وضع داكن
25-04-2024
Logo
الدرس : 10 - سورة العنكبوت - تفسير الآيات 36 - 44 قصة شعيب مع قوم مَدين
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

العبادة سرّ وجود الإنسان على الأرض:


 أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس العاشر من سورة العنكبوت.

وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى: ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37)﴾ .. ربنا سبحانه وتعالى يُحَدِّثُنَا عن أقوامٍ كفروا بربهم فأذاقهم الله جزاء كفرهم وانحرافهم، من هؤلاء قوم مدين، قوم سيدنا شُعَيْب، فقال تعالى: ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ .. وقال تعالى:

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)﴾

[ سورة الذاريات  ]

أي سرّ وجودك على الأرض، ومجيئك إلى الدنيا أن تعبد الله عزَّ وجل، والعبادة طاعةٌ طوعية، أساسها معرفةٌ يقينية، تفضي إلى سعادةٍ أبدية. 

الإنسان يرتقي إلى أعلى درجة خُلِقَ لها حينما يعبد الله عزَّ وجل، لذلك ما من نبي ولا رسولٍ إلا دعا إلى عبادة الله عزَّ جل، لأنك لا ترقى إلا إذا عبدته، والعبادة الخضوع الكامل، الانصياع الكامل، الحُبّ الكامل، الشوق الكامل إلى الله عزَّ وجل، الإنسان حينما يغيب عن عبادة ربه غاب عن ذاته، غاب عن سرّ وجوده، غاب عن الهدف الذي خُلق له..  أنت إذا عبدته فأنت في ظلّ رحمته، وظلّ حفظه وتوفيقه، فإذا حِدْت عن أمره دفعت الثمن باهظاً.

 

لا تستقيم عقيدة المرء في الدنيا إلا إذا آمن باليوم الآخر:


﴿وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ﴾ ..لا تستقيم عقيدة المرء في الدنيا إلا إذا آمن باليوم الآخر، لأن الله سبحانه وتعالى خَلَقَ السماوات والأرض تعبيراً عن أسمائه الحسنى وصفاته الفُضلى، ولكن اليوم الآخر تجسيدٌ لاسم الحق، كل المظالم في الدنيا، كل الحظوظ، وزِّعت الحظوظ في الدنيا توزيع ابتلاء، وسوف توزَّع في الآخرة توزيع جزاء، اليوم الآخر هو الأساس، فإذا أغفله الإنسان وقع في فراغٍ فكري كبير، حياةٌ قصيرة مشحونةٌ بالمتاعب، ما سرُّها؟ حياةٌ قد تنتهي في وقتٍ مبكر، قد لا يكون في الحياة فرصةٌ للاستفادة من الإعداد لها، سؤالٌ كبير: يُعِدّ الإنسان نفسه ليحيا حياةٍ طيبة، قد لا يبقى في حياته الوقت الكافي ليستمتع بما أعدّ له، أما إذا آمنا باليوم الآخر تُحل جميع المشكلات، تسوى جميع الحسابات، الحياة السرمدية الأبدية لا نغص، ولا قلق، ولا خوف، ولا حزن لمن عرف ربه في الدنيا، واستقام على أمره. 

 

النهي عن الإفساد في الأرض:


﴿وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ .. والإفساد؛ إفساد العلاقات، إفساد علاقة النفس بربها، إفساد علاقة المرء بأهله، إفساد علاقة المُسلمين ببعضهم، إفساد علاقة الإنسان بالإنسان، أية علاقةٍ بين العبد وربه هناك من يفسدها بإلقاء الشبُهَات، هناك من يفسدها بالحمل على المعاصي والمُحَرَّمات، العلاقة بين النفس وربها، بين الأخ وأخيه، بين الشريك وشريكه، بين الرجل وزوجته، هذه العلاقات أهل الباطل الكفار يَسْعَوْنَ في الأرض فساداً، يعثون في الأرض مفسدين.. ﴿وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾ .

 

عاقبة المكذبين:


﴿فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37)﴾ .. أهلكهم الله عزَّ وجل، والحقيقة أن هذا الهلاك هلاك الدنيا إذا كان على أثر كفرٍ وانحراف تبعه هلاك إلى أبد الآبدين.

 

الحكمة من إبقاء الله عز وجل شيئاً من آثار الأقوام الظالمة:


﴿وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمَ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ﴾ .. ربنا سبحانه وتعالى شاءت حكمته أن يبقي لبعض الأقوام الظالمة شيئاً من آثار بلادهم، دليلاً على هلاكهم، وعلى أن أمر الله عزَّ وجل هو الحق، وعلى أن العاقبة للمُتقين، فهلاك الأمم وبقاء آثارهم، نحن أحياناً نزور الآثار، الحقيقة أن المؤمن إذا زار الآثار فلهذه الزيارة عبرةٌ كبيرة..

﴿ وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26)﴾

[ سورة الأحقاف ]

أقوام أشد منا قوةً، وأكثر جمعاً، وأعظم حضارةً، دّمَّرَهُمُ الله عزَّ وجل، ولقوا نتيجة أعمالهم.


  سنة الله جارية في الأقوام المكذّبين:


﴿فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37) وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ﴾ ..الأقوام التي كفرت وانحرفت أهلكها الله عزَّ وجل، بعضها أُهلك بريحٍ صَرْصَر، بعضها أُهْلِكَ بالصيحة، بعضها أُهلك بحجارةٍ من السماء، بعضها أُهلك غرقاً، والأحداث التي من حولنا أيضاً تؤكِّد هذه المعاني..

﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)﴾

[ سورة النحل  ]

إذاً كلما وقع زلزالٌ، أو هَلاكٌ، أو فيضانٌ، أو حروبٌ أهليةٌ مدمرةٌ، هذه كلها من آيات الله عزَّ وجل، لأن الله سبحانه وتعالى ما كان له أن يهلك القرى بظلمٍ وأهلها مصلحون.

﴿ وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)﴾

[  سورة الكهف ]

﴿وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ﴾ من آثارهم.

 

تزيين الشيطان الأعمال للإنسان:


﴿وَزَيَّنَ لَهُمَ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ﴾ .. الحقيقة الإنسان حينما ينطلق إلى عملٍ ما، ينطلق من تصور أن هذا العمل في مصلحته، وله منه مكسبٌ كبير، إن كانت رؤيته غير صحيحة، إن كانت رؤيته ضبابية، إن كانت رؤيته ليست كما يريد الله عزَّ وجل، هذا هو الضلال، وقع في الانحراف، أما إذا تمتع الإنسان برؤيةٍ صحيحة كان مهتدياً، ما هو الهدى؟ أن ترى وفْقَ ما أراد الله عزَّ وجل.

﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)﴾

[ سورة الكهف ]

هذه مصيبةٌ كبيرة، أن تنظر إلى الشيء من زاويةٍ مَغْلوطة، أو أن تراه رؤيةً مغلوطة، أو أن تظنه خيراً وهو شر، أن تظنه حقاً وهو باطل، الضلال في حقيقته رؤيةٌ غير صحيحة، لذلك البطولة أن تُصَحِّحَ رؤيتك دائماً وفق ما أراد الله عزَّ وجل، فالله سبحانه وتعالى أعطاك ميزان العقل، وأعطاك ميزان الفطرة، وأعطاك ميزان الشرع، فإذا وافق عقلك ميزان الشرع أنعم به من عقل، إذا وافقت فطرتك ميزان الشرع أنعمْ بها من فطرة، أما الميزان الذي لا يُخطئ، فهو الشرع الذي أنزله الله على نبيه. 

إذاً كلما استخدمت عقل الشرع، وأعملت عقلك، وكلما ركنت إلى فطرتك، وجاءت نتائج العقل والفطرة موافقةً للشرع فأنت على حق، أما إذا هداك عقلك إلى خلاف الشرع فهذا العقل قد ضَل، وقد انحرف، وقد طغى، وقد بغى، وهذه الفكرة قد انطمست. فنحن نركن إلى الفطرة إذا كانت موافقةً للشرع، نركن إلى العقل إذا جاء موافقاً للشرع، أما إذا ابتدع الإنسان شيئاً مخالفاً للشرع فقد وقع في ضلالٍ مبين. 

إذاً الخطورة أن يزيّن الشيطان للإنسان عمله، أي يرى عمله صائباً، يرى عمله صحيحاً، يرى عمله فيه فلاحٌ ونجاح، هنا الخطورة، لأنه ما من إنسانٍ يُقْدِمُ على شيءٍ إلا ويتوهَّمُ أنه صواب، ما من قاتلٍ يقدم على جريمته إلا ويظن أنه سيكسب بهذه الجريمة خيراً كثيراً، فإذا وقع في أيدي العدالة وسيق إلى دفع ثمن جريمته عندئذٍ يندم ولات ساعة مندم. 

 

البطولة أن تفعل فعلاً لا تندم عليه:


البطولة أيها الإخوة أن تفعل فعلاً لا تندم عليه، فكل من أسرع، وانطلق إلى عملٍ ليس متأكداً من مطابقته للشرع، كل حركاتك وسكناتك إن لم تكن وفق منهج الله عزَّ وجل، كل حركاتك وسكناتك إن لم تكن وفق ما أَمَرَ الله، وما عنه نهى، هذه الحركات طائشة، وسوف يدفع الإنسان ثمنها باهظاً، ﴿وَزَيَّنَ لَهُمَ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ﴾ لأن.

﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27)﴾

[  سورة النساء ]

أي الله عزَّ وجل هو الخالق، هو العليم، هو الحكيم، يريد أن تكون في سعادة، يريد أن تسعد في الدنيا والآخرة، أعطاك المنهج الصحيح..﴿وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلا عَظِيمًا﴾ .

 

أخطر أنواع الضلال أن تكون متفوقاً في دنياك وتنسى آخرتك:


﴿فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ﴾ .. أي كانوا عقلاء، حدثني صديقٌ لي قال: كنت في بلادٍ في أقصى الشرق؛ الحضارة، والتقدم، والتقنية، والتصنيع، والتكنولوجيا، شيء يفوق حدّ الخيال، وهم يعبدون بوذا، فقال مدير شركة أطلعه على منجزات شركته، شيءٌ لا يصدق، فلما أخذه إلى المعبد قال: يا سبحان الله! ما أبعد البَوْنَ بين هذه الحضارة وهذا التصنيع، وهذه الدقة، والإتقان في الصناعة وبين هذه العبادة التي لا معنى لها، ولا تقف على قدميها، إذاً: هذا من أخطر أنواع الضلال، أن تكون في ناحيةٍ متفوقاً، لك تفوقٌ كبير في اختصاصك، أو في صناعتك، أو في زراعتك، أو في تجارتك، فإذا انتقلنا إلى عقيدتك، وإلى طقوسك، وإلى دينك، وإلى ما تعتقده،  وجدنا بوناً شاسعاً بين هذا وتلك، فربنا سبحانه وتعالى أشار إلى هذا: ﴿وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ﴾ شعوبٌ بأكملها تعبد البقر، إذا مَرَّت بقرةٌ في عرض الطريق انقطع السير، فإذا دخلت هذه البقرة إلى مكانٍ، لها أن تأكُلَ أي شيء ولو كان ثميناً، بل إنهم يعانون من أشدّ أنواع المجاعات وأعداد الأبقار يفوق حدّ الخيال، هذه عقيدةٌ زائغة، هذا هو الانحراف في الفكر، هذا هو الكفر بعينه، أن تعبد من دون الله مخلوقاً لا يملك لك نفعاً ولا ضراً، فلذلك لا يصح العمل إلا إذا صَحَّت العقيدة، أية عقيدةٍ فاسدة يقابلها انحرافٍ في السلوك ﴿وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ﴾ أي كانوا عقلاء في أعمالهم، في دُنياهم، في تجارتهم، في مساكنهم، في علاقاتهم، الإنسان أحياناً يهبط، يتفوَّق في الدنيا، فإذا سألته عن الآخرة، سألته عن دينه، عن عقيدته، هبط هبوطاً مخيفاً.

 

لا يستطيع عبدٌ أن ينفلت من قبضة الله:


﴿وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ﴾ .. ما كانوا سابقين أي الكافر لا يستطيع أن يتفلَّت من قبضة الله عزَّ وجل، مهما فكّر، وخطط، وفعل، وَدبّر هو في قبضة الله، لذلك الإنسان لضعف إيمانه يتوهم أن هذه الجهة وضعت هذه الخطة وسوف تنفذ، أما المؤمن فيرى أنه لا حول ولا قوة إلا بالله، يرى أنه لا إله إلا الله، يرى أنه لا يقع شيءٌ في ملك الله إلا بأمر الله.. عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

(( لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةٌ، وَمَا بَلَغَ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ. ))

[ أحمد : الهيثمي : مجمع الزوائد : رجاله ثقات  ]

﴿وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ﴾ أي الإنسان إذا عصى الله عزَّ وجل لا يسبق مشيئة الله عزَّ وجل، هو في قبضته.

 

أنواع العذاب:


﴿فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً﴾ ..قال: "يا رب لقد عصيتك ولم تعاقبني!! قال: عبدي قد عاقبتك ولم تدر"، فإذا توهَّم الإنسان للحظةٍ واحدة أن هذه المعصية تنفعه، وأنها تكسبه مغنماً كبيراً، هذا هو الجهل بعينه، هذا هو الحمق بعينه. ﴿فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ﴾ وفي الأثر: "إن لكل سيئةٍ عقاباً"، أي انحرافٍ له ثمنٌ تدفعه في الدنيا والآخرة ﴿فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً﴾ .. أي حجارةً من السماء كقوم لوط..﴿وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ﴾ .

﴿ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37)﴾

[  سورة العنكبوت  ]

﴿وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ﴾ .. كما فعلنا بقارون.. ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا﴾ .. كما فعلنا بقوم نوحٍ وقوم فرعون.. ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ .

 

الجهل أشدّ أنواع الظلم:


استعرض معي الآيات:

﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلا (77)﴾

[  سورة النساء  ]

في نواة التمرة خيطٌ رفيعٌ جداً في الشقِّ الذي في النواة، هذا هو الفتيل، فإذا وضعت النواة على لسانك من أحد طَرَفَيْهَا شعرت بنتوءٍ مدبب هذا هو النقير، ولهذه النواة غشاءٌ رقيق هو القطمير، فربنا عزَّ وجل من خلال بيئة العرب الصحراوية، ومن هذه الفاكهة التي تتواجد عندهم:

﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)﴾

[ سورة النساء  ]

﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49)﴾

[ سورة النساء  ]

ولا قطميراً.. 

﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ﴾ ، إذاً:

﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)﴾  

[  سورة الأنبياء  ]

﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ .. والحقيقة أن أشد أنواع الظلم أن تبقي نفسك جاهلةً، ألا تعرفها بمهمَّتها، أن تبقيها جاهلة، ألا تزكيها، أن تحببها بالدنيا، وقد خلقت لغيرها، لا تنس قول النبي عليه الصلاة والسلام حينما دعاه الصغار إلى اللعب وكان صغيراً، فقال:"لم أخلق لهذا"، إذاً خلق لماذا؟ خلقت لك ما في السماوات وما في الأرض فلا تتعب، وخلقتك من أجلي فلا تلعب، فبحقي عليك لا تتشاغل بما ضمنته لك عما افترضه عليك، مثل بسيط أسوقه لكم: قديماً كان هناك مدارس داخلية، مدرسة من أشهر المدارس لها قاعات للمطالعة، وفيها مهاجع، وفيها مطعم، فالطالب في هذه المدرسة الداخلية عليه أن يمضي الوقت الذي بعد الدراسة في المُطالعة، عليه أن يقرأ، عليه أن يكتب، عليه أن يتدرَّب، أما المطبخ ففيه الموظفون، والطباخون، والعمال بحيث يأتيه الطعام جاهزاً في الساعة السابعة مساءً، فهذا الطالب طعامه مضمونٌ له، وهو مكلفٌ بالدراسة، ما قولكم بطالبٍ ترك قاعة المُطالعة وتوجَّه إلى المطعم ليتفقد أحوال الطباخين والأطعمة، وما تمّ في صنع هذا الطعام، وهذا الطعام، ضُمِن له الطعام فانشغل به، وكُلِّف بالدراسة فتشاغل عنها، هذا حال بعض الناس، ربنا عزَّ وجل يقول:

﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)﴾

[ سورة الزخرف ]

﴿ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ(23)﴾

[ سورة الذاريات  ]

يحتاج إلى سعي، أما الرزق فمضمون، أما معرفتك بالله عزَّ وجل، عملك الصالح، هذا مكلفٌ به، فما قولك بإنسان أعرض عن معرفة الله، وعن طاعته، وعن العمل للآخرة، وانشغل بما ضُمِنَ له، وهذا منتهى الضلال، الذي ضمن لك تسعى له سعياً حسيساً، والذي كلفت به تهمله إهمالاً شنيعاً، فربنا عزَّ وجل يقول:

﴿ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40)﴾

[ سورة النجم ]

ليس لك إلا ما سعيت، فالذي ضمن لك يجب أن ترتاح من قِبَلِهِ، والذي كُلفت به يجب أن تسعى له.

 

الحكمة من خلق الإنسان ضعيفاً:


الآن بعد أن عرض الله علينا هذه القصص، الأقوام السابقة كيف انحرفت في عقيدتها، وكيف انحرفت في سلوكها، وكيف ظلمت، وبغت، وطغت، وكيف أهلكهم الله عزَّ وجل، يقول الله عزَّ وجل: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ﴾ .. الإنسان كما قال الله عزَّ وجل في آيةٍ أخرى:

﴿ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)﴾  

[  سورة النساء  ]

هكذا خُلِقَ الإنسان..

﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً ﴾

[ سورة المعارج   ]

هو هلوع. وفي آيةٍ ثانية: ﴿وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾ ، وفي آيةٍ ثالثة: 

﴿ وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)﴾

[ سورة الإسراء ]

إذاً: هو ضعيف، وعجول، وهلوع، لنأخذ الآية الثانية: ﴿وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾ ربنا عزَّ وجل شاءت حكمته أن يكون الإنسان ضعيفاً، لو أن الله خلقه قوياً لاستغنى بقوته فشقي باستغنائه، خلقه ضعيفاً ليفتقر في ضعفه فيسعد بافتقاره، وفي الأساس الإنسان ضعيف، ومعنى الضعيف أنه بحاجة إلى ركنٍ ركين، يحتاج إلى شيءٍ يَدْعَمَهُ، شيء يركن إليه، يحتاج إلى من يُدافع عنه، يحتاج إلى من يأخذ بيده، هكذا طبيعة الإنسان، حتى في الدنيا، الإنسان يسعد أشد السعادة إن كان له قريبٌ له مركزٌ قوي، تراه يفتخر به، كلما نابه أمرٌ يتصل به، يشعر بالطمأنينة أن هناك شخصاً قوياً يُحِبُّهُ، تسكن نفسه، هذه فطرة الإنسان، لأن الله سبحانه وتعالى خلقه ضعيفاً، من لوازم ضعف الإنسان أنه يسعى إلى ركنٍ ركين، إلى جهةٍ قويةٍ يعتمِدُ عليها، إلى جهةٍ قويةٍ تدافع عنه، يسعى إلى جهةٍ قويةٍ يطمئن بقربها، يفتخر بقوتها، هكذا طبيعة الإنسان. 

 

أسباب سعادة المؤمن:


أحد أسباب سعادة المؤمن أنه يؤمن أن كل ما في الكون بيد الله عزَّ وجل، حتى خصومه بيد الله، حتى الأشخاص الأقوياء الذين يظنهم الناس أقوياء هم في قبضة الله عزَّ وجل، هذا الشعور، حتى الوحوش الضارية، حتى الجراثيم الفتَّاكة، حتى أعراض الطبيعة، هذه كلها بيد الله، أي أحد مصادر سعادة المؤمن شعوره بأن كل ما في الكون بيد خالقه، فإذا كانت علاقته بخالق علاقةً طيبة، علاقةً حسنة، علاقة حُبّ، علاقة طاعةٍ، علاقة انصياعٍ، علاقة توكلٍ، شعر بسعادةٍ لا يعرفها إلا من ذاقها، لهذا قال إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى: "لو يعلم الملوك ما نحن عليه لقاتلونا عليها بالسيوف" . مثلاً شابٌ دُعِيَ إلى الخدمة الإلزامية، في الجيش هناك آلاف الرتَبَ الكبيرة، وفي الجيش عقوبات، ويوجد سجن، ويوجد أعمال شاقة، فما قولك إذا كان والد هذا الشاب قائداً للجيش؟ بماذا يشعر هذا الشاب إذا كان والده قائداً الجيش، القائد الأعلى للجيش؟ يشعر بطمأنينة، ولا يخشى كل هذه الرتَب، هذا مثل للتبسيط، المؤمن ربنا عزَّ وجل قال:

﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48)﴾

[ سورة الطور ]

﴿ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)﴾

[ سورة هود ]

 

الشعور بالأمن نعمة عظيمة:


لو حللنا سرّ سعادة المؤمن في الدنيا هذا الشعور، الإنسان ضعيف، والمؤمن إنسان ضعيف، لكن حينما استقام على أمر الله، ونفذ شرع الله، واعتمد على الله، وتوكل على الله، واستسلم لقضائه وقدره، شعر بالقرب منه، وشعر بهذا الشعور المُطَمْئِن، فلذلك ربنا عزَّ وجل قال:

﴿ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81)﴾

[  سورة الأنعام  ]

من هو الإنسان الحقيقي الذي يتمتع بالأمن؟ الأمن مهمٌ جداً لأن السلامة شيء، والأمن شيءٌ آخر، السلامة ألا تقع مصيبة، أما الأمن ألا تتوقع مصيبة، وفرق كبير بين ألا تقع المصيبة وبين ألا تتوقع المصيبة، لأن توقع المصيبة مصيبة أكبر منها، إنك من خوف الفقر في فقر، إنك من خوف المرض في مرض، توقُّع المصيبة مصيبةٌ أكبر منها، ربنا عزَّ وجل يقول: ﴿فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ من هو هذا الإنسان الذي عافاه الله من القَلَق؟ من الخوف؟ من الشعور بالقهر؟ من توقُّع المرض؟ من توقع الفقر؟ من توقع المصيبة؟ أي إنسانٍ هذا الإنسان الذي ملأ الله قلبه أمناً وطمأنينةً ورضا وشعوراً بقربه من خالقه؟ ربنا عزَّ وجل قال: ﴿فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ(82)﴾ أي أحد أسباب سعادة المؤمن في الدنيا شعوره أن الكون كُلَّه بيد الله، وأن الأمر كله بيد الله، وأن يد الله فوق أيديهم، وأنه في السماء إلهٌ وفي الأرض إله، وأنه إليه يُرْجَعُ الأمر كله، هذا التوحيد يلقي في قلب المؤمن سعادةً ما بعدها سعادة، الأمر كله بيد الله وهو محبّ لله، وهو على استقامةٍ تامةٍ على أمر الله، هذا الشعور. 

هناك شعور آخر يسعد به المؤمن، أوضحه بمثل أضربه كثيراً لكم: إنسان فقير جداً، عنده أولادٌ كُثُر، بيته ضيق، دخله لا يكفي مصروفه، معذَّب، محتاج إلى كل شيء، مهدد، له عمّ ليس له أولاد يملك ثروةً طائلة تزيد عن مئات الملايين، توفي عمه فجأةً بحادث، وهذه الملايين كلها آلت إليه، ولكن إلى أن تصل إلى يده لابدَّ من مضي عامٍ أو أكثر حتى تنتهي قضايا الإرث ما إلى ذلك، نحن نسأل: في هذا العام الذي هو بين موت عمه وبين قبض ثروته - خلال عام- لماذا هذا الإنسان الفقير هو أسعد الناس مع أنه لم يقبض درهماً من إرث عمه؟ نقول: دخل في الأمل، دخل في الوّعد، كما قال الله عزَّ وجل:

﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)﴾

[  سورة القصص ]

إذاً لو حللنا تحليلاً علمياً سرّ سعادة المؤمن، أولاً: شعوره أن الله عزَّ وجل يحبه، وأن الله بيده كل شيء حتى خصومه، حتى أعداؤه، حتى الجراثيم، الآن تعيش أوروبا خوفاً وهلعاً من أمراضٍ كثيرة، أما المؤمن فيعلم أن لكل شيءٍ حقيقة: عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ((لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةٌ، وَمَا بَلَغَ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ)) إذاً: شعوره بأن الأمر بيد الله، وأنه يحب الله ورسوله، وأن الله لن يضيعه، لن يسلمه، لن يتركه، لن يضيِّع عليه عمله، هذا شعورٌ لا يوصف. 

 

عبادة الأوثان كبيت العنكبوت:


انتقلنا إلى الآية الكريمة: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ﴾ .. الإنسان دائماً يركن إلى قوةٌ تدعمه، إلى قوةٍ يطمئن لها، إلى قوةٍ تدافع عنه، إلى قوةٍ يحتمي بها، يلجأ إليها، قال: هؤلاء الذين ما عرفوا الله عز وجل، ما قَدَّروه، ما اهتدوا إليه، يلجؤون إلى قوى أرضية يعتمدون عليها، هذه القوة الأرضية لا تزيد عن بيت العنكبوت، ما هذا البيت؟ قال: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ﴾   ما اتخذ الله وليَّه؛ اتخذ زيداً وليّه، عُبيداً وليّه، فلاناً وليّه، عِلاناً وليّه، قال: فلان صديقي، وله منصب رفيع، فلان والدي، وله ثروةٌ طائلة، فلان مثقف ثقافة عالية يعرف الأمراض كلها، إذاً لا يصاب بمرض، أي يعتمد على علمٍ، أو على قوةٍ، أو على مال يركن إليها، هذا ماذا فعل؟ هذا اتخذ من دون الله أولياء، أي اطمأنت نفسه إلى قوى أرضية، إلى مخلوقاتٍ فانية..﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ﴾ إذاً: الله هو الولي، ربنا عزَّ وجل قال:

﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)﴾

[ سورة البقرة  ]

﴿كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ﴾ .. فهذا البيت عبارة عن شبكة خيوط، بيت العنكبوت هل يدفع حراً؟ أي هل له جدران وسقف؟ هل يدفع قراً - أي برداً -؟ هل يدفع عدواً؟ هل له حراسة أو له سور خارجي؟ لا يوجد، بيت العنكبوت لا يدفع حراً، هذا القول غير مقبول، إذا أمكننا أن نسحب الفولاذ بخيوطٍ دقيقةٍ جداً تشابه في قطرها خيط العنكبوت، لكان خيط العنكبوت أمتن من خيط الفولاذ المساوي لقطره، هذه حقيقة جانبية.

 

من الإعجاز العلمي في الآية: أنثى العنكبوت تنسج البيت:


الشيء الآخر؛ في الآية يوجد إعجازٌ علمي، الآن اكتشفنا أن أنثى العنكبوت هي النسَّاجة، هي التي تنسج خيوط بيت العنكبوت، والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ﴾ بتاء التأنيث الساكنة..﴿بَيْتاً﴾ إذاً: أول فكرة أن خيط العنكبوت فيه إعجازٌ في الخلق، رفيعٌ جداً، متينٌ جداً، حتى إنه أمتن من خيط الفولاذ، إذا كان بإمكان بني البشر أن يسحبوا خيط فولاذٍ بقطر خيط العنكبوت لكان خيط العنكبوت أمتن من خيط الفولاذ، هذا شيء آخر، وأن التي تصنع البيت هي الأُنثى، ولم تكن معطيات العلم في عصر النبي عليه الصلاة والسلام كافيةً لمعرفة علامة الذكورة والأنوثة في العنكبوت النسَّاجة، ولكن العلم الآن اكتشف أن أنثى العنكبوت هي صانعة البيت، فجاء قوله تعالى: ﴿كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً﴾ ومع ذلك على مستوى البشر بيت العنكبوت بيتٌ ضعيف، بإمكانك بخنصرك أن تزيله كله، خيوط رفيعة جداً، بيتاً لا يقي حراً، ولا يقي قراً، ولا يدفع عدواً، ليس له جدران وسقف، فهذه العنكبوت إذا احتمت بهذا البيت، مثلها كمثل إنسانٍ بعيدٍ عن الله عزَّ وجل احتمى بجهةٍ أرضية، ظنّ أنها تقيه، أنها تحميه، أنها تحفظه.

 

معية الله للمتقين معية خاصة:


لذلك ربنا عزَّ وجل قال:

﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)﴾

[  سورة التوبة  ]

هذه معية خاصة، والمعية الخاصة أي معهم بالحفظ، والرعاية، والتوفيق، إذا كنت مع الله كان الله معك.. 

كن مع الله تر الله معك        واترك الكل وحاذر طمعــــك

وإذا أعطاك من يمنعه؟        ثم من يعطي إذا ما منعك؟

* * *

وإذا كان الله معك فمن عليك؟ وإذا كان عليك فمن معك؟ إذاً هؤلاء الأقوام؛ الفراعنة، قوم هود، قوم عاد، قوم ثمود، قوم شعيب، قوم سيدنا موسى، هؤلاء الأقوام الذين ظَلَموا، وبغوا، وطغوا، واستعلوا كيف دمرهم الله عزَّ وجل؟ إنهم حينما احتموا بقوتهم، واحتموا بتدبيرهم، واعتدّوا بما يملكون، دَمَّرَهُم الله عزَّ وجل، ومثلهم كمثل هذه العنكبوت: ﴿اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ .

إنسان مثلاً لا يعقل أن يتخذ قطعة قماشٍ تحميه من الرصاص في المعركة، يكون أحمق، هذه القطعة لا تمنع الرصاص، لابدّ من الفولاذ، لابدَّ من درعٍ، لابدَّ من حِصْنٍ، لابدَّ من ترسٍ يقيك هذا الرصاص، إذاً إذا تأكَّدت أن هذا الذي اتخذته ولياً لا يحميك فاتخاذه حُمْقٌ وغباء، اتخذ ولياً يحميك، الله سبحانه وتعالى ولي الذين آمنوا.

 

الفرق بين التوحيد والشرك:


ثم يقول الله عزَّ وجل: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾. . أي الإنسان فيما بينه وبين نفسه إذا كان اعتماده على زيدٍ أو عبيد، أو على ماله، أو على قوته، أو على ذكائه، أو على علمه، أو على عشيرته، أو على زوجته، يقول لك: لي زوجةٌ شابة، صالحة التدبير، أحياناً أي جهةٍ تعتمد عليها اعتماداً فيه أحد أنواع الشِرْك ربنا سبحانه وتعالى يَغَار، ومعنى يغار أنه يُخَيِّبَ ظنك إذا اعتمدت عليه، اجعل همك أن تعتمد على الله عزَّ وجل، لا تجعل ما دون الله عزَّ وجل ولياً لك، ما دون الله عاملهم بالإحسان.. عن عبد الله بن عباس: 

(( لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُهُ خَلِيلًا، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ. ))

[ صحيح البخاري ]

بمجرد أن تعتمد على غير الله عزّ وجل، وأن تركن إليه، وأن تثق به، وأن يَبُثَّ في قلبك الطمأنينة فقد وقعت في الشرك وأنت لا تدري، وتأديب الله عزَّ وجل إذاً أن يُخَيِّبَ ظنك في هذا الذي اعتمدت عليه، لذلك قال العلماء: الفرق بين الشرك وبين التوحيد، المؤمن الموحِّد يأخذ بالأسباب، والمشرك يأخذ بالأسباب، والفرقُ بينهما أن المؤمن يأخذ بالأسباب، ويعتمد على رب الأرباب ؛ بينما المشرك يأخذ بالأسباب، ويعتمد عليها. 

مثلاً: إنسان سافر بمركبته، إذا راجعتها قبل السفر مراجعة جيدة، وضبطت كل شي فيها، واعتمدت على هذه المراجعة، قد تفاجأ بأنها قد تقطعك في الطريق، كان اعتمادك على مراجعتك لهذه المركبة، أما إذا راجعت ما فيها من خلل، واعتمدت على الله عزَّ وجل، هذا هو الموقف السليم، لذلك حتى في العمل تأخذ بالأسباب، وتعتمد على الله، في تجارتك، في صناعتك، في وظيفتك، في دراستك، في كل شؤون حياتك، في علاقاتك الداخلية، الخارجية، تأخذ بالأسباب وتعتمد على الله، أما إذا أخذت بالأسباب، واعتمدت عليها فقد أشركت، لهذا كلما أقدمت على عمل قل: "اللهم إني تبرَّأت إليك من حولي وقوتي، والتجأت إلى حولك وقوتك يا ذا القوة المتين"، هذا الشعور بالفقر شعور حقيقي، وشعور علمي واقعي، وليس شعوراً وهمياً، يجب أن تشعُر أنه ليس لك من الأمر شيء. 

 

التوجه بالدعاء إلى الله وحده:


الإنسان أحياناً يتوجَّهُ بالدعاء إلى الله عزَّ وجل يقول: يا رب توكلت عليك، ليس لي سواك، أحياناً يدعو بهذا الدعاء ونفسه معتمدة على زيد، في أعماقه أو في عقله الباطل شعور أن فلاناً لن يتخلَّى عنه، وفلاناً قوياً، فليس المهم أن تقول بلسانك: توكلت عليك يا رب، المهم أعماق قلبك على من هي معتمدة؟ على من هي مُتَّكِلَة؟ إلى من تلجأ في الشدة؟ فربنا عزَّ وجل يقول:﴿إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ .. أي إذا دعوت غير الله في قلبك، في أعماقك، الله يعلم هذا، فالبطولة لا أن يكون هذا اللسان كما يريد الله عزَّ وجل، البطولة أن يكون قلبك كما يريد، أن تعتقد اعتقاداً جازماً أن الله وحده هو الولي، ولا ولي سواه، هو القوي ولا قوي سواه، هو الرافع ولا رافع سواه، هو الخافض، هو المعز، هو المذل، فهذه إن الله يعلم، أي الإنسان قد يدعو بلسانه ربه، وهو معتمدٌ على غير الله عزَّ وجل، فربنا عزَّ وجل لا يحاسبك على اللسان يحاسبك على ما استقر في الجنَان، في القلب، الله يعلمه.. ﴿إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ كلمة من دونه، من دونه أي الله هو واجد الوجود، الذات الكاملة، هو القوي، هو الغني، من دونه غير قوي من دونه، غير غني من دونه، أي جهةٍ دون الله عزَّ وجل لا تملك شيئاً لا نفعاً ولا ضُراً، ولا موتاً ولا حياةً، ولا رزقاً ولا نشوراً، فلذلك من الغباء ومن الجهل أن تتجه بكُلِّيَتِكَ إلى غير الله عزَّ وجل، عبدٌ فقيرٌ مثلك، العوام يقولون مثلاً: (حيل المفلس عن المفلس ترى العجب) لما يعتمد الإنسان على غير الله عزَّ وجل كأنه يتجه مفلس إلى مفلس، يقول له: والله لا يوجد معي شيء، مثلي مثلك، "يا أماه، إنني أشكو مما أنت منه تشكين" .

 

الأمثال لا يعقلها إلا العالمون:


﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ﴾ .. الحقيقة المثل أحياناً يُضْرَب، إنسان يستمع إليه، ولكن لا يعقل المَغزى، إنسان يستمع إليه، ولا يدرك أبعاد المثل، قال: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ .. لذلك العالم، الإنسان إذا أعمل عقله في الكون، وحضر مجالس العلم، ونمت معرفته شيئاً فشيئاً، ما من مجلس علمٍ إلا ويرفعك عند الله درجة، وهذه الآيات إذا فهمتها أصبحت رُكناً من أركان إيمانك، كلما حضرت مجلس علم نما إيمانك، واستقرت هذه الحقيقة وتثبتت، إلى أن تشعر بعد حين أنك إنسان آخر، لك رؤيةٌ صحيحة، هذا الشيء لا أفعله ولو قُطِّعْتُ إرباً إرباً، هذا الشيء لا أقترفه، ما الذي منعك من فعل هذا الشيء مع أنك كنت تفعله من قبل؟ معرفتك بالله عزَّ وجل، فالعلم سلاح، فأنت كلما ازددت علماً ازددت قوةً على الشيطان، فَقِيهٌ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ، كلما ازددت علماً ازددت تَمَنُّعَاً، ازددت تحصناً، قوةً على خصمك، فلذلك: الإنسان كما قال عليه الصلاة والسلام: عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :

(( من سلك طريقًا يطلبُ فيه علمًا ، سلك اللهُ به طريقًا من طرقِ الجنةِ ، وإنَّ الملائكةَ لتضعُ أجنحتَها رضًا لطالبِ العِلمِ ، وإنَّ العالِمَ ليستغفرُ له من في السماواتِ ومن في الأرضِ ، والحيتانُ في جوفِ الماءِ ، وإنَّ فضلَ العالمِ على العابدِ كفضلِ القمرِ ليلةَ البدرِ على سائرِ الكواكبِ ، وإنَّ العلماءَ ورثةُ الأنبياءِ ، وإنَّ الأنبياءَ لم يُورِّثُوا دينارًا ولا درهمًا ، ورَّثُوا العِلمَ فمن أخذَه أخذ بحظٍّ وافرٍ. ))

[ صحيح أبي داود ]

فكن عالماً أو متعلماً أو مستمعاً أو محباً. 

 

الحق هو الشيء الباقي الهادف والثابت:


﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ ..الآية الأخيرة، من هم العالمون؟ عالمون بماذا؟ عالمون بأن الله: ﴿خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ﴾ .. الآية دقيقة جداً، الله عزَّ وجل قال:

﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلً ا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ(27)﴾

[ سورة ص ]

آية ثانية:

﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38)﴾

[ سورة الدخان ]

إذاً الله عزَّ وجل نفى أن يكون خلق السماوات والأرض باطلاً، ونفى أن يكون خلق السماوات والأرض لَعِبَاً، نفى الباطل ونفى اللعب. 

الباطل الشيء الزائل، واللعب الشيء العابث، إذاً ما معنى بالحق؟ ﴿خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ﴾ من آيتين أُخْرَيَين يتضح معنى هذه الآية، الحق شيءٌ خلاف الباطل، الباطل زائل، الحق إذاً دائم، الحق شيءٌ خلاف اللعب، اللعب هو العبث؛ أما الحق فهو الشيء الهادف، إذاً من معاني الحق أنه الشيء الهادف، الدائم، الباقي، الثابت، إذاً حينما خلق الله السماوات والأرض خلقها لتبقى.


  الهدف من خلق الإنسان أن يعرف الله ويشكره ويقبل عليه:


 إذاً: الإنسان باقٍ إلى أبد الآبدين، يذوق الموت حينما ينفصل جسده عن نفسه، يذوقه ذوقاً ولا يموت.

﴿ وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77)﴾

[ سورة الزخرف ]

فأنت خُلِقْتَ أيها الإنسان لتبقى إلى أبد الآبدين، إما في سعادةٍ أبديةٍ، وإما في شقاءٍ أبدي، إذاً إذا علمت أن الله خلق السماوات والأرض بالحق، وأنت مما في السماوات والأرض، خلق السماوات والأرض لهدفٍ كبير.

﴿ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)﴾

[ سورة هود ]

خلقنا ليرحمنا، خلقنا ليسعدنا، خلقنا لنسعد به في أبد الآبدين، إذاً خلق الله الكون ليسعده، وخلق الإنسان ليكون سيِّد الكون، المخلوق الأول كلَّفه بالأمانة.

﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)﴾

[  سورة الشمس  ]

إذاً العالمون بأن الله خلق السماوات والأرض بالحق، أكثر العوام يقولون لك: سبحان الله! الله خلقنا للعذاب، كلام كله جهل، كله حُمْق، كله قصور في الإدراك، خالق هذا الكون ماذا يستفيد من تعذيبنا؟ 

﴿ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)﴾

[ سورة الزمر ]

(( عن أبي ذر الغفاري عَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فِيما رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أنَّهُ قالَ: يا عِبَادِي، إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ علَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فلا تَظَالَمُوا، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَن هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَن أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَن كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يا عِبَادِي، إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ باللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يا عِبَادِي، إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يا عِبَادِي، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا علَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنكُمْ؛ ما زَادَ ذلكَ في مُلْكِي شيئًا، يا عِبَادِي، لوْ أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا علَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ؛ ما نَقَصَ ذلكَ مِن مُلْكِي شيئًا، يا عِبَادِي، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي، فأعْطَيْتُ كُلَّ إنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ؛ ما نَقَصَ ذلكَ ممَّا عِندِي إلَّا كما يَنْقُصُ المِخْيَطُ إذَا أُدْخِلَ البَحْرَ، يا عِبَادِي، إنَّما هي أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا، فمَن وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَن وَجَدَ غيرَ ذلكَ فلا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ. وفي روايةٍ: إنِّي حَرَّمْتُ علَى نَفْسِي الظُّلْمَ وعلَى عِبَادِي، فلا تَظَالَمُوا. ))

[ صحيح مسلم ]

﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)﴾

[ سورة النساء ]

معنى ذلك أنك مخلوق كي تعرفه، وكي تشكره وتقبل عليه، إذاً: ﴿خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ﴾ ما خلقها لعباً بلا طائل، ما خلقها عبثاً..

﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)﴾

[  سورة المؤمنون  ]

لا، ما خلقها باطلاً..

﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36)﴾

[ سورة القيامة  ]

﴿خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ﴾ ، ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ الذين يعلمون، جاء بالتفسير..﴿خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ .

 وفي الدرس القادم إن شاء الله نتابع الآيات المتبقية في هذه السورة.

 والحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور