وضع داكن
29-03-2024
Logo
الدرس : 3 - سورة مريم - تفسير الآيات 38 - 59 سيدنا عيسى عليه السلام عبدُ الله ورسولُه
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين . 

 

عيسى عليه السلام عبدُ الله ورسولُه :


أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع الدرس الثالث من سورة مريم .

وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى : ﴿ ذَلِكَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ .. هذه هي الحقيقة ، هذا هو واقع الأمر ، كلُّ الذي يُدَّعى ويُقال عن هذا النبي العظيم لا أصل له .. ﴿ ذَلِكَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ﴾ .. هذا يستحيل في حقِّ الله أن يكون له ولد ، لأنه غنيٌّ عن الولد ، الولد يُتَّخَذُ عادةً لتخليد الذكر ، والولد يُتَّخذ عادةً ليعين أباه في سنِّ الضعف ، والله سبحانه وتعالى قويٌ ، غنيٌ ، أبديٌّ ، سرمدي ، واحدٌ ، أحدٌ ، فردٌ ، صمدٌ .. ﴿ مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ أمرُ الله بين الكاف والنون ﴿ وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ﴾ أي حينما قال هذا النبي الكريم يوم كان صغيراً : ﴿ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصْانِي بِالصّلاةِ والزَّكَاةِ مَا دُمْت حَيّاً * وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً﴾ .

﴿ وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ ﴾ اليهود اتهموا هذه السيدة الصدِّيقة البتول بالزنا ، والنصارى قالوا : هذا ابن الله ﴿ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ كيف كذبوا على الله ، وكيف قالوا على الله من دون علمٍ ، ولا هدىً ، ولا كتابٍ مبين .

 

الشقي من عرف الحقيقة بعد فوات الأوان : 


﴿ أَسْمِعْ بِهِمْ ﴾ هنا وصلنا بالضبط ﴿ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ .

في اللغة العربية صيغتان قياسيَّتان من صيغ التعجُّب ، تقول : ما أعدل القاضي ! وأعدِل به ! ما أفعله ! وأفعِل به ! فصيغة أَفْعِلْ به صيغةٌ من صيغ التعجُّب ، فالله سبحانه وتعالى يقول : ﴿ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ ﴾ متى ؟ ﴿ يَوْمَ يَأْتُونَنَا ﴾ أيْ ما أشدَّ سمعهم ! وما أشدَّ بصرهم ! ولكن بعد فوات الأوان ، يوم كان ينفعهم سمعهم وأبصارهم كانوا صُماً بكماً عُمياً ، و يوم لا ينفعهم سمعهم وأبصارهم ﴿ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ ﴾ هذا هو الشقي ، يعرف الحقيقة بعد فوات الأوان ، الطالب الكسول يفتح الكتاب ليقرأ الإجابة عن السؤال بعد الامتحان ، بعد أن نال الصفر ، ما قيمة فهمك لهذا الكتاب الآن ؟ ما قيمة هذا الفهم وهذه القراءة ؟ فالله سبحانه وتعالى يقول : ﴿ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ ﴾ أي ما أشدَّ سمعهم ! وما أشدَّ بَصَرَهُم ! وهذا يؤيِّده قوله تعالى :

﴿ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)  ﴾

[ سورة ق  ]

رؤيةٌ ثاقبة ، رؤيةٌ صحيحة ، إدراكٌ عميق ، فهمٌ دقيق ، كشفٌ للحقائق ، متى ؟ بعد فوات الأوان ﴿ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ ﴾ ليتَهم أبصروا هذه الحقيقة وهم في الدنيا ، ليتهم عرفوا ربهم وهم في أَوْجِ قوَّتهم ، يوم كان من الممكن أن يُصَحَّح كل شيء ، وأن يُفتَحَ مع الله صفحة جديدة ، ليتهم سمعوا وأبصروا يوم كانوا أحياء بيد هم الدرهم والدينار ، به يستطيعون التقرُّب إلى الله عزَّ وجل ، به يستطيعون تلافي أغلاطهم ، به يستطيعون تكفير سيّئاتهم ، ليتهم سمعوا وأبصروا يوم كانوا في الدنيا ، حينما كانوا مخيَّرين ، لهم حريَّة الاختيار ، أما وقد سُلِبَت منهم هذه الحريَّة ، فما قيمة سمعهم وأبصارهم ؟ هذه النقطة مهمة جداً ، الإنسان في الدنيا باب التوبة مفتوح ، الأبواب كلُّها مفتَّحةٌ إلى الله عزَّ وجل ، الأبواب كلُّها مفتَّحةٌ على مصاريعها في الدنيا ، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام يقول :

(( عن عبد الله بن عباس قال : قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لرجلٍ وهو يَعِظُه : اغتنِمْ خمسًا قبل خمسٍ : شبابَك قبل هَرَمِك ، وصِحَّتَك قبل سَقَمِك ، وغناك قبل فقرِك ، وفراغَك قبل شُغلِك ، وحياتَك قبل موتِك.   ))

[ أخرجه المنذري الترغيب والترهيب إسناده صحيح أو حسن أو ما قاربهما  ]

وما مضى فات ، والمؤمَّل غيب ، ولك الساعة التي أنت فيها ، لا تملك إلا هذه الساعة ، الساعة التي ستأتي لا تعرف ما هي ، وأين أنت منها ، هل نحن فوق الأرض أم تحتها ؟ في الساعة التي تَلي لا نعرف هل نحن أحياء نُرْزَق أم أموات ؟ والساعة التي مضت الحديثُ عنها مضيعةٌ للوقت ، مضت ومضت ، وليس لنا إلا هذه الساعة التي نحن فيها ، يومٌ مفقود ، ويومٌ مشهود ، ويومٌ مورود ، ويومٌ موعود ، ويومٌ ممدود ، فاليوم المورود ، والموعود ، والممدود هذه الأيَّام الثلاث متوقفةٌ على اليوم المشهود ، إذاً : ﴿ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ ﴾ ما أشدَّ سمعهم ! وما أشدَّ بصرهم ! لقد كُشِفَ الغطاء ، وعرفوا الحقيقة ، وتبيَّن كل شيء ، وتبين أن الله عزَّ وجل هو الحقُّ المبين ، وأنه لا إله غيره ، وأن الجنَّة حق ، وأن النار حق ، وأن الأنبياء حق ، وكل هذا قد عُرِفَ ، ولكن بعد فوات الأوان ﴿ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا ﴾ ليتكم سمعتم وأنتم في الدنيا ، ليتكم أبصرتم الحقائق وأنتم أحياء ، بابُ التوبة مفتوح ، بابُ الاستقامة مفتوح ، بابُ العمل الصالح مفتوح ، بابُ العلم مفتوح ، بابُ التقرُّب إلى الله مفتوح .. ﴿ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ ﴾ .

 

العجب علينا نحن البشر أما التعجُّب على الله عزَّ وجل فلا يجوز :


لكنَّ بعض المفسِّرين يقول : لا يجوز التعجُّب على الله عزَّ وجل ، ما هو العجب ؟ نحن قلنا : هذه صيغةٌ مِن صيغ التعجب ، هكذا العرب يقولون : ما أعدل القاضي ! وأعدِل به ! ما أجمل السماء ! وأجْمِل بها ! ما أفعله ! وأفعِل به ! هذا يجوز علينا نحن البشر ، لأن الشيء العجيب هو الشيء الذي يلفت النظر ، ولا تعرف أسبابه ، فإذا ظهر السبب بَطلَ العجب ، أما على الله عزَّ وجل فليس هذا بعجيب ، لذلك هذا العجب ينتابنا نحن ، أيْ ربنا عزَّ وجل يصف عجبنا يوم القيامة كيف يشتدُّ سمعنا وبصرنا ولا حيلة لنا ، ويوم كنَّا في الدنيا لا سمع ، ولا بصر ، والحِيَل كلُّها بين أيدينا .

 

طلب العلم الديني فرض عينٍ على كل مسلم :


﴿ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ أي ما من حالةٍ قبيحةٍ بالإنسان ، وحالةٍ بشعةٍ بالإنسان ، وحالةٍ مُزريةٍ بالإنسان ، وحالةٍ مجحفةٍ بالإنسان كأن يكون جاهلاً ، الجهل عدو الإنسان ، والعلم فرض عينٍ على كل مسلم ، طلب العلم فريضةٌ على كل مسلم ، فرض عينٍ ، فقد يقول قائل : أنا مهندس ، أنا طبيب ، أنا تاجر ، أنا مُزارع ، أنا مهندس زراعي ، لا شأن لي بالعلم الديني ، أنا اختصاصي غير هذا ، لا ، هذا كلامٌ مردود ، طلب العلم الديني فرض عينٍ على كل مسلم ، يجب أن تعلم الحقائق التي يجب أن تُعْلَم بالضرورة ، وإلا فقد قصَّرت في حق نفسك ، وظلمتها ، وأوردتها المهالك ، لأنه ما مِن مأساةٍ إلا وراءها معصية ، وما من معصيةٍ إلا وراءها جهل ، الجهلُ يؤدي إلى المعصية ، والمعصية تؤدي إلى المأساة ، فلذلك إذا أردت أن تسلم في الدنيا فاطلب العلم ، وطبِّق العلم حتى تسعد في الدنيا والآخرة . 

 

إياك مِن يوم الحسرة :


﴿ وَأَنْذِرْهُمْ ﴾ .. يا محمَّد ، أنذر قومك ﴿ يَوْمَ الْحَسْرَةِ ﴾ يوم الحسرة من أسماء يوم القيامة ، يوم الحسرة ، لأن الإنسان تأكل قلبَه الحسرة ، كان في الدنيا قد سعى ، وجمع الدرهم والدينار ، وفجأةً أصبح من أهل القبور ، فأيقن أن الذي جمعه لم ينفعه شيئاً ، كان يظنُّ أن المال كلُّ شيء فأفنى عمره في تحصيله وجمعه ، فلمَّا جاءت المَنِيَّة عرف أن المال شيء ، ولكنَّه ليس كل شيء ، وأن كل شيء هو الإيمان ، معرفة الواحد الديَّان ، مِن هذا يأتي الندم ، أي :

لا يعرف الشوق إلا مَن يكابده           ولا الصبابة إلا من يعانيها

 ***

الحسرة لا يعرفها الإنسان إلا إذا ضيَّع شيئاً ثميناً في الدنيا لتصرُّفٍ ساذجٍ جاهل ، يقول : الحسرة تأكل قلبي ، كيف ضيّعت هذه الزوجة ؟ كيف فرَّطت بها ؟ كيف ضيَّعت هذا البيت ؟ كيف أحجمت عن شراء هذه البضاعة ؟ إذا كان شيءٌ ماديٌّ يُحصَّل في الدنيا مرَّةً ثانية ، وثالثة ، ورابعة ، وضاع منك تتحسَّر عليه ، فكيف إذا عرف الإنسان أن الآخرة كلَّها الأبد كلُّه ضاع ؟ .." فو الذي نفس محمدٍ بيده ما بعد الدنيا من دار إلا الجنَّة أو النار " ﴿ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ ﴾ فهؤلاء الذين انغمسوا في الدنيا سيتحسَّرون على أنهم ضيَّعوا عمرهم سدى ..

﴿ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) ﴾

[ سورة الزمر ]

﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27)  ﴾

[  سورة الفرقان  ]

العضُّ على اليدين ، والحسرة في القلب ، والندم ، و ..

﴿ رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ(2) ﴾

[  سورة الحجر  ]

هذه الآيات كلُّها تؤكِّد أن الذي لم يعرف ربه في الدنيا ، ولم يستقم على أمره ، ولم يتقرَّب إليه ، ولم يتعلَّم العلم الذي ينجيه من أهوال يوم القيامة سوف يواجه يوم القيامة حالةً نفسيَّةً لا توصف ، عبَّر الله عنها بكلمةٍ واحدة هي يوم الحسرة ، ﴿ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ ﴾ وما من شعورٍ مسعدٍ كأن يأتي الموت وقد استعدَّ الإنسان له أتمّ استعداد ، وقد عرف ما له وما عليه ، وقد أدَّى ما عليه لله عزَّ وجل ، عَبَدَهُ ، وأطاعَه ، وأفنى عمره في طاعته ، وفي التقرُّب منه ، فجاء الموت فكان من السُعداء ، لذلك متى يخشى الإنسانُ الموتَ ؟ إذا عَمَّر دنياه ، وخَرَّب آخرته ، متى يخشى الموت ؟ إذا كان يقْدُمُ على حياةٍ لا يعرف عنها شيئاً ، متى يخشى الموت ؟ إذا حمل من الأوزار ما لا يطيق ، لذلك أقْلِل من الذنوب يسهل عليك الموت ، أقلل من الشهوات يسهل عليك الفقر ، أرسل مالك أمامك يسعدك اللحاق به .

 

يوم الحسرة هو يومُ القضاءِ :


﴿ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ ﴾ .. إذا ارتكب مجرمٌ جريمةً ، واستحقَّ الإعدام ، وصُدِّق الحكم ، وسيق للتنفيذ ، وهو يصعد درجات المشنقة ، بكاؤه كضحكه ، كرجائه ، كدعائه ، كتوسله ، كلُّها سيَّان .. ﴿ قُضِيَ الْأَمْرُ ﴾ الحكم مبرم ، ومصدَّق ، والتنفيذ بعد دقائق ، فهذه المشكلة أن الإنسان في الدنيا الأمور تُصحَّح ، الأخطاء تُغْتَفَر ، الذنوب تغتفر ، المعاصي تُسْتَر ، الحقوق تؤدَّى ، المظالم تُسَوَّى ، كل شيءٍ في الدنيا له حل ، أما إذا جاء الموت ، وخُتِمَ العمل فليس هناك من حل أبداً ..﴿ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ ﴾ انتهى الأمر ، هذه ساعة الأمر المبرم ..

﴿ أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) ﴾

[  سورة الزخرف  ]

هم اتخذوا قراراً بأن الدين لا يُجدي في هذه الحياة ، هكذا أبرموا أمراً .

 

غفلة الناس عن يوم القيامة وغرورهم بمتاع الدنيا :


إذاً حينما يأتون يوم القيامة ﴿ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ .. كانوا في غفلةٍ عن هذا ، كانوا في غفلةٍ عن يوم القيامة ، عن هذا اليوم الرهيب ، عن الطامة ، عن الواقعة ، عن يوم الحسرة ، عن يوم الدين ، عن يوم الجزاء ، عن الصَّاخَّة ، هذه كلُّها أسماء ليوم القيامة ﴿ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ لم يؤمنوا بالله عزَّ وجل ، ولم يؤمنوا باليوم الآخر ، فغفلوا عنه ، فانغمسوا في شهواتهم ، فجاءهم الموت فجأةً ، فأصابتهم الحسرة ..

﴿ فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)  ﴾

[ سورة المدثر ]

يومٌ عسير حينما يُساق الإنسان ليلقى جزاء عمله ، هذا في الدنيا عسير فكيف في الآخرة ؟ في الدنيا المحامون ، والخروج بكفالة ، والوسائط ، والقاضي قد يكون منحازاً إلينا ، هناك أسباب كثيرة تخفِّف من وطأة هذه الساعة ، أما يوم القيامة فالله سبحانه وتعالى هو الحكم الفصل بين العباد .

 

كل شيء لله ملكاً وتصرفاً ومصيراً :

 

﴿ إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ﴾ أي علاقة هذه الآية ﴿ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ لماذا هم لم يؤمنوا وكانوا في غفلة وانغمسوا في الشهوات ؟ لأن الدنيا كانت بين أيديهم ، إنهم فرحوا بها ، افتخروا بها ، تاهوا بها على عباد الله .

﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)﴾

[  سورة الأنعام ]

فرحوا بما أوتوا ، قارون قال :

﴿ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) ﴾

[ سورة القصص ]

﴿ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)  ﴾

[ سورة القصص ]

إن هذه الدنيا دار ابتلاء ، دار التواء لا دار استواء ، ومنزل ترح لا منزل فرح ، فمن عرفها لم يفرح لرخاء ، ولم يحزن لشقاء ، من صفات الكفَّار أنهم يفرحون بالدنيا ، يفرحون بها ، تمتلئ قلوبهم فرحةً بنيلها ، فلذلك هذه الدنيا التي فرحوا بها ، واطمأنوا إليها ، وركنوا إليها ، وسكنوا إليها ، وافتخروا بها ، واعتزوا بها هذه لن تدوم لهم ، والدليل : ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا ﴾ .

هذا البيت الذي أمضيت سنواتٍ طويلة في تزيينه ليس لك ، وهذه الدكَّان التي تعلَّق القلب بها ليست لك ، وهذه المركبة الأنيقة التي تتيه بها على الناس ليست لك ، سيرثها الله منك ، لابدَّ من أن تتركها ، كل شيءٍ في الدنيا يُتْرَك ، ولا يدخل معك في القبر إلا عملك ، فلذلك هنا لماذا هم في غفلةٍ ؟ لماذا هم لا يؤمنون ؟ لماذا سيتحسَّرون ؟ لأنهم منغمسون في الدنيا ، والدنيا العريضة التي بين أيديهم ليست لهم ، ليست على الدوام لهم ، إنها لهم لوقتٍ محدود ، لمن هذا القطيع من الإبل ؟ قال : لله في يدي ، الآن في يدي ، ادخلْ في أحد أسواق دمشق ، هذه الحوانيت أصحابها الحاليون جاؤوا بعد أصحابٍ لها سابقين ، وأصحابها السابقون جاؤوا بعد أصحابٍ لها سابقين ذلك ، وهكذا ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا ﴾ وفي النهاية هذه الأراضي الغالية الثمن ، وهذه البيوت الفَخمة ، وهذه المركبات الأنيقة ، وهذه البساتين الغَنَّاء ، وهذه الأموال الوفيرة إنها ليست لأصحابها ، إنها لله عزَّ وجل .

(( عن أسامة بن زيد : كُنَّا عِنْدَ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ ، فأرْسَلَتْ إلَيْهِ إحْدَى بَنَاتِهِ تَدْعُوهُ ، وَتُخْبِرُهُ أنَّ صَبِيًّا لَهَا ، أَوِ ابْنًا لَهَا في المَوْتِ ، فَقالَ لِلرَّسُولِ : ارْجِعْ إلَيْهَا، فأخْبِرْهَا : أنَّ لِلَّهِ ما أَخَذَ وَلَهُ ما أَعْطَى ، وَكُلُّ شيءٍ عِنْدَهُ بأَجَلٍ مُسَمًّى، فَمُرْهَا فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ، فَعَادَ الرَّسُولُ ، فَقالَ : إنَّهَا قدْ أَقْسَمَتْ لَتَأْتِيَنَّهَا ، قالَ : فَقَامَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ ، وَقَامَ معهُ سَعْدُ بنُ عُبَادَةَ ، وَمُعَاذُ بنُ جَبَلٍ ، وَانْطَلَقْتُ معهُمْ ، فَرُفِعَ إلَيْهِ الصَّبِيُّ وَنَفْسُهُ تَقَعْقَعُ كَأنَّهَا في شَنَّةٍ ، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ ، فَقالَ له سَعْدٌ : ما هذا يا رَسولَ اللهِ ؟ قالَ : هذِه رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ في قُلُوبِ عِبَادِهِ ، وإنَّما يَرْحَمُ اللَّهُ مِن عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ . ))

[ صحيح مسلم ]

﴿ إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ﴾ لنحاسبهم على أعمالهم ، هذه الآيات جاءت بين قصَّتين ، بين قصَّة مريم الصدِّيقة ، وبين قصَّة سيدنا إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام .

 

إبراهيم عليه السلام صدّيق نبي :


 ﴿ وَاذْكُرْ ﴾ يا محمَّد ﴿ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ ﴾ .. إنَّ العرب جاؤوا من نسله ، وهم يعتزون به ، وهم ينتمون إليه ، وإبراهيم هذا لم يكن مشركاً ، بل كان مؤمناً موحِّداً مسلماً .. ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً ﴾. . الصِدِّيق صيغة مبالغة للصادق ، والصادق هو الذي يفعل ما يقول ، ويقول ما يفعل ، ليس هناك ازدواجيةٌ في حياته ، ليس هناك مسافةٌ بين أقواله وأفعاله ، يفعل ما يقول ، ويقول ما يفعل ، أي أنه إذا تكلَّم ينطق بالحق ، وإذا فعل يأتي فعله مصداقاً لقوله ، هذا هو الصدّيق ، وهذه الصفات العالية التي اتصف بها الأنبياء والمرسلون ، المؤمنون مكلَّفون أن يتَّصفوا بها لقول النبي عليه الصلاة والسلام : عن أبي هريرة رضي الله عنه : 

(( يا أيُّها النَّاسُ إنَّ اللَّهَ طيِّبٌ لا يقبلُ إلَّا طيِّبًا ، وإنَّ اللَّهَ أمرَ المؤمنينَ بما أمرَ بِه المرسلينَ ، فقالَ : يَا أيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ، وقالَ : يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ، قالَ وذَكرَ الرَّجلَ يُطيلُ السَّفرَ أشعثَ أغبرَ يمدُّ يدَه إلى السَّماءِ يا ربِّ يا ربِّ ومطعمُه حرامٌ ، ومشربُه حرامٌ ، وملبسُه حرامٌ ، وغذِّيَ بالحرامِ فأنَّى يستجابُ لذلِك ؟ ))

[  صحيح الترمذي: خلاصة حكم المحدث : حسن ]

فيجب أن نكون صادقين ، إذا تكلَّمنا فكلامنا ينبع من حقيقة لا من دجل ، لا من تزوير ، لا من إخفاء ، لا من تحوير ، لا من تبديل ، وإذا فعلنا يجب أن يكون فعلنا مصداقاً لعقيدتنا ، حيثما كان القول مصدِّقاً للعمل ، وحيثما كان العمل مصدِّقاً للقول فهذه هي الصدِّيقية .. ﴿ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً ﴾ ، قال عليه الصلاة والسلام :

(( يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْخِلالِ كُلِّهَا إِلا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ . ))

[  ضعيف الترغيب  الترمذي: خلاصة حكم المحدث : ضعيف : أخرجه أحمد واللفظ له، وابن أبي شيبة في ((المصنف)) ، وابن أبي عاصم في ((السنة)) ]

 إذا وقع الإنسان في الكذب فكأنما خرج من إيمانه ، ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً ﴾ كلمة النبي لها معنيان ، إنه تَنَبَّأ بالغيب لما يوحى إليه ، تنبأ بالحق الذي أُوحي إليه ، والنبي من الشيء المرتَفَع ، أيْ مرتبةٌ نفسيةٌ رفيعة ، ومرتبةٌ علميَّةٌ رفيعة .

 

تلطُّف إبراهيم وأدبُه مع أبيه :


﴿ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) ﴾ القول الأوَّل ، والثاني ، والثالث ، والرابع ، أربعة موضوعات ، أولاً : ﴿ يَا أَبَتِ ﴾ أساسها يا أبي ، هذه التاء جاءت نيابةً عن ياء المُتَكَلِّم ﴿ يَا أَبَتِ ﴾ فيها تحبُّب ، فيها تلطُّف ، فيها مودَّة ، فيها تواضع ، وإذا أردْتَ أيها الأخُ المؤمن أن تنصح أباك فكن غايةً في التلطُّف ، والأدب ، والمودّة ، والاحترام ، لأن الأب أبٌ ، والابن ابنٌ ، أمَّا أن يكون الابن متعالياً ، أو قاسياً ، أو مُقَرِّعاً لأبيه ، هذا يستحيل أن يؤدِّي هذا الموقف إلى الهداية ، ﴿ يَا أَبَتِ ﴾ نبيٌّ عظيم أبو الأنبياء ، ومع ذلك وقف من أبيه المُشرك وقفةً فيها أدبٌ رفيع .

 

إنكار إبراهيم عليه السلام على أبيه عبادته الأصنام التي لا تسمع ولا تبصر :


﴿ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا ﴾ .. موقفٌ غير معقول ، موقفٌ غير مقبول ، موقفٌ غير منطقي ، موقفٌ غير واقعي ، أن تأتي إلى صنمٍ من حجر فتعبده من دون الله ، أهو يسمعك إذا ناديته ؟ لا والله ، أهو يراك إن فعلت شيئاً يرضيه ؟ لا والله ، أهو يستجيب لك إن استغثتَ به ؟ لا والله ، أهو يقدِّم لك الحواس ؟ يقدِّم لك الماء من السماء ؟ ينبت لك الزرع والزيتون ؟ يَخْلُقُ في بطن زوجتك هذا الغلام اللطيف ؟ لا والله ..

﴿ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59)  ﴾

[  سورة الواقعة  ]

ماذا فعل هذا الصنم ؟ ﴿ لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً ﴾ إذا تعلَّقت بإنسان له سمعٌ ، وله بصر ، وله فكرٌ ، وله إرادة ، وهو أقوى منك ، إذا تعلَّقت به فهذا إشراك ، لأن هذا الإنسان مُضَّطَرٌ إلى مقومات وجوده كاضطرارك أنت ، لو أن الله عزَّ وجل قطع عنه الإمداد ثانيةً لأصبح جثَّةً هامدة ، إذا كنت منهياً عن أن تعبد إنساناً أرفع منك شأناً ، وأقوى منك ، يسمع ويبصر ، ولكنَّه في النهاية عبدٌ مفتقرٌ في وجوده إلى الله عزَّ وجل ، فإنك لا تُسَمَّى منطقياً ، ولا عاقلاً ، ولا واقعياً ، إذا أطعت إنساناً يبدو لك أنه عظيم ، يبدو لك أنه قوي ، يبدو لك أنه يسمع ويُبْصر، لأن هذا الإنسان مفتقرٌ في وجوده إلى الله عزَّ وجل كافتقارك أنت ، فكيف تعبد صنماً لا حسَّ له ؟ ولا سمع له ؟ ولا بصر له ؟ ولا إدراك له ؟ ولا حركة له ؟ ولا نفع منه ؟ ولا ضرر من إغضابه ؟ شيءٌ سخيفٌ جداً ﴿ يَا أَبَتِ لِمَ ﴾ استفهام إنكاري .. ﴿ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً ﴾ فكِّر في هذه الأصنام.

 

دعوة إلى الله في منتهى الأدب واللباقة :


﴿ يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ ﴾ .. منتهى الأدب ، لم يقل له : يا أبتِ إني عالمٌ ، وأنت جاهل ، إنني أعلم كل شيء وأنت لا تعلم شيئاً ، لا ، قال : ﴿ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ ﴾ جاءني بعض العلم الذي لم يأتك .. يُروى أنَّ رجلاً رأى عالماً شهيراً فهاله تجمُّع الناس حوله ، وأراد أن يصغِّره في عيون تلاميذه ، فجلس في مجلسه ، وبعد انتهاء الدرس قال له : يا هذا ، هذا القول الذي تقوله ما سمعنا به ، فمِن أين جئت به ؟ ، قال : " يا سيدي أو حصَّلت العلم كلَّه ؟ إذا قال : نعم ، فقد خالف نصَّ الآية الكريمة :

﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)  ﴾

[  سورة الإسراء ]

قال :  لا ، قال : فهذا من الشطر الذي لم تُحَصِّله ، سيدنا إبراهيم كان في منتهى الأدب مع أبيه . 

 

وجوب اتباع الأنبياء مطلقاً :


﴿ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي ﴾ .. العلماء استنبطوا من هذه الآية أن العالِم يجب أن يُتَّبَع في كل شيء ، ليس في الدين فقط ، في أية مصلحة ، العالِم هو الذي يُتَّبَع ، والأقلُّ علماً هو الذي يجب أن يتبع الأكثر علماً ، في الهندسة ، في الطب ، في أي مجال ، الكلمة الأولى للأعلم ، وفي الدين كذلك .. ﴿يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي ﴾ .. أنا أشعر أن هذه الكلمة في منتهى الأدب ، في منتهى التلطُّف ، وهذا درسٌ لنا ، قد تُضطر أن تناقش إنساناً أكبر منك ، قد يكون عمَّك ، أو أباك ، أو من هو أعلى منك في العمل ، أكبر منك سنَّاً ، وأعلى قدراً ، وهو واقعٌ في غَلَطٍ شديد ، واقعٌ في انحرافٍ خطير ، يتكلَّم كلاماً باطلاً ، أنت إن أردت نُصْحَهُ إيَّاك أن تأتيه مِن فوق ، لن يستجيب لك ، إيَّاك أن تقسو عليه بالكلمات ، تلطَّف معه ، كأنني سمعت كذا وكذا ، وكأنني أريد أن أستفهم منك ، اجعلْ نُصحك له ، ووعظك إيَّاه على شكل سؤالٍ وجواب . فهذا النبي العظيم الموحى إليه ، أبو الأنبياء يتلطَّف مع أبيه المشرك ، ويقول له : ﴿يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي ﴾ ، وشيءٌ آخر ، ليس هناك اتّباعٌ إلا للعالِم ، أيْ طاعة الأب طاعة مطلقةً عمياء شيء غير إسلامي ..

عن النواس بن سمعان الأنصاري :

(( لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ . ))

[  هداية الرواة:  خلاصة حكم المحدث : صحيح : أخرجه البغوي في ((شرح السنة))  ]

﴿ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً ﴾ .. إن اتبعتني سعدتَ في الدنيا والآخرة ، سرتَ على صراطٍ مستقيم ، عرفتَ ما لك وما عليك ، عرفتَ الذي خلقك ، عرفتَ الذي كَوَّنَك . 


  الشيطان هو من يسوّل للإنسان عبادة الأصنام :


﴿ يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ﴾ هو يعبد هذه الأصنام ، فلِمَ قال له سيدنا إبراهيم : ﴿ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ﴾ ؟ قال : لأن الشيطان هو الذي يسوِّل للإنسان أن يعبد الأصنام ، الشيطان إذا سوَّل لهم أن يعبدوا الأصنام فإنه يبعدهم عن الواحد الديَّان .. إحدى القبائلِ العربيَّة كانت تعبد صنماً من تمر ، فلمَّا جاعت أكلته ، فكان يقال عنها : أكلت ودّ ربَّها ، ومرَّة رأى شاعر صنماً وثعلبٌ يبول على رأسه ، فقال :

أربٌّ يبول الثعلبان برأسه ‍‍‍؟‍!!              لقد ذلَّ من بالت عليه الثعالب

***

مستحيل ، كيف يُعبد هذا الصنم من دون الله ؟ 

 

سبب كلّ شقاء مخالفة الله وعصيانه :


﴿ يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً﴾ .. أيْ سبب كل شقاء الشيطان أنه عصا الرحمن ، وحينما تعصي إنساناً منحرفاً فربما كانت معصيتك له هي الصواب ، ولكن الشيطان عصى الرحمن ، وربنا عزَّ وجل ذكر هذا الاسم لأنه جامعٌ للأسماء الحسنى ، كأنَّه اسم الله الأعظم ، " الله الرحمن " ..

﴿ قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110) ﴾

[  سورة الإسراء ]

بعضهم يقول : اسم الله الأعظم ، لأن قدرته فيها رحمةٌ ، وحكمته فيها رحمةٌ ، والرحمة تَجمع بين أسمائه كلِّها .  

 

مراحل إنكار إبراهيم على أبيه عبادته الأصنام :


﴿ يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً ﴾ إذاً أولاً : كيف تعبدُ هذه الأصنام التي لا تسمع ولا تبصر ولا تغني عنك من الله شيئاً ؟!

ثانياً : يجب أن تتبعني لأنه قد جاءني من العلم ما لم يأتك .

وثالثاً : ﴿ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً ﴾ فإذا عبدت الشيطان الذي عصى الرحمن فعبادته معصيةٌ للرحمن ، أن تطيع العاصي فهي معصية ، من المعصية أن تطيع العاصي ، فالشيطان عاصٍ للرحمن ، فإذا أطعته فقد عصيت الله عزَّ وجل .

 

كلّ أنواع العذاب على وجه الأرض مبعثها الرحمة :


﴿ يَا أَبَتِ﴾ الآن خوَّفه ﴿ يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً ﴾ أي المَسُّ ؛ أن يمسَّك عذابٌ من الرحمن ، لِمَ لمْ يقل ربنا عزَّ وجل : إني أخاف أن يمسَّك عذابٌ من الله ؟ هذه إشارة إلى أن كل المصائب على وجه الأرض ، كل العذاب ، كل أنواع العذاب على وجه الأرض إنما في الأساس مبعثها الرحمة لقوله تعالى :

﴿ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)  ﴾

[ سورة الأنعام ]

تقتضي رحمته ألا يردّ بأسه عن القوم المجرمين ﴿ يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ ﴾ كيف أن المريض الذي التهبت عنده الزائدة ، كيف يُفْتَحُ بطنه وتُقطَّع شرايينه وتسيل الدماء على جسده ؟ وكيف يُعطى الأدوية المسكِّنة لوجود الآلام المُبَرِّحة ؟ كل هذا بدافع الرحمة ، هذا شيءٌ ظاهر يعرفه القاصي والداني ، كذلك ربنا سبحانه وتعالى كُلّ شيءٍ وقع على وجه الأرض محضُ رحمةٍ ، ومحضُ حكمةٍ ، ومحضُ عدالةٍ ، ومحضُ علمٍ ، في كل شيءٍ وقع على وجه الأرض علمٌ ، ورحمةٌ ، وعدالةٌ ، وحكمةٌ ، وهكذا : ﴿ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً ﴾ أي حينما يستمع الأب مثلاً إلى كلمةٍ نابيةٍ من ابنه لا يسعه إلا أن يؤدِّبه ، وقد يوقع به ضرباً مؤلماً لئلا يعود لمثل هذه الكلمة ، فهل نقول : الأب انطلق في هذا الضرب من قسوةٍ في قلبه ؟ لا ، من رحمةٍ لهذا الابن من أن يكبر على عاداتٍ وأخلاقٍ رَديئة سيِّئة ، فغالباً عند الإنسان الذي يتسم بقلبِ كبير ، أعماله التي تبدو للآخرين قاسيةً إنما مبعثها الرحمة ، أما ربنا سبحانه وتعالى:

﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)  ﴾

[  سورة آل عمران : 26 ]

أبداً ، ﴿ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ ﴾ :

﴿ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) ﴾

[  سورة الأعراف  ]

 

موقف الإنسان إن أصابه عذاب من الرحمن :


﴿ يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً ﴾ إنّ الإنسان إذا أصابه العذاب من الرحمن ، إما أن يستجيب فيتوب ، وإما أن يُصِرَّ على معصيته فيوالي الشيطان ، لا أحد يعرف كيف يكون ردُّ الفعل على هذه المصيبة ، ربما ساقت هذه المصيبة الإنسان إلى مزيدٍ من الكفران ، وربما أدَّت به إلى التوبة والإحسان ، على كل قد يَمَسُّ ربنا عزَّ وجل عبداً بالعذاب فيكون للشيطان ولياً ، يواليه .

 

جواب والد إبراهيم تهديد ووعيد :


الآن تكلَّم والد سيدنا إبراهيم : ﴿ قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ ﴾ كل هذا الكلام المنطقي الواضح اللطيف لم يؤثِّر فيه .. ﴿ قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً ﴾ معنى ( لأرجمنَّك ) أي لأقتلنَّك بالرجم ، وهو قتلٌ مع إهانة إلى أن تموت ، لأضربنَّك حتى الموت ، ﴿ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً ﴾ .

 

ترفّق المؤمن ورحمته بالناس المخالفين له :


ما كان من هذا النبي العظيم إلا أن قال لهذا الأب القاسي الذي لم يفهم فحوى هذا القول ، وهذا النُصح الشديد ﴿ قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ﴾ أي لن ترى مني إلا الخير ، لن أنالك بسوء ، لن يصيبك مني إلا كل خير .. ﴿قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ﴾ أيْ مني .. ﴿ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ﴾ بعضهم قال : إن تبت ، إن تبت فسأستغفر لك ربي ﴿ إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً ﴾ .. هكذا المؤمن ، وربنا سبحانه وتعالى يقول في مكانٍ آخر :

﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) ﴾

[  سورة فصلت ]

هكذا المؤمن ﴿ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾ .. عن عبد الله بن عمر :

((  اصنَعِ المعروفَ علَى كلِّ أحَدٍ ، فإن لَم تُصِبْ أهلَه كُنتَ أنتَ أهلُهُ . ))

[ الدار قطني : لسان الميزان :  خلاصة حكم المحدث : إسناده ضعيف . ]

لا ينبغي للمؤمن أن يحقد ، ولا أن يكيل الصاع صاعين ، ولا أن يرد على السيئة بسيئة أخرى ، ولا أن يتخذ موقفاً فيه ثأرٌ لنفسه ، مَن كان كذلك ليس أهلاً أن يكون باباً لله عزَّ وجل ، من كان كذلك ليس أهلاً أن يكون داعياً إلى الله عزَّ وجل ، الدعوة إلى الله تحتاج إلى خُلُقٍ نبيل ، إلى تسامحٍ كبير ، إلى رفعةٍ في التصرُّفات ، إلى رحمةٍ في القلب ، إلى عطفٍ على الخَلْق .. إذا قال العبد : يا رب وهو راكع ، قال الله : لبيك يا عبدي ، فإذا قال العبد : يا رب وهو ساجد ، قال الله : لبيك ، فإذا قال العبد : يا رب وهو عاصٍ ، قال الله : لبيك ثم لبيك ثم لبيك ، هكذا ، هؤلاء المؤمنون الذين يدعون إلى الله عزَّ وجل يحتاجون إلى أخلاقٍ رفيعة .. ﴿ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً ﴾ هذه المواقف الأخلاقيَّة مواقف العطف ، والإحسان ، والترفُّق ربما فعلت فعل السحر .

 

صور تطبيقية للرفق واللين :

 

1 ـ مع أبي حنيفة :

أبو حنيفة رضي الله عنه كان له جارٌ مغنّ ، أقلق لياليه كلَّها ، كان يغني ويقول : أضاعوني وأي فتىً أضاعوا .. وكان يعزف على آلةٍ موسيقيةٍ ذات أوتار ، أقلق الجيران ، قُبِضَ عليه فذهب أبو حنيفة إلى المُحتسب ليتوَسَّط له ، حينما دخل هذا الإمام العظيم على المحتسب كَبُرَ عليه ذلك ، وأطلق كل من في السجن إكراماً لأبي حنيفة ، أمسك بيد جاره ، وقال له في طريق العودة : هل أضعناك يا فتى ؟ تقول : أضاعوني ، وأي فتى أضاعوا ، وقد تاب على يديه . 

2 ـ  مع مالك بن دينار :

أحد الأئمة العِظام وهو مالكٌ بن دينار كان يمشي في الطريق ليلاً ، فرأى إنساناً مخموراً يقول : الله ، فهاله أن يخرج هذا الاسم العظيم من هذا الفم النجس ، فأخذه إلى البيت ، وأنعشه ، وغسَّله ، واعتنى به ، ثم صرفه ، وذهب مالك إلى المسجد في اليوم التالي ، فرأى في المسجد إنساناً يُصلي بخشوعٍ بالغ ، ويبكي في الصلاة ، وفي الليلة ذاتها رأى مالك بن دينار  في المنام رؤيا ، وسمع صوتاً يقول له : يا مالك طهَّرت فمه من أجلنا فطهَّرنا قلبه من أجلك ، فلمَّا سأل هذا المصلي : من أنت يرحمك الله ؟ ، قال : إن الذي هداني أخبرك بحالي .

3 ـ  مع سيدنا عمر :

سيدنا عمر رضي الله عن عمر بلغه أن صاحباً له كان من أصحابه في المدينة زلَّت قدمه ، وذهب إلى الشام ، وشرب الخمر ، وعاقرها ، فكتب له كتاباً رقيقاً ، قال : أمَّا بعدُ فإني أحمد الله إليك ، غافر الذنب ، قابل التوب ، شديد العقاب ذي الطول ، فجعل هذا الصاحب يقرأ الكتاب ويبكي ، وهذا البكاء بسبب هذه الرقَّة في الكلام ، وهذا التلطُّف في الموعظة ، حمله بكاؤه على التوبة ، فلمَّا بلغ عمر رضي الله عنه أنه تاب قال : هكذا اصنعوا بأخيكم إذا ضل ، كونوا عوناً له على الشيطان ، ولا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم ﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾ .


 وجوب اعتزال أهل الكفر والإلحاد بعد ردِّهم دعوة الحقِّ :


﴿ قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً * قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً* وَأَعْتَزِلُكُمْ ﴾ .. يجب أن تعتزل أهل الكفر والعصيان ، وأهل الفسوق والفجور ، إنهم كنافخ الكير ، إن لم يحرقوا ثيابك أضرُّوك .. ﴿ وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ تدعون هنا بمعنى تعبدون ، لأن الدعاء عبادة ، أي إذا عبدتم غير الله أَعتزِلُكُمْ أنتم وما تعبدون ﴿ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً ﴾ كما قال سيدنا زكريَّا : ﴿ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً﴾ أي ما دعوتك يا ربي من قبلُ ، وشقيت بهذا الدعاء :

الله عوَّدك الجميل                      فقس على ما قد مضى

***

 

إكرام اللهِ إبراهيم عليه السلام بإسحاق ويعقوب :


﴿ فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً﴾ .. هؤلاء الله سبحانه وتعالى أكرمه بذريةٍ من الأنبياء ..﴿ وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً ﴾ أي من يوهب لسان صدقٍ عليَّا ، يتكلَّم بالحق ، فالكلمة الطيِّبة صدقة ، وبالكلمة الطيبة يرتفع بها الإنسان إلى أعلى عليين ..

﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)  ﴾

[  سورة إبراهيم  ]

 

صفات الأنبياء صفاتٌ تأخذ بالألباب :


﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً ﴾ .. عندنا في اللغة مخلِصٌ ومخلَصٌ ، إذا أخلَص العبد لربِّه ، وتجلَّى على قلبه ، ونقَّاه من كل دَرَنٍ صار مخلَصاً ، كان مخلِصاً اسم فاعل ، فصار مخلَصاً اسم مفعول ، أي خلَّصه الله من كل الشوائب .. ﴿ وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً ﴾ جعلناه نجِيَّنَا ، كليمنا .. ﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً * وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً﴾ صادق الوعد ..

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) ﴾

[  سورة الصف  ]

قد تَعِدُ ربَّك بالتوبة ، تعده بالإقلاع عن هذه المعصية ، لمَ تزِلُّ القَدَم بعدها وتفعل ما وعدَّته بتركه ؟ ﴿ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً﴾ هذه صفات الأنبياء صفاتٌ تأخذ بالألباب .. ﴿ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً﴾ مرضيّ عنه ، أين نحن من هذه الصفات ؟ سيدنا عمر يقول : عجبت لثلاث ؛ لمؤمِّلٍ والموت يطلبه ، وغافلٍ وليس بمغفولٍ عنه ، وضاحكٍ ملء فيه ، ولا يدري أساخطٌ عنه الله أم راضٍ ؟ يا ترى ألا يجدر بنا أن نسأل هذا السؤال : يا رب هل أنت راضٍ عني ؟

أحد الطائفين حول البيت الحرام قال : يا رب هل أنت راضٍ عني ؟  ، كان وراءه الإمام الشافعي فقال له : هل أنت راضٍ عنه حتى يرضى عنك ؟ ، قال : من أنت يرحمك الله ؟  ، قال : أنا محمَّد بن إدريس ، قال : كيف أرضى عنه وأنا أتمنَّى رضاه ؟ ، قال : إذا كان سرورك بالنقمة كسرورك بالنعمة فقد رضيت عنه ، وإذا رضيت عنه رضي عنك.

هذا سؤال خطير : يا ترى هل أنا عند الله مرضيٌّ ؟ هل يرضى الله عن أعمالي ؟ عن أقوالي ؟ عن تصرُّفاتي ؟ عن طريقة جمعي للمال ؟ عن طريقة معاملة زوجتي ؟ هل اللهُ راضٍ عن بيتي ؟ هل في بيتي معاصٍ بإمكاني أن أُزيلها ولم أزلها حتى الآن ؟ هل بإمكاني أن أفعل كذا ولم أفعله ؟ أين أنت ؟ أين أنت من الله عزَّ وجل ؟ هل أنت في صفِّ أوليائه أم في صف أعدائه ؟ هل أنت مع المؤيِّدين للحق أم مع المُناهضين له ؟ هل يجدك حيثما أمرك ويفتقدك حيثما نهاك أم العكس صحيح ؟ ﴿ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً ﴾ ، ﴿ وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً * وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً﴾ صدّيقاً كما قلنا : شديد التصديق للحق ، يقول ما يفعل ويفعل ما يقول ، وليس هناك مسافةٌ بين أقواله وأفعاله .

 

لكل مؤمن نصيب من الرفعة والمكانة العلية إن عرف الله واستقام على أمره :


﴿ وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً ﴾ .. ولكل مؤمن نصيب من هذه الآية ، حيثما عرفتَ الله ، واستقمت على أمره ، وأخلصت له لابدَّ من أن يرفعك الله عزَّ وجل ، لابدَّ من أن يُعلي قدرك ، لابدَّ من أن يطهِّر اسمك ، لابدَّ من أن يجعل قلوب الناس تهفو إليك . 


  من علامات المؤمن أنه إذا ذُكِرَ الله وَجِلَ قلبه واقشعر جلده :


﴿ وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً ﴾ .

﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ﴾ .. أنت في الصلاة تقول :

﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ(6)صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ  ﴾

[ سورة الفاتحة  ]

فالمغضوب عليهم هم الذين عرفوا الحقَّ وحادوا عنه ، والضالون هم الذين لم يعرفوا الحق أصلاً ، أما الذين أنعم الله عليهم فهؤلاء النبيِّون ، والصديقون ، والشهداء ، والصالحون ، فإذا قلت في كل صلاةٍ ، في كل ركعةٍ حصراً : ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ(6)صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ يقول ربنا سبحانه وتعالى : ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا ﴾ أيْ اخترنا ،  ﴿ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً ﴾ .. أي الإنسان إذا لم يبكِ لسماع آيات الله عزَّ وجل فهذه ظاهرةٌ خطيرة ، من علامات المؤمن أنه إذا ذُكِرَ الله وَجِلَ قلبه ، وإذا تليت عليه آياته زادته إيماناً ، من علامات المؤمن أنه يقشعرُّ جلده لذكر الله ، أن عينه بكَّاءَة تبكي إذا ذُكر الله .. عن عبد الله بن عباس :

(( عَينانِ لا تمَسَّهما النَّارُ : عينٌ بكت من خشيةِ اللهِ ، وعينٌ باتت تحرسُ في سبيل اللهِ . ))

[  سنن الترمذي:  خلاصة حكم المحدث : حسن البيهقي في ((شعب الإيمان))  ]

معاوية بن حيدة وابن عباس وأبو ريحانة وأبو هريرة وأنس بن مالك  :

(( ثلاثَةٌ لا تَرَى أَعْيُنُهُمُ النارَ يومَ القيامةِ : عَيْنٌ بَكَتْ من خَشْيَةِ اللهِ ، و عَيْنٌ حَرَسَتْ في سبيلِ اللهِ ، و عَيْنٌ غَضَّتْ عن مَحارِمِ اللهِ . ))

[ السلسلة الصحيحة :خلاصة حكم المحدث : صحيح بمجموع طرقه  ]

طبعاً البكاء لا يكون إرادياً ، لكنْ اجتهد في طريق الإيمان ، واجتهد في معرفة ربنا سبحانه وتعالى من أجل أن تملك قلباً رقيقاً إذا تُلِيَت عليك آيات الله تبكي ، وهذا بكاء الرحمة ، وكان الأنبياء ، والصديقون ، والشهداء ، والصالحون بكَّائين ، كلَّما تليت عليهم آيات الرحمن بكوا . 

 

حال البشرية بعد هؤلاء الذين أنعم الله عليهم :


﴿ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً * فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ﴾ هذه الوجبة الجديدة ﴿أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً ﴾ .. بكلماتٍ قليلة ، بليغة ، محدَّدة ، لخَّص الله سبحانه وتعالى حال البشرية من بعد هؤلاء الذين أنعم الله عليهم.. ﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ ﴾ قال العلماء : ليس تضييعُ الصلاة عدمَ أدائها ، ولكن عدم تحقيق مراد الله منها .

﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)  ﴾

[ سورة العنكبوت  ]

إذا لم تنهَ صلاة المؤمن عن الفحشاء والمنكر فكأنَّه ضيَّعها ..﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً ﴾ والبشريّة تلاقي الغَيّ ، والمصائب ، وفنون العذاب بسبب بعدهم عن الله سبحانه وتعالى ، ولنا عودةٌ إلى هذه الآية في الدرس القادم إن شاء الله تعالى .

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور