وضع داكن
24-04-2024
Logo
الدرس : 05 - سورة العنكبوت - تفسير الآيات 10 - 18 بعض مواطن الفتنة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

مقدمة تذكيرية:


أيها الإخوة الأكارم؛ مع الدرس الخامس من سورة العنكبوت.

تَذْكرون أن الله سبحانه وتعالى في مطلع هذه السورة قال: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾ أن تكون في مدرسةٍ عالية فيها كل ما يحتاجه الطالب، وقد أُنْفِقَ على بنائها مئات الألوف، بل عدَّة ملايين، وأن تُجَهَّزَ بالمختبرات، وقاعات التدريس، وقاعات المحاضرات، والحدائق، والمطاعم، وأن تدخل هذه المدرسة، وأن تكتفي إدارة هذه المدرسة أن تقول أنت: إنني متفوِّقٌ في هذه المادَّة، فيقبل هذا الكلام وتنجح، هذا مستحيل.. ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾ إذاً هناك فِتَن، والفتنة في أدق تعاريفها إظهار ما في النفس، فقد يُفْتَن الإنسان فينجح، وقد يُفْتن فيرسُب، قد يفتن فيأتي الواقع مؤكِّداً لقوله، وقد يُفتن فيأتي الواقع مكذِّباً لقوله، الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يَقْبَلَ منك قولك: إنك مؤمن، لابدَّ من أن يقنن الإنسان، أي لابدَّ من أن يُمْتَحَن.

 

بعض موطن الفتنة:

 

1 ـ الفتنة الأولى: فتنة الوالدين:

ربنا عزَّ وجل في هذه السورة بيَّن لنا بعض المواطن التي يُفْتَنْ فيها الإنسان، أول مَوْطِنٍ يُفْتَن من قِبَل أبويه، فكما أن الله سبحانه وتعالى خلق هذه العاطفة الأصيلة بين الآباء والأبناء من أجل أن ينمو الأبناء، وأن ينشؤوا في حجر آبائهم، هذه العلاقة الأبويَّة قد توظَّفُ في غير مصلحة الإيمان.. ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا﴾ هذه فتنة، الله سبحانه وتعالى يُعْبَد، والأبُ والأم يُحْسَنُ إليهما، وفرقٌ كبير بين العبادة وبين الإحسان، لأنه لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق.   

2 ـ الفتنة  الثانية: دعوى الإيمان بالله:

الفتنة الثانية؛ يقول الله عزَّ وجل: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ لو أن الله عزَّ وجل قال: "ومن الناس من يؤمن بالله" اختلف المعنى اختلافاً كلياً، الله عزَّ وجل قال: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ﴾ ومعنى يقول أيْ يَدَّعي، يدَّعي أنه مؤمن، وأنا متأكِّد أنه ما من إنسانٍ في العالم الإسلامي وهو يصلي الخمس إلا ويدَّعي أنه مؤمن، والقضيَّة ليست بالدّعوى، لو أن القضيَّة بالدعوى فالأمر سهلٌ جداً، فالله قال: ﴿وَمِنَ النَّاسِ﴾ هذه (مِن) تفيد التبعيض، أيْ بعض الناس يقول: أنا مؤمن، يقول: أنا مؤمن تَبَجُّحاً، يقول: أنا مؤمن تأكيداً لإيمانه، يقول: أنا مؤمن افتخاراً، يقول: أنا مؤمن هكذا ليتعالى على أقرانه..﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ ، الله عزَّ وجل لا يمكن أن ينخدع، ولا يمكن أن يَخْدَع.

﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)﴾

[  سورة النساء  ]

فهذا الذي ادَّعى أنه مؤمن، وقال: إنه مؤمن، وأكَّد أنه مؤمن، ربنا عزَّ وجل يمتحنه.

 

معركة الحق والباطل قديمة وأبدية:


﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ كلُّكم يعلم أن هناك كفراً وإيماناً على مَرِّ الزمان، وهناك معركة قديمة وأبديَّة بين الكفر والإيمان، أهل الحق مع الحق، وأهل الباطل مع الباطل، أهل الحق يعبدون الله عزَّ وجل، وأهل الباطل يعبدون شهواتهم، وقديماً يسعى أهل الحق لهداية أهل الباطل، ويسعى أهل الباطل لإغواء أهل الحق، هذه معركةٌ قديمةٌ قِدَمَ الإنسان، منذ أن كان الإنسان على وجه الأرض فهذه المعركة قائمة. فإذا آمنت، أو ادَّعيت الإيمان، أو ذهبت إلى المسجد، أو صليت الصلوات الخمس، أو غضضت بصرك عن محارم الله، أو ترفَّعت عن أكل المال الحرام، أو فعلت شيئاً يثبت أنك مؤمن، أو أردت أن تنحاز إلى أهل الإيمان، أو أردت أن تكون مع المؤمنين في مشاعرهم، في طموحاتهم، في آلامهم، في آمالهم، إذا أنس الناس منك أنك مع المؤمنين، وأنك في صفِّ أهل الإيمان، وأنك مع الحق، هناك محاولاتٌ دائمةٌ، قديمةٌ، مستمرَّةٌ، مستقبليَّةٌ، هناك محاولاتٌ لزحزحتك عن إيمانك، لذلك كما أن الطالب المُقَصِّر يتمنَّى أن يكون جميع الطلاب مقصِّرين ليستأنس بهم، كما أن الطالب المُهمل لواجباته يتمنّى أن تتسع هذه الدائرة كي تصبح ظاهرة اجتماعيَّة، كي تصبح قانوناً، فلذلك بعض الناس يُرغِمون المؤمنين على أن يعودوا إلى الكفر. 

بالمناسبة، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: 

(( ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّار. ))

[ متفق عليه  ]

 

سحرة فرعون صورة من صور ثبات الإيمان: 


لو أن الدنيا بأكملها، لو أن السماء أطبقت على الأرض، لو أن كل من على الأرض كفر، لو أن كل من على الأرض هدَّد المؤمن فإنه لا يتزحزح عن إيمانه، هذا هو الإيمان، والدليل: حينما سخَّر فرعون السَّحَرَة ليكونوا دعماً له في علاقته، أو في خصومته مع سيدنا موسى، هم جاؤوا بحبال وفَرَّغوها، ووضعوا فيها الزئبق كما يروي بعض الكُتَّاب، وضعوها على مكان ساخن، لعلَّ الزئبق إذا تمدَّد تحرَّك، وحرَّك معه الحبال، سيدنا موسى حينما ألقى عصاه فإذا هي ثعبانٌ مبين، وهم سحرة، هم أولَ منْ عرفَوا أن هذا ليس بسحر؛ هذه معجزة، فقالوا:

﴿ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70)﴾

[  سورة طه  ]

ماذا قال فرعون؟ فرعون يمثِّل القوَّة، كما قال في موضعٍ آخر:

﴿ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)﴾

[  سورة النازعات  ]

﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)﴾

[ سورة القصص  ]

﴿ قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71)﴾

[ سورة طه  ]

ماذا قالوا؟

﴿ قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72)﴾

[ سورة طه  ]

أيْ كل ما تملك أن تزهق أرواحنا، ونحن إذا أزهقت أرواحنا انقلبنا إلى جنَّةٍ عرضها السماوات والأرض، هنا موطن قوَّة المؤمن، الله عزَّ وجل وعده بحياةٍ طيِّبة..

﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)﴾

[ سورة القصص  ]

 

مِن سنن الله الجارية:

 

1 ـ محاولات أهل الباطل إضلال المؤمنين:

شيءٌ طبيعي أنَّك إذا آمنت، إذا صلَّيت، إذا غضضت بصرك عن محارم الله، إذا تحرَّيت الحلال في كسبك، إذا تحرَّيت الحلال في إنفاقك، إذا أردت أن تكون مع المؤمنين شيءٌ طبيعي جداً أن يأتي أهل الباطل ليُعيدوك إلى جادتهم، أن يأتي أهل الباطل ليقنعوك بباطلهم، هذه هي المعركة، أي أهل الشهوات وأهل القُرُبات، أهل العقل وأهل المصلحة، فإذا حاول أهل الباطل أن يقنعوا هذا الذي يقول: آمنت بلسانه ولم يؤمن فعلاً، وضغطوا عليه بطريقةٍ أو بأخرى، سريعاً ما تنهار نفسه، وينضمُّ إلى الكفَّار. 

لدينا مثل يقرِّب هذه الحقيقة؛ الإسمنت مادَّة معروفة، إلا أنها لا تُعطي إنذاراً قبل أن تنهار، هذه مشكلتها، الإسمنت يتحمَّل قِوى ضغط عالية جداً، لكنه لا يتحمَّل قِوى شدّ إطلاقاً، لذلك يُسَلَّح، فلو فرضنا أن مهندساً أنشأ شُرْفَةً، وهذه الشرفة بدا عليها بعض الخلل، ماذا نفعل؟ قال: لابدَّ من أن نحمِّلها بعض الأوزان، فإن سقطت كان هو المطلوب، وإن صمدت أكَّدت أنها سليمة البناء.  

2 ـ ابتلاء المؤمن بالظروف العصيبة:

إذا ادَّعى الإنسان أنه مؤمن ربنا عزَّ وجل يضعه في ظرفٍ عصيب، فإذا سقط في الامتحان فهذا تعريفٌ له، وتعريفٌ للناس، وحفزٌ له على أن يجدِّد إيمانه، هذا امتحان مهم جداً، أنت لولا الامتحان تسترسل، تنشئ لك قصوراً من الخيال، لولا الامتحان تظن أنك على شيء، وأنت لست على شيء، لولا هذا الامتحان لا تعرف حجم إيمانك، الإنسان قد يبالغ بحجم إيمانه، قد يظنُّ أنه مؤمنٌ كبير، وهو في الحقيقة مؤمنٌ صغير، فمن نعمة الله علينا، من فضل الله علينا أنه يُحَجِّمنا دائماً، كلَّما اشتطّ بك الخيال، وظننت أنك مؤمنٌ كبير يأتي الامتحان الصعب، فإذا أنت مع شهوتك، فإذا أنت مع مصلحتك، فإذا أنت تخاف، فإذا أنت تستجيب لهذا الضغط أو لهذا الإغراء، أي المؤمن لا يستجيب لا لضغطٍ ضاغط ولا لإغراءٍ جاذب، لا تؤثِّر فيه السياط اللاذعة، ولا سبائك الذهب اللامعة، لا هذه ولا تلك، ولكنه مع الله عزَّ وجل.. ﴿فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ فهناك من يَدَّعي الإيمان، وما أكثرهم! يأتي الامتحان ليفرز هؤلاء، لهذا قال الله عزَّ وجل:

﴿ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)﴾

[  سورة آل عمران ]

مستحيل أن يدَّعي كل إنسان أنه مؤمن، والأمر يبقى هكذا.

 

معركة أهل الإيمان مع أهل الكفر معركةٌ قديمة ومستمرَّة:


لذلك: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ﴾ .. أي فإذا أوذي من أجل الله، له مركز، هُدِّدَ في مركزه، إن بقيت تصلي لا تبقى في هذا المكان، إذا فعلت كذا وكذا تُحْرَم من كذا وكذا، إن قلت كذا تدفعْ كذا، هناك من يقول له ذلك، وهؤلاء الذين يقولون هذا الكلام مسخَّرون من قِبَل الله عزَّ وجل ليمتحن إيمانه، يأتون بقطعة إسمنت.. شاهدتها بعيني.. يأتون بها إلى المَخبر، يمسكونها من أعلى، ويضعون في أسفلها أوزاناً متدرِّجة في الصعود، على أي وزن انقطعت هذه قوَّة تحمُّلها، على أي وزن؟ يقولون: السنتيمتر المربَّع يتحمَّل مئتي كيلو من الضغط، أما على الشد فيتحمَّل أقلّ بكثير، فأنت مؤمن، ولك حجم، تأتي الضغوط أو الإغراءات على أي وزن تفلت؟ على أي وزن تعصي؟ على أي مستوى تهديد تترك دينك؟ على أي مستوى إغراء تقول: أخي أنا مضطر، ماذا أفعل؟ فلذلك هناك قِوى جذب، وهناك قِوى ضغط، الإنسان مُعَرَّض لضغوط ولإغراءات من قِبَلِ أهل الباطل، إذا فعلت كذا وكذا نجعلك في هذا المكان، نعطيك هذا المبلغ، نرفعُ من قدرك، وإن لم تفعل أمامك كذا وكذا، هذه معركةٌ قديمة ومستمرَّة وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، معركة أهل الإيمان مع أهل الكفر والبهتان.

 

دعوى الإيمان لا تنفع:


لذلك ربنا يحذِّرنا.. ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا﴾ .. هو قال بلسانه، القضيَّة سهلة، أخي أشهدُ أنه لا إله إلا الله، لو أنها تنتهي عند هذه الكلمات فالقضيَّة سهلة جداً، ولكن هناك ضغوط، هناك مُغْرِيَات، قد ترى فتاةً جميلة فإذا أنت تنساق إلى الزواج منها على عِلّاتها، على تهتُّكها، على تبذُّلها، أين إيمانك؟ انتهى الإيمان، لذلك أهل الدنيا ينهارون عند نقطتين؛ عند المال والنساء، نقطتا ضعفٍ عند الإنسان الكافر المال والنساء، سريعاً ما ينهار الإنسان؛ أما المؤمن عنده صمودٌ في هاتين النقطتين، لذلك التعامل مع المؤمن صعب جداً، صعب لأنه إنسان ذو مبدأ لا يُغَيِّر ولا يُبَدِّل، والدليل النبي عليه الصلاة والسلام وهو نبيٌّ مُرْسَل يأتيه الوحي، وجاء بالمعجزات، ومع ذلك لما جاء الضغط شديداً على من كان معه. 

ماذا قال أحدهم ؟ قال: "أيعدنا صاحبكم أن تُفْتَحَ علينا بلاد قيصر وكسرى، وأحدنا لا يأمن أن يقضي حاجته"، جاء الضغط الخفيف فقال: صاحبكم، ولم يقل رسول الله. 

ثعلبة الذي آتاه الله الأموال الطائلة، أرسل النبي الكريم له إنساناً ليأخذ زكاة ماله قال: "قل لصاحبك ليس في الإسلام زكاة"، الذي قال: أيعدنا صاحبكم، هذا جاءه ضغطٌ فانكشف إيمانه، والذي قال: "قل لصاحبك: ليس في الإسلام زكاة"، جاءه إغراءٌ فانتقض إيمانه، فالبطولة أن يموت الإنسان مؤمناً، والآية الكريمة: 

﴿ وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا(80)  ﴾

[  سورة الإسراء  ]

الإنسان أحياناً في بدايات حياته يدخل مُدخل صدق، ولكن وهو في درب الحياة يأتيه المال الوفير، والمال يُطْغِي، أو يأتيه الضغط الشديد، وكاد الفقر أن يكون كفراً، فالضغط الشديد والإغراء الشديد هما امتحانٌ قاسٍ لأهل الإيمان، لذلك ماذا قال سيدنا علي؟ قال:  << عَلِمَ ما كان، وعلِمَ ما يكون، وعَلِمَ ما سيكون، وعلِم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون>>

 

دعوى الإيمان تحتاج إلى بيّنة:


أنت مستقيمٌ على هذا الدخل، لو جاءك دخل يبلغ عشرة أضعافه الله أعلم لا نعرف ما الذي يحصل، كل إنسان له نقطة ضعف ينفك فيها، فالإنسان إذا اهتم بإيمان حقيقي، بنى إيماناً صحيحاً، إيمان، كلمة إيمان ولا أبالغ كأن تقول: دكتوراه، هذه كلمة؟ سنوات طويلة، ابتدائي، وإعدادي، وثانوي، وليسانس، ودبلوم عام، ودبلوم خاص، وماجستير، ومواد، وأُطروحة، ومناقشة، ثم مواد ومناقشة، حتَّى ينال هذا الإنسان لقب دكتور، فإذا قال إنسان: أنا دكتور بلا دراسة، هذا مجنون، كلمة إيمان، متى آمنت؟ متى جلست على ركبتيك حتَّى آمنت؟ متى فكَّرت في خلق السماوات والأرض؟ على يد من آمنت؟ في أيّ مجلسٍ حضرت؟ أيّ كتابٍ قرأت؟ كيف تعاملت مع الله؟ هل طَبَّقت العبادات؟ هل قُمت بالواجبات؟ هل أطعت الله ورسوله؟ هل ضبطت شهواتك؟ كيف آمنت؟ هكذا آمنت.. ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ أخي أنا مؤمن والحمد لله، على ماذا؟ أين عملك؟ أين ورعك؟ أين محبَّتك؟ أين مؤاثرتك؟ أين إخلاصك؟ أين بذلك؟ أين تضحيتك؟ أين انضباطك؟ مؤمن.

 

معنى الإيذاء:


﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ﴾ .. أي جاءته مشكلةٌ بسبب إيمانه، لأنه قال: أنا صائم فعل معه فلان كذا وكذا، ﴿فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ﴾ أي أول ضغط أو إكراه أو وعيد قال: لا، شيء صعب لا يحتمل، أي وازن وجعل هذا الضغط الإنساني العابر المؤقَّت جعله كعذاب النار، وهذا مِن أخسر الخاسرين، ضغطٌ من بني البشر وعابر ومؤقَّت وقد لا يتحقَّق، الله يمتحنك به، يجب أن يكون شعارك دائماً كما قال سحرة فرعون: ﴿فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَاَ﴾ طبعاً الله عزَّ وجل لطيف يُحِبُّ أن تعرف نفسك، من أنت؟ ما مستوى إيمانك؟.. ﴿فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ﴾ .. أي هذا الضغط، هذا الوعد، هذا الوعيد، هذا الإكراه جعله مساوياً لعذاب النار، عذاب النار أبديّ، الله عزَّ وجل قال: 

﴿ ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا (13)﴾

[ سورة الأعلى  ]

هذا عذاب النار، شيء لا يُحتمل، فلو وازنت بين عذاب الدنيا وبين عذاب النار، القضيَّة بسيطة جداً.

 

دعوى الإيمان عند المكاسب والمصالح:


﴿وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ﴾ .. هذا الذي يدَّعي الإيمان، هذا الذي ينتمي للإيمان انتماء شكلياً، انتماء مصلحياً.. ﴿وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ﴾ أي يحبُّ الإيمان مكاسب، مغانم، توفيقات، عطاءات، دائماً يَتْبَعُ العطاء، إذا كان هناك شيء مريح، مثلاً كأن يكون احتفال، أو توزيع، أو وليمة، أخي نحن منكم وفيكم يا أخي لمَ لمْ تدعونا؟ وإذا كان تكليف لا تراه، اختفى، الإيمان مكاسب، فعند المكاسب هو مؤمن؛ وعند المتاعب تجد كل واحد يأخذ موقفاً، لذلك: ﴿وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ﴾ الله يكشف الإنسان كشفاً كاملاً.

 

صفات المنافقين:


﴿وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ﴾ ..ربنا عزَّ وجل وصف هؤلاء الذين يقولون: آمنا بالله فإذا أوذوا في الله جعلوا فتنة الناس كعذاب الله، وإذا جاء النصر، قالوا: إنا كنا معكم، هذه صفات المنافقين، أي إذا أراد الإنسان الإيمان كمكاسب ورفضه كمغارم، أراده مغانم ورفضه مغارم، أراده تشريفاً ورفضه تكليفاً، أراده قبضاً ورفضه دفعاً، أراده شُكراً ورفضه صبراً، قال: هذا في تقويم الله له منافق.. ﴿وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ﴾ ظاهره يتجلى بإيمان، وباطنه جحودٌ وكفران.

 

ادِّعاء الكفار تحمُّل مسؤولية المعصية وتبعاتها:


﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ﴾ .. بربِّكم هذه الكلمة ألا يقولها معظم الناس؟ أخي ضعها في رقبتي، مَن أنت؟ من أنت حتَّى تقول: أنا أتحمَّل هذه المسؤوليَّة؟ ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ﴾ أي يحملك على المَعصية، يحملك على كسب الحرام، يحملك على تنمية المال تنمية ربويَّة، يحملك على إطلاق البصر، يحملك على حضور حفلات ماجنة، يحملك ويقول لك: ضعها في رقبتي، لم يعد هناك مكان في رقبتك.. ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ﴾ هم كاذبون، كلامٌ لا يعني شيئاً، كلام سمَّوْه خطابياً إنشائياً لا يعني شيئاً..

 

لا يحمل أحدٌ وزر أحدٍ:


﴿وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ .. كلمة: ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾ شيء هو أقل ما يمكن أن يوصف، كل شيء ممكن اسمه شيء، و(مِن) لبعض الشيء.. ﴿وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ إنهم بهذا الكلام كاذبون، هذا كلامٌ فيه كذبٌ كبير، قد يقول لك أحدهم: أخي امشِ معي، إلى أين أمشي معك؟ إلى هنا، إلى هذا المحل الفلاني، تقول: لا يجوز، فيقول: لا تدقِّق، ضعها برقبتي، هذا كلام أهل الدنيا، كلام المنافقين، كلام البعيدين عن الله عزَّ وجل، كل إنسان محاسب بعمله.

﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)﴾

[ سورة الأنعام ]

فالإنسان من غبائه، ومن سوء طالعه، ومن ضيق أفقه أن يصدِّق من يقول له: افعل هذا، وضعه في رقبتي، قال تعالى: ﴿وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ .

 

مَن دلّ على معصية تحمّل وزرها:


والأغرب من هذا: ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ﴾ .. تأكَّد أنك إذا دللت إنساناً على معصية وفعلها فالوزر نفسه تتحمَّله أنت من غير أن ينقص من أوزارهم من شيء، أبداً:

﴿ مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85)﴾

[  سورة النساء ]

الكفيل حطَّاط، إذا دللت إنساناً على معصية، على كسب حرام، على إرواء شهوة بغير ما يرضي الله عزَّ وجل، على إنفاق مال في طريق غير مشروع، على تنمية مال بطريق غير مشروع، إذا دللت إنساناً على معصية فأنت تتحمَّل كامل الوزر من دون أن ينقُص من وزره شيء، هذه حقيقة خطيرة، إذاً ما الذي سيحصل؟ إنَّ هذا الذي يدلّ على معصية سيتحمَّل إثم معصيته هو، وإثم كل مَن دلَّهم عليها.. ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ أحياناً يفعل الإنسان شيئاً ثم يموت، هذا الشيء مستمر، لو أن الله عزَّ وجل كشف له يوم القيامة أن مئة ألف فتاةٍ غَوَت بسبب هذا العمل الذي فعلته، وتركت الدنيا، وكل هذه المعاصي في صحيفتك، واللهِ الذي لا إله إلا هو عندها يَعُد الإنسان إلى مئة مليون قبل أن يقول كلمةً فيها إشارةً إلى معصية أو دلالة على معصية.

 

المفتري مسؤولٌ عن افترائه:


﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ .. أخي هكذا الدين، الدين يسر، هذا افتراء على الدين، إذا قال واحد لك: هذا البناء غال، الحديد غالٍ لا تضع الحديد في البناء، أو ضع حديداً بالمئة واحد، وأنت صدَّقت، حفرت الأساسات، دفعت ثمن الإسمنت، ثمن العمَّال، وفي الطابق الثاني انهار البناء، لماذا صدَّقته؟ لِمَ لَمْ تسأل الخبراء؟ فاسألوا أهل الذكر.

﴿ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)﴾

[  سورة فاطر  ]

لماذا صدَّقته؟ فهذا افتراء، الإنسان عليه أن يتبع سبيل الله، أن يتبع سبيل من أناب إلى الله، أمَّا أهل الدنيا إذا اتبعنا سبيلهم أوردونا موارد التهلُكة. 

أنا ألاحظ أناساً كثيرين يستشيرون في زواج بناتهم أصدقاءهم وهم ليسوا على علم، يأتيهم خاطب لا دين له، لابأس، يصلح بعد فترة، يعطيه دعماً، يعطيه تشجيعاً، ثمَّ تقع الطامَّة الكبرى، يفعل بهذه الفتاة ما لا يفعله إنسان غريب عن الدين، لماذا استرشدت بهذا الإنسان؟ الله عزَّ وجل يقول في حديث قدسي: 

(( عن أبي ذر الغفاري عَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فِيما رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أنَّهُ قالَ: يا عِبَادِي، إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ علَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فلا تَظَالَمُوا، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَن هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَن أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَن كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يا عِبَادِي، إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ باللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يا عِبَادِي، إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يا عِبَادِي، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا علَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنكُمْ؛ ما زَادَ ذلكَ في مُلْكِي شيئًا، يا عِبَادِي، لوْ أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا علَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ؛ ما نَقَصَ ذلكَ مِن مُلْكِي شيئًا، يا عِبَادِي، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي، فأعْطَيْتُ كُلَّ إنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ؛ ما نَقَصَ ذلكَ ممَّا عِندِي إلَّا كما يَنْقُصُ المِخْيَطُ إذَا أُدْخِلَ البَحْرَ، يا عِبَادِي، إنَّما هي أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا، فمَن وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَن وَجَدَ غيرَ ذلكَ فلا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ. وفي روايةٍ: إنِّي حَرَّمْتُ علَى نَفْسِي الظُّلْمَ وعلَى عِبَادِي، فلا تَظَالَمُوا. ))

[ صحيح مسلم ]

استهدِ اللهَ عزَّ وجل، اسأل إنساناً تثق بدينه، بعلمه، بفهمه لكلام الله، استنصحه.

 

قصة نوح مع قومه:


﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً﴾ .. سيدنا نوح بقي في قومه تسعمئة وخمسين عاماً.. ﴿فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ﴾ .. هم ظالمون؛ هذه حال، أيْ لحالة كونهم ظالمين أخذهم الطوفان..﴿فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ(15)﴾ ..وهذا شيء مفرح، أن ينجي الله عزَّ وجل المؤمن، المؤمن الذي حَصَّل ماله حلالاً فله عند الله معاملة خاصَّة..

﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)﴾

[  سورة الأنبياء  ]

والآية واضحة: ﴿فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ(15)﴾ .

 

قصة وعبرة:


قصَّة كنت أرويها قديماً، هي رمزيَّة، ولكن لها معنىً عميقاً، خلاصتها: أن امرأةً جاءت سيدنا نوح وقالت له: يا نوح، إذا جاء الطوفان فأخبرني، قال لها: نعم، يبدو أنه جاء الطوفان، وركب نوحٌ عليه السلام في السفينة مع أصحابه، وفي زحمة الطوفان والأمواج كالجبال تَذَكَّرَ هذه المرأة، نسيها، لأنه بشر، والنبي الكريم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: عن عبدالله بن مسعود: 

(( صَلَّى بنَا رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ خَمْسًا، فَقُلْنَا: يا رَسولَ اللهِ، أزِيدَ في الصَّلَاةِ، قالَ: وما ذَاكَ؟ قالوا: صَلَّيْتَ خَمْسًا،  قالَ: إنَّما أنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، أذْكُرُ كما تَذْكُرُونَ وأَنْسَى كما تَنْسَوْنَ ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ. ))

[ صحيح مسلم ]

فلمَّا انتهى الطوفان، والطوفان كان عامّاً، جاءته هذه المرأة وقالت له: يا نوح، متى الطوفان؟ لأن الله عزَّ وجل وعد المؤمن أن يُنجيه، نجَّاها.

 

يا أيها الناس اتقوا غضب الله وسخطَه:


إذاً: ﴿فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15) وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16)﴾ .. اتَّقِ غضبه، اتقِ بلاءه، اتقِ فتنته، اتقِ أن تُعَذَّبَ من قِبَلِ إنسان، اتقِ أن تدفع ثمن المعاصي باهظةً، واتقوه.. ﴿وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أي أرجحكم عقلاً أشدُّكم لله حبَّاً، كفى بالمرء علماً أن يخشى الله، وكفى به جهلاً أن يعصيه، إذا رأيت أن طاعة الله، وتقواه، وعبادته خير فأنت عالِم، وإن رأيت في الطاعة إحراجاً، وفي العبادة مَغْرَمَاً، وفي اتقاء الله خسارةً فأنت لا تعلم ولو نلت أعلى الشهادات، مقياس العلم أن ترى في طاعة الله وعبادته وتقواه كل الخير، وأن ترى في معصيته والانحراف عن منهجه كُلَّ الشر، هذه القضيَّة مقياس ثابت جداً..

 

الخير في تقوى الله:


﴿وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ .. إنْ كنت تعلم تر أن طاعة الله هي الخير، وربنا عزَّ وجل لحكمةٍ أرادها أحياناً يبدو لك الخير في معصيته، يبدو لك أن شراء هذا البيت لا يكون إلا باقتراض مالٍ بفائدة، وأن البيت مناسب جداً، والبيت سعره مناسب جداً، والمبلغ ميسور من طريق مصرف مثلاً، والفائدة يسيرة، قد ترى كل الخير في هذا الطريق المشبوه، فإذا قلت: إني أخاف الله رب العالمين، عندئذٍ يُيَسَّر الله لك هذا البيت نفسه من طريقٍ آخر، عملية امتحان، أحياناً تُقْدِمُ على معصية، ويتراءى لك أن الخير بهذه المعصية، فإذا غلَّبت إيمانك وقلت: إني أخاف الله رب العالمين، قد يأتي الخير من طريقٍ آخر، لذلك:

﴿ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)﴾

[  سورة الطلاق  ]


كل معبودٍ من دون الله كذب وإفك مفترى:


﴿إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ .. إنما أداة قصر، أي أن كل ما تعبده من دون الله هو وَثَن، والوثن لا ينفع ولا يضر.. ﴿وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً﴾ أما التعليلات، والتفسيرات، والتمهيدات، والتحليلات هذه كذبٌ كلها، إفكٌ في إفك، الإفك الافتراء، الكذب، إذاً هذا الذي تعبده صنماً لا ينفع ولا يضر، وهذا الكلام الذي ترمزه له كلامٌ كاذب، والدليل أن هذه الأصنام..﴿لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ﴾ .. هذه القاعدة مهمَّة جداً.

 

لا رازق إلا الله:


أحياناً تتوهَّم أو يتراءى لك أن رزقك بيد فلان، إذا صدَّقت فهذه الآية تنطبق عليك، تتوهَّم أنه إذا رضي عنك فلان كنت في الأوج، فإذا غضب عليك كنت في الحضيض، إذا رضي عليك زيد أعطاك مالاً وفيراً، فإذا غضب عليك حرمك من كل شيء.

مع أن من أبسط قواعد الإيمان: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ : 

(( أَنَّهُ رَكِبَ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا غُلامُ، إِنِّي مُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ : احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، وَإِذَا سَأَلْتَ فَلْتَسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ، لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ، لَمْ يَضُرُّوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ . ))

[ صحيح الترمذي ]

﴿ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)﴾

[ سورة فاطر ]

هذا الإيمان، كآيات أن تقرأها وتفهمها القضيَّة سهلة، أما أن تكون في مستواها، وأن تعيشها، وأن تبني مواقفك في ضوء هذه الآيات فهذا المطلوب، المطلوب أن تكون صامداً، أن تؤمن أن الله عزَّ وجل لا ينساك من رزقه، وأن كلمة الحق لا تقطع رزقاً، ولا تُقَرِّبَ أجلاً، وأن كلمة الباطل لا تزيد في الرزق، أي:

﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)﴾

[ سورة الأنفال ]

"من ابتغى أمراً بمعصيةٍ كان أبعد مما رجا وأقرب مما اتقى"، إذاً إذا توهَّمتَ أن المعصية تزيد في رزقك، وأن الطاعة تنقص في رزقك فهذا هو الجهل الكبير، لذلك: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً﴾ هذا كلام الرَزَّاق العظيم، كلام الله رب العالمين، كلام الخالق من بيده كل شيء..﴿فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ﴾ ، ورد: "من ابتغى أمراً بمعصيةٍ كان أبعد مما رجا وأقرب مما اتقى" .

 

الله هو المستحق للعبادة وحده:


﴿وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ ..اعبدوه أطيعوه، واشكروا له أنْ خلقكم، أنعم عليكم بنعمة الإيجاد، ونعمة الإمداد، ونعمة الإرشاد، أعطاكم الأموال، والبنين، والزوجات، والأهل، والبيت، أعطاك هذه الصحَّة، أعطاك هذه الحواس.. ﴿وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ أي إذا عبدت غيره، وابتغيت الرزق عند سواه سوف تُحاسب على هذا..﴿وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ أي إن فعلت خيراً فلنفسك، وإن أسأت فعليها، أيْ عملك لك.

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور