وضع داكن
18-04-2024
Logo
الدرس : 1 - سورة مريم - تفسير الآيات 01 - 15 بشارة للمؤمنين وإنذار للكافرين
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين . 


  خلاصة سورة مريم بشارة للمؤمنين وإنذار للكافرين :


أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع الدرس الأول من سورة مريم ، هذه السورة في مجملها تتحدَّث عن شيئين ، كما ورد هذا في آخرها إذ يقول الله سبحانه وتعالى :

﴿ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97)  ﴾

[ سورة مريم  ]

كأن هذه السورة بأكملها تبشِّر المؤمنين وتنذر الفاسقين ، كيف بشَّرت المؤمنين ؟ ربنا سبحانه وتعالى ذكر فيها قصَّة سيدنا زكريَّا ، ويحيى ، ومريم ، وعيسى ، وإبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب ، وموسى ، وهارون ، وإسماعيل ، وإدريس ، كل هؤلاء الأنبياء الكرام ورد ذكرهم في هذه السورة الكريمة ، أولئك الذين أنعم الله عليهم ، كيف أنعم عليهم في الدنيا والآخرة ، وكيف أعطاهم ، وكيف رحمهم ، وذكر الذين تركوا الصلوات ..

﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) ﴾

[  سورة مريم  ]

وكيف أنهم سيلقون غيَّاً ، إذاً هذه السورة بأكملها بِشارةٌ للمؤمنين ، وهذه أمثلةٌ كثيرةٌ جداً ، وإنذارٌ للمعرضين ، فكأنها تطبيقٌ عملي لأولئك الذين يبتغون إلى ربهم الوسيلة .


  الأحرف المقطَّعة المعجِزة وأقوال المفسرين فيها :


الشيء الثاني : أَنَّ هذه القصة وهذه السورة بدأت بالأحرف : ﴿ كهيعص﴾ .. ومعظم المفسِّرين على أن هذه الحروف يقولون عنها : الله أعلم بمراده . 

وبعض المفسرين يقولون : إنَّ هذا القرآن المعجز من جنس هذه الحروف ، فكيف أنَّ التراب نَفَخَ الله فيه من روحه فكان بشراً سوياً ، كذلك هذه الحروف جعل الله منها كتابه المعجز ، إذاً إنكم أيها البشر لن تستطيعوا والحروف بين أيديكم أن تصوغوا كتاباً فيه إعجازٌ من كل النواحي ؛ إعجازٌ في التشريع ، إعجازٌ في البلاغة ، إعجازٌ في الإخبار ، إعجازٌ في الإرشاد ، إعجازٌ في الهداية ، إعجازٌ في الدلالة ، إنكم لن تستطيعوا أن تصوغوا من هذه الحروف التي بين أيديكم كلاماً بهذا الإعجاز ، هذا قاله بعض المفسرين .

 وبعضهم الآخر وقد عُزي هذا إلى الإمام عليٍ كرَّم الله وجهه قال : إنها أوائلُ لأسماء الله الحسنى ، فيا كافي ، ويا هادي ، ويا ولي ، ويا عالِم ، ويا صادق الوعد ، هذه روايةٌ عُزِيَت إلى الإمام عليٍّ كرَّم الله وجهه .

وفي تفسير الفواتح الإلهيَّة أن هذه الحروف : ﴿ كهيعص﴾ أوائل أسماء رسول الله ، فجاء في هذا التفسير ؛ أن يا كافي عموم الأنام ، الكاف ، وهاديهم إلى دار السلام ، بيمن العزيمة العليَّة ، ياء عَين ، وبصدق الهمَّة الصافية ، والقرآن كما قال الإمام عليٌّ كرَّم الله وجهه ذو وجوه فاحملوه على أحسن وجوهه ، القرآن حمَّال أوجه ، لك أن تقول مع معظم المفسِّرين : الله أعلم بمراده ، ولك أن تقول : إن هذا القرآن الكريم من هذه الحروف ، فيا معشر الجن والإنس ، يتحدَّاهم الله عزَّ وجل أن يأتوا بمثل هذا القرآن ..

﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)﴾

[  سورة الإسراء ]

 ترابٌ نفخ الله فيه فكان بشراً سويَّاً ، حروفٌ كان منها هذا القرآن المُعجز ، ولك أن تفهم هذه الحروف أنها أوائلُ لأسماء الله الحُسنى ، وقد عُزيت هذه الرواية إلى الإمام عليٍّ كرَّم الله وجهه ، ولك أن تفهمها أنها أوائلُ أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، يا كافي عموم الأنام بالهدى ، وهاديهم إلى دار السلام ، بيمن العزيمة العَليَّة ، وبصدق الهِمَّة الصافية .

 على كل هذا القرآن لا يعلم تأويله إلا الواحد الديَّان ، نحن نجتهد ، المفسِّرون اجتهدوا ، وأنا نقلت لكم ما قاله المفسرون .. 

 

سورة مريم هي ذِكْرٌ لرحمة الله التي نالت عبده زكريَّا :


﴿ كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا﴾ .. أَي هذه القصَّة هي ذِكْرٌ لرحمة الله التي نالت عبده زكريَّا .

أيُّها الإخوة الأكارم ، أتمنَّى عليكم ألا تظنوا أنّ هذه قصَّة تاريخيَّة ، ليس المقصود في كتاب الله أن تُروى القِصَص ، ولا أن تُنْقَل الحوادث ، ولا أن تصوَّر الشخصيات ، ولا أن يدور الحوار ، هذه كلُّها ليست من أهداف كتاب الله ، الله سبحانه وتعالى أراد من هذه القصَّة أن يضع بين أيديكم حقيقةً في التعامل معه ، ما منا واحدٌ إلا وله علاقةٌ بالله عزَّ وجل ، قد تأتي الأمور كما يشتهي ، ما الموقف الذي يجب أن يقفه ؟ وقد تأتي الأمور على خلاف ما يشتهي ، ما الموقف الذي يجب أن يقفه ؟ إن هذه القصَّة على إيجازها تضع بين أيدينا حقيقةً أساسيَّةً في التعامل مع الله عزَّ وجل ، فكأنها ﴿ ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ ﴾ وربُّ زكريَّا هو ربك ، وإله زكريَّا هو إلهك ، وإذا كان الله عزَّ وجل قد أعطى زكريا عليه السلام فلن يَضِنَّ عليك بالعطاء ، لو أنك اتبعت الطريق الذي سار به سيدنا زكريا ..﴿ ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا﴾ هذا النبي الجليل ، هذا النبي العظيم له أتباع ، له موالٍ ، له تلامذة ، له مَنْ معه من المؤمنين ، هؤلاء خاف عليهم أن يضيعوا من بعده ، أن يُشتَّتوا ، أن يتفرَّقوا ، أن يجهلوا بعد علمٍ ، أن يضيعوا بعد الهُدى .. فـ : ﴿ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً ﴾ قال العلماء :  النداء هو ما كان بصوتٍ مرتفع ، والمناجاة هي ما كانت في القلب  ، لقد نادى ، ومن آداب النِداء أن يكون النداء خفيَّاً بصوتٍ منخفض ، فعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكُنَّا إِذَا أَشْرَفْنَا عَلَى وَادٍ هَلَّلْنَا وَكَبَّرْنَا ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُنَا ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : 

(( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ، فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا ، إِنَّهُ مَعَكُمْ ، إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ، تَبَارَكَ اسْمُهُ ، وَتَعَالَى جَدُّهُ. ))

[ صحيح مسلم  ]

 

الحث على كثرة الدعاء والتضرع :


﴿ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً ﴾ .. وأنت أيُّها الأخُ الكريم تستطيع أن تدعو الله عزَّ وجل من دون أن تحرِّك شفتيك ، ويسمعك ، ويستجيب لك ، وهو معك في كل أحوالك ، فهذا النبي عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام نادى ربَّه ، كلمة (ربَّه) الذي ربَّاه ، الذي خلقه مِن العَدَم ، الذي جعل له الرحِمَ في بطن الأمِّ رحمةً ، والذي أمدَّه بالغذاء ، والذي شقَّ سمعه وبصره ، والذي كوَّن قلبه ، وخفقَ القلبُ في الأسبوع السادس ، وجرى الدم في الشرايين ، ونَمَت الأعضاء ، وظهرت الأعصاب ، واكتمل الخلق ، فلمَّا نزل إلى الدنيا كانت الهَدِيَّة الأولى :

﴿ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)﴾

[ سورة البلد   ]

 حليبٌ يتبدَّل تركيبه كل يوم ليوافق طبيعة المولود ، وأجهزته ، وقوَّة احتماله ، في هذا الحليب مواد قاتلة للجراثيم ، في هذا الحليب مواد تمنع التصاق الجراثيم بالأمعاء ، في هذا الحليب مناعةُ الأم كلُّها ، في هذا الحليب فوائد لا تعدُّ ولا تحصى ، إنه يأتي للطفل بارداً في الصيف ، دافئاً في الشتاء ، تثبت الحرارة طوال الرضعة ، جاهزٌ بجاهزيَّة من الدرجة الأولى ، تعقيمٌ مثالي ، حرارةٌ مثاليَّة ، وقايةٌ من الأمراض كلِّها ، مناعةٌ تامَّة ..﴿ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)﴾ .

﴿ إِذْ نَادَى رَبَّهُ﴾   ربَّه الذي ربَّاه ، الذي أطعمه وسقاه ، الذي خلق له هذه الأعضاء ، وتلك الأجهزة ، وهذه الحواس ..﴿ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً ﴾ ..

أنت أيُّها الأخ الكريم هل تنادي ربَّك ؟ كم مرَّةً في الأسبوع تناديه ؟ مرَّةً واحدة ؟! النبي عليه الصلاة والسلام كان يدعو ربَّه في كل أحواله ؛ إذا خرج من البيت ، إذا دخل إلى البيت ، إذا دخل إلى السوق ، إذا خرج من السوق ، إذا التقى بإنسان ، إذا ارتدى ثيابه ، إذا خلع ثيابه .. فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : 

(( الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ . ))

[ ضعيف الترمذي ، والطبراني في (المعجم الأوسط) ]

 

شكوى زكريا إلى ربه الضعفَ والكِبرَ :


﴿إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي ﴾ معنى (وَهَنَ) أي ضعف ، لم يتحدَّث عن جلده ، ولا عن عضلاته ، ولا عن قدراته إنما تحدَّث عن عظامه ، فإذا كانت دِعائمُ البناء قد تضعضعت فلا شيء في البناء ، ﴿ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي ﴾ العظم وهو أساس البناء ، أساس الجسم قد ضعف ..﴿ وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ﴾ هذه من استعارات القرآن الرائعة ، شُبِّه الشيب بالشرر ، وشُبِّه الرأس بمكان اشتعال النار ، فإذا اشتعلت النار تطاير الشرر في كل الأنحاء ، فكأن وصول الشيب إلى رأس الإنسان بمثابة شررٍ اشتعل في رأسه ، يا ﴿رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ﴾ .

 

آداب الدعاء :


والعلماء قالوا : من آداب الدعاء ثلاثة آداب :  

1ـ أن يكون الدعاء خفياً :

الأدب الأول أن يكون الدعاء خفيَّاً .. هو دعا بلسانه ، لو لم يدعُ بلسانه لكان مناجاةً ، لكنَّه لم يدعُ في ملأ من الناس ، دعا في المحراب . 

2 ـ التذلل والافتقار :

وقال :  ﴿إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ﴾ هذا هو الأدب الثاني في الدعاء ، التذلل ، التضعضع ، إظهار المسكنة ، إظهار العَجز ، إظهار الافتقار ، كيف تدعو خالق الأكوان وأنت في حالة كِبْر ؟ لا ، لابدَّ مع الدعاء من التذلل ، لابدَّ من إعلان الضعف ، لابدَّ من إعلان الافتقار ، لابدَّ من أن تكون وأنت تدعو في حالة افتقارٍ إلى الله عزَّ وجل .. يا ﴿ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ﴾

3 ـ حسن الظن بالله عز وجل :

أجمل ما في هذه الآية قول الله عزَّ وجل على لسان سيدنا زكريَّا : ﴿ وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً ﴾ في كل حياتي ما دعوتك مرَّةً ، وكنت شقياً بهذا الدعاء ، ومعنى شقياً أي محروماً ، العلماء قالوا : الشقاء هنا الحرمان ، ﴿ وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً ﴾ ..

كن عن هـمومك معرضاً        وكـل الأمور إلى القـضـا

وابـشــر بـخيـــــــــرٍ عـاجـــلٍ       تنسى به ما قد مــضـــى

فلرب أمـــر مسخـــــط  لك       فـــــــي عواقبــــــه رضــــــــا

ولربما ضـــاق المضيــــــق       ولربما اتســــع الفضـــــــــا

الله يفعــــــــل مـــــا يشـــــاء       فــــلا تـكــن مـــعترضـــــــــــا

الله عــــــــودك الجميـــــــــــل       فقس على ما قد مضـى

***

﴿ وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً﴾ يا رب ما دعوتك في حياتي مرَّةً وخيِّبت ظنَّي ، إلا وأكرمتني ، وأعطيتني ، ورحمتني ، ورزقتني ، ويَسرت أمري ، إذاً هذا هو الأدب الثالث في الدعاء .

الأدب الأول : أن يكون الدعاء خفيَّاً . والأدب الثاني : أن يكون مع الدعاء ضراعةٌ ، وتذلُّل ، وافتقارٌ . والأدب الثالث : أن تتوسَّل بظنٍّ حسنٍ بالله عزَّ وجل ، أن يكون خفياً ، وأن تكون مفتقرًا ، وأن تكون متوسلاً بظنٍ حسنٍ بالله عزَّ وجل.

 

كلمة ربِّ جاءت مُقْحَمَةً بين كلمتين متلازمتين من باب التودد والتعظيم :


﴿ وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً ﴾ من الصياغة المعجزة أن جاءت كلمة ( ربِّ ) معترضةً بين كلمة : ( دعائك ربِّ شقيَّاً ) من التحبُّب ، ومن التودد ، ومن التعظيم أن تأتي كلمة ربي مُقْحَمَةً بين كلمتين متلازمتين ، وهذا درسٌ لنا ، الشيء الذي تراه مستحيلاً ، الشيء الذي يقلقك ، الشيء الذي يَقُضُّ مضجعك ، الشيء الذي تخاف منه ، شبح المصيبة التي يبدو أنها قادمة ، بادرْ إلى الصلاة ، فكان النبي عليه الصلاة والسلام إذا حَزَبَهُ أمرٌ بادرَ إلى الصلاة ، صَلِّ صلاة الحاجة ، صَلِّ صلاة الدعاء ، صَلِّ في قيام الليل ركعتين واسأله كل حاجاتك ، قال الله عز وجل في الحديث عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ قَالَا : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( إِنَّ اللَّهَ يُمْهِلُ حَتَّى إِذَا ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَوَّلُ نَزَلَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَقُولُ : هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ ؟ هَلْ مِنْ تَائِبٍ ؟ هَلْ مِنْ سَائِلٍ ؟ هَلْ مِنْ دَاعٍ ؟ حَتَّى يَنْفَجِرَ الْفَجْر ُ. ))

[ صحيح مسلم ]

﴿وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً﴾ ..

﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62)﴾

[ سورة النمل ]

قال العلماء : إن المُضطر مستثنى من كل شروط الدعاء ، بشرط أن يقول : يا رب مِن كل قلبه ، دون أن يقولها بلسانه ، وهو يعتمد على زيدٍ أو عبيد ..

 

دعاء زكريا لربه كان عندما رأى الكمال والتقوى متمثلين بمريم عليها السلام :


﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي﴾ استكمالاً لهذه القصَّة ورد مقطعٌ قصيرٌ في آل عمران حول هذا الدعاء ، بماذا دعا ؟ السيدة امرأة عمران : 

﴿ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ(37)  ﴾

[ سورة آل عمران ]

السيدة مريم ..﴿ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا ﴾ قال العلماء :  كلَّما دخل عليها وجد صلاحاً ، وطاعةً ، وسمتاً ، وعلماً ، وفهماً ، وحلماً ، وإقبالاً ، وإشراقاً ، ليس المقصود بالرزق حصراً أنه رأى فاكهة الصيف في الشتاء ، حصراً ، ولكن بعض العلماء يضيف إلى ذلك أنه رأى سمتاً ، ورأى علماً ، ورأى إشراقاً ، ورأى عبادةً ، ورأى محبَّةً ، عندئذٍ ﴿ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ(37)هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ ﴾ لمَّا رأى هذه البنت الطاهرة ، التقيَّة ، النقيَّة ، العالمة ، الفقيهة ، المقبلة ، ذات القلب المشرق ، عندئذٍ :

﴿ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) ﴾

[  سورة آل عمران ]

إذاً متى دعا ؟ دعا حينما رأى الكمال ، والتقوى ، والإقبال ، والقُرب ، متمثلةً بمريم التي ورد ذكرها في القرآن الكريم ، إذاً : ﴿ وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً ﴾ خاف على هؤلاء الذين يدعوهم إلى الله ، خاف على تلامذته ، خاف على أتباعه ، خاف على المؤمنين الذين هم معه ، خاف عليهم أن يضيعوا بموته ، أنْ يَشتوا ، أن يضلوا ، أن يتفرَّقوا ، أن يضلوا بعد الهدى ، خاف عليهم ، لكن الطريق مسدود ، أنَّى له أن يأتيه الغلام ؟ هو قد بلغ من الكِبَرِ عِتيَّا ، أي قد تجاوز السن التي يمكن فيها أن يُنجب الأولاد ، وامرأته عاقر في الأصل ، وفوق أنها عاقر فقد تجاوزت السن التي تنجب فيها النساء غير العواقر .

 

مرافقة الأسباب للنتائج :


 ﴿ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً﴾ .. وقف بعض المفسِّرين عند هذه الآية وقفةً رائعة ، قال : هو نبيٌّ يعلم أن الله عزَّ وجل لا تقف الأسباب عَقَبَةً أمام أمره ، ﴿ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ الأسباب ليست هي سبب النتائج ، إنما هي ترافقُها ، لأنَّ الشيء المُسبِّبَ هو الله عزَّ وجل ، وما السبب إلا حدث يرافق النتيجة وجوداً وعدماً ، وبالإمكان أن تظهر النتيجة بلا سبب ، فلماذا وصف نفسه بأنه قد بلغ من الكبر عِتياً ؟ ولماذا وصف امرأته بأنها عاقر ؟ قال : هذا ليعلِّم إخوانه أن الله عزَّ وجل على كل شيٍ قدير ، فعلى الرغم من أنه قد بلغ من الكبر عتياً ، وأن امرأته كانت عاقراً ، وقد تجاوزت السنَّ التي يمكن فيها أن تلد غير العاقر ، ومع ذلك فالله على كل شيءٍ قدير . 

 

إِنّ مع العُسرِ يسراً :


ونحن أيُّها الإخوة لا ينبغي أن نيئس من رحمة الله ، ولو أن الإنسان أصابه مرضٌ عضال ، أن يقول : هكذا قال الأطباء ، هذا المرض ليس لهُ شفاءٌ ، لا ، هذا كلام الجهل ، اسأل الأطبَّاء يقولون لك : هناك شفاءٌ ذاتي لا يعلم الطب كيف يحدث ، شفاءٌ ذاتي . 

﴿ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) ﴾

[ سورة الشعراء  ]

الله سبحانه وتعالى يجعل مع العُسر يسراً ، يخلق من الضعف قوَّة ، ومن الضيق فرجاً ، ومن شأن المؤمن أن الله سبحانه وتعالى يرزقه من حيث لا يحتسب ، وأنه مَن يتوكَّل على الله فهو حسبه ، وأنه ..

﴿ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2)﴾

[ سورة الطلاق  ]

هذه الآية صورة رائعة ..﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ﴾ ما كان لديه مخرج ، الأمور أُحْكِمَت حَلقاتها ، سُدَّت من كل جانب ، جميع أبواب الأرض مسدودة ، ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ﴾ ، متى جُعِلَ هذا المخرج ؟ بعد أن ضاقت إلى درجة ظُنَّ معه أنه ليس هناك مخرج .

 

الطلب الذي طلبه زكريا من الله عز وجل وتحقيق الله له ما يريد :


﴿ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً﴾ .. أما دقَّة هذه الآية لم يقل : فهب لي ولياً ، لو قال : فهب لي ولياً ، أنت بلغت من الكِبَر عتياً ، وامرأتك عاقر ، فكيف يأتيك الغلام ؟ قال : ﴿ فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ﴾ أي من طريقك يا رب ، من دون أخذٍ بالأسباب ، هذه حالةٌ استثنائيِّة .. ﴿ فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ﴾ يا رب .. بالإعجاز ، بتجاوز الأسباب ، من دون أن يكون السبب هو الواسطة .. ﴿ فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ﴾ مرَّت معنا هذه في سورة الكهف :

﴿ فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65)  ﴾

[  سورة الكهف ]

﴿ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً* يَرِثُنِي﴾ يكون داعياً إلى الله مِن بعدي ، يرث هؤلاء الذين أدعوهم إلى الله.. ﴿ يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً ﴾ رضيّاً لك ، اجعله مرضياً يا رب ، اجعله ممن ترضى عنه ، لأنك إذا رضيت عن إنسان فهذا الرضا هو كل شيء ، ما من مرتبةٍ على وجه الأرض أعظم من أن يرضى الله عنك ، وهل مِن وصفٍ وُصِفَ به أصحاب النبي عليهم رضوان الله وعليه الصلاة والسلام ، هل من وصفٍ أبلغ من أن يقول الله عزَّ وجل :

﴿ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)﴾

[ سورة الفتح  ]

فكلمة (رضي الله عنه) هذه أعلى شهادة ، وأعلى رتبة ينالها إنسان على وجه الأرض .. ﴿ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً ﴾ أي يا رب هب لي غلاماً تكون راضياً عنه ، وراضياً لك ، هب لي غلاماً ينوب عني بعد موتي في تعريف الناس بك ، في دلالتهم عليك ، في الأخذ بيدهم إليك ، هب لي غلاماً يرث هذا المقام الذي أقوم به بين الناس ، فكان الجواب من الله عزَّ وجل أن : ﴿ يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيّاً ﴾ .. قال بعض العلماء : إن الله سبحانه وتعالى سمَّى هذا الغلام بهذا الاسم ، كيف أن الله عزَّ وجل زوَّج النبي عليه الصلاة والسلام من السيدة زينب ، وكذلك ربنا سبحانه وتعالى سمَّى هذا الغلام بيحيى .. ﴿ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيّاً ﴾ .. السَميُّ هو المُشابه ، مِن بعض معاني هذه الكلمة أنه ليس مَن له اسمٌ كهذا الاسم ، أو ليس مَن له صفات هذا الغلام ، السَمِيّ المشابه ﴿ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ﴾ ؟ أي مشابهاً ، عندئذٍ قال هذا النبي الكريم : ﴿ قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ ﴾ قال هذا تعليماً لأصحابه ، قال هذا تعليماً للناس ، أو تعريفاً بقدرة الله عزَّ وجل ، شروطٌ مستحيلة ، وضْعٌ لا أمل منه ، لا رجاء فيه ، أن تلد امرأةٌ عجوزٌ في الأصل كانت عاقراً ، وأن ينجب رجلٌ بلغ من الكِبَرِ عتياً ، ووهن العظم منه ، واشتعل رأسه شيباً . 

 

من رحمة الله بالمرأة توقف الإنجاب عندها في سنّ معينة :


بالمناسبة : من فضل الله على الناس أن المرأة إذا بلغت سِنَّاً معيَّنةً توقفت عن الإنجاب ، وتعليل هذا أن في مبيضها عدداً محدوداً من البويضات ، في كل شهرٍ ينزل من المبيض بيضتان ، فإما أن تنقلبا إلى حَمْلٍ ، وإما أن تذهبا ، إلى أن تنتهي هذه الكميَّة المحدودة ، هذه الكمية المحدودة تنتهي في الأربعين ، في الخامسة والأربعين ، في السابعة والثلاثين ، في الخمسين أحياناً ، هذه الكمية المحدودة تنتهي ، ولو أن هذه الكمية تتوالد باستمرار وغير محدودة فالأمر لا يُحتمل ، أنَّ امرأةً في الثمانين ، أو في التسعين ، أو في السابعة والتسعين ترونها حاملاً ، كيف تربي ابنها ؟ أية امرأة تستطيع أن تربي ابنها وهي في التسعين فهذه من حكمة الله سبحانه وتعالى ، الرجل ينجب إلى سن متأخرةٍ جداً ، أما المرأة فعدد البويضات فيها محدود ينتهي في سنٍّ معيَّنة ، هذه حِكَمٌ ربما لا ينتبه الإنسان إليها ، مثلاً الرجلُ قد يفقد شعره ، ولكن ليس في عالَم النساء امرأةٌ تفقد شعرها كلياً ، قد يخفُّ شعرها ، وهذه من حكمة الله ورحمةً بالنساء ، هناك تخطيط ، هناك إلهٌ عظيم يفعل ما يريد .  

 

من عرف الله رأى أن كل شيء هين عليه :


﴿ قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً * قَالَ كَذَلِكَ ﴾ .. وأنت في هذه الحالة ، وأنت قد بلغت من الكبر عتياً ، وامرأتك عاقرٌ في الأصل ، وقد تجاوزت سنَّ الولادة ، لو لم تكن عاقراً .. ﴿ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ﴾ كن فيكون .. 

(( عن أبي ذر الغفاري  قال اللهُ تعالَى : يا عبادي ! إنِّي حرَّمتُ الظُّلمَ على نفسي وجعلتُه مُحرَّمًا فلا تَظالموا ، يا عبادي ! إنَّكم تُخطِئون باللَّيلِ والنَّهارِ وأنا أغفِرُ الذُّنوبَ جميعًا ولا أُبالي فاستغفروني أغفِرْ لكم ، يا عبادي ! كلُّكم جائعٌ إلَّا من أطعمتُ فاستطعِموني أُطعِمْكم ، يا عبادي ! لم يبلُغْ ضُرٌّكم أن تضُرُّوني ولم يبلُغْ نفعُكم أن تنفعوني ، يا عبادي ! لو أنَّ أوَّلَكم وآخرَكم وجِنَّكم وإِنسَكم اجتمعوا وكانوا على أفجرِ قلبِ رجلٍ منكم لم يُنقِصْ ذلك من مُلكي مثقالَ ذرَّةٍ ، ويا عبادي ! لو أنَّ أوَّلَكم وآخرَكم وجِنَّكم وإنسَكم اجتمَعوا في صعيدٍ واحدٍ فسألوني جميعًا فأعطيتُ كلَّ إنسانٍ منهم مسألتَه لم يُنقِصْ ذلك ممَّا عندي إلَّا كما يُنقِصِ المَخيطُ إذا غُمِس في البحرِ ، يا عبادي ! إنَّما هي أعمالُكم تُرَدُّ إليكم ، فمن وجد خيرًا فليحمَدْني ومن وجد غيرَ ذلك فلا يلومَنَّ إلَّا نفسَه . ))

[  حلية الأولياء - الصفحة أو الرقم : 5/144 خلاصة حكم المحدث : صحيح ثابت ]

ذلك لأن عطائي كلام وأخذي كلام .. كن فيكون ، زُل فيزول ، ﴿ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ﴾ كلَّما عرفتني رأيتَه هيناً عليّ ..﴿ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً ﴾ أيهما أعظم ؟ ﴿ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً ﴾ .. كيف أن الله سبحانه وتعالى خلق الكون من عدم كان الله ولم يكن معه شيء ، هو قديمٌ بلا بداية ، لكن الكون حادث ، ما الشيء الحادث ؟ هو الذي يسبقه العَدَم ، ويليه العَدَم ، الكون كلُّه حادث ، لكن الله سبحانه وتعالى أزليٌّ قديم ، أبديٌ سرمدي ، واجب الوجود .

 

من صفات الإنسان استعجال الخير :


﴿ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً * قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً﴾ متى يأتي الغلام ؟ الإنسان عَجول ، متى يأتي هذا الغلام ؟ ﴿ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً ﴾ .. أي جعل الله له آيةً ، أن لسانه ينعقد فلا يستطيع تكليم الناس بكلمة ، لكنَّه لا ينعقد عن ذكر الله عزَّ وجل ، في ذكر الله لسانه طَلِق ، في مخاطبة الناس لسانه حَبيس ، وقد قال بعض العلماء : لِمَ لَمْ يقل الله عزَّ وجل : آيتُك ألا تكلِّم الناس ثلاثة أيَّامٍ ، قال : ﴿ ثَلَاثَ لَيَالٍ ﴾ ؟ قال : لأن التقويم الذي يهتدي به الناس تقويمٌ قمري ، والتقويم القمري مبنيٌّ على طلوع القمر ، والقمر في الليل ، إذاً كان الليل أقرب إلى التقويم من النهار ﴿ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً ﴾ .

 

لزوم زكريا العبادة والصمت عن كلام الناس :


﴿ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ﴾ .. والمحراب مكان العبادة ، مكان لزوم العبادة  ﴿فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ ﴾ طبعاً هو لا يكلِّمهم ، أشار إليهم ﴿أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً﴾ في الصباح والمساء ، وجاء يحيى ، وقال الله عزَّ وحل : ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ﴾ .. خذه بقوَّة ، العلماء قالوا : معنى أخذه بقوَّة أن تعلم ما فيه أولاً ، وأن تطبِّقه بحزمٍ ثانياً ، فإذا أردت أن تأخذ الكتاب بقوَّة ينبغي أن تعرفه أولاً ، وأن تطبقه ثانياً ، فالعلم ليس هدفاً بذاته ، إنما هو وسيلةٌ لهدفٍ كبير ، إذا اتخذت العلم هدفاً أصبح العلم سلَّماً نحو الأسفل ، أصبح العلم حجاباً بينك وبين الله ، أما إذا اتخذته وسيلةً بمعنى أنك خرجت منه إلى تطبيقه ، إلى ممارسته ، إلى تنفيذ ما تعلم ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام : 

(( من عمِلَ بما عَلِمْ ورَّثه الله علم ما لم يعلم . ))

[ أبو نعيم في الحلية عن أنس ]

 

تميز يحيى عليه السلام بالحكمة والرحمة :


﴿ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً * يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً﴾ ، (الحكم) أي الحكمة ، والحكمة هي العلم والعمل ، علمٌ بالحقائق وعملٌ بموجبها ، علمٌ مع التطبيق ، أي هذا الحكيم تصرُّفاته حكيمة ، ينطلق في أعماله من عِلمه ، علمه مطبَّق ، علمه مترجمٌ إلى واقع ، يعلم الحقيقة ويعيشها ، يعلم الحقيقة ويطبٍقها ، يعلم الحقيقة ويعمل وَفْقها ، ﴿ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً﴾ وآتيناه أيضاً : ﴿وَحَنَاناً مِنْ لَدُنَّا ﴾ من علامات الإيمان رحمة القلب ، والقلب القاسي أبعد القلوب من الله عزَّ وجل ، من علامة الكُفْرانِ قسوة القلب ، من علامة الإيمان رقَّة القلب ، اعرف نفسك من رقَّة قلبك ، لا تغترَّ بالصلاة ، ولا بالصيام ، انظر إلى قلبك الذي هو منظر الله ، هل فيه رحمةٌ للناس ؟ هل ترحمهم ؟ يقول الله عزَّ وجل في الحديث القدسي :

(( عن أبي بكر الصديق :  إنَّ اللَّهَ يقولُ : إن كنتُم تريدونَ رَحمتي فارحموا خَلقي . ))

[  ابن عدي  المصدر : الكامل في الضعفاء:  خلاصة حكم المحدث : باطل  ]

﴿ يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً * وَحَنَاناً مِنْ لَدُنَّا ﴾ آتيناه حناناً من لدنَّا ، أي رحمةً .

 

من علامات الإيمان الطهارة والتقوى :


﴿ وَزَكَاةً ً﴾ .. آتيناه زكاةً أي طيْباً ، الزكاة صفاتٌ عاليةٌ في النفس ، طيبٌ ، رحمةٌ ، عدالةٌ ، مروءةٌ ، صدقٌ ، وفاءٌ ، حِرصٌ ، تواضعٌ ، نباهةٌ ، وزكاةً .. ﴿وَكَانَ تَقِيّاً﴾ .. لأنه كان تقياً ، لأنه اتقى أن يعصي الله عزَّ وجل ، اتقى أن يكون في موضعٍ لا يرضي الله ، ما الولاية؟ أن يراك حيث أمرك ، وأن يفقدك حيث نهاك ، أين تكون بعد أذان الظهر يوم الجمعة في المسجد أم في النزهة ؟ أن يراك حيث أمرك ، وأن يفقدك حيث نهاك .. ﴿وَكَانَ تَقِيّاً﴾ لأنه كان تقياً آتيناه الحكم صبياً ..﴿ وَحَنَاناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً ﴾ .

 

من علامات الإيمان برّ الوالدين :


وآتيناه شيئاً آخر .. ﴿ وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ ﴾ ومن علامات الإيمان بِرُّ الوالدين ، ومن علامات الكُفران عقوق الوالدين .. ﴿وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ ﴾ ، ابنَ آدم ماتت التي كنَّا نكرمك مِن أجلها - الأم - فاعمل صالحاً نكرمك لأجلك ، لو أن في اللغة كلمةً أقلَّ مِن (أف) لقالها الله عزَّ وجل..

﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)  ﴾

[ سورة الإسراء ]

﴿ وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ ﴾ كان بارًّا بهما ..﴿ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيّاً ﴾ .. جبَّاراً على الخَلق ، عصياً للحق ، لا يوجد أرقى من هذا الوصف ؛ مع الحق طائع ، مع الخلق متواضع ، مع الأمِّ والأب بَر كريم ، في التعامل ذكيٌ عظيم ، في القلب رحمةٌ كبيرة ، في المنطق والسلوك حكمةٌ ما بعدها حكمة ، هذه صفات الأنبياء .

 

السلام في الحياة وبعد الممات :


لذلك : ﴿ وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً ﴾ .. (سلامٌ) السلام الطمأنينة ، حياةٌ كلُّها سلامٌ بسلام ، لا منغِّص ، لا خوف ، لا قلق ، لا نقص ، لا مرض ، لا خطر ، لا شَبَح ، ﴿ وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ ﴾ ، وبعد الموت إنه في البرزخ ، والبرزخ أي القبر ، روضةٌ من رياض الجنَّة ، أو يكون القبر للكافر حُفْرَةً من حُفَرِ النيران .. ﴿ وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً ﴾ .

 

مقصود القصة القدوة والاتباع :


على كل كما قلت قبل قليل : إن المقصود من هذه القصَّة أن تكون نبراساً لنا نهتدي بها ، أبرز ما في هذه القصَّة الدعاء ، انظروا : شيخٌ فانٍ بلغ من الكبر عتياً ، وامرأةٌ عجوز كانت عاقراً ، وقد دعا هذا النبي العظيم ربَّه دعاءً خفيَّا : أن هب لي من لدنك غلاماً يرثني في الدعوة إليك ، يرعى إخواني ، يرعى تلامذتي ، يهديهم إليك ، يكون استمراراً لي ، يكون خليفةً لي ، لأني أخاف عليهم ، شدَّة حرصه على إخوانه ، وعلى أتباعه ، وعلى تلاميذه ، جعله يدعو هذا الدعاء ، وكيف أن الأمور تبدو مستحيلة ، وكيف أن الطرق مسدودة ، وكيف أن الأسباب معطَّلة ، ومع ذلك جاءت حكمة الله وجاءت قدرة الله عزَّ وجل فوهبته غلاماً نبياً .

وكيف أن آداب الدعاء ثلاثة : أن يكون الصوت خافتاً ، وأن يكون التذلل واضحاً ، وأن يكون التوسُّلُ بعملٍ صالحاً ، أو بحسن ظنٍ بالله عزَّ وجل ، اخفض صوتك ، وتذلل لربك ، وتوسَّل إليه بصالح عملك ، وهذه من آداب الدعاء .

وكيف أن هذا النبي العظيم ما الذي جعله يدعو ربَّه الكريم إلى غلامٍ حكيم ؟ ما رآه من مريم الصدِّيقة كيف أنها نشأت في طاعة الله ، ما من شيءٍ على وجه الأرض أعظم من أن تقرَّ عينك بابنك ، أن تراه طائعاً لله ، مصلياً ، وقوراً ، ذا سمتٍ حسن ، يحبُّ الله ورسوله ، يسعى في طاعة الله ورسوله ، إذاً هذا تعليمٌ لنا ، والقضية قضية سؤال ، لم يفعل هذا النبي العظيم إلا شيئاً واحداً أنه سأل المولى جلَّ وعلا ، وانتهى الأمر ، لم يفعل شيئاً ، سأل ربَّه ، وربُّ زكريَّا هو ربنا ، وربُّ زكريَّا الذي استجاب له معنا ، يستجيب لنا .

إذاً ليس المقصود من هذا الدرس أن نستمع إلى الأحداث ، والمواقف ، والعقدة ، والحل ، وما كان ، وكيف كان ، هذه كلُّها ليست معنيةً في هذا الدرس ، المعني أن ندعو ربنا ، وأن نسلك الطريق التي سار بها هذا النبي الكريم .

والذي أريد أن أؤكد عليه أنَّ كلمة (رب) التي وردت في هذه السورة تشير إلى أن الرب هو الممدّ ، كما قلت لكم من قبل : هناك نعمة الإيجاد ، وهناك نعمة الإمداد ، وهناك نعمة الإرشاد ، فهذا الهواء من ربنا ، لولا الهواء لمات العِباد ، وهذا الماء الذي نشربه ، وهذه الأمطار التي تنزل من السماء إنما هي رحمةٌ من الله عزَّ وجل ، فكلَّما رأيتَ نعمةً ، أو عاينتَ رحمةً تذكَّر أن الله سبحانه وتعالى هو الذي سخَّره لك ، وبين المؤمن وبين المُشرك هذا هو الفرق ، المشرك يقول :

﴿ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) ﴾

[ سورة القصص ]

بينما المؤمن يعزو ذلك إلى الله عزَّ وجل . وفي درسٍ قادمٍ إن شاء الله تعالى ننتقل إلى قصَّة السيدة مريم الصّدّيقة .

 والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور