وضع داكن
19-04-2024
Logo
الدرس : 2 - سورة الكهف - تفسير الآيات 7 – 16 ، الابتلاء
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين . 


  الشهوات مادة الابتلاء :


أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع الدرس الثاني من سورة الكهف .

وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى : ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً ﴾ .. هاتان الآيتان تتعلقان بموضوع الابتلاء ، فالابتلاء أحد سنن الله العظمى في الدنيا ، كأن علة الخلق الابتلاء ، وكأن مجيئنا إلى الدنيا من أجل الابتلاء .

الابتلاء أن تكون أمام خيارين ، أمام شيئين ، أحدهما يرضي الله ، والثاني لا يرضيه ، تمتحن ، فالله سبحانه وتعالى أودع في الإنسان مجموعة من الشهوات :

﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)  ﴾

[  سورة آل عمران  ]

هذه الشهوات أودعها الله فينا لحكمة كبيرة ، وخلق في الأرض أشياء محببة تتوافق مع هذه الشهوات ، أودع فينا حبّ النساء ، وخلق النساء ، أودع فينا حبّ المال ، وخلق الأموال ، بمعنى الحاجات ، أودع فينا شهوة ما ، وخلق ما يلبِّيها في الأرض .

فالإنسان بين أن يأخذ من الشهوة ما أباحه الله له ، فيرقى بطاعته وشكره ، وبين أن يعرض عن الشهوة التي حرمها الله عليه ، فيرقى بمؤاثرته وصبره ، في الحالتين ترقى ، إذا تزوجت وفق ما أراد الله عز وجل ترقى بالطاعة والشكر ، وإذا أعرضت عن الحرام ترقى بالمؤاثرة والصبر ، فهذه الشهوة سبيل دخول الجنة ، ولولا الشهوات لما ارتقينا إلى رب الأرض والسماوات ، فإذا أودع الله فينا الشهوات من أجل أن يكرّمنا ، من أجل أن تسمو نفوسنا ، من أجل أن تصبح مؤهلة لتسعد بقربه إلى الأبد ، فلذلك جعل ربنا عز وجل ما على الأرض زينة لها ، ونحن نمتحن لا في كل ساعة ، بل في كل دقيقة ، كلما عَرضت لك شهوة إما أن تقول : إني أخاف الله رب العالمين ، فترقى إلى أعلى عليين ، وإما أن يسقط الإنسان تحت وطأة هذه الشهوة فيهوي بها إلى أسفل السافلين ، إذاً نحن في امتحان مستمر يؤكده قوله تعالى :

﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) ﴾

[  سورة العنكبوت  ]

الفتنة أن يُزرع فيك شهوة ، ويُعرَض عليك ما يلبيها ، فإما أن تقول : إني أخاف الله ، وإما أن يسقط الإنسان في هوة الانقياد للشهوة ، فلذلك :

﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) ﴾

[  سورة النازعات  ]

ولحكمة بالغة بالغة جداً جعل الله عز وجل بعض الطاعات مما ينفرد بها الدين فقط ، أي أمرك أن تغض بصرك عن محارم الله ، وليس في الأرض كلها تشريع يُحرم ذلك ، فإذا غضضت بصرك عن محارم الله فهذا لا يفسر إلا بالإخلاص لله ، مستحيل أن تغض بصرك خشيةً من إنسان لأن بني البشر لا يُحرمون ذلك .

ولحكمة بالغة أن الدين انفرد ببعض الأوامر ، فمن طبقها فهذا مؤشر يقيني قطعي على أنه مخلص لله عز وجل .   

 

الإنسان ممتحن في كل لحظة من حياته :


﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى*فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾ .. إذاً : ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا﴾ .. الدنيا تغر ، وتضر ، وتمر ، خذ من الدنيا كما شئت ، فعن حمد بن محمد الغزي : خُذْ ما تشاءُ مِنَ الدنيا وخُذ بقدرِهِ همًّا .

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه : 

((   دعوا الدنيا لأهلِها ، من أخذَ من الدنيا فوقَ ما يَكْفِيه أخذ حتْفَه و هو لا يشعرُ. ))

[  ضعيف الجامع : خلاصة حكم المحدث : ضعيف   ]

وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ :

(( مرَّ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بشاةٍ ميتةٍ قد ألقاها أهلُها فقال : والذي نفسي بيدِه للدُّنيا أهونُ على اللهِ من هذهِ على أهلِها . ))

[ أحمد شاكر :المسند لشاكر: خلاصة حكم المحدث : إسناده صحيح : أخرجه أحمد ، وأبو يعلى واللفظ لهما ، والبزار كما في ((كشف الأستار)) للهيثمي (3691) باختلاف يسير  ]

﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا﴾ يوجد بساتين جميلة ، يوجد بيوت فخمة ، يوجد مركبات فارهة ، يوجد نساء جميلات ، يوجد طعام فاخر ، يوجد مكانة اجتماعية راقية .

عن ميمونة وعبد الله بن عمرو :

(( الدُّنيا حُلوةٌ خضِرةٌ وإنَّ اللهَ مُستخلِفَكم فيها فناظرٌ كيف تعملون . ))

[ الزرقاني : مختصر المقاصد : خلاصة حكم المحدث : صحيح ]

وعن أبي سعيد الخدري :

((  إيَّاكُم وخضراءَ الدِّمَنِ فقيلَ : وما خَضراءُ الدِّمنِ ؟ قالَ : المرأةُ الحسناءُ في المنبتِ السُّوءِ. ))

[  السلسلة الضعيفة :  خلاصة حكم المحدث : ضعيف جداً  ]

 فهذا الذي تعرض له الشهوات ، المباهج ، وسائل اللهو المحرمة ، الاختلاط ، السهرات ، النوادي ، الحفلات ، النزهات التي يُعصى الله فيها ، هذا الذي تعرض له هذه فيقول : إني أخاف الله رب العالمين ، أيضيع هذا عند الله ؟ ماذا فعل الله مع يوسف عليه والسلام حينما قال :

﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)  ﴾

[ سورة يوسف ]

جعله عزيز مصر ، جعله وجيهاً في الدنيا والآخرة ، وماذا لو اقترف هذه المعصية؟ لكان في أسفل السافلين .

يا أخي الكريم كل دقيقة تمتحن ، في كسب المال ، في إنفاق المال ، في إطلاق البصر ، في غض البصر ، في أكل الحلال ، في ترك الحرام ، في الإحسان للزوجة ، في الإحسان للأم ، في خدمة الأب ، في الإحسان للجيران ، في كل لحظة وفي كل ثانية أنت تمتحن ،﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾ .. هذه اللام لام التعليل ، أي أن الله عز وجل جعل هذه الشهوات ، وتلك الزينات من أجل أن يبتلي بها عباده ، عباده مطلقاً ، المؤمنين ، وغير المؤمنين .

 

مفارقة الدنيا عاجلاً أم آجلاً شيء لابدّ منه :


﴿ وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً ﴾ .. فهذا البيت الذي آثرته على الله عز وجل ، وهذه المرأة الحسناء التي آثرتها على رقةٍ في دينها على المرأة المؤمنة الصادقة ، وهذا الكسب الحرام الذي آثره الإنسان على الكسب الحلال ، وهذه المزرعة الفخمة ، الرائعة ، الغنّاء ، الجميلة ، التي آثرتها على رضوان الله عز وجل ، وهذه الصفقة التي آثرتها على طاعة الله عز وجل ، كل هذا الذي حصّلته وأسخطت الله عز وجل سوف يفنى ، ويبقى السخط ، كل هذا الذي حصّلته بسخط الله سيفنى ويبقى العقاب ، فإذا تركته لله أيضاً سيفنى ويبقى الثواب ، فالأمر خطير .

﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26)  ﴾

[  سورة الرحمن  ]

متعها ، بيوتها ، أبنيتها ، حدائقها ، بساتينها ، نساؤها ، مالها ، طعامها ، شرابها ، أماكنها الجميلة ، منتجعاتها ، كل الذي تشاهده على وجه الأرض لن يبقى ، هذه الأماكن الجميلة التي يعصى الله فيها لن تبقى ، هذه السهرات التي يعصى الله فيها لن تدوم ، لابد من نزول القبر :

 الليل مهما طال فلابد من طلوع الفجر          والعمر مهما طال فلابد من نزول القبر

***

لابد من مفارقة الدنيا ، إن عاجلاً أو آجلاً ، ولابد من دفع الثمن ، ولابد من الجزاء ، إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر . 

 

العلاقة بين هذه الآية وقصة أهل الكهف :


قد لا يبدو لكم ارتباط بين هذه الآية وبين القصة قصة أهل الكهف ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً ﴾ معنى ﴿ صَعِيداً ﴾ أي الأرض مستوية ، لا جبال شامخة ، ولا وديان سحيقة ، ولا سواحل ، ولا تضاريس . ﴿ صَعِيداً﴾ مستويةً ملساء . ﴿ جُرُزاً ﴾ لا نبات فيها ولا شجر .

﴿ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)  ﴾

[ سورة يونس ]

كأنها أرض محصودة ، العلاقة بين هذه الآية وبين سورة الكهف ، أو بين قصة أصحاب الكهف أن الله عز وجل يبين لنا أن هؤلاء الفتية امتحنهم الله عز وجل فنجحوا في الامتحان ، ابتلاهم الله عز وجل وضعهم أمام خيار صعب ، إما أن يقعوا في الشرك فيَسلموا ، وإما أن يؤمنوا فيهلكوا ، آمنوا وفروا بدينهم ، فحفظهم الله عز وجل ، وهذا ملخص القصة .

 

قصة أصحاب الكهف ليست عجيبة إذا قيست بقدرة الله عز وجل :


﴿ أَمْ حَسِبْتَ ﴾ يا محمد ﴿ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً﴾ إن قصة أصحاب الكهف ليست أعجب آياتنا ، آيات الله كلها عجيبة ، وهذه بعض الآيات . ﴿ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ ﴾ الكهف ؛ المغارة الكبيرة . ﴿ وَالرَّقِيمِ ﴾ .. اختلف العلماء في تفسيرها .

بعضهم قال : لوحة حجرية كتب عليها أسماء أهل الكهف على مدخل المغارة .

وبعضهم قال : الرقيمُ اسم الوادي الذي تقع فيه هذه المغارة .

وبعضهم قال : اسم الجبل الذي تقع فيه هذه المغارة .

وبعضهم قال : اسم الكلب الذي كان معهم ، على كل شيء من هذا . 

﴿ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً﴾ هذا الاستفهام استفهام إنكاري ؛ أي أن هذه القصة ليست عجيبةً بالنسبة إلى قدرة الله عز وجل ، ليست عجيبةً إذا قيست بقدرة الله ، أما إذا قيست بقوانين البشر فهي عجيبة ، فهي خرق للعادات والسنن التي ألفها الناس . 

 

قصة أصحاب الكهف دليل على الكرامات :


بالمناسبة ؛ تعد هذه القصة دليلاً على الكرامات ، الأنبياء يأتون بالمعجزات ، أما الأولياء فيأتون بالكرامات ، وبما أن أهل الكهف ليسوا أنبياء هم مؤمنون ، فهذا الذي جرى بحقهم نوع من أنواع الكرامات .

والعلماء قالوا : الكرامات على نوعين ؛ نوع فيها خرق لما ألِفه النــاس ، ونوع ليس فيه خرق لما ألِفه الناس .

أما أن يبقى الإنسان حياً ثلاثمئة عام فهذا خرق لمألوف العادات ، إذاً هذه كرامة لهم .

أما أن يحفظ الله أجسامهم من التلف ، ومن التفسخ ، فهذه كرامة لهم ، وأما الكرامات التي ليس فيها خرق للعادات فهي كرامة العلم والحكمة ، فإذا سمح الله لك أن تعرفه فقد كرمك ، وقد شرفك ، وقد رفع قدرك ، وقد أعلى منزلتك ، لأن الله عالم يحبّ كل عالم ، لأن الله أعطى من أحبهم العلم والحكمة ، وأعطى من أبغضهم المال ، أعطى المال من أبغضهم ومن أحبهم ، أي الدنيا يعطيها لمن يحب ، ولمن لا يحب ، نقطة دقيقة جداً ، إذا أعطاها لمن يحب ولمن لا يحب في وقت معاً إذاً ليست الدنيا مقياساً لكرامتك عند الله ، قد تكون فضلاً كبيراً ، وقد يكون الله عز وجل قد أكرمك بها ، ولكنها ليست مقياساً ، لا يمكن أن تقول لي : أنا غني ، إذاً أنا يحبني الله ، هذا مقياس مرفوض كلياً ، إن الله يعطي الدنيا لمن يحب ولمن لا يحب ، فإذا أعطاك الله إياها فهذا تكريم من الله عز وجل اشكر الله عليه ، أما لا تتخذه مقياساً لكرامتك عند الله عز وجل لأنه يعطيها لمن لا يحب ، لأنها تافهة عند الله ، لأنها تنتهي بالموت إذاً ليست عطاءً ، كل شيء ينتهي بالموت لا يسمى عطاءً من قبل الكريم .

 

الآية التالية إشارة إلى أن ريح الجنة في الشباب :


﴿ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ ﴾ .. الفتية ؛ قال العلماء : هذه إشارة إلى أن ريح الجنة في الشباب ، الأنبياء حينما أرسلهم الله عز وجل لأقوامهم ، من الذين آمنوا ؟ هم الشباب ، من الذين أعرضوا ؟ هم الذين رسخت قدمهم في الكفر ، الذين لهم مصالح ، الذين لهم دنيا عريضة ، أصحاب الشأن ، علية القوم ، هؤلاء صدوا الحق ، ردوا الحق حفاظاً على مكتسباتهم ، حفاظاً على مكانتهم ، حفاظاً على دنياهم ، أما الشباب : 

(( عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله عز وجل يحب ثلاثة ويبغض ثلاثة ، يبغض الشيخ الزاني ، والفقير المختال ، والمكثر البخيل ، ويحب ثلاثة ؛ رجل كان في كتيبة فكر يحميهم حتى قتل أو يفتح الله عليه، ورجل كان في قوم فأدلجوا فنزلوا من آخر الليل ، وكان النوم أحب إليهم مما يعدل به فناموا وقام يتلو آياتي ويتملقني ، ورجل كان في قوم فأتاهم ورجل يسألهم بقرابة بينهم وبينه فبخلوا عنه وخلف بأعقابهم فأعطاه حيث لا يراه إلا الله ومن أعطاه . ))

[ صحيح ، مسند الإمام  أحمد ]

 لأن الشاب سن الاندفاع نحو الشهوة ، سنّ الفتوة ، سنّ الإقبال على الدنيا ، الانغماس فيها ، إذا هو يصلي ، إذا هو يغض بصره عن محارم الله ، إذا هو يتحرى الدخل الحلال ، إذا هو واقف في طاعة الله .

معنى ذلك أنه من شبّ على شيء شاب عليه ، ومن شاب على شيء مات عليه ، ومن مات على شيء حشر عليه . 

 

على الإنسان أن يفرّ بدينه من الفتن التي استعرت في آخر الزمان :


﴿ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ ﴾ فتيان . ﴿ إِلَى الْكَهْفِ ﴾ .. من خلال بعض التفاسير أن هؤلاء الفتية كانوا يعيشون في ظلّ حاكم مشرك يناهض التوحيد ، فكل من خالف دينه أمر بقتله ، وكان خيارهم صعباً جداً ، إما أن يشركوا مع من أشرك ، وإما أن يعبدوا من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم ، وإما أن يوحدوا ، وإما أن يعبدوا الله عز وجل فيهدروا دماءهم ، لكنهم آثروا طاعة الله عز وجل على كل ما سواه .

فليتـــك تحلُو والحيــــاةُ مريـرةٌ             وليتَك ترضى والأنامُ غِضابُ

وليتَ الذي بيني وبينك عامرٌ            وبيني وبين العالمينَ خَـراب

***

﴿ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً ﴾ .. كأن الله عز وجل يريدنا أن نقف مثل هذا الموقف ، إذا فسد الزمان ، إذا رأيت شحاً مطاعاً ، وهوى متبعاً ، وإعجاب كل ذي رأيٍ برأيه ، فالزم بيتك ، وأمسك لسانك ، وخذ ما تعرف ، ودع ما تنكر ، وعليك بخاصة نفسك ، ودع عنك أمر العامة ، إذا كان مع الاختلاط فجور ، ومع الاختلاط معصية ، ومع الاختلاط مخالفات ، فلا كان هذا الاختلاط ، يا حبذا أن تقبع في بيتك فراراً بدينك ، واتقاءً له ، فلذلك ربنا عز وجل قال : ﴿ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ ﴾ فالكهف هو المغارة في الجبل ، وقد يكون المسجد كهفاً تأوي إليه ، وقد يكون بيتك كهفاً إذا كثُرت الفتن ، فإما أن تأوي إلى بيتك ، وإما أن تأوي إلى مسجدك ، فراراً بدينك ، من الفتن التي استعرت في آخر الزمان . 

 

الله تعالى رحمته واسعة وسعت كل شيء :


﴿ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا ﴾ .. يا من ربيتنا ، يا من خلقتنا ، يا من أعطيتنا ، يا من رعيتنا ، ربنا ، أقرب كلمة من أسماء الله للعبد كلمة الرب ، هو المربي ﴿ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ﴾ الرحمة : الشيء المريح ، إما أن يكون مادياً أو معنوياً ، فالأمن رحمة .

﴿ الذي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ﴾

[  سورة قريش  ]

الرزق رحمة ، الأمن رحمة ، الصحة رحمة ، الزوجة رحمة ، الأولاد رحمة ، المأوى رحمة ، السلامة من العيوب رحمة ، السمعة الطيبة رحمة ، هذه رحمة ﴿ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ﴾ التجلي رحمة ، الأنوار الإلهية التي تُلقى في قلب الإنسان رحمة ، الطمأنينة رحمة ، الثقة بعدالة الله رحمة ، الصبر رحمة ، الشكر رحمة . 

 

أثر الرشد في التصرفات والمعاملات :


﴿ آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً﴾ .. إذا كان الإنسان مطيعاً لله عز وجل يكون مسدداً ، له من الله حافظ ، يعطيه الله رؤية صحيحة ، بهذه الرؤية الصحيحة يتخذ قراراً صحيحاً ، يعود عليه بالخير العميم إلى نهاية الحياة .

وإذا كان غافلاً عن الله عز وجل ، مع الغفلة الظلمة ، ومع الظلمة الحمق ، لذلك الإنسان في ساعات الغفلة يتخذ قراراً أحمقَ ، ربما كان سبب شقائه إلى نهاية الحياة . 

﴿ وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً﴾ المؤمن يستلهم الله عز وجل ، لا يقطع أمراً دون أن يستلهم الله ، وهو وقافٌ عند كتاب الله ، أنا مقدم على هذه التجارة ، أهي ترضي الله أم لا ترضيه ؟ هذه النوعية من البضاعة ترضي الله أم لا ترضيه ؟ هذه الطريقة في التعامل ترضي الله أم لا ترضيه ؟ أنا مقدم على هذا الزواج أيرضى الله أن أتزوج من هذه الفتاة أم لا يرضيه ؟ أنا مقدم على شراكة ، ربما كان شريكي لا يفقه من الدين شيئاً ، ربما جرني إلى كسب المال الحرام ، ربما جرني إلى معصية ، أيرضي الله أن أشاركه ؟ المؤمن وقاف عند كتاب الله ﴿ وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً﴾ أي ما أروع أن يكون الإنسان رشيداً .

﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)﴾

[ سورة البقرة ]

أن يكون رشيداً في معاملة أهله ، فقد يرتكب حماقة فيطلق زوجته ، ويشقى بهذا الطلاق ، قد يرتكب حماقة ، ويسيء إلى الناس فيخسر عمله ، فبين أن يكون المرء أحمق وبين أن يكون حكيماً ، لذلك قال الله تعالى : ﴿ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ .

 

الأذن للنائم هي المسلك الوحيد لإيقاظه :


يتابع ربنا عز وجل الحديث عن هذه القصة ﴿ فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً ﴾. . كما تعرفون أن الإنسان إذا نام أغمض جفنيه ، صار الطريق إلى إيقاظه طريق الصوت ، إنك إذا كنت قد فتحت عينيك ، ورأيت شيئاً خطراً ، تتيقظ ، تستيقظ ، لكنك إذا أغمضت عينيك ما الذي يوقظك عندئذٍ ؟ الصوت ، من هنا جاءت الحكمة أن الله عز وجل ضرب على آذانهم لأن الأذن للنائم هي المسلك الوحيد لإيقاظه ﴿ فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً ﴾ سنوات وسنوات أمضاها هؤلاء الفتية وهم نائمون .

 

وقوع ما كان معلوماً عند الله عز وجل :


﴿ ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً ﴾ .. هذه لنعلم في حق الله لها معنى دقيق ، ليتحقق الذي علمه الله من قبل ، العلم هنا التحقق ، أو الوقوع ، ليقع ما كان معلوماً عند الله عز وجل ﴿ ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ﴾ أي ليتحقق علمنا ، ﴿ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ ﴾ المشركون والمؤمنون كانوا قد تنافسوا في معرفة مدة مكوثهم في الكهف ، ﴿ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً ﴾ يبدو أن الله عز وجل  في هذه الآيات الأربعة لخص لنا القصة بأكملها ، ثم يبدأ بذكر التفاصيل .  

﴿ فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً ﴾ حينما قالوا : ﴿ رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ﴾ أي احفظنا يا رب ، احفظنا من هذه الفتنة ، احفظنا من أن يُستباح دمنا ، حينما دعوا الله عز وجل ، وسألوه أن يكون أمرهم رشداً استجاب لهم ، وأنامهم إلى أن زال هذا الظالم الذي حمل الناس على الشرك ، ﴿ ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ ﴾ المؤمنون والمشركون ﴿ أَحْصَى﴾ كان إحصاؤه دقيقاً ﴿ لِمَا لَبِثُوا أَمَداً * نَحْنُ ﴾ وإذا قال الله تعالى عن نفسه : نحن بضمير الجمع ففي هذا إشارة إلى أن هذا الفعل الذي فعله الله عز وجل كل أسمائه داخلة فيه :

﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)  ﴾

[ سورة طه ]

إذا كان الحديث عن ذاته جاء ضمير المفرد ، وإذا كان الحديث عن أفعاله جاء ضمير الجمع ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ ﴾ يا محمد ﴿ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ ﴾ .. ومعنى بالحق هنا أي الشيء المطابق للواقع ، نقص عليك هذا النبأ بالحق أي أن هذا النبأ كان خبراً صادقاً ، مطابقاً للواقع ، لأن اليهود في كتبهم تزيدوا في هذه القصة ، وأضافوا عليها تفصيلات ليست منها ، وانحرفوا في روايتها .

تروي كتب التفسير أن اليهود أرادوا أن يحرجوا النبي عليه الصلاة والسلام ، و يفندوا دعوته ، أي أرادوا أن يؤكدوا للمشركين أنه لا يعلم هذه القصص ، والدليل سألوه عنها ، فلما سألوه عنها جاءت هذه القصة لتثبت نبوة النبي عليه الصلاة والسلام . 

 

من اختار طريق الإيمان شرح الله صدره وجمعه مع أهل الحق :


﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ﴾ .. أي أنت إذا اخترت طريق الإيمان شرح الله صدرك ، وجمعك مع أهل الحق ، ويسر لك سبل العيش ، ويسر لك كل الأمور ، وأعانك على أمر الدنيا ، ووقاك المتاهات ، وحفظك من الملمات ، ورفع لك ذكرك ، وشجعك ، وتجلى على قلبك ، وأسعدك ، كل هذا لأنك طلبت الهدى ، ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ﴾ آمنوا بهذا الرب الكريم ، آمنوا من خلال هذا الكون ، من خلال هذه الآيات التي بثها الله عز وجل في السماوات والأرض ، آمنوا بربهم ، واعتمدوا عليه ، وتوكلوا عليه ، وفوضوا له ، واستسلموا له ، عندئذٍ جاء الهدى الجزائي ﴿ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ﴾ فإذا اختار طالب أن يدخل الجامعة ، إذا هي تمنحه راتباً شهرياً ، وتمنحه بطاقات مجانية لارتياد المكتبة ، وشراء الكتب ، وتمنحه غرفة ليسكن بها ، وطعاماً بأسعار رخيص جداً ، كل هذه الميزات لأن هذا الطالب اختار دخول الجامعة مثلاً . 

 

معنى الربط على القلب :


﴿ وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا ﴾ .. معنى ﴿ وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ ﴾ أي شددنا على قلوبهم ؛ أي جعلنا قلوبهم رابطة الجأش ، فإذا قال الإنسان :

﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)  ﴾

[ سورة الفاتحة  ]

حينما يختار الإنسان طاعة الله عز وجل بإصرارٍ عندئذ ٍيعينه الله عليها ، ألا أنبئكم بمعنى لا حول ولا قوة إلا بالله ؟ لا حول عن معصيته إلا به ، ولا قوة على طاعته إلا به ، لو أن الإنسان اعتدّ باستقامته ، اعتدّ بها ، واستعلى بها على الناس بسهولة فائقة الله عز وجل يُضعف مقاومته ، يجعل مقاومته للمعاصي هشة فإذا هو يقع فيها ، هذا ما قال : ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ قال : ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ ولم يقل : ﴿ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ فأضعف الله مقاومته فوقع في المصيبة ، لذلك قمة النجاح في الدين يساوي التواضع ، والانكسار ، والافتقار .

مالي سوى فقري إليك وسيلة                 فبالافتقار إليك فقري أدفـــع

ومالي سوى لقرع بابك حيلــة                 فإذا رددت فأي باب أقرع ؟

***

 

من أشرك بالله ألقى الله في قلبه الرعب والخوف :


إذاً : ﴿ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا ﴾ .. هذه إذ قاموا بين يدي هذا الحاكم الظالم الذي حملهم على الشرك ، وإذ قاموا فارين بدينهم ، هذه الكلمة مطلقة ، على كل أنزل الله على قلوبهم السكينة ، هناك إنسان يخاف من ظله ، هذا الخوف من خلق الله ، والطمأنينة من خلق الله ، فإذا كنت معه هابك كل شيء ، وإذا تركته أهابك من كل شيء ، أي خوفك من كل شيء ، إما أن يخافك كل شيء وإما أن تخاف من كل شيء ،  لذلك :

﴿ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)﴾

[  سورة آل عمران ]

هناك قانون ، بمجرد أن تشرك بالله عز وجل يلقي الله الرعب في قلب الإنسان . 

 

الدين كله توحيد :


﴿ وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً ﴾ .. هذا هو التوحيد ، ما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد ، هذا هو الدين كله ، الدين كله توحيد ، ألا ترى مع الله أحداً ، ألا ترى مع الله فاعلاً ، ألا ترى رافعاً إلا الله ، ألا ترى رازقاً إلا الله ، ألا ترى خافضاً إلا الله ، ألا ترى باسطاً إلا الله ، ألا ترى قابضاً إلا الله .

إذا كنت في كل حال معي           فعن حمل زادي أنا في غنى

أتينـاك بالفقر يا ذا الغنـى           وأنت الذي لم تزل محـسنـــــاً

وعودتنا كل فضل عســـــى           يكون الذي منك قد عودتـنــا

***

لن ندعو من دونه ، ليس هذا الذي تدعوه مماثلاً له ، من دونه ، وما أبعد الفرق بين من تدعو من دونه وبين خالق السماوات والأرض :

﴿ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)﴾

[  سورة فاطر ]

وقال سبحانه :

﴿ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)﴾

[  سورة إبراهيم  ]

﴿ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً ﴾ ..إذا صليت في الليل فقل : يا رب ليس لي سواك ، تبرأ من حولك وقوتك ، ومن كل من تعتمد عليه ، من كل من تتكل عليه ، من كل من تطمئن له ، من كل من تحس أنه يدعمك ، تبرأ منه ، واستعن بالله عز وجل ، عندئذ يرفعك الله عز وجل . 

 

الباطل خروج عن الطريق الصحيح :


﴿ وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا ﴾ لو فعلنا ذلك ﴿ لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً ﴾ ..هذا هو الباطل ، فيه شطط ، فيه زيادة ، فيه انحراف ، فيه خروج عن الطريق الصحيح ، ﴿ هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً﴾ أي في كل زمان :

﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)  ﴾

[ سورة الجاثية  ]

المعنى مبسط جداً ، هذا الذي يتبع الهوى اتخذ الهوى إلهاً ، هذا الذي يتبع شهوته اتخذ الشهوة إلهاً ، هذا الذي يؤثر المال على طاعة الله اتخذ المال إلهاً هذا الذي يؤثر رضا زوجته على طاعة الله اتخذها إلهاً .

ولذلك عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( تعِس عبدُ الدينارِ ، تعِس عبدُ الدرهمِ ، تعس عبدُ الخميصةِ ، تعس عبدُ الخميلةِ ، تعِس وانتكَس وإذا شيكَ فلا انتقشَ . ))

[  أخرجه البخاري ]

وبالمقابل سعد عبد الله .

 

إن كنت ناقلاً فالصحة وإذا كنت مدّعياً فالدليل :


﴿ هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ ﴾ .. انظر التفكير المنطقي ، أنت ادّع ما تشاء ، ولكن أين الدليل ؟ هناك قاعدة عند علماء الأصول : إن كنت ناقلاً فالصحة ، وإذا كنت مبتدعاً فالدليل ، ابتدع ما تشاء ، ادّعِ ما تشاء ، ائت بالدليل ، قل ما تشاء ، ازعم ما تشاء ، أين الدليل ؟ هات الدليل لأكون معك ، أما أن تزعم ما تشاء بلا دليل فهذا هو الجهل الكبير ، أن تدعو آلهة من دون الله بلا دليل .

﴿ وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ(117)﴾

[  سورة المؤمنون  ]

 

أعظمُ الظلم الإشراكُ بالله :


﴿ هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ ﴾ أي بحجة دامغة ، بدليل عقلي ، ﴿ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً ﴾ .. إذاً حينما يدعو الإنسان إلهاً من دون الله ، من دون دليل فقد افترى على الله كذباً ، أي إذا دخلت إلى دائرة ، وبيدك إضبارة تود أن يوقعها المدير العام ، ولا يصلح إلا توقيع المدير العام ، فإذا اتجهت إلى مستخدم ترجوه  وتتوسل إليه أن يوقعها لك ، أليس هذا حمقاً كبيراً !! ما قيمة توقيع هذا المستخدم ؟ هذا له وظيفة محترمة ، لكن ليس من صلاحيته أن يوافق لك على هذه الإجازة ، إنه لا يقدر ، فحينما لا تعلم من هو الذي بإمكانه أن يوقّع فهذا هو جهل كبير ، كل أمورك بيد الله عز وجل :

﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)﴾

[  سورة هود ]

أمرك ، وأمر أعدائك ، وأمر أحبابك ، وأمر أهلك ، وأمر أولادك ، وأمر صحتك ، وأمر عملك ، وأمر دخلك ﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ ﴾ متى قال الله لك : اعبدني يا عبدي ؟ بعد أن طمأنك أن الأمر كله إليه . ﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ﴾ .

 

العزلة الشرعية :


﴿ هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً * وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ ﴾ .. درسنا سابقاً موضوع العزلة ، آداب العزلة في كتاب إحياء علوم الدين ، وبينت لكم أنك إذا كنت في مجتمع فاسد فالعزلة واجبة ، وإن كنت في مجتمع صالح فالاختلاط واجب ، والعزلة مطلقاً لها أحكام متفاوتة ، فهؤلاء الفتية أصحاب الكهف اتخذوا قراراً باعتزال قومهم المشركين ﴿ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ ﴾ أدق تفسير : ﴿ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ ﴾ .. يجب أن تعتزل المشرك وما يعبد ، إلا إذا عبدوا الله فلا ينبغي أن تعتزلوهم ، إذاً أصحاب الكهف اتخذوا قراراً باعتزال قومهم لأنهم غارقون في الشرك ، وفي المعاصي ، والاعتزال مُنصب على قومهم وعلى ما يعبدون ﴿ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ ﴾ أي إذا أردت أن تبتعد عن أهل الشرك ينبغي أن تبتعد عن ملهياتهم ، وعن شهواتهم ، وعن أهدافهم ، وعن طرائقهم ، وعن تقاليدهم ، وعن عاداتهم ، وعن كل ما يمت لهم بصلة ، لأن هذا الشيء الذي يمت لهم بصلة قد يجرك إليهم ﴿وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ ﴾ إلا إذا كانوا قد عبدوا الله عز وجل عندئذ لا ينبغي أن تعتزلوهم ، الإنسان لا تعتزله لذاته بل لعمله السيئ ، فإذا عاد إلى الصواب فهو أخوك في الله ، لمجرد أن يعود هذا المشرك إلى حظيرة الإيمان وجب عليك أن تصله ، لذلك جاء إلى المدينة رجل اسمه عمير ، وهو من ألدّ أعداء النبي الكريم ، وقد توشح سيفاً له ، رآه عمر فقال : ما الذي جاء بك يا عمير ؟ قال : جئت أريد أن أفدي أخي ، فقيده بحمالة سيفه ، وساقه إلى النبي عليه الصلاة والسلام ، فقال : يا رسول الله هذا عمير جاء يريد شراً ، قال : أطلقه يا عمر ، فأطلقه ، قال : اقترب مني يا عمير ، فاقترب منه ،  قال : ابتعد عنه يا عمر ، فابتعد عنه ، قال يا عمير ، ما الذي جاء بك إلينا ؟ قال : جئت أفك أخي ، أو ابني ، لا أدري أيهما أصح ، فقال : وهذا السيف الذي على عاتقك ؟ قال : قاتلها الله من سيوف وهل نفعتنا يوم بدر ؟ فكان عمير قد جلس في ظاهر مكة مع صفوان بن أمية واتفقا على أن يقتل عمير رسول الله بهذا السيف المسموم ، وجاء تحت غطاء أن له أخاً يريد أن يفك أسره ، فقال : يا عمير سلم علينا ؟ قال : عمت صباحاً يا محمد ، قال : سلم علينا بسلام الإسلام ؟ قال : يا محمد لست بعيد عهدٍ بالجاهلية هذا سلامنا ، قال له : ألم تقل لصفوان : لولا هموم ركبتني ، وأولاد أخاف عليهم العنت لذهبت وقتلت محمداً وأرحتكم منه ؟ فقال لك صفوان : أما أولادك فهم أولادي ما امتدت بهم العمر ، وأما ديونك فهي عليّ مهما بلغت ، فامض بما أردت ، عندئذ وقف عمير وقال : أشهد أنك رسول الله ، والله ما سمع أحد على وجه الأرض ما الذي دار بيني وبين صفوان ، عندئذ أسلم هذا الرجل ، أنا ما أردت من هذه القصة إلا شيئاً واحدًا ، سيدنا عمر كان يقول : واللهِ دخل عمير على رسول الله وهو أبغض إليّ من الخنزير ، وخرج من عنده وهو أحبّ إليّ من بعض أولادي ، انتهى الأمر ، أنت لا تكره زيداً لذاته ، تكرهه لعمله ، فإذا عاد إلى الدين فهو أخوك ، ﴿ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ ﴾ .. وما يعبدون إلا الله استثناء منقطع ، فإذا عبدوا الله وحده انتهى الاعتزال ، هم إخوانكم . 

 

على الإنسان اعتزال كل ما يجره إلى المعاصي :


﴿ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً ﴾ فالكهف الذي أووا إليه معروف ، وكل مؤمن خاف على دينه ، أو خاف على استقامته ، أو خاف على عقيدته ، أو خشي أن يعصي الله عز وجل ، لا ينبغي أن يكون في مكان قد يُجر فيه إلى المعصية عليه أن يعتزل كل من يجره إلى المعصية ، لذلك : ﴿ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً ﴾ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنْ الْفِتَنِ . ))

[ صحيح ابن ماجه ]

عَنْ أبي ذر الغفاري  رَضِي اللَّهٌ عَنْه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( الوحدةُ خيرٌ من جليسِ السوءِ . ))

[ ابن حجر العسقلاني  :فتح الباري لابن حجر ]

 خلاصة حكم المحدث : إسناده حسن ، لكن المحفوظ أنه موقوف عن أبي ذر أو عن أبي الدرداء

ولكن الجليس الصالح خير من الوحدة ، أي أن تأتي إلى مجلس العلم ، وتستمع إلى آيات الله تتلى عليك ، وتفسر بقدر الإمكان ، هذا أفضل مليون مرة من أن تقبع وحدك في البيت ، أما إذا دعيت إلى مجلس أنس وطرب فالأفضل ألف مرة أن تبقى وحدك في البيت من أن تُجر إلى معصية الله ، هذا ملخص الموضوع .

وسوف نتابع الحديث عن هذه القصة بفضل الله عز وجل وتوفيقه في الدرس القادم ﴿ وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً ﴾ .

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور