيناً، أرسل الله سبحانه وتعالى النبي عليه الصلاة والسلام إلى أمَّتنا، أعطاه معجزة؛ هذا الكتاب.


إعجازات القرآن الكريم:


 إذاً بادئَ ذي بدء الله سبحانه وتعالى خلقنا وكرَّمنا وجعلنا في المرتبة الأولى:

﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ﴾ عندما قَبِلَ الإنسان حمل الأمانة سَخَّرَ الله له الكون، معرِّفاً بذاته ومكرِّماً له، أعطاه العقل ليفكِّر في هذا الكون، منحه فطرةً سليمةً كي تكون مقياساً له على حُسْنِ عمله أو سوء عمله، كل عملٍ سيئ وراءه انقباض، ضيق، شعور بالشقاء، أعطاه القوة، أعطاه الشهوة، أعطاه الاختيار...إلخ.

 هذا الإنسان نسي، وغفل، واتبع شهوته، أودع فيه الشهوات ليرقى بها فجعلها إلهاً، أعطاه العقلَ ليتعرَّف إلى الله به، فسخَّره في جمع الثروات والإيقاع بين البشر، إذاً لابدَّ لهذا الإنسان الضال المُنحرف الذي عبد شهوته، وعبد من دون الله آلهةً لا تنفعه ولا تضرُّه، لابدَّ لهذا الإنسان من رسولٍ مذكِّرٍ، لكن هذا الرسول لن يُصَدَّق، إذاً لابدَّ لهذا الرسول من معجزة.

 النبي عليه الصلاة والسلام جاء بهذه المعجزة، هذا القرآن من دلائل إعجازه، هناك إعجاز إخباري، هناك إعجاز بياني، هناك إعجاز عِلمي، هناك إعجاز تشريعي، هناك إعجاز تَرْبَوِي، هناك إعجاز لغوي، هناك إعجاز حسابي، هناك إعجاز رياضي، من جملة إعجازات القرآن الكريم، ومعنى إعجاز أي أن البشر يعجزون عن أن يأتوا بمثله، من جملة إعجازاته إعجازه الإخباري، قال تعالى: ﴿الم* غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ﴾ 


الآية التالية من دلائل نبوَّة النبي عليه الصلاة والسلام:


 قد فصَّلت هذا في الدرس الماضي، وقد وقع، لا يملك الغيب إلا الله، ذكرتُ إلى جانب هذا الإعجاز الإخباري قوله تعالى:

﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ۚ قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ۚ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ(142)﴾

[ سورة البقرة ]

 فعلاً قال بعض العرب ـ الذين وصفهم الله عزَّ وجل بأنهم سفهاء ـ قالوا هذا القول، ولو أنهم فكَّروا لسكتوا، فإذا سكتوا أبطلوا هذا القرآن.

 أيها الإخوة هذا القرآن دليل أن النبي عليه الصلاة والسلام هو رسول الله، إعجازه يؤكِّد نبوَّته، إذاً هذه الآية من دلائل نبوَّته، قد يقول قائل: وماذا يعنينا كُلُّ هذا؟

 الذي ألاحظه أنه ما من مشكلةٍ تصيب الفرد أو المجتمع في الأرض، ما من أزمةٍ، ما من قضيَّةٍ، ما من مأساةٍ، ما من دمارٍ، ما من آلامٍ إلا ولها أسباب، أسبابها خروج هذا الإنسان عن منهج الله، ولماذا يخرج هذا الإنسان عن منهج الله؟ حينما لا يصدِّقه أما نحن حينما نتعامل في الدنيا إذا صدَّقنا أن هذا القرار، أو هذا التوجيه، أو هذا المَنْع من قِبَل مَن بإمكانه أن يفعل بنا ما يفعل نلتزم، إذاً على قدر ما تصدِّق به هذا القرآن تلتزم أمره ونهيه، هنا المشكلة.


في القرآن آيات الإعجاز الإخباري من أجل أن نصدِّق أن هذا القرآن كلام الله:


 هذا الذي يخالف آيات القرآن الكريم، يخالف أمر الله عزَّ وجل أو يقع فيما نهى عنه، يجب أن يعلم علم اليقين أن مصداقيَّة هذا القرآن عنده ليست كافية، لا يمكن لإنسانٍ عاقل أن يعلم علماً يقينيَّاً أن هذا القرآن من عند الله عزَّ وجل، وأن الله بيده كل شيء؛ بيده سعادتك، وبيده شقاؤك، بيده صحَّتك، وبيده مرضك، بيده غناك، وبيده إفقارك، لا يمكن لإنسانٍ عاقل يصدِّق ويوقِنُ أن هذا القرآن كلام الله ويخالفه.

 ربنا عزَّ وجل جعل في القرآن بعض الآيات التي يُسَمِّيها علماء التفسير "الإعجاز الإخباري"، من أجل أن نصدِّق أن هذا القرآن كلامه، الآن الآيات الأولى تقول:

﴿  غُلِبَتِ الرُّومُ(2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ(3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ(4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ(6)﴾

[ سورة الروم ]

 إذا وعد الله وعداً، أو أَوْعَدَ وعيداً فلا محالة واقعٌ: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ هذا كلام الله عزَّ وجل، أكثر الناس يرون الأمر بيدِ زيد أو عُبيد، يرون الأمر بيد فلان أو علان. 


شعور الإنسان البعيد عن الله عزَّ وجل شعور مرضي:


 ماذا قال الله عزَّ وجل عن آخر الزمان؟ قال:

﴿ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(24)﴾

[  سورة يونس  ]

 هذا شعور الإنسان البعيد عن الله عزَّ وجل، القوي، شعورٌ غريب، شعورٌ مرضي، يظنُّ أن الأمر كله بيده، وأنه قادرٌ على كل شيء، وأنه قادرٌ على أن يفعل كل شيء ﴿وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا﴾ أمر الله ﴿لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ﴾ وقال: 

﴿  وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا(58)﴾

[ سورة الإسراء  ]


عقاب من يخالف منهج الله تعالى كما ورد في بعض الآيات القرآنية:


 يا أيها الإخوة الأكارم، الإنسان يجب أن يفكِّر تفكيراً سديداً، القضيَّة لا تَحْتَمِل المُماطلة، ولا تحتمل أن تأخذ هذا الكلام على أنه كلام طيِّب مبارك، فتقول: جزاه الله عنَّا كل خير، والله درس لطيف، درس جميل ممتع، القضيَّة أخطر من ذلك، أنت أمام منهج فإما أن تتبعه؛ وإما أن تدفع الثمن باهظاً.

 ترون أيها الإخوة، ترون بأمِّ أعينكم، يقول الله عزَّ وجل:

﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)﴾

[ سورة النحل  ]

 دقِّقوا في هذه الآية، من كل مكان رزقٌ وفير لا يُحصى، حياةٌ في أعلى درجات الرفاهية والنعيم ﴿فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾  

 آيةٌ ثانية: 

﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ ۗ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)﴾

[ سورة الأنعام ]


هذا الزمن هو زمن التوبة والعودة إلى الله عز وجل:


 أيها الإخوة القضيَّة قضيَّةٌ تتعلَّق بسلامتنا، بسلامة الإنسان، إنسان له خالق وهذا منهجه، فهذا كتاب، كتاب الله عزَّ وجل أمرك بشيء ونهاك عن شيء، لا تأخذ هذا الكتاب على مَحْمَل أن تأخذه أخذاً بسيطاً دون أن تهتمَّ له، إن لم تهتمَّ له فالنتيجة مؤلمةٌ جداً، والله سبحانه وتعالى يُمهل ولا يُهمل.

﴿  وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ(102)﴾

[ سورة هود  ]

 وقال: 

﴿  إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ(12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ(13)﴾

[ سورة البروج  ]

 لكن: 

﴿ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ(14)﴾

[ سورة البروج  ]

 هذا الزمن أيها الإخوة زمن التوبة، زمن العودة إلى الله عزَّ وجل، العودة إلى كتابه، أنت مسلم يجب أن تكون مسلماً حقَّاً، ما المُخالفات التي أنت مُقَصِّرٌ فيها؟ ما المعاصي في علاقاتك كلِّها؛ في بيعك، في شرائك، في كسب مالك، في إنفاق مالك، في شهواتك، ما المباح، ما المحرَّم، ما الممنوع، ما الحق، ما الباطل؟


الحكمة من قصة سيدنا يوسف:


 يا أيها الإخوة الأكارم، الله سبحانه وتعالى يبيِّن لنا من خلال مطلع هذه السورة أن هذا القرآن كلامه، والدليل الإعجاز الإخباري:

﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ ربنا عزَّ وجل في قصَّة سيدنا يوسف ساق قصَّةً طويلة من أطول قصص القرآن، من أجل ماذا؟ من أجل أن يُرِيَنَا جميعاً أن الأمر كلَّه بيده، إخوة يوسف ائتمروا على قتل يوسف، وضعوه في غيابت الجُبّ، لكن الله جلَّ وعلا أراد أن يرفعه، وأن يجعله في أعلى مراتب الدنيا والآخرة، ماذا قال الله عزَّ وجل؟ قال: 

﴿ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ۚ وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)﴾

[  سورة يوسف  ]

 هذه الآية ضعوها في أذهانكم دائماً: ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ 


في الآية التالية أمران ونهيان وبشارتان:


 ذكر الله عزَّ وجل قصَّة سيدنا موسى، ربنا عزَّ وجل أمر أم موسى أن تُلْقِيَهُ في اليَم:

﴿  وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ(7)﴾

[  سورة القصص  ]

 أمران، ونهيان، وبِشارتان: ﴿أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ﴾ أرضعيه وألقيه في اليم: ﴿وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ﴾ طفلٌ صغير في صندوقٍ خشبي، في نهرٍ عظيم، يدُ من سَيَّرته إلى قصر فرعون؟ وفرعون رأى في الرؤيا أن طفلاً من بني إسرائيل سوف يقضي على مُلْكِهِ، بدل أن يتوب إلى الله عزَّ وجل ويعود عمَّا هو فيه قَتَّلَ أطفال بني إسرائيل كلَّهم، ما الذي حصل؟ أن هذا الطفل الوديع الذي رَبَّاه في قصره هو الذي قضى على ملكه: ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾


أدلة من القرآن الكريم على وحدانية الله سبحانه فالأمر كله بيده وحده:


 فكِّر، الأمر بيدِ الله، إيَّاك أن ترى أن مع الله إلهاً آخر، الأمر بيدِ الله وحده:

﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)﴾

[  سورة هود  ]

 وقال: 

﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ۚ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا(10)﴾

[ سورة الفتح  ]

 وقال: 

﴿ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ ۚ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ ۚ وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(17)﴾

[  سورة الأنفال  ]

 وقال: 

﴿ قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا ۖ لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ۚ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)﴾

[  سورة الكهف  ]

 وقال: 

﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ ۗ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)﴾

[  سورة الأعراف  ]

 وقال: 

﴿  اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيل(62)﴾

[ سورة الزمر ]

 وقال: 

﴿ مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِك فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(2)﴾

[  سورة فاطر  ]


جوهر الحياة الدنيا أن تعرف الله وتستقيم على أمره وتتقرَّب إليه:


 هذا التوحيد يُرْيحُ الإنسان، ما عليك إلا أن تعبد الله، ما عليك إلا أن تتوب من ذنوبك، ما عليك إلا أن تستقيم على أمره، وإلا فالعقاب أليم والعقاب شديد: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ الآن يقول الله عزَّ وجل: 

﴿  وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ(6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ(7)﴾

[ سورة الروم  ]

معنى هذا أنهم لا يعلمون، إذا عَلِمْتَ كيف تسكن في بيتٍ فخم، وكيف تأكل أطيب الطعام، وكيف تركب أجمل المركبات، فأنت لا تعلم حقيقة الدنيا، أنت جئت إلى الدنيا لمهمَّةٍ كبيرةٍ خطيرة، أنت جئت إلى الدنيا لتعرف الله عزَّ وجل، جوهر الحياة الدنيا أن تعرف الله، وأن تستقيم على أمره، وأن تتقرَّب إليه، فإذا غفلت عن هذه المهمَّة أنت لا تعلم، إذا أُرِسِلْتَ إلى بلدٍ أجنبي كي تُحَصِّلَ أعلى شهادةٍ علميَّة، وفي هذا البلد نسيت الدراسة وعرفت أين أفخم المطاعم، وأجمل المقاصف، وأجمل الأندية، وانتقلت من مطعمٍ إلى مطعم، ومن نادٍ إلى نادٍ، ومن مقصفٍ إلى مقصف، هذا يعلم أم لا يعلم؟ نقول: إنه لا يعلم لأنه نسي مهمَّته الأساسيَّة فهو لا يعلم، نسي الهدف الذي من أجله خُلِقْ: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ* يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ .


للإيمان ثلاثة مظاهر تصديقٌ بالقلب وإقرارٌ باللسان وعملٌ بالأركان:


 من الآية رقم واحد إلى الآية السابعة ربنا عزَّ وجل أشار إلى إعجاز كتابه الإخباري، يوجد مصدر آخر، الحقيقة هذه الصفحة والنصف فيها ثلاث مصادر للمعرفة.


 المصدر الآخر للمعرفة:


﴿  أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ(8)﴾

[ سورة الروم ]

 أيها الإخوة، الإيمان له ثلاثة مظاهر، الإيمان محلُّه القلب، وهو إقرارٌ باللسان، وعملٌ بالأركان، الحياة قصيرة والمهمَّة خطيرة، يجب أن تعرف ما الإيمان، ليس الإيمان أن تُصلي؛ الصلاة، والصيام، والحج، والزكاة، وغَض البصر، والصدق، والأمانة، والإحسان، وترك الغيبة والنميمة هذا كلُّه مَظْهَر، مظهر سلوكي للإيمان، والإيمان فضلاً عن ذلك تصديقٌ بالقلب، وإقرارٌ باللسان، وعملٌ بالأركان، ومما يروى عن الحسن البصري قوله: (ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر في القلب وصدَّقه العمل) الآن كيف يدخل الإيمان إلى القلب؟ هنا السؤال: 

﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ۖ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(14)﴾

[ سورة الحجرات ]


مهمة الفكر:


 أن تنصاع إلى أمر الله هذا إسلام، أما أن يستقرَّ في قلبك تصديقٌ أن الله سبحانه وتعالى خالقُ الكون، وهو ربُّ العالمين، وهو الإله المسيِّر، وهو واحدٌ في خلقه، وواحدٌ في تربيته، وواحدٌ في تصرُّفه، وأن أسماءه حُسنى، أن تصدِّق هذه الحقائق هذا يحتاج إلى جهد، وما لم يُبْذَل هذا الجهد فأنت لن تطيع الله عزَّ وجل، لذلك القضيَّة كيف يدخل الإيمان في قلبي؟ التصديق محلُّه القلب، واللسان يقرُّ بهذا التصديق، والعمل يؤكِّد هذا التصديق، التصديق يُعَبِّر عما في القلب، والسلوك يجسِّد هذا التصديق، وما لم يتفكّر الإنسان في خلق السماوات والأرض فلن يدخل الإيمان في قلبه، ماذا يقول الله عزَّ وجل؟

﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ عرفوا ظواهر الأشياء، عرفوا صوَرَهَا، عرفوا ما يبدو لأعينهم، ولكن الحقائق العميقة؛ سرُّ وجودك، حكمة وجودك، عظمة ربِّك، هذه كيف تعرفها؟ قال: 

﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ﴾ أنت إذا رأيت آلةً معقَّدةً ألا تستطيع أن تحكم على صانعها بكذا وكذا؟ هذه مهمَّة الفكر، مهمَّة الفكر أن ينتقل من شيءٍ محسوس إلى شيءٍ مُجَرَّد، من شيءٍ مُشَاهَد إلى شيءٍ مُغَيَّب، من الخلق إلى الخالق، من الكون إلى المكوِّن، من النظام إلى المُنَظِّم، من التسيير إلى المُسيّر، هذه مهمَّة الفكر، فكلَّما أعملت فكرك في الكون ازداد إيمانك بالله، وازداد تصديقك بالله، وازداد هذا القلب امتلاءً بمعرفة الله، إذا امتلأ قلبك معرفةً بالله عزَّ وجل أقرَّ لسانك بهذا، فإذا أقرَّ اللسان بهذا ظهر هذا في السلوك، هنا مَحَطُّ الشاهد، هنا بيت القصيد، هناك سؤال كبير: لماذا الناس هكذا؟ يستمعون إلى خطب كثيرة ويقرؤون ومع ذلك لا يلتزمون وما داموا لا يلتزمون فالله سبحانه وتعالى يسوقُ لهم من الشدائد، لكن كيف السبيل؟ ما قيمة سماع درس أو مجلس علمٍ إن لم يُحْمَل صاحبه على تطبيقه؟!! 


معرفة عظمة الله تحتاج إلى بحث ذاتي ومِرَاس و جهدٍ كبير:


 يا أيها الإخوة الأكارم، هذه آيةٌ دقيقةٌ جداً: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ كيف نعلم يا رب؟  ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ﴾ أنتم لا تعلمون سرَّ الحياة، أنتم لا تعرفون عظمة الله عزَّ وجل، هكذا كأن الله يقول: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ لا يعلمون عظمة الله عزَّ وجل، أما أن تقول: الله خالق الكون فالقضيَّة سهلة جداً، قالها إبليس، قال:  

﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(82)﴾

[ سورة ص  ]

 أن تعترف بخالقٍ للكون هذا شيءٌ لا يُقَدِّم ولا يؤخِّر، ولكن أن تعرف عظمة الله عزَّ وجل، أن تعرف أسماءه الحسنى وصفاته الفضلى، أن تعرف أن الأمر كله بيده، أنه:

﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَٰهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَٰهٌ ۚ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84)﴾

[  سورة الزخرف  ]

هذه هي المعرفة، وهذه المعرفة لا تنشأ فجأةً بل تحتاج إلى بحث ذاتي، إلى مِرَاس، إلى جهدٍ كبير، لذلك ربنا سبحانه وتعالى في هذه السورة يبيِّن ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ﴾ هل فكَّرت في خلق السماوات والأرض؟ أمر إلهي. 


الآيات الكونيَّة الدالَّة على عظمة الله عزَّ وجل كثيرة جداً:


﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ(190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)﴾

[ سورة آل عمران  ]

 أبواب معرفة الله واسعةٌ جداً؛ كأس الماء الذي أمامك، طفلك الذي أمامك، رغيف الخبز الذي تأكله، الشمس التي تُشْرِق، القمر الذي يظهر، الجبل، المطر، الرياح، البُحيرات، البحار، الأنهار، النباتات، الحيوانات، أنت محاطٌ بآلاف آلاف الآيات الكونيَّة الدالَّة على عظمة الله عزَّ وجل ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ هذا الذي يقول: الله خلق الكون هكذا ونحن كلُّنا في شقاء، هذا ما عرف أن الله سبحانه وتعالى خلق السماوات والأرض بالحق، معنى بالحق؛ أنه خلق السماوات والأرضَ لهدفٍ كبير، معنى بالحق؛ أنه خلق السماوات والأرض خَلْقَاً ثابتاً، حكيماً، وليس زائلاً، وليس لعباً.  

﴿وَأَجَلٍ مُسَمًّى﴾ أي أن هذه الحياة الدنيا أساسها أنه لا بدَّ من يومٍ يُحَاسَب الناس فيه، هناك أسئلة كبيرة جداً، هناك قويٌ وهناك ضعيف، هناك ظالمٌ وهناك مظلوم، هناك غنيٌ وهناك فقير، هناك ذكيٌ وهناك أقلُّ ذكاءً، يا رب لماذا وزَّعت هذه الحظوظ بشكلٍ متفاوت؟ يأتي الجواب هذه الحظوظ وُزِّعَتْ في الدنيا توزيع ابتلاء، وسوف توَزَّع في الآخرة توزيع جزاء، وسيأخذ كلٌ من الناس حقَّه. 


الكون بما فيه من آياتٍ والقرآن بما فيه من إشاراتٍ بابٌ كبيرٌ جداً لمعرفة الله تعالى:


 إذاً الكون بما فيه من آياتٍ عظيمةٍ دالَّةٍ على وجود الله وعلى أسمائه الحسنى مصدرٌ كبيرٌ لمعرفة الله، والقرآن بما فيه من إشاراتٍ، وإرشاداتٍ، وأحكامٍ شرعيَّةٍ، وإخبارٍ، ووعدٍ، ووعيدٍ أيضاً بابٌ كبيرٌ جداً لمعرفة الله سبحانه وتعالى.

الآن يوجد عندنا شيءٌ ثالث:

﴿  أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(9)﴾

[ سورة الروم  ]

 إذا شئت فابحث في الحوادث ترى أن الله عزَّ وجل وراء كل شيء، ترى أن يد الله تعمل في كل شيء، ترى أن حكمة الله ظاهرةٌ في كل شيء، ترى أن قدرته خارقة، ورحمته ظاهرة، ولطفه عَميم، وعقابه أليم، وعطاءه كبير، وأخذه مُخيف، بعفويةٍ بالغة، بفطرةٍ صافية، دون أن تُكِدَّ ذهنك، ما تسمع وما ترى، تجد أن الله سبحانه وتعالى حينما قال: ﴿حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ﴾ ترى بعينك قُدرة الله أحياناً فتخضع لها، ترى بعينك رحمته أحياناً، ترى لطفه، ترى عقابه، ترى عدالته.


القرآن الكريم كلام الله و الكون خلقه و الحوادث أفعاله:


 يا أيها الإخوة الأكارم، اجعل من الحوادث درساً، ومن الأكوان درساً، ومن القرآن درساً، وفي صفحةٍ ونصف بَيَّن الله سبحانه وتعالى أن القرآن الكريم كلامه، وأن هذا الكون خَلْقُهُ، وأن هذه الحوادث أفعاله، فإن شئت أن تعرفه من أفعاله فافعل، تأمَّل في أفعاله، تأمَّل: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ وإن شئت التفكُّر في خلق السماوات والأرض؛ تفكَّر في الشمس، تفكَّر في القمر، تفكَّر في السحاب، تفكَّر في المطر، من بإمكانه أن يُنْزِلَ المطر بعد اليأس والقنوط، بعد أن أصبح ماء الشُرب مهدَّداً؟ ماء الشُرب لا الزرع، فالزرع انتهى، بعد أن أصبح كأس الماء مُهَدَّداً، جاءت الخيرات من السماء، هذا فعل من؟ أية جهةٍ في الأرض بإمكانها أن تفعل هذا؟ أن تنزل المطر، أن تتخذ قراراً بإنزال المطر؟ لا أحد، هذا فعله، وهذا خلقه، وهذا قرآنه، والله سبحانه وتعالى أودع فينا العقل، وأرجحكم عقلاً أشدُّكم لله حبَّاً. 


أسوأ عقابٍ يعاقب به الإنسان يوم القيامة أن يدخل النار:


 لذلك أيها الإخوة، الإنسان كما قال عليه الصلاة والسلام:

(( أُمِرْت أن يكون صمتي فكراً، ونطقي ذكراً، ونظري عبرةً. ))

[ رواه رزين ]

 هذا الحديث جزء من حديث طويل يقول فيه عليه الصلاة والسلام: 

((  أمرني ربي بتسع: خشية الله في السرَّ والعلانيَّة، كلمة العدل في الغضب والرضا، القصد في الفقر والغنى، وأن أصل من قطعني، وأعفو عن من ظلمني، وأعطي من حرمني، وأن يكون صمتي فكراً، ونطقي ذكراً، ونظري عبرةً. ))

[ أخرجه زيادات رزين عن أبي هريرة  ]

 الإنسان أحياناً يسعد بتأمّل عقلي وحيد، تأمَّل إلى أين أنت ذاهب؟ في أي طريقٍ تسلك؟ ما الهدف الذي يبرق أمامك؟ لماذا خُلِقْت؟ تأمَّل في حياتك الخاصَّة، في بيتك؛ يا ترى أنت وفق المنهج؟ وفق ما أمر الله عزَّ وجل؟ إليكَ هذه الحوادث، كل الحوادث تؤكِّد لك أن الله عزَّ وجل بيده كل شيء، ووعده واقع، ووعيده واقع، وكل ما تسمع وما ترى إنما هو تحقيقٌ لوعد الله ولوعيده. 

﴿ ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَىٰ أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ(10)﴾

[ سورة الروم ]

 السُّوأى: مؤنَّث الأسوأ، كما أن الحسنى مؤنَّث الأحسن، هناك أنواع كثيرة جداً من العقاب في الدنيا؛ لكن أشدَّ عقابٍ يعاقب به الإنسان أن يدخل جهنَّم، قد يعاقب في الدنيا بقلَّةٍ في رزقه، بمرضٍ في جسمه، بنقصٍ في ماله، بمرضٍ في أولاده:  

﴿  وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ(155)﴾

[ سورة البقرة  ]

 لكنَّ أشدَّ العقاب طُرَّاً، أسوأ عقابٍ يُعاقَبه الإنسان يوم القيامة أن يدخل النار: ﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى﴾ أي العقاب الأسوأ. 


الآيات الكونيَّة أو الحوادث أو القرآن علامات دالَّةٌ على عظمة الله عزَّ وجل:


﴿أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ﴾ الآيات الكونيَّة، أو الحوادث، أو القرآن، كلُّها آيات، أي علامات دالَّةٌ على عظمة الله عزَّ وجل، فلماذا: ﴿كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ﴾ الإنسان إذا بدت له آيةٌ كونيَّة، أو سمع آيةً قرآنيَّة، أو رأى حادثاً فيه عبرةٌ بالغة ما من واحدٍ منا إلا وحوله أناسٌ أصابتهم بعض المصائب بسبب انحرافهم، أو أكرمهم الله عزَّ وجل بسبب استقامتهم، أو نَمَّى أموالهم بسبب تصدقهم، أو محق مالهم بسبب أكلهم الربا، أو فرَّق بينهم وبين أزواجهم بسبب انحرافهم في أخلاقهم، فما من معصيةٍ إلا ولها عقاب، فالإنسان حينما ينظر يجب أن يرتدع: ﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ﴾


الصحابة الكرام من علامات توفيقهم أن الآية الواحدة كانت تكفيهم ليعودوا عن أخطائهم:


 الآن يقول الله عزَّ وجل:

﴿ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(11)﴾

[ سورة الروم ]

 بدأ الله الخلق، خلقنا في هذه الدنيا، لكن الشيء الذي يلفت النظر أن معظم الناس غافلون عن إعادة الخَلق، يعيشون وقتهم، يعيشون لحظتهم، يعيشون زمانهم، يعيش ما دام في متعة، في بحبوحة، ينسى أن هناك يوماً آخر، وحساباً وعقاباً، وجنَّةً وناراً، ونعيماً مقيماً، وعذاباً أليماً. 

﴿اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ لذلك الإنسان قبل أن يتحرَّك، قبل أن يقف هذا الموقف، قبل أن يعطي، قبل أن يمنع، قبل أن يغضب، قبل أن يرضى، قبل أن يصل، قبل أن يقطع، قبل أن يبتسم، قبل أن يعبس، هل أعددت لله جواباً عن هذا الموقف؟ هذه الآية تكفي، فالصحابة الكرام من علامات توفيقهم أن الآية الواحدة كانت تكفيهم، آية واحدة تكفي:  

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)﴾

[  سورة النساء  ]

 تكفي.

﴿  إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ(14)﴾

[  سورة الفجر  ]

 تكفي. 

﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (30)﴾

[  سورة فصلت ]

 تكفي. 

﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ (123)﴾

[ سورة طه ]

 تكفي.

﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)﴾

[  سورة النحل ]

 تكفي، هذه الآية: ﴿اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾


العاقل يصلُ إلى الشيء بعقله قبل أن يصلَ إليه بجسده:


 السؤال المتبادَر: كيف بلغت هذا العمر؟ والله ما هو إلا ما بين طرفة عينٍ وانتباهتها، قبل أيام كنت صغيراً، الأيام مضت، والسنون مضت، قبل فترة من الزمن كان رمضان في تشرين، يقول لك: حرب تشرين يساوي العاشر من رمضان، رمضان مع تشرين، الآن رمضان مع ماذا؟ دارت الأيام صار رمضان في الربيع، جاء في الصيف، وهكذا الأمور تدور، إذاً:

﴿  اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ(12)﴾

[ سورة الروم ]

 معنى يُبلس: الإنسان حينما يُفَاجأ ولا يملك جواباً، هذا هو الصَعْقُ، لذلك العاقل يصلُ إلى الشيء قبل أن يصلَ إليه، يفكِّر، فالطالب المتفوِّق ما سرُّ تفوُّقه؟ أن لحظة الامتحان لا تغيب عنه أبداً، هذا سرُّ اجتهاده ونجاحه، أما الطالب الكَسول ينسى الامتحان، يعيش وقته، يعيش فترة حياته في أثناء العام الدراسي كما هي، هو مع أصدقائه، في جوٍ مرحٍ، في نزهة، أي أنه يسترخي، لكن الطالب الذي يتفوَّق من علاماته أن لحظة الامتحان لا تغيب عنه أبداً، لذلك هذه الآية: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ﴾


كل الناس يوم القيامة سواسية ولا ينفعهم إلا عملهم:


 ماذا ينفع المال؟ لا ينفع المال، ولا القوة، ولا الدنيا بأكملها، كله شيءٌ زائل، الدنيا ساعة اجعلها طاعة، معنى يُبلِس؛ أي يُصْعَق، وينعقد لسانه فلا يستطيع أن يتكلَّم بكلمةٍ واحدة.

﴿  وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ(12) وَلَمْ يَكُن لَّهُم مِّن شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ(13)﴾

[ سورة الروم ]

 لا يوجد إنسان ما له علاقات، له شُرَكاء، له أقرباء، له أصحاب، له زملاء، له جيران، لا توجد قضيَّة إلا فلان يعرف فلاناً، فلان وسَّط فلاناً، هذا منطق الحياة الدنيا، تظن فلاناً لا أقرباء له فيدعمه عشرات، كلُهم يتصلون بكَ إذا أردت أن تفعل به شيئاً، يوجد علاقات، يوجد ترابط، يوجد مَوَدَّة، يوجد مصالح متبادلة، يوجد لقاءات، لكن ربنا عزَّ وجل يقول يوم القيامة: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ﴾ يتضح لهذا الإنسان حينما يُصْعَق، وحينما يُساق ليحاسب عن كل أعماله، أن كل هؤلاء الذين اعتمد عليهم في الدنيا، وتقوَّى بهم، وجعلهم أنداداً لله عزَّ وجل لا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً، لا يستطيعون أن يقدِّموا ولا أن يؤخِّروا، لا يستطيعون أن يصرفوا عنه عذاباً ولا أن يجلبوا له نفعاً، هذه ساعة الغَفْلَة، فالناس نيام إذا ماتوا انتبهوا، فالإنسان لا يغتر لا بماله، ولا بعلمه الدنيوي، ولا بجماعته، ولا بأنصاره، ولا بأقربائه، ولا بمن يُناصرونه لأن هؤلاء جميعاً هذا حالهم يوم القيامة:  

﴿  وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ(12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ(13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ(14)﴾

[ سورة الروم  ]


يوم القيامة الناس رجلان مؤمنٌ وكافر:


 أحياناً تجد جمعاً كبيراً، يتجمَّع الناس لمصلحةٍ معيَّنة، الجمع ترونه بأمِّ أعينكم، لكن يوم القيامة: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ﴾ في الدنيا تحسبهم جميعاً لكن قلوبهم شتَّى، أما في الآخرة تراهم بعينك متفرِّقين، تراهم بعينك متفرِّقين وقلوبهم كانت في الدنيا متفرِّقة: 

﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ(15)﴾

[ سورة الروم ]

 في النهاية؛ الناس رجلان مؤمنٌ وكافر، كل التقسيمات في الدنيا باطلة، الناس جميعاً على اختلاف ألوانهم، وأجناسهم، ومللهم، ونِحَلِهِم، وقوَّتهم، وضعفهم، وغناهم، وفقرهم لا يزيدون عن رجلين: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ في الدنيا عرفوا الله عزَّ وجل: ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ استقاموا على أمر الله، وطبَّقوا شَرْعَهُ، وتقرَّبوا إليه: ﴿فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ﴾


كل شيءٍ تسمعه أو تقرؤه من حوادث الكون والحياة إنما هو آيات:


 حتَّى عند الموت يكون القبر روضةً من رياض الجنَّة أو حفرةً من حفر النيران:

﴿  وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ(16)﴾

[ سورة الروم  ]

أتمنَّى على الله عزَّ وجل أن أكون قد بيَّنت لكم بعض ما يمكن أن يؤْخَذ من هذه الآيات؛ أي أن القرآن مصدر، والكون مصدر، والحوادث مصدر، وأنت في دنيا وسيعقبها آخرة، وفي الآخرة ليس إلا رجلان؛ مؤمنٌ قد عمل الصالحات فهو في روضات الجنَّات، وكافرٌ ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ آيات القرآن، أو آيات الكون، أو آيات الحوادث، كل شيءٍ يجري إنما هو آيات، كل شيءٍ تسمعه أذنك، كل شيءٍ تقرؤه من حوادث الكون والحياة إنما هو آيات، آياتٌ كونيَّة، وآياتٌ قرآنيَّة، وآياتٌ فعليَّة ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ﴾ لو اطلعت على إنسان مُقَيَّد وهو في زنزانة ينتظر تنفيذ حكم الإعدام فيه، ألا ترثي لحاله، والله هذا مصير كل إنسان يكفر بالله عزَّ وجل ويفعل السيئات، هم ﴿فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ﴾


من لوازم الإيمان بالله أن تؤمن باليوم الآخر:


 أيها الإخوة حينما قال الله عزَّ وجل: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ جاءت الآية الكريمة: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ﴾ الحقيقة من لوازم الإيمان بالله أن تؤمن باليوم الآخر، والإيمان باليوم الآخر يَحُلُّ كل المشكلات، إن رأيت قوياً منقضاً على ضعيف وامتلأ قلبك ألماً من هذا القوي، إيمانك باليوم الآخر يحلُ هذه المشكلة، لذلك من علامات الإيمان بالله أن تؤمن بيومٍ يقف الناس فيه جميعاً ليلقوا جزاء أعمالهم إن خيراً فخير وإن شراً فشر.

 الشيء الثاني: لو أردت أن ألخِّص هذا الدرس بكلماتٍ قليلة، كل آيةٍ في هذا الدرس تؤكِّد أن الأمر بيد الله، وما من شيءٍ يورِثُ الألم والضيق كأن ترى أن الأمر بيد فُلان أو فلاناً، هذا شيءٌ لا يحتمل، أما الشيء الذي يُرضي الإنسان ويريحه من آلامٍ لا تحتمل أن ترى أن الأمر بيد الله، هذا واضحٌ من قرآنه، والدليل: ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ﴾ بيد الله عزَّ وجل، بلَّغك سلفاً قبل أن يقع: ﴿وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ﴾ 


التوحيد هو أن ترى بقلبك أن الأمر بيد الله وأنه لا فاعل مع الله:


 إذا فكَّرت في نفسك: ﴿مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى﴾ توقن أن الأمر بيد الله، وإذا فكَّرت كيف يُعامل الله سبحانه وتعالى عباده الطائعين، والمجرمين، وترى مصير المرابي، ومصير المتصدِّق، مصير الزاني، مصير السارق، مصير الكافر، مصير المؤمن، فإن قرأت القرآن رأيت أن الله هو الواحد الديَّان، وإن نظرت في ملكوت السماوات والأرض رأيت أن الأمر كله بيد الله، وإن تأمَّلت في الحوادث التي تجري حولك تسمعها ليلاً نهاراً، يجب أن ترى أن الله بيده كل شيء، إذاً ليس إلا الله، ولا إله إلا الله: 

﴿  وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِي(25)﴾

[ سورة الأنبياء  ]

 ليس معنى ذلك أنك إذا آمنت أن الأمر كله بيد الله، ودخل إلى بيتك لص تقول: سبحان الله هذا بيد الله، لا، فليس هذا هو المعنى؛ فالمعنى أن تطرد هذا اللص، لأنه دخل بقضاء الله، وأنت عليك أن تردَّه أيضاً بقضاء الله، لكن من أجل أن لا ترى مع الله أحداً، من أجل أن لا تتمزَّق النفس من الشِرْكِ يجب أن توَحِّد، والتوحيد طريقه طويل، التوحيد ككلمة سهل، أخي لا إله إلا الله، يقولها الناس كلُّهم، ولكن أن ترى بقلبك أن الأمر بيد الله، وأنه لا فاعل مع الله.


طريق الإيمان بالله هو التفَكُّر بالآيات:


 ربنا عزَّ وجل قال:

﴿  فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ(17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ(18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ(19) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ(20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(21) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ(22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ(23) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ(24) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ(25)﴾

[ سورة الروم ]

 إلى آخر الآيات، أرجأت هذه الآيات لدرسٍ قادم، أو لدرسَين قادمَين كي نعلم أن طريق الإيمان بالله التفَكُّر بالآيات، أنت بالكون تعرفه وبالشرع تعبده، من أجل أن تؤمن يجب أن تفكِّر، فسورة الروم في معظمها آياتٌ دالَّةٌ على عظمته، كلَّما ازددت معرفةً بالله ازددت له طاعةً، فإذا وجدت أن في طاعتك خللاً معنى ذلك أن في الإيمان خلل، إذاً تعرَّف إلى الله عزَّ وجل من خلال الكون، أو من خلال الحوادث، أو من خلال القرآن.

والحمد لله رب العالمين.

اللهم أعنا على دوام ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وارزقنا الشوق إلى لقائك، ولذة النظر إلى وجهك الكريم. 

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك.

اللهم لا تؤمنا مكرك، ولا تهتك عنا سترك، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين.

اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، وآمنا في أوطاننا، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وجميع بلاد المسلمين.

اللهم أغننا بالعلم، وزيّنّا بالحلم، وأكرمنا بالتقوى، وجمّلنا بالعافية، وطهّر قلوبنا من النفاق، وأعمالنا من الرياء، وألسنتنا من الكذب، وأعيننا من الخيانة، فإنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مباركاً مرحوماً، واجعل تفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً.

وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.

والحمد لله رب العالمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور