وضع داكن
28-03-2024
Logo
الدرس : 07 - سورة العنكبوت - تفسير الآيات 19 - 23 ، الآيات الكونية
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

أهداف بثّ الآيات في الكون:


أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس السابع من سورة العنكبوت.

وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ .. حيثما وردت كلمة: ﴿أَوَ لَمْ يَرَوْا﴾ ، ﴿أَلَمْ تَرَوْا﴾ هذه تفيد أنَّ الشيء الذي سيأتي بعدها آيةٌ ظاهرةٌ، بيِّنةٌ، دالَّةٌ على عظمة الله عزَّ وجل..

﴿ أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6)﴾

[ سورة ق  ]

الآيات التي بثَّها الله في الكون آياتٌ ظاهرةٌ، بيِّنَةٌ، واضحةٌ، كلُّها دالَّةٌ على عظمة الله عزَّ وجل.

وفي كل شيء له آيةٌ        يدلُّ عـلى أنه واحدُ

* * *

ننتقل إلى معنى دقيق جداً هو أن كل شيءٍ بثَّه الله في الأرض من آيات له هدفان كبيران؛ الهدف الأول: أن تتعرَّف إلى الله من خلاله، وهذا الهدف يتصل بالآخرة.

والهدف الثاني: أن تنتفع به في الدنيا، وأن تشكر الله عليه.

 

موقف المؤمن من آيات الله:


إذاً: أنت دائماً مع خلق الله عزَّ وجل يجب أن يكون لك موقفان؛ الموقف الأول موقف الإيمان، الموقف الثاني موقف الشكر، الإيمان والشكر، لأن كل شيءٍ خلقه الله عزَّ وجل له وظيفتان، أداة للتعريف وأداة للإكرام، الله عزَّ وجل عرَّفك بذاته من خلال هذا الكون، وأكرمك بهذا الكون، فكأن الكون قد سُخِّر لك مَرّتين، سُخِّر لك تسخير تعريف، وسُخِّر لك تسخير تكريم، فأنت مطلوبٌ كي تؤمن به، وأنت مستهدفٌ كي تَشْكُرَهُ، مِن هنا قال الله عزَّ وجل:

﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)﴾

[ سورة النساء ]

أيْ إذا آمنتم وشكرتم حقَّقتم الهدف الذي من أجله خُلِقْتم، يجب أن تؤمن ويجب أن تشكر، إنسان قدَّم لك جهازَ هاتفٍ من مستوى رفيع جداً، وقال لك: هذا أنا صمَّمته، وهو لك مني هديَّة، ماذا يكون ردُّ فعلك؟ تتأمَّل هذا الجهاز، ترى دقَّة هذا الجهاز، ترى خدمات هذا الجهاز، ترى شكل هذا الجهاز الأنيق، ترى جُزْئِيَّاتِه الدقيقة، ترى عمله المنتَظَم، ترى حساسيَّته البالغة، ترى بعض الأشياء الآليَّة فيه، فأنت كلَّما تأمَّلت هذا الجهاز ازددت إكباراً، واحتراماً، وتبجيلاً لهذا الذي صنعه، وما دام قد قُدِمَ لك هديَّةً من قِبَلِه ينشأ معك شعور آخر، شعور الشكر.

 

لابدَّ من أن يكون في قلب المؤمن شعور التعظيم والخوف والمحبَّة لله:


أنت ما دمت تعرف الله عزَّ وجل وتشكره فأنت على الصراط الصحيح، أنت في الموقع الصحيح، أنت في الهدف الصحيح، عندما سأل سيدنا موسى ربَّه فقال: "يا رب، أيّ عبادك أحبُّ إليك حتى أحبَّه بحبِّك؟ قال: يا موسى أحبُّ عبادي إليَّ تقي القلب، نقي اليدين، لا يأتي إلى أحدٍ بسوء، أَحبَّني وأَحبَّ من أحبَّني وحبَّبني إلى خلقي، قال: يا رب إنك تعلم أني أحبُّك وأحبُّ من يحبُّك فكيف أحبِّبك إلى خلقك؟ قال: ذكِّرهم بآلائي ونَعمائي وبلائي". هذا الكلام يُستنبط منه أنه لابدَّ من أن يكون في قلب المؤمن شعور المحبَّة لله عزَّ وجل، وشعور الخوف منه، وشعور التعظيم له، تعظيمٌ وخوفٌ ومحبَّة، الآيات الكونيَّة من أجل أن تُعَظِّمَهُ، والمصائب والبلايا من أجل أن تخافه، والنعَمُ الكثيرة من أجل أن تحبَّه، إذاً تعظيمٌ وحبٌّ وخوف، لذلك ربنا عزَّ وجل يقول: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا﴾ كأن الله يدعوك إلى أن ترى، هل رأيت؟ أي الحياة تستهلك كل الناس، أنت مستهلك من قِبَلِ أهلك، وأولادك، وعملك، وتجارتك، وصناعتك، ووظيفتك أم إنَّك لك وقفات مع الله عزَّ وجل؟ ربنا قال: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ﴾ هل تأمَّلت مرَّةً؟ هل فكَّرت مرَّةً؟ هل دَقَّقت؟ إذا شربت كأس الماء ما ردُّ الفعل عندك؟ البحر ملحٌ أُجاج من جعله عذباً فُراتاً؟ إذا تناولت رغيف الخبز، هذا القمح مَن صمَّمه لك؟ إذا تناولت الحليب واللبن ومشتقَّات الحليب..

﴿ وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5)﴾

[ سورة النحل ]

ردّ الفعل؟ لابدَّ مِن رَدَّيْ فعل، الفعل هو خلق السماوات والأرض، تسخير هذا الكون لك، ردُّ الفعل العِرفان والشكْرَان، الإيمان والشكر، لذلك لا تنجو من تأديب الله ولا من معالجته إلا إذا عرفته وشكرته..﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا﴾ ، هذه الآية يُسْتَنْبَط منها أنك إذا كنت في ضيق، إذا كانت الأمور على غير ما تريد، إذا ظهرت عقباتٌ في حياتك، إذا كنت منقبض القلب، إذا كانت الأمور مُعَسَّرة فارجع إلى هذه الآية..﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ﴾ معنى هذا أن هناك خللاً في الإيمان أو في الشكر، ربنا عزَّ وجل يقول:

﴿ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)﴾

[ سورة الأنعام  ]

لو أنَّك آمنتَ وظلمتَ، لو أنك آمنت ولم تشكر، لو أنك شكرت ولم تؤمن، من أجل أن تنجو من تأديب الله، من عقوبة الله، من معالجة الله، من تربية الله، من أجل أن تنجو من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة يجب أن تؤمن وأن تشكر، يجب أن تعرف الله، وأن تعرف نِعَمَهُ، يجب أن تعرف المُنْعِمَ والنعمة، هكذا.

 

وجوب النظر والتأمل والتفكر في الكون:


إذاً حيثما قال الله لك: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا﴾ ، يجب أن ترى، يجب أن تجلس كي تتأمَّل، يجب أن تستمع، إما أن تأخذ العلم خالصاً، لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع، أي إما أن تطبخ هذا الطعام، وإما أن تأكله جاهزاً، إذا جئت إلى مجلس علم تناولت هذا الطعام الإلهي جاهزاً، الغذاء الإلهي، وإذا جلست كي تتأمَّل ربَّما هداك تأمُّلك إلى شيءٍ من هذه الحقائق، إما أن تتلقَّى، وإما أن تتأمَّل، على كل لابدَّ من نشاطٍ تَعَرُّفيّ، ما دام الله عزَّ وجل قد خلق فيك القوَّة الإدراكيَّة والتي ميَّزك الله بها عن كل المخلوقات إذاً لابدَّ من أن تبذل نشاطاً في معرفة الله عزَّ وجل وفي شكره.


دعوة إلهية إلى التفكر في النفس المخلوقة:


﴿أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ .. قد يقول قائل: أنا ما شاهدت كيف خُلِقْت، لكن الله عزَّ وجل جعل نظام البَشَر على أساس التوالد، فإذا كنت غائباً عن نشأتك هذه نشأة ابنك أمامك، تعلم علم اليقين أن هذا الابن الذي أمامك، الذي يلعب، الذي يضحك، الذي يتثاءب، الذي يتكلَّم، الذي يبتسم، الذي يأكل، له فم، له لسان، له لسان مزمار، له مَريء، له معدة، له أمعاء، له كبد، له صفراء، له بنكرياس، أمعاء دقيقة، أمعاء غليظة، يوجد زُغابات ماصَّة، يوجد أوردة، يوجد شرايين، يوجد قلب، يوجد رئتان، يوجد كبد، يوجد كليتان، يوجد كظران، يوجد رُغامى، يوجد قصبتان، يوجد قلب، يوجد دماغ، يوجد مخ، يوجد مخيخ، يوجد بصلة سيسائيَّة، يوجد نخاع شوكي، يوجد فقرات ظهريَّة، يوجد عظام بعضها ثابت وبعضها متحرِّك، يوجد عضلات، يوجد شعر، يوجد أظافر، يوجد قِوام، يوجد نَفْس. هذا الذي أمامك يلعب في البيت كان كما تعلم حُويناً منويّاً لا يُرى بالعين، ثلاثمئة مليون حوين في اللقاء الواحد، تختار البويضة حويناً واحداً، إذاً إذا قلت: أنا لا أعرف كيف خُلِقْت فهذا ابنك أمامك، ما أحد يعرف أكثر منك، أن هذا الابن الذي أمامك كان حويناً، وكان بُويضةً، ولُقِّحَت هذه البويضة، وتكاثرت، ونَمَتْ، والتصقت بجدار الرحم، وجاءها الغذاء إلى أن أصبحت كائناً كاملاً في تسعة أشهر، خرجت إلى الدنيا، وبدأت تنمو، إذاً: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ .

 

التفكر في البذرة المخلوقة:


ازرع بذرة، البذرة التي تزرعها لها غلاف، لها مخزون من النشويات، ولها رشيم كائن حي، أخرجوا من الأهرام قمحاً زُرِعْ فنبت، معنى هذا أن الرشيم بقي حيّاً ستَّة آلاف عام، في حبة القمح رُشَيْم حي، إذا جاءته الرطوبة، وجاءه الغذاء، وجاءه الضوء ينمو سويقاً وجذيراً، هذا الرشيم يصبح شجرة، يصبح نبتة، يصبح شَجَراً له صفات لا يعلمها إلا الله..﴿أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ ظاهرة النبات وحدها ظاهرةٌ كافيةٌ كي تسجد لله سجود الطائعين، سجود الخائفين، سجود الموقنين، فلك أن ترى النبات كيف يُبدئ الله خلقه.

 

التفكر في الحيوان المخلوق:


لك أن ترى الحيوان كيف يُبدئ الله خلقه، هذه البيضة التي أمامك تأكلها وتقول: أكلت اليوم بيضاً، هذه البيضة لو بقيت تحت أمِّها لأصبحت حيواناً كاملاً فيه عضلات، فيه رئتان، فيه قلب، فيه أوعية، فيه دم، فيه شرايين، صوص، حيوان كامل، إذاً مَن حوَّل هذا السائل الأصفر والأبيض إلى كائن يتحرَّك، ويزقزق، ويلوذ بأمِّه، ويكبر وينمو، تأكل منه لحماً، وتأكل منه طعاماً لذيذاً ؟البيض أمامك، والحليب أمامك، وخلق الإنسان أمامك، الله عزَّ وجل لم يبعدك عن وسائل الإيضاح، جعلها متوافرةً أمامك، بثَّها في كل مكان، وربنا عزَّ وجل يقول:

﴿ وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20)﴾

[ سورة الذاريات  ]

آياتٌ كثيرةٌ دالَّةٌ على عظمته.

 

الحكمة من استعمال فعل الرؤية لمن لم ير:


إذاً: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ﴾ .. إلا أنه سألني سائل فقال: كيف يقول الله عزَّ وجل:

﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)﴾

[ سورة الفيل  ]

قد يقول قائل: واللهِ أنا ما رأيت ماذا حصل، ما كنت وقتها، هذا خبر تاريخي، ويقول الله عزَّ وجل: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ ، الجواب: أن إخبار الله عزَّ وجل من اليقينِ بحيث يُشابه الرؤية، أيْ إذا قال الله عزَّ وجل في كتابه: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ يجب أن ترى أن هذا الخبر الذي ذكره الله لنا في القرآن الكريم، لأن الله هو القائل، إذاً كأنه وقع، كأنه وقع أمامك لشدَّة الصدق، إذاً ما دام الله عزَّ وجل يقول:﴿أَوَلَمْ يَرَوْا﴾ إذاً يجب أن نرى، لهذا النبي عليه الصلاة والسلام قال: أُمِرْتُ أن يكون صمتي فكراً، ونطقي ذكراً، ونظري عبرةً، أما قوله تعالى: ﴿كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ﴾ .. ﴿يُبْدِئُ﴾ قال بعض علماء التفسير: "إما من الإبداء أو من الابتداء" وكلاهما صحيح، اللهُ عزَّ وجل يُظهر، أي أنت لا تعرف ماذا في أحشائك، يوجد كبد، يوجد صفراء، يوجد معدة، يوجد أمعاء، يوجد عضلات، يوجد طبقة شحميَّة، يوجد قصبة هوائية، يوجد مَريء له حلقات، يوجد حنجرة، يوجد لسان مزمار، يوجد لسان، يوجد غدد لُعاب، يوجد عضلات وجه، يوجد أشياء مُعَقَّدة، الله عزَّ وجل لحكمةٍ أرادها جعل من أنواع الغذاء اللحم، وجعل هذا الحيوان الذي ذلَّله لنا نرى من خلال تشريحه الداخلي أن أعضاءه مشابهةٌ تماماً لأعضاء الإنسان، فإذا أردت أن تشتري اللحم ترى الكبد والكليتين، وترى القصبة والرئتين، ترى القلب، ترى العضلات، ترى العمود الفقري، ترى العظام، ترى المفاصل، هذا كلُّه تراه عند بائعي اللحم، إذاً الله عزَّ وجل أعطاك دروساً، أي إذا كان الإنسان مكرَّماً عند الله عزَّ وجل بحيث لا يُفْتَح بطنه ليتعلَّم به وهو حي، هناك مخلوق سخَّره الله لنا كي نأكله، وجعل أعضاءه مشابهةً تماماً لأعضاء الإنسان.

 

الكبد من آيات الله في الإنسان: 


يقول: أكلنا نحن اليوم سودة، الكبد في بعض النظريات الحديثة له خمسة آلاف وظيفة، أيْ له دور خطير جداً، بحيث إذا تَعَطَّلَ كبد الإنسان لا يستطيع أن يعيش أكثر مِن ثلاث ساعات، مخبر مركزي، الكبد بإمكانه أن يحوِّل المواد الشحميَّة الدهنيَّة إلى مواد سكريَّة، وبإمكانه أن يحوِّل المواد السكريَّة إلى شحميَّة، ليس عندنا في الحياة مستودع فيه خشب وفيه حديد، فإذا لزمنا حديد أكثر من الخشب نحول الخشب إلى حديد، هذا فوق طاقة البشر، هذا ما يفعله الكبد، الكبد يفرز هرمون التجلُّط، وهرمون التمييع، ومن إفراز هذين الهرمونين بشكلٍ دقيقٍ يكون الدم بهذا القِوام المناسب، قال العلماء: لو أفرز الكبد هرمون التجلُّط زيادة عن حدِّه الدقيق لأصبح الدم وَحلاً في الأوعية، ولو أفرز الكبد هرمون التميُّع زيادة عن حدِّه لسال دم الإنسان كلِّه من رُعاف واحد، وانتهى الأمر.

أتحســب أنك جِرْمٌ صغير     وفيكَ انطوى العالَم الأكبرُ؟

* * *

هذا معنى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ خلقُ الإنسان بين يديك، وخلقُ الحيوان بين يديك، وخلقُ النبات بين يديك، وإذا قرأت تقرأ عن ظهور مجرَّاتٍ جديدة، وعن اختفاء مجرَّات، وعن اتساع بعض المجرَّات، وعن انكماش بعض المجرَّات، وعن الثقوب السوداء في الفضاء الخارجي، أي إذا أردت أن تَطَّلع تماماً هناك بدءٌ للخلق ثم إعادة في الفَلَك.

 

الآية التالية دليل نقلي وعقلي على الدار الآخرة:


﴿أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ .. هذا هو الدليل النقلي والعقلي على الدار الآخرة، ما دام الله عزَّ وجل قد خلقنا مِن لا شيء، مِن العَدَم فَلأنَ يعيد خَلقنا من باب أوْلى، فلأن يعيد خلقنا شيءٌ عليه يسير، لكن كلمة..﴿إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ هذا تقريبٌ لنا، كيف؟ الإنسان بحسب حياته إذا كان الشيء مكتوباً أقوى، يقول له: كتبتُ عَقْداً؟ قد يكون هناك بيعٌ تمَّ شفهياً، بعتُك واشتريتَ، أما إذا كان هناك عقد يشعر الإنسان أن العقد أمتن، وأقوى، وأثبت، فربنا عزَّ وجل كي نفهم نحن رحمته قال:

﴿ وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)﴾

[  سورة الأنعام ]

ربنا عزَّ وجل جاء بألفاظ الكتابة مع أن قوله كتابة، لكن تقريباً لأذهاننا، كذلك هنا تقريباً لأذهاننا قال: ﴿إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ مع أن فعل الله عزَّ وجل: كن فيكون، زُل فيزول، لكن تقريباً لأذهاننا، نحن إذا صنعنا شيئاً، وأردنا أن نعيد صنعته نشعر باليسر في المرَّة الثانية، كلَّما تكرَّر العمل كلما شعرنا باليُسْر، فالله سبحانه وتعالى يقول: ﴿يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ ..

 

منزلة الإيمان باليوم الآخر:


لذلك الإيمان باليوم الآخر شيءٌ دقيقٌ جداً وخطيرٌ جداً، لو أن الإنسان آمن بالله فقط ولم يؤمن بالدار الآخرة لا يستقيم على أمر الله، أحد أسباب الاستقامة التامَّة على أمر الله أن تؤمن أن هناك حياةً أبديَّة وفيها حسابٌ دقيق، أن تؤمن أن الله عزَّ وجل وزَّع الحظوظ في الدنيا توزيع ابتلاء، وسيوزِّعها ثانيةً في الآخرة توزيعَ جزاء، من هنا تنتقل اهتماماتُك، تنتقل طاقاتك، تنتقل أعمالك لتُرْضِيَ بها ربَّك كي تسعد بقربه في الدار الآخرة.


  قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ من الإعجاز العلمي في القرآن:


﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ .. كلمة في الأرض أيضاً فيها إشارةٌ دقيقة، يا ترى لِمَ لَمْ يقل الله عزَّ وجل: قل سيروا على الأرض؟ لِمَ قال: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ مع أن الإنسان يسير على الأرض؟ قال: هذه إشارة إلى أن الغلاف الهوائي من الأرض، ومربوطٌ بالأرض، والدليل لو أن الغلاف الهوائي لا علاقة له بالأرض لنشأت تيَّارات من العواصف والأعاصير سُرعتها تزيد عن ألف وستمئة كيلو في الساعة، وكلُّكم يعلم أن الهواء إذا زادت سرعته عن مئة كيلو متر يصبِحُ مُدَمِّراً، أي أشدُّ أنواع الأعاصير عتواً التي تدمِّر كل شيء ولا تبقي شيئاً، في بعض البلاد تأتي الأعاصير فتنسف المدينة بأكملها، لا يبقى حجرٌ على حجر، ولا شجرٌ، ولا معملٌ، ولا نباتٌ، ولا شيء، هذه الأعاصير العاتية سرعتها ثمانمئة كيلو متر، لو أن الهواء مُسْتَقِلٌ عن الأرض.. الأرض تدور والهواء ثابت لنشأت أعاصير سرعتها ألف وستمئة كيلو في الساعة دَمَّرت كل شيء، لهذا يُعَدُّ الهواء متمِّماً للأرض، جزءاً من الأرض، والهواء مرتبط بالأرض بفعل الجاذبيَّة، إذاً: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ .

 

يا أيها الناس أدخِلوا اليومَ الآخرَ في حساباتكم:


ربنا عزَّ وجل قال: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ .. استنباطاً من هاتين الآيتين كلَّما تحرَّك المؤمن حركةً يتصوَّر أنه واقفٌ بين يدي الله عزَّ وجل في النشأةِ الآخرة، في إعادة الخلق، ويسأله الله عزَّ وجل: لماذا فعلتَ كذا؟ لماذا أعطيت؟ لماذا منعت؟ لماذا سَخِرْتَ؟ لماذا اغتبت؟ لماذا جَرَّحت؟ لماذا ظلمت؟ لماذا أخذت؟ لماذا اغتصبت؟ إذا أَدخلْتَ اليوم الآخر في حساباتك اليوميَّة في كسب المال، في إنفاق المال، في صنعتك، في وظيفتك، في طِبِّك، في هندستك، في تدريسك، في علاقتك بأهلك، إذا أدخلت اليوم الآخر، وهذا الموقف العصيب الذي نقفه، ونحن بين يدي الله عزَّ وجل، عندئذٍ تستقيم على أمر الله، لذلك بعض الناس أو معظم الناس يتحرَّكون في دُنياهم، ولا يُدخِلون اليوم الآخر في حساباتهم، يُدخِلون مستقبلهم البعيد، يقول لك: أنا حينما أكبَر أحتاج إلى دخل كبير، أنا حينما أكبر أحتاج إلى عمل بعد الوظيفة، فدائماً تفكيره مُنْصَرِف إلى مستقبله في الدنيا، أما ما بعد الموت فهذا خارج الحساب، أما إذا آمنت بالله عزَّ وجل، وآمنت باليوم الآخر تجعلُ الآخرة كل همِّك، ومنتهى علمك، ومحطَّ آمالك.


  إعمالُ الفكر عند كل حركة في الكون:


﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ﴾ .. إذاً المؤمن الصادق كلَّما تحرَّك هذا الفكر يعمل، يفكِّر، إذا تأمَّل خلق الله، إذا تأمَّل ما حوله، مَن حوله، الظواهر الطبيعيَّة، هطول الأمطار، هبوب الرياح، الرعد، البرق، قوس قُزح مثلاً، هذه الينابيع التي تنبع، هذه البقرة التي سخَّرها الله لنا معمل صامت، هذه الأشجار، هذه لأخشابها، وهذه لظلِّها، وهذه لثمراتها، وهذه لأوراقها، وهذه لأزهارها، وهذا النبات حدودي، وهذا النبات دوائي، وهذا النبات جمالي، وهذا النبات غذائي، وهذا النبات للأثاث، فإذا نظر الإنسان وتأمَّل، الإنسان العاقل لا يمرُّ هكذا على الأشياء، إذا جلس ليأكل فهذه المائدة يفكِّر فيها مادَّة مَادَّة، صفيحة صفيحةً، هذه مَن خلقها؟ مَن صمَّمها؟ مَن جعلها بهذا الترتيب؟ هذه: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ﴾ الشجر في الخريف تجد أن أوراقه اصفرَّت، وأصبح خَشَباً، تظن أنه خشب يابس، يأتي الربيع فتزهر هذه الأشجار، ثمَّ تورق، ثم إذا هي بهجةٌ للناظرين، كل ذلك تمّ بفعل الله سبحانه وتعالى، الحديث في هذه الآيات إذاً عن الدار الآخرة؛ الآية الأولى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ ، والآية الثانية: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ .

 

من لوازم اليوم الآخر العذاب والرحمة:


أخطر ما في اليوم الآخر أنّه..﴿يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ﴾ ، "فو الذي نفس محمَّدٍ بيده ما بعد الدنيا من دار إلا الجنَّة أو النار". إما في جنَّةٍ يدوم نعيمُها؛ أو في نارٍ لا ينفد عذابها، ليس هناك حالة ثالثة، الإنسان أحياناً في الدنيا يكون إما في سعادة، أو في شقاء، أو في حالة وسط بينهما، يقول لك: لابأس، أي وسط، دخله قد يغطي حاجاته الأساسيَّة، أما الثانويَّة فلا يستطيع، لكن في الدنيا يوجد حالةٌ ليس فيها تألُّق، وليس فيها هموم، حالة وسط، لكنَّ الآخرة إما عذابٌ لا يحتمل، وإما نعيمٌ لا يوصف..

(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالَى: أعْدَدْتُ لِعِبادِي الصَّالِحِينَ، ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ علَى قَلْبِ بَشَرٍ. قالَ أبو هُرَيْرَةَ: اقْرَؤُوا إنْ شِئْتُمْ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17]. قال أبو مُعاويةَ، عن الأعمَشِ، عن أبي صالِحٍ: قرَأ أبو هُريرةَ: (قُرَّاتِ أعْيُنٍ). ))

[ متفق عليه ]

لذلك يقولون: إِنّ المؤمن إذا نظر إلى مكانه في الجنَّة يقول: لم أرَ سوءاً قط، ينسى كل متاعب الحياة، كل الشدائد التي ساقها الله له، كل المتاعب، كل المصائب، كل المِحَن، كل البلايا ؛ وإذا نظر الكافر إلى مكانه في النار يقول: لم أرَ خيراً قط، من هنا قال سيدنا علي لابنه الحسن: "يا بني – لابنه الحسن - ما خيرٌ بعده النار بخير، وما شرّ بعده الجنَّة بشر، وكل نعيمٌ دون الجنَّة محقور، وكل بلاءٍ دون النار عافية" .

 

الاختيار من موجبات الحساب والعذاب:


﴿يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾ .. لماذا يُعَذِّب مَن يشاء؟ لأنك إنسان، لأنك حملت الأمانة، لأنك قلت: أنا أهلٌ لها يا رب، الله عزَّ وجل يقول: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا﴾ الله ما ألزمك بل عرض عليك عرضاً..

﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)﴾

[ سورة الأحزاب ]

حملها الإنسان، قال: أنا أهلٌ لها، أعطاك الله نفسك أمانة، لأنك رضيت أن تقبل هذه الأمانة، وأن تكون أميناً عليها، وأن تُزَكِّي نفسك، وأن تعرِّفها بربِّها، سخَّر الله لك الكون إكراماً لك، أعطاك العقل، والعقل وحده هو الذي كرَّمك به، قوَّة إدراكيَّة هائلة، أعطاك القوة فيما يبدو، القوة قوة الله عزَّ وجل، أعطاك الكون، أعطاك العقل، أعطاك القوة، أعطاك الفِطرة، أعطاك حرية الاختيار، أعطاك الشهوات، أعطاك الشريعة الميزان الدقيق، هذه كلُّها مقوِّمات الأمانة، فالكون ما فكَّرت به، والعقل ما استخدمته، والقوة وظَّفتها في الباطل، والاختيار اخترت الشر واخترت الشهوة مثلاً، والفطرة طَمَسْتَها، أي هذه المصيبة التي جعلها الله عزَّ وجل مذكِّرةً لك فَرَّغوها من مضمونها، ربنا عزَّ وجل قال:

﴿ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)﴾

[ سورة فاطر ]

 

ما هو النذير؟


النذير هو القرآن.

والنذير النبي العَدنان.

والنذير الشيب.

والنذير سِنُّ الأربعين .

والنذير سنُّ الستين .

والنذير المصائب.

والنذير موت الأقارب.

حتَّى المصيبة التي يسوقها الله عزَّ جل للإنسان كي يصحو، كي يعودَ إلى الله، كي ينتبه، كي ينعطف انعطافاً نحو الله عزَّ وجل يُفَرِّغها من مضمونها ويقول: ﴿وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ﴾ الدهر يومان: يومٌ لك ويومٌ عليك، القدَر سَخِر منه، لذلك الكون ما فكَّر فيه، والعقل استخدمه للإيقاع بين الناس، والفكرة طمسها، والقوة وظَّفها في الشر، وحرية الاختيار جعلها لشهواته، والشهوة مارسها بدون هدى من الله عزَّ وجل، مارسها بشكل عشوائي، والشريعة كَذَّبها، والمصائب فرَّغها من مضمونها، لذلك يأتي يوم القيامة ليدفع الثمن باهظاً..﴿يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾ أما الذين كانوا:

﴿ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)﴾

[ سورة الذاريات  ]

هؤلاء: ﴿وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ﴾ فنحن في الآخرة بين أن نُعَذَّب وبين أن نُرْحَم، الرحمة هي الجنَّة.

﴿ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)﴾

[  سورة الإنسان  ]

 

تقلُّب المقاييس يوم القيامة:


﴿وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ﴾ قال بعضهم: لِمَ لَمْ يقل الله عزَّ وجل: وإليه ترجعون، قال: ﴿تُقْلَبُونَ﴾ ؟ يبدو أن الإنسان عندما ينتقل للآخرة تتغيَّر كل المقاييس؛ كل شيء حقَّقه في الدنيا من مكاسب ينتهي، يُقَيَّم بمقياس آخر، أنت قد تكون في بلد وهذه العملة رائجة جداً، فإذا أردت أن تفتخر تقول: عندي كذا مليون، أما لو نقلت هذا المال إلى بلد آخر، هذا المال لا قيمة له هناك، بمقياس ذاك البلد هذه عملة غير مقبولة، مرفوضة، فالمشكلة أن الإنسان يصاب بصعق، أن كل شيء جَمَعَهُ في الدنيا، جمع الدنيا أو جُمعَتْ له، يأتي في القبر فيقول الله عزَّ وجل: عبدي رجعوا وتركوك، وفي التراب دفنوك، ولو بقوا معك ما نفعوك، ولم يبقَ لك إلا أنا، وأنا الحيُّ الذي لا يموت، أين مالك؟ أين أعمالك الصالحة؟ يا رب أنشأت بناء، يا رب فعلت كذا، أنشأت معملاً، حقَّقت أكبر دخل، هذه للدنيا ماذا فعلت من أجلي؟ لذلك قال سيدنا علي: << الغني والفقر بعد العرض على الله >> . إذاً: ﴿وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ﴾ أي المعنى يقترب من قوله تعالى:

﴿  إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3)﴾

[ سورة الواقعة  ]

مقاييس أُخرى، مقياس العمل الصالح، مقياس نفعِ الناس، مقياس الاستقامة على أمر الله، مقياس الشرع فقط، أما الآن فالناس هناك مقاييس كثيرة يُقَاسون بها فيرتفعون، مقياس الجمال، مقياس الذكاء، مقياس المال، مقياس النسَب، مقياس الوجاهة، مقياس القوَّة، هذه كلها مقاييس يُقْيَّم الناس بها، أما في الآخرة مقياسٌ واحد، ماذا فعلتَ مِن عملٍ خالصٍ لوجه الله؟ هذا المقياس.

ففي هذا اليوم الذي ننقلب فيه إلى الله، ننقلب، كأنه يوجد انقلاب، أي كل شيء للدنيا يبقى في الدنيا، قد يكون أغنى الأغنياء وفي الآخرة من أفقر الفقراء، وقد يكون أسعد السعداء في الدنيا أشقاهم في الآخرة. ويا ربَّ نفسٍ طاعمةٍ ناعمةٍ في الدنيا جائعةٍ عاريةٍ يوم القيامة، وقد يكون أذكى الناس يبدو في الآخرة من أغبى الناس، هكذا، موضوع المقاييس ﴿وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ﴾ من معاني تقلبون إضافةً إلى ترجعون أن المقاييس تختلف اختلافاً كبيراً.

 

الإنسان دائماً في قبضة الله:


الشيء الثاني: ﴿وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ﴾ ..إنسان يستعصي؟ يتمرَّد؟ ينجو من عذاب الله؟! ينجو من حسابه؟ من تأديبه؟ أين؟ هناك قصَّة أرويها دائماً، وهي رمزيَّة، أن شخصاً كان عند سيدنا سليمان ورأى إنساناً عنده يحدِّق النظر إليه فقال: "من هذا يا سليمان ؟" قال: "هذا مَلَكُ الموت"، فطار قلبه خوفاً، قال: "خذني إلى أطراف الدنيا"، والرياح كانت مُسَخَّرة لسيدنا سليمان، فنقله إلى الهند، وبعد أيَّام مات هناك، فالتقى بملك الموت، قال له: "يا ملك الموت، لماذا فعلت هذا؟ قال: واللهِ أنا أنظر إليه، أنا معي أمر بقبض روحه في الهند، فما الذي جاء به إلى هنا؟"، هذا هو الأمر، أين؟ قال ربنا عزَّ وجل:﴿وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ أحياناً يَتَّجه الإنسان إلى حتفه، وهو لا يدري، يصر على أن يركب هذه الطائرة فتكون نهايته، يصر. ﴿وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ﴾ .. أي قوله تعالى: ﴿وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ﴾ .. أي أنتم في قبضة الله، فإذا تحرَّكت، الإنسان استيقظ صباحاً، الله عزَّ وجل سمح لك أن تستيقظ، وأعطاك فرصة يومٍ جديد، حركتك في هذا اليوم منحة من الله عزَّ وجل، بأي لحظة، وربنا عزَّ وجل نوَّع في الموت، يجعل الموت بعد مرض عضال بعد اثنتي عشرة سنة، يقولون لك: اثنتا عشرة سنة طريح الفراش، يموت بعدها، يجعل الموت لسببٍ تافهٍ جداً من جرّاء عمليَّة لوزات مات، سكتة قلبيَّة مات، سكتة دماغيَّة مات، فالموت يبدو لنا قريباً، ويبدو لبعضهم بعيداً، فمعنى ذلك أنك في قبضة الله، الذي ينهي الحياة، انتهاء الأجل، فإذا انتهى الأجل، ولو كنت قوياً، لو كنت شديداً، لو كنت عتيداً، لو كنت صحيح الجسم..﴿وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ﴾ لا في الأرض ولا في السماء، إذا كنتم في السماء لستم بمعجزين، وإن كنتم في الأرض لستم بمعجزين، أو أن مخلوقات الأرض لا تُعجزه في الأرض، ومخلوقات السماء لا تعجزه في السماء، كلاهما يؤيِّد أن الله عزَّ وجل بيده الخلق والأمر.

 

لا وليّ ولا ناصر إلا الله:


﴿وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾ .. لا يوجد ولي يرعاكم، ويمدُّكم حتَّى تستغنوا عن رحمة الله، أو يَحْجُزُكُم عن الله، لا يوجد ولي يمدكم فتستغنوا عن رحمة الله، ولا من نصير يمنعكم من عقاب الله، المعنى دقيق، الولي فيها معنى إيجابي، ليس من جهة تمدُّكم بالخيرات حتَّى تستغنوا عن فضل الله، ولا يوجد نصير يحجزكم عن عذاب الله، لا ولي ولا نصير ﴿وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ والحبل مُرخى، فإذا آن الأوان شدَّه الله عزَّ وجل، فإذا أنتم في قبضته، وقالوا: سبحان من قهر عباده بالموت..

الليل مهما طال فلا بـدَّ مـن طلوع الفجر         والعمر مهما طـال فلابدَّ من نزول القبر

* * *

والشيء الذي هنا يقال: كل مخلوقٍ يموت ولا يبقى إلا ذو العزَّة والجبروت، ما دام الموت نهاية كل إنسان، إذاً يجب أن تفكِّر في طاعة خالقك العظيم الذي إليه المصير..

﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)﴾

[ سورة الغاشية  ]

 

اليأس سببٌ للكفر بآيات الله واليوم الآخر:


﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي﴾ .. هذا الكفر بآيات الله الكونيَّة الدالَّة على عظمته، الله عزَّ وجل قال:

﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)﴾

[ سورة فصلت  ]

الآيات في جسمك، الآيات فيما حولك، الآيات فيمن حولك، الآيات في خلق السماوات والأرض، والآيات في القرآن، هذه مطلقة، آيات الله الدالَّة على عظمته؛ الكونيَّة أو القرآنيَّة..﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ ما عَبئوا بها، ما وقفوا عندها، ما استفادوا منها، ما تأمَّلوا فيها، مروا عليها مرور الكرام أي سريعاً..﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ﴾ موضوع الآخرة خارج حساباتِهِ، يقول لك: نحن الآن نعيش في الدنيا، وهذه الدنيا هي الواقعيَّة، هذا الواقع، يقول لك: أنا إنسان واقعي، للدنيا فقط، أما هذا اليوم الآخر الذي أخبرنا الله عزَّ وجل عنه بأدلَّةٍ عقليَّةٍ ونقليَّةٍ فهذا لم يعبأ به.. ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي﴾ يريد الدنيا، وقد يئس من رحمة الله، من عطائه، والرحمة هنا الجنَّة لقوله تعالى: ﴿يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ﴾ أي هذا النعيم المقيم، هذه الجنان التي فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، هذه لم يعبأ بها، لم يهتمَّ لها، لم يطلبها، لم يَرْجُهَا..﴿يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ فإما أن ترجو رحمة الله، وإما أن تيئس منها، والدعاء: نرجو رحمتك، ونخشى عذابك، يجب أن ترجو الله والدار الآخرة، يجب أن تعمل للآخرة، أن تسعى للجنَّة.


  كل شيء مخلوق بيد الله عزَّ وجل:


﴿وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ﴾ نحن في قصَّة سيدنا إبراهيم، وفي سياق القصَّة مرَّ الحديث عن اليوم الآخر..﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ .. أيْ كان من الممكن ألا يستطيعوا القبض عليه، عندئذٍ لا تظهر آيات الله عزَّ وجل، كان من الممكن أن يقبضوا عليه، ثم يتفلَّت من أيديهم، كان من الممكن أن يضرموا النار، أو أن يقتلوه قتلاً، قتلاً عادياً، كان من الممكن أن يضرموا النار فتأتي أمطار غزيرة فتغرق النار وتطفئها، ولكن شاءت حكمة الله أن يلقوا القبض عليه، وأن يجتمعوا، وأن يقرِّروا أن يحرقوه في النار، وأن يأتوا بنارٍ عظيمة ويوقدوها، وأن يضعوه فيها، وأن تغدو النار برداً وسلاماً على إبراهيم، لتظهر آيات الله عزَّ وجل، لذلك قال أهل السنَّة والجماعة: "عندها لا بها"، أي أن النار لا تحرق بذاتها، والله عزَّ وجل ما أودع في النار قوة الإحراق بشكلٍ ثابت، لا تحرق إلا إذا أراد الله، إذاً كل شيء في قبضة ربنا عزَّ وجل وبيده..

﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)﴾

[ سورة الزمر  ]

كانت هذه القصَّة بهذه الطريقة، أُلقِيَ القبض عليه، وساقوه، وحاكموه، وأضرموا النار إلى أن أصبحت ناراً عظيمة، وألقوه فيها، فوجئوا بأن الله عزَّ وجل جعل هذه النار برداً وسلاماً، لو لم يقل: سلاماً لَماتَ من البرد وهو في النار، برداً وسلاماً. 

إذاً الله عزَّ وجل خلق الكون وَفق أسباب، لئلا تظن أن السبب هو الذي يخلق النتيجة، عطَّل السبب، عطَّله أو ألغاه، في النار عطَّل السبب، وفي خلق آدم ألغاه، الإنسان يحتاج إلى لقاء الذكرِ بالأنثى كي يأتي المولود بطريق التلقيح، وبالنسبة لسيدنا آدم أو سيدنا عيسى أَلغى السبب، وفي النار عطَّل السبب، إذاً: الأشياء لا تفعل فعلها إلا إذا شاء الله عزَّ وجل، وهذه العقيدة مريحة للإنسان، كل شيء مخلوق بيد الله عزَّ وجل، ما أودع الله في الأشياء قوَّةً ثابتة، بل إنّ هذه الأشياء لا تفعل فعلها إلا إذا شاء الله عزَّ وجل، إذاً: ﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ وفي الدرس القادم إن شاء الله تعالى نتابع شرح هذه القصَّة.

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور