وضع داكن
20-04-2024
Logo
الدرس : 6 - سورة الأنبياء - تفسير الآيات 42 - 70 ، رحمة الله تقتضي حفظ العباد
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

 

حفظُ الله عباده بالليل والنهار :


أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع الدرس السادس من سورة الأنبياء .

في الدرس الماضي وصلنا إلى قوله تعالى : ﴿ قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ﴾ يكلؤكم بمعنى يحفظكم ، من الذي يحفظكم ؟ يحفظ أجهزتكم ؟ يحفظ صحتكم ؟ يحفظ أولادكم ؟ يحفظ أهلكم ؟ يحفظ أموالكم ؟ لابدَّ من رحمةٍ وعنايةٍ وحفظٍ من قبل الله عزَّ وجل ، ﴿ قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ ﴾ هل في الأرض كلِّها جهةٌ تستطيع أن تحفظكم ؟ لأن أجهزة الإنسان بيد الله عزَّ وجل ، أن تعمل بانتظام من دون خلل فهذا بإذن الله ، وهذا بقدرة الله ، وهذا برعاية الله ، وهذا بحفظ الله . .

﴿ إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) ﴾

[ سورة الطارق ]

ربنا عزَّ وجل يقول :

﴿  فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ(64) ﴾

[  سورة يوسف ]

آلاف القصص التي أسمعها من كل أخٍ كريم أن الله عزَّ وجل حفظ مالي من التلف ، حفظ ابني من حادثٍ مروع ، حفظ زوجتي من عمليةٍ جراحية خطيرة ، لولا أن الولادة تمت في الوقت المناسب ، حفظ صحتي من الخلل ، هذا الذي يحفظكم ، يحفظ كل شيءٍ متعلقٍ فيكم مَن ؟ الله سبحانه وتعالى ﴿ قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ . .

﴿ قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)﴾

[ سورة يوسف ]

 

من يلتجئ إلى الله يحفظه الله ويرعاه :


النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا أوى إلى فراشه يقول : " اللهم إني أسلمت نفسي إليك ، وألجأت ظهري إليك ، لا ملجأ ولا منجى لي منك إلا إليك " .

الله سبحانه وتعالى علّمنا كيف نستعيذ به ..

﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3)﴾

[ سورة الفلق  ]

الشيطان إذا دخل نفس الإنسان ..

﴿ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5) ﴾

[  سورة الفلق  ]

علمنا أن نستعيذ به بسورةٍ أخرى :

﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ(6) ﴾

[ سورة الناس  ]

(( علمنا أيضاً النبي عليه الصلاة والسلام أن نقول : عن أنس بن مالك : كان إذا كربَهُ أمرٌ قال  : يا حيٌّ يا قيومُ برحمتِكَ أستغيثُ . ))

[  صحيح الجامع : خلاصة حكم المحدث  : صحيح ]

علمنا النبي عليه الصلاة السلام في أدعيته أن نقول : عن شداد بن أوس  :

(( سيِّدُ الاستغفارِ أنْ يقولَ العبدُ  : اللَّهمَّ أنتَ ربِّي وأنا عبدُكَ لا إلهَ إلَّا أنتَ خلَقْتَني وأنا عبدُكَ أصبَحْتُ على عهدِكَ ووَعْدِكَ ما استطَعْتُ أعوذُ بكَ مِن شرِّ ما صنَعْتُ وأبوءُ لكَ بنعمتِكَ علَيَّ وأبوءُ لكَ بذُنوبي فاغفِرْ لي إنَّه لا يغفِرُ الذُّنوبَ إلَّا أنتَ . ))

[ صحيح ابن حبان  : خلاصة حكم المحدث  : أخرجه في صحيحه ]

حينما يلتجئ الإنسان إلى الله عزَّ وجل يحفظه الله ، عن واثلة بن الأسقع الليثي أبو فسيلة  :

(( يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ  : أنا عند ظنِّ عبدي بي فليظُنَّ بي ما شاء   . ))

[  تخريج الإحياء للعراقي  : خلاصة حكم المحدث  : في الصحيحين دون قوله : فليظن بي ما شاء  :  أحمد  ، والدارمي  ، وابن حبان   ]

هذه الاستعاذة إن كانت بآيات القرآن الكريم التي وردت في معرض الاستعاذة والالتجاء ، أو إن كانت في الأحاديث الشريفة التي وردت في معرض الالتجاء والاستعاذة ، هذه كلها إذا قرأها الإنسان وقلبه حاضر ، ونفسه طاهرة ، وعمله مستقيم ، فإن الله سبحانه وتعالى يحفظه من كل شر ، هل في الكون جهةٌ بقدرتها أن تحفظكم إذا سألتموها الحفظ ؟ ﴿ قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ﴾ ، الإنسان أحياناً تحمل زوجته وعلى وشك الوضع ، ترى الزوج يلجأ إلى الله عزَّ وجل أن يكون المولود سليماً ، فإذا جاء المولود سليماً فهذا بفضل الله عزَّ وجل ، فإذا جاء مشوَّهَاً أو فيه خلل ينفق آلاف الآلاف من أجل أن يعود بشكلٍ صحيح ، وقد يكون هذا غير ممكن .

 

رحمة الله تقتضي حفظ العباد :


﴿ قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ ﴾ لم يقل الله سبحانه وتعالى : من الخالق ، بل قال : ﴿ مِنَ الرَّحْمَنِ ﴾ لأن الله سبحانه وتعالى برحمته يكلؤكم ، لأنه رحمنٌ رحيمٌ يحفظكم ، لأنه رحمنٌ رحيمٌ يقيكم من شر ما خلق ، فكلمة الرحمن هنا جاءت مُنَاسِبَةً للحفظ والرعاية ، أي إذا كان الله معك فمن عليك ؟ وإذا كان عليك فمن معك؟ لكن الله سبحانه وتعالى بين لنا أن مَعِيَّتَهُ لها قانون . .

﴿ وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)﴾

[ سورة المائدة ]

 

إعراض العباد عن ذكر الله :


﴿ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ﴾ أي يُقبل على الدنيا ، يُقبل على مصالحه ، يُقبل على تجارته ، يُقبل على ما يَعْنِيه منها ، يُقبل على بيته ، أما إذا ذُكِّرَ بربه فإنه يعرض عنه ، إذا دُعي إلى مجلس علم فإنه يعتذر ، إذا دعي إلى عملٍ صالح يدَّعي أنه متعب ، أما إذا دعي إلى صفقةٍ ، أو إلى شراء أرضٍ ، أو إلى شراء حانوتٍ ، أو إلى رحلةٍ ممتعةٍ فإنه لا ينام الليل ﴿ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ﴾ قال : يا رب كيف أشكرك ؟ ، قال : يا موسى تذكرني ولا تنساني ، إنك إن ذكرتني شكرتني ، وإذا ما نسيتني كفرتني ، أي بمجرد أن تذكرني فأنت شاكرٌ لي ، فإذا ما نسيتني كفرتني ﴿ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ﴾ ، والله سبحانه وتعالى يقول :

﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) ﴾

[  سورة طه  ]

هذا قانون .. ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي ﴾ ( مَنْ ) اسم شرط جازم يأتي بعدها فعلان ، يقع الثاني حتماً إذا وقع الأول ، هذا معنى الشرط ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي ﴾ هذا فعل الشرط ، ﴿ فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً ﴾ معيشة شقية ، ولو كنت من أصحاب الملايين ، ولو كنت من أقوى الناس ، لأن الله سبحانه وتعالى يَسْلُبُ المُعْرِضَ السعادة ، ويبقي له الضيق ، والقلق ، والحيرة ، والقهر .. ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً ﴾ ، ﴿ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ﴾ :

﴿ وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) ﴾  

[ سورة الصافات  ]

أما المؤمن فإذا ذُكِّرَ يذكر ، إذا ذُكِّرَ بآيات ربه خرّ لله ساجداً ، إذا ذكر بأمرٍ إلهي نفَّذه ، إذا ذُكر بنهيٍ تركه ، إذا ذُكر بعبادةٍ قام إليها ، إذا ذُكر بمجلس علمٍ بادر إليه ، إذا ذُكر بالقرآن قرأه ﴿ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ﴾ هؤلاء الذين أعرضوا عن ذكر الله على أي شيءٍ يعتمدون ؟ وإلى أي قوةٍ يستندون ؟ 

 

نظام جسم الإنسان تحت رحمة الله :


﴿ أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا ﴾ هؤلاء الكفار ، هؤلاء الفجار ، حينما أعرضوا عن ذكر الله ، وحينما استغنوا عن رحمته ، هل لهم قوةٌ تمنعهم من الله عزَّ وجل ؟ هذا سؤال ، أي هذا الكافر المُعرض على أي شيءٍ يستند ؟ إن كل عقله متوقفٌ على سلامة شرايين المُخ ، فإذا تجمدت نقطة دمٍ في أحد شرايين المخُ دخل مستشفى الأمراض العقلية ، أو أصيب بالشلل ، أو أصيب بالعمى ، كل قوة الإنسان نابعةٌ من حِفْظِ الله له ، فلو أن شرياناً صغيراً ، لو أنّ وعاءً شعرياً تجمدت فيه قطرة دمٍ لاختل توازنه ، لفقد ذاكرته ، لفقد بصره ، لفقد سمعه ، لفقد محاكمَته ، لفقد حركته ، لفقد قوته ، على أي شـيءٍ تعتمد ؟ أيّ غدةٍ من غدد الإنسان لو أنها قصَّرت أو نشطت أكثر مما يجب تصبح حياة الإنسان جحيماً ، هذه الغدة الدرقية لو أنها قصَّرت لأصيب الإنسان بالتكاسل ، ولو أنها نشطت أكثر مما ينبغي لأصبحت حياة الإنسان قلقةً لا ينام الليل ، لفرط توتره ونشاطه ، هذه الغدة النخامية ، غدة الكظر ، يوجد مراكز بالإنسان معقدة جداً ، يوجد مركز توازن السوائل ، لو اختل لشرِبَ الإنسان في اليوم مئات الليترات من الماء ، ولطرحها في البول فوراً ، لابدَّ من أن يقيم إلى جانب صنبور ماءٍ ، وإلى جانب دورة مياه ، لو أن غدةً صغيرةً اختل توازنها ﴿ قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ﴾ الكبد يفرز هرمون التجلُّط ، وهرمون التميُّع ، من إفراز هذين الهرمونين بشكلٍ متوازن ترون الدم على وضعه الطبيعي ، فيه سيولة بين التجلُّط وبين التميُّع ، لو أن هرمون التميع زاد قليلاً لخسر الإنسان دمه من جُرْحٍ بسيط ، ولو أن هرمون التجلط زاد قليلاً لمات فوراً بجلطةٍ جعلت الدم كله كالوحل في شرايينه وأوردته ﴿ قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ﴾ لو أن الإنسان التهبت القنوات نصف الدائرية في أذنيه لا يستطيع أن يمشي على قدميه ، يحتاج إلى من يمسكه ، يفقد توازنه ، التوازن نعمة من نعم الله الكُبرى ﴿ قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ﴾ من أَمَّنَ لك التوازن ؟ من الذي جعل هذه الأجهزة تعمل بانتظام ؟ تأكل اللُّقمة ، اللعاب فيه مواد هاضمة ، لسان المزمار لولا أنه يعمل لأصبحت حياة الإنسان جحيماً ، طريق الهواء وطريق الطعام ، وهذا اللسان إذا أردت أن تأكُل يُغْلِق طريق الهواء ، يفتح طريق المريء ، فإذا أردت أن تتكلم أغلق طريق المريء وفتح طريق الهواء ، لو اختل عمله قليلاً لمات الإنسان ، لو دخل إلى رئتيه بعض الماء لأصبحت حالته خطيرة ، لولا أن الله سبحانه وتعالى جعل في هذه الرغامى - القصبة الهوائية - أشعاراً تطرد المواد الغريبة نحو الأعلى ، وهذا هو القشع لما استقامت حياة الإنسان ، لولا أن المريء مزود بعضلات دائرية تسوقُ اللقمة من الأعلى إلى الأسفل ، الإنسان وهو نائم يأكل ، والطعام يمشي في المريء ، لو علق من رجليه وأطعمته لقمةً تنطلق نحو الأعلى بفضل هذه العضلات التي تتقلَّص تباعاً ﴿ قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ﴾ الإنسان ينام ، لكن لسان المزمار لا ينام ، كلَّما تجمَّع الريق في فمه وهو نائم يأتي أمر من الدماغ إلى لسان المزمار بإغلاق القصبة الهوائية وفتح المريء ، يقال لك : بلع ريقه وهو نائم ، كل فترة يحس على حاله ، هذان الجفنان يرفَّان بشكل منتظم ، ست عشرة حركة في الدقيقة ، أنت لا تدري ، كلما تشكَّل على القرنية غبارٌ أو شيءٌ غريب جاء الجفن ومسح هذه القرنية ، وجعل هذه الأجفان لئلا تلتهب أطراف الأجفان ﴿ قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ﴾ الحديث عن الهضم شيءٌ لا ينتهي ، البنكرياس ، والصفراء ، والكبد ، والزغابات المعوية ، والحديث عن جهاز الدوران لا ينتهي ، القلب ، والدسَّامات ، والدورة الصغرى ، والدورة الكبرى ، والشرايين ذات مرونة عالية جداً ، والأوردة أقل مرونة ، من جعل الشريان في الداخل والوريد في الخارج ؟ لو أن الآية معكوسة ، لو أن الشريان في الخارج ، والوريد في الداخل ، أي جرحٍ أصاب الشريان يفقد الإنسان دمه كله ، أما الشرايين ذات الضغط العالي في الداخل ، والأوردة ذات الضغط المُنخفض في الخارج ، من رَتَّبَ هذا الترتيب ؟ ﴿ قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ﴾ من جعل هذا الشعر وهذه الأظافر بلا أعصاب حِس ؟ الإنسان برأسه يوجد ربع مليون شعرة ، لكل شعرةٍ شريانٌ ووريد وغدةٌ دهنية ، وعصبٌ محرك وعضلةٌ وغدة صبغية ، لكن لا يوجد عصب حسي من أجل أن تقص شعرك من دون عملية جراحية ، من دون مستشفى ، من دون تخدير ، تقصُّ شعرك وأظافرك ، وأنت في راحة ﴿ قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ﴾ .

﴿ أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا ﴾ إذا سُدّت قناة الدمع تصبح حياة الإنسان جحيماً ، يحتاج إلى منديل دائم ، كل دقيقة يمسح ، عندئذٍ يفيض الدمعُ على خده ، والدمع مادة قلوية ، بعد أيام يلتهب الجلد ، وأدق قناةٍ في الإنسان قناة الدمع ، لشدة دقتها لا تُرى بالعين ، تأخذ الدمع الفائض تضعه في الأنف كي يكون المكان رَطِبَاً ، ورطوبة الأنف ضرورية من أجل أن تلتصق المواد الغريبة في السطوح المتداخلة التي هي في طريق الهواء ﴿ قُلْ مَنْ ﴾ ؟ الإنسان زوده الله عزَّ وجل في أنفه بشرايين غاية في الرقة والهشاشة ، فإذا ارتفع ضغط دمه قليلاً تمزَّقت هذه الشرايين ، وسال الدم من أنفه ، أي عملية تلافي الخطر ، إذا ارتفع الضغط الشرياني في الدم تمزقت هذه الشرايين ، وسال الدم وهو الرعاف ، الرعاف صمام أمان ، أحياناً الآلات الغالية جداً يضعون في طريق الكهرباء نقطة ضعف ، أي يضعون شريطاً رفيعاً جداً ، على أي ارتفاعٍ للتيار يسيخ هذا الشريط ، وهذا ضروري جداً ، وهكذا الأنف .

 

الإنسان مخلوق ضعيفٌ لا يملك نصراً ولا نفعاً ولا ضراً :


﴿ أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ﴾ أي أن هؤلاء الذي أعرضوا عن الله ، وأعرضوا عن ذكره ، واستغنوا عـن رحمته لا يعتمدون على شـيء ، يعتمدون على أوهام ﴿ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ﴾ معنى يصحبون أي يلتجئون ، لبعدهم عن الله عزَّ وجل ، وعدم استجابتهم له لا يستطيعون أن يلجؤوا إليه فيحميهم من عدوِّهم . 

 

على الإنسان ألا يفرح بمتاع الدنيا لأنه مؤقت :


﴿ بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ أي : ﴿ بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ ﴾ :

﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)﴾

[  سورة النساء ]

﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)﴾

[ سورة البقرة ]

﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18)﴾

[ سورة الإسراء ]

﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)﴾

[  سورة الأنعام ]

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) ﴾

[ سورة التوبة  ]

﴿ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24)  ﴾

[  سورة لقمان ]

على الإنسان ألا يفرح بمتاع الدنيا ، سُمِّيَ متاعاً لأنه مؤقَّت .

﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) ﴾  

[ سورة النساء ]

خالق الكون ينصحك ، ﴿ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ﴾ أترضى به ؟ أيعجبك أن تستمتع بالحياة سنوات عِدَّة ثم يساق الإنسان إلى النار وبئس المصير ؟ هذا هو التمتع ، لذلك :

﴿ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) ﴾

[ سورة لقمان ]

 

أعظم عقوبة ترك الإنسان هملاً بلا معالجة :


﴿بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ ﴾ لذلك والله الذي لا إله إلا هو أشد عقوبةٍ يعاقب بها الإنسان أن يتركه الله هملاً ، بلا معالجة ، فلما تأتي الإنسان المُعالجات الربَّانية تباعاً فهذه والله الذي لا إله إلا هو بشارةٌ طيبة ، الدليل أن الله سبحانه وتعالى عَلِمَ فيك خيراً فأدَّبَكَ في الدنيا ، إذا أحبّ الله عبده ابتلاه ، الإنسان يتألم إذا فعل المعصية ، وتركه الله هملاً بلا معالجة ، هنا يتألَّم ، عندئذٍ كأنه مُهْمَل ، كأنه مُهان :

﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)﴾

[ سورة الأنعام ]

خُذوا الدنيا ، وسوف تردون إلى عالم الغيب والشهادة ، هذه والله الذي لا إله إلا هو حقيقةٌ خطيرة ، إذا رأيت الله يتابعك بالمعالجة فهذه بشارةٌ طيبةٌ طيبة ، أما إذا رأيت أن الله سبحانه وتعالى يُعطيك الدنيا كما تشتهي ، ولا يُعالجك فهذه والله علامةٌ سيئة ، إذا رأيت الله يُتابع نِعَمَهُ عليك ، وأنت تعصيه فاحذره ﴿ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ ﴾ ترى رجلاً عمره ستون سنة يلعب الطاولة ، أذن الظهر فلم يصلِّ ، من أربعين سنة هكذا ، هذا مهان عند الله عزَّ وجل ، بالستينات يمضي وقته كله في لَعِب النرد ، من دون صلاة ، وصحته جيدة !! ﴿ بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ ﴾ كأنهم لا يموتون ، تجده جالساً مع نساء لا يحللن له ، وهو يمتِّع نظره بهن ، ويدير معهن أحاديث غاية في الخبث ، وهو مقيمٌ على المعاصي ، ويقول لك : لم أفعل شيئاً ، أنا طاهر ، أنا مستقيم ، أنا كذا ، هذا الذي ينشأُ على المعصية ، ويستمر عليها يقسو قلبه ، يعمى قلبه ، عندئذٍ يجعله الله خارج المعالجة .

 

الاتعاظ بالموت والموتى :


﴿ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ أليس هناك موت ينهي هذه الحياة ؟ يُنهي هذا النعيم ؟ ينهي هذه المباهج ؟ ينهي هذه الملذَّات ؟ ينهي هذه الحماقات ؟ أليس هناك موت ؟! ﴿ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ﴾ شريط متحرك عليه أشخاص ، في نهاية المكان يتساقط الناس ، ويأتي أناسٌ آخرون ، هكذا الحياة ، أُناسٌ يولدون ، وأناسٌ يموتون ، على مستوى البشر ، وعلى مستوى النبات ، وعلى مستوى الجماد ، وعلى أي مستوى ، هناك فناء ، وهناك ولادة جديدة :

﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86) ﴾

[ سورة الحجر ]

هناك خلق مستمر ، وهناك فناء مستمر ، كل إنسان له عمر ، مهما اعتنى بصحته ، مهما كان أكله مدروساً ، مهما كانت ممارساته الرياضيَّة عالية المستوى بعد ذلك ينتهي أجله ، لو أنه بالرياضة ، وبالمشي ، وبالدقة التامة في الطعام والشراب ، يتمكن أن يعيش صحيح الجسم ، لكن لابدَّ من الموت ، يأتي ملك الموت . .﴿ بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ إذا طال على الإنسان العمر بالمعصية قسا قلبه ، وظن أنه مُخَلَّد ، وظن أنه لن يموت ، هكذا يتوهَّم .

 

القرآن بشير ونذير ووعد ووعيد :


﴿ قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ ﴾ هذا الوحي ، لأن هذا الوحي فيه وعدٌ ووعيد ، فيه ذِكْرٌ لأهل الجنة ، وما ينعمون به ، وفيه ذكرٌ لأهل النار ، وما يَشْقَوْنَ به ﴿ قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ ﴾ أي هذا كتاب فيه إنذار ، وفيه تبشير ، وفيه تحذير ، وفيه أمر ، وفيه نهي ، وفيه حكمة ، وفيه قواعد ، وفيه كُلِّيات ، وفيه أخبار ، وفيه تنبُّؤات للمستقبل ، وفيه قصص الأنبياء السابقين ، وفيه مشاهد من يوم القيامة ، وفيه آيات كونية ، وفيه كل شيء . .﴿ قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ﴾ لكن هذا الذي جعل في أذنه وقراً عن أن يسمع الحق هذا لا يسمع ، ما هو الوقر ؟ الشهوات ، لقول النبي عليه الصلاة والسلام : عن أبي الدرداء  :

(( حبُّكَ  الشَّيءَ يُعمي ويُصِمُّ . ))

[ هداية الرواة  :حكم المحدث  : إسناده ضعيف ]

فالشهوات الدنيوية بمثابة وقرٌ يصم الآذان عن سماع الحق .

 

من علامات العقل أن تصل إلى الشيء قبل أن تصل إليه :


﴿ قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ سبحان الله ! الكافر لا يخاف إلا بعينه ، يقترب في هذه الناحية من البهيمة ، الإنسان إذا رأى في غرفة شقاً عرضياً ، وكان مهندساً ، والبناء قائم ، والبيت مسكون ، يتوقَّع أن هذا الشق خطير ، أن الأساس فيه انهيار بطيء ، يمكن أن يملأ الشق مادة ، ثم يمتحن هل الشق يتفاقم ؟ لأن فيه فكراً ، فيه دماغاً ، فيه تفكيراً ، فيه عقلاً ، لو كان هذا الشق في حائط إسطبل ، وفي هذا الإسطبل دابة فهل تخاف الدابة ؟ تقلق ؟ تفكر ؟ تسأل مهندساً ؟ مستحيل ، دابة ، متى تهرب الدابة من الإسطبل ؟ إذا وقع عليها السقف ، في هذه الحالة فقط ، أما الإنسان فأذكى من ذلك ، الإنسان يخلي البيت ، والبيت قائم ، يقول لك : أصبح البيت في خطر ، من علامات العقل أن تصل إلى الشيء قبل أن تصل إليه ، من علامات العقل أن ترى الأخطار القادمة ، أما كل إنسان إذا واجه الخطر فيخاف حتى البهائم ، لكن الإنسان كرَّمه الله بالعقل ، فبالعقل يرى الأخطار المتوقعة قبل أن يقع فيها ، فلذلك الكافر يقترب من البهيمة بحيث إنه لا يخاف إلا بعينه ، فهو في بحبوحة ، فهو في صحة يقول لك ، أعرض عن ذكر الله ﴿ أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا﴾ ؟

 

الشّدة علاج الغافلين :


أما لما قال ربنا عزَّ وجل : ﴿ وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ ﴾ لم يقل : مسَّهم عذابٌ .﴿ نَفْحَةٌ ﴾ أي الله عزَّ وجل ذكر النفحة تصغيراً لهذا العذاب ، أي شيء طفيف جداً ، نفحة ، جعلها نكرة ، وجعلها مفردة ، وعبَّر عنها بالمس ، ليس أصابهم ، بل مس ، لو كان التيار الكهربائي عالي التوتر ، ومسّ الإنسان مساً خفيفاً لانتفض من أخمص قدميه إلى قمة رأسه ، على المس ، أما لو أمسكه فيصبح فحماً على الفور ، فالمس غير الإمساك ، إذا أمسك الإنسان تياراً كهربائياً يتفحم على الفور ، إذا كانت شدته ستة آلاف فولت ، أما لو اقترب من ساحة هذا التيار فيصعق ، فربنا عزَّ وجل عبَّر عن أن عذاب الله لا يحتمل ، لو أن نفحةً منه مسَّت بعضهم مساً ! ﴿وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ أين استغناؤهم ؟ أين إهمالهم ؟ أين إعراضهم ؟ أين كبرهم ؟ أين استخفافهم ، أين استهزاؤهم ؟ كله تلاشى ، لأن الكافر يخاف بعينه ، لا يتَّعظ إلا بعد التأديب ، لا يُصلي إلا بعد المرض ، لا يصلي إلا وهو فاقد الحُرِّيَة ، هكذا المؤمن ؟ ألا يكفي هذا الكون العظيم كي يقودك إلى الله عزَّ وجل بعظمته ؟ ألا تكفي هذه النعَم التي سخَّرها الله لك كي تلفتك إلى الله عزَّ وجل ؟ ألا تكفي هذه المودة من الله عزَّ وجل ؟ هذا الخلق القويم ؟

﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)  ﴾

[  سورة التين  ]

هذا الخلق الكامل ، هذه الصحة ، هذه الأجهزة ، هذا السمع ، هذا البصر ، هذا البيان ، هذا العقل ، هذا القلب ، الرئتان ، المعدة ، الأمعاء ، العضلات ، الزوجة ، الأولاد ، البيت ، العمل ، الرزق ، هذه النعَم التي أسبغها الله عليك ظاهرةً وباطنة . لذلك الإنسان البطل هو الذي يأتي ربه طَوعاً ، والإنسان الآخر يأتيه بعد قَهْرٍ ، أو بعد معالجةٍ ، أو بعد مصيبة ، والثاني جيد ، لكن ما أشرف من يعرف ربه في الرخاء ! وما أعظمه !  وما أنبله ! وما أكثر وفاءهُ ! وما أكثر شكره ! من يعرف الله في الرخاء من دون مشكلة ، ﴿ وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ ﴾ نفحة فقط .. ﴿ لَيَقُولُنَّ يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ حدثني أخ كان راكباً طائرة ، وكانت على وشك السقوط ، قال لي : منظر لا يوصف ، ثلاثمئة راكب كل واحد شخصية مهمة ، مثلاً تاجر ، مثلاً سائح ، كل واحد معتز بشكله ، بجماله ، بماله ، رجل أعمال مثلاً ، حينما شعر الركاب أن الطائرة على وشك السقوط شيءٌ لا يوصف ، أين اعتزازه بنفسه ؟ أين استغناؤه عن رحمة الله ؟ أين استخفافه بالدين ؟ أين تعاليه ؟ أين هذه الصفات كلّها ؟ ذهب كبرياؤه ، وذهبت عزته الفارغة ، وذهب اعتداده بنفسه ، واعتداده بماله ، وقوله : أنا وأنا ، صار كالأطفال تماماً ، كالطفل ، حتى إن قائد الطائرة أمر بعض المضيفين أن ينبِّه الركاب إلى وضع أحزمة الأمان ، لم يسمع أحد من الركاب مقالته ، لشدة الهول الذي هم فيه ، هذا المُضيف نظر إلى الركاب فإذا هم غارقون في الدعاء ، وفي البكاء ، يندبون حظَّهم ، ويندبون حياتهم ، ويستغيثون ، إلا أن هذا المضيف رأى واحداً من الرُّكاب أَهْدَأَهم أعصاباً ، فتوجه إليه فإذا هو مغمى عليه ﴿ وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ ﴾ مستهم ﴿ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ الآن عرفت الله عزَّ وجل ؟ بالطائرة عرفته ؟ على الأرض لم تعرفه ؟ وأنت جالس في بيتك لم تعرفه ؟ وأنت بين أهلك وأولادك ، وأنت في معملك ، وفي دكانك ، وفي متجرك ما عرفته ؟ وأنت في نزهتك ما عرفته ؟ إلا حينما تركب الطائرة تعرفه ، أو تركب السفينة ويهيج البحر !!

 

نصب الموازين يوم القيامة للحساب :


﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ أي الموازين المُقْسِطَة ، العادلة ، أي ميزان دقيق جداً ، فهنيئاً لمن قاس عمله بميزان الله ، قد يقاس عمل الإنسان بميزان الأرض ؛ فلان حَصَّل مالاً وفيراً ، بمقياس الناس يُعَد ذكياً ، يقول لك : ركَّز وضعه ، اشترى بيتاً ، عنده كل وسائل الرفاه في بيته ، بمقياس أهل الأرض يُعد هذا الإنسان ذكياً ، نبيهاً ، شاطراً ، لكن بمقياس السماء ، بمقياس خالق الكون يُعَدُّ هذا الدخل غير مشروع يحاسب عليه ، فهنيئاً لمن قاس أعماله لا بمقياس الناس ، ولكن بمقياس رب الناس ، إذا قِسْتَ أعمالك بمقياس رب الناس عرفت أن هناك حساباً دقيقاً ، وسؤالاً دقيقاً . .

﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92)عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) ﴾

[  سورة الحجر  ]

السؤال صعب ، لو قيل لإنسان : تعال إلينا بعد يومين لنسألك بعض الأسئلة ، أنا أؤكد لكم أنه لا ينام الليل ، إنسان لإنسان ، طبعاً إذا كان إنساناً مُهِماً ، قال لك : تعال إلينا بعد يومين لنسألك بعض الأسئلة ، فكيف إذا كان رب العالمين سيحاسِبُكَ عن كل أعمالك ؟ 

 

عدلُ الله تعالى عدل مطلق :


﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ لا أعرف حبة الخردل إذا كانت تُرى بالعين ، لو أن لك عملاً صالحاً ، أو لا سمح الله عملاً سيئاً بما يعادل حبَّة الخردل ﴿ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ أحياناً ابتسامة في غير موضعها ، فيها استعلاء ، أو استهزاء ، تُحاسب عليها ،  حبة من الرز ألقيتها ولم تأكلها تحاسب عليها ، هذه الحبة خُلِقت لك ، كأنها تقول لك : لماذا لم تأكلني ، أنا خلقت من أجلك ؟ لماذا رميتني في المهملات ؟ لماذا ؟ ﴿ وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ حتى الأب يحاسب إذا قَبَّلَ ابناً دون آخر ، يحاسب ، أين العدالة ؟ عن عائشة أم المؤمنين :

(( كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم يَقْسِمُ فيَعْدِلُ ويقولُ  : اللهم هذا قَسْمِي فيما أَمْلِكُ فلا تَلُمْنِي فيما تَمْلِكُ ولا أملِكُ . ))

[ ضعيف أبي داود  : حكم المحدث : ضعيف ]

تملك أن تكون عادلاً بين أولادك ، قد لا تملك قلبك ، هذا شيء أنت معذور فيه ، لكن السلوك تملكه ، أن تقبّل الاثنين ، وأن تأتي للاثنين بحاجات متشابهة ﴿ وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ أي الله عزَّ وجل حسيب ، يحاسب كلاً بحسب عمله . 

 

الكتب السماوية السابقة غير المحرَّفة نور وذكر :


﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ ﴾ الفرقان هنا أي التوراة ، لأنه يفرِّقُ بين الحق والباطل ، والضياء نورٌ في قلب المؤمن ، يريه الخير خيراً ، والشر شراً ﴿ وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ﴾ يذكره بآخرته ، فهذه صفات كتب الله عزَّ وجل ، التوراة والإنجيل والقرآن ، فرقانٌ وضياءٌ وذِكْر ، فرقان فيه تفريقٌ بين الحق والباطل ، وضياءٌ فيه نورٌ يقذف في القلب ترى به الخير خيراً ، والشر شراً ، وفيه تذكيرٌ للمتقين .

 

خشية الله بالغيب :


من هم المتقون ؟ ﴿ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ﴾ هذا الذي يخشى بالغيب ، من الطالب الذي ينجح ؟ هو الذي يتصور الامتحان قبل مجيئه ، ويستعد له ، فإذا جاء الامتحان كان في مستوى الامتحان ، أما الذي لا ينتبه للامتحان إلا وقت الامتحان فهذا لا ينجح ﴿ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ ﴾ أي قبل أن يروا بطشه ، وقبل أن يروا عقابه الأليم ، وقبل أن يروا آياته تقع كما وَعَدَ الله بها ، وقبل أن يذهب مال المُرابي ، وقبل أن يصاب الزاني بأمراضٍ وبيلة ، وقبل أن يَتْلَفَ مال من أكل أموال الناس بالباطل ، قبل أن تقع هذه الويلات يعرف الله عزَّ وجل في الوقت المناسب .

 

إنكار الكفار للقرآن وأحقيته :


﴿ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ﴾ أي التوراة فرقان ، وضياء ، وذكر للمتقين ، وهذا القُرآن ذكرٌ مباركٌ ، أي كثير الخير﴿ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ﴾ أتنكرون أحقِيَّتَهُ ؟ أتنكرون أن فيه الخير الكثير ؟ أتنكرون أنه يهدي للتي هي أقوم ؟ أتنكرون أنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ؟ أتنكرون أن هذا الكتاب تعليماتٌ من عند الخالق لو نفِّذت بحذافيرها لسعد الإنسان بها ؟

 

قصة إبراهيم عليه السلام تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم :


﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ﴾ الآن جاءت قِصَصُ الأنبياء لتسلّيَ النبي عليه الصلاة والسلام ، تطمئنه ، تخفف عنه ، لتجعله يستأنس بأن أنبياء سابقين جاؤوا إلى أقوامهم ، وعارضوهم ، وبالغوا في إيذائهم ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ ﴾ قيل : الرشد هنا هدي إلى التوحيد ، وإلى معرفة أنه لا إله إلا الله ، لأن التوحيد نهاية العلم ﴿ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ﴾ أي علم الله عزَّ وجل يشمل كل شيء ﴿ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ﴾ فَكَّر ﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ﴾ قطعة حجر منحوتة على شكل صنم يأتي الناس يعبدونها ، يسألونها الحفظ ، يخضعون لها ، يخشعون أمامها ، عمل غير منطقي ، الله عزَّ وجل كرَّمنا بالمنطق ، كرمنا بالعقل ، قال : ﴿ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ﴾   طبعاً : ﴿ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ(53)﴾ هذا تُراث ، اسمع كلام الناس : هذه عادات ، تقاليد ، أعراف اجتماعية ، أتريد أنت أن نُعَطِّلَ هذه الأعراف ؟ أن نعطل هذه التقاليد ؟ أن نعطل هذه العادات ؟ يقول لك : عادات ، وتقاليد ، وأعراف ، وهكذا نشأنا ، وهكذا تربينا ، وهكذا كان آباؤنا ، وهكذا كان أجدادنا ، وهكذا المجتمع ، أنا مع الناس يا أخي ، سيدنا إبراهيم كان حر التفكير ، قال :﴿ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) ﴾ هكذا .

عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : 

(( لا يكن أحدكم إمعة ، يقول : أنا مع الناس ، إن أحسن الناس أحسنت ، وإن أساؤوا أسأت ، ولكن وطنوا أنفسكم ، إن أحسن الناس أن تحسنوا ، وإن أساؤوا ألا تظلموا . ))

[ نقد النصوص  : حكم المحدث   : إسناده ضعيف ]

أي لا يكون تابعاً ، يكون متبوعاً ، من هو الإمَّعة ؟ الذي يقول : أنا مع الناس إن أحسن الناس ، وإن أساؤوا أسأت .

فالكلمة التي يقولها الناس : أخي الناس كلهم هكذا ، لماذا تغش ؟ الناس كلها تغش ، لماذا تأكل مالاً حراماً ؟ الناس كلها تأكل مالاً حراماً ، هل هذا جواب ؟! هذا جواب البهائم ، أنت مؤمن ، مفكِّر ، هذا لا يرضي الله عزَّ وجل ، هذا محرَّم ، أخي كيف دخلت على النساء ؟ والله استحيت ، ما هذه الكلمة : استحيت ؟ هؤلاء النساء في هذه الحفلة مزيَّنات بأبهى زينة ، كيف دخلت عليهن ؟ مراعاةً للأعراف والتقاليد هكذا المجتمع ، هكذا ، كيف حضرت هذا العرس المختلط في فندق ؟ والله لأني دعيت ، النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لبوا الدعوة " ، أنا أردت من هذا الكلام أن هذه التقاليد والعادات والأعراف التي تخالف صريح القرآن يجب ألا نعبأ بها ، أنت عبد لله الواحد الديَّان ، ولست عبداً للمجتمع ، أنت عبدٌ لله ، ولستَ عبدًا للتقاليد ، والعادات ، والأعراف ، وما تعارف عليه الآباء والأجداد .

 

الحق لا يُعرَف بكثرة التابعين :


أما كلام سيدنا إبراهيم : ﴿ قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ الحق لا يعرف بالكثرة ، نحن لا نعرف الحق بالرجال ، ولكن نعرف الرجال بالحق ، عندك مقياس دقيق ، هذا المقياس يطبَّقُ على الناس فتعرف ما إذا كانوا على الحق أم على الباطل ، عندنا كتاب بيننا ، إذا ربنا عزَّ وجل قال :

﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)﴾

[ سورة النور ]

فالذي يُطْلِقُ بصره ليس على الحق قولاً واحداً ، ربنا عزَّ وجل يقول :

﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) ﴾

[ سورة البقرة ]

فالذي يأكل مالاً حراماً أساسه الربا ليس على الحق ، ولو أوّل هذا بألف تأويلٍ وتأويل ، ﴿ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ(54)﴾ لا عبرة للكثرة . .

﴿ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116)﴾

[ سورة الأنعام ]

 

ردّ الكفار لدعوة التوحيد وتأكيد الأنبياء لألوهية الله وحده بالقول والعمل :


﴿ قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ﴾ كلامك هذا خطير ، نحن في ضلال ؟ وآباؤنا كذلك ؟ أنت جادٌ في هذا الكلام أم أنت تسخر منا ؟ ﴿ قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ ﴾ الذي ينبغي أن تعبدوه هو الله ، وليس هذه الأصنام ، هذه أحجار لا تنفع ولا تضر ، ولا تسمع ، ولا تستجيب ﴿ قَالَ بَل رَبُّكُمْ ﴾ أي يجب أن تعبدوا ربَّكم . من ربكم ؟ ﴿ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ أشهد لكم أن خالق الكون هو وحده يستحقُّ العبادة ، وأن الذي خلق السماوات والأرض هو وحده ينبغي أن يعبد من دون غيره ﴿ وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ﴾  سأريكم ماذا سأفعل بأصنامكم ؟ ﴿ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً ﴾ دخل إلى معبدهم ، وقطَّع رؤوسهم بفأسه ﴿ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ ﴾ إلا أكبر صنم لم يقترب منه ، بل وضع الفأس في رأس الصنم الكبير ﴿ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ﴾ ، تعبدونهم من دون الله ، أصنام ، هذا الكبير هو الذي فعل هذا ، الفأس بيديه ، فلما دخلوا إلى معبدهم : ﴿ قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى ﴾ فتىً ، وقد قيل : ريح الجنة في الشباب .

﴿ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ ﴾ تعذيبه ﴿ قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ﴾ طبعاً جيء به ليحاكَم . 

 

العقل السليم يرفض عبادة غير الله تعالى :


﴿ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ﴾ سامح الله بعضهم إذ نسب إلى هذا النبي الكريم الكذب ، هذا ليس بكذب ، هذا لفت نظر ، هو يريد أن يوقظهم من غفلتهم ، أن يصحوا من سكرتهم ، هؤلاء آلهة يعبدون من دون الله ؟! لو أنكم تعتقدون أنهم آلهة فيجب أن تقبلوا أن الذي فعل هذا كبيرهم ؟ إله ، أليس في إمكانه أن يقطع رؤوس من هم دونه ؟ هو أراد أن يوقظ فكرهم ، أراد أن يحررهم من الأوهام ﴿ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ﴾   اسألوهم ، لا ينطق ، إن كان لا ينطق أيُعبد من دون الله ؟! إذا كان عاجزاً عن النطق فهو عن الحركة أعجز ، لا يوجد كلام ، لا كلام ، ولا سمع ، ولا بصر ، أيضاً لما يعتمد الإنسان على إنسان آخر ، والإنسان الآخر ميت ، أو سيموت ، أيضاً وقع بالشرك ، أحياناً يكون للشخص أب ، هذا الأب ليس على ما يرام ، لكنه غني ، فيتابع أباه على ضلال طمعاً في ماله ، أنت بهذا أغضبت ربك ، أحياناً يكون لشخص صديق ، قوي ، يعتمد عليه ، وينسى الله عزَّ وجل ، فهذا شرك أيضاً ﴿ فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ ﴾   فكروا ﴿ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ﴾ والله كلامه منطقي ، كيف ننفي عن هذا الصنم الكبير أنه فعل هذا بالأصنام الأخرى ؟ إذاً نحن كيف نعبده ؟ أنعبد حجراً لا يتكلَّم ولا ينطق ولا يتحرك ؟! 

 

حمية الجاهلية حجاب بين العبد والتوحيد :


قال : ﴿ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ ﴾ ثم أخذتهم الحمية ، سيطرت عليهم العادات والتقاليد ، رجعوا إلى كفرهم ﴿ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ﴾ تعلم أنت يا إبراهيم أن هذه الأصنام لا تنطق .. ﴿ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلَا يَضُرُّكُمْ﴾ كيف ؟ لما قال لهم : ﴿ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ﴾  للحظاتٍ قليلة أدركوا أنه على حق ، وأنهم على باطل ، ثم قالوا : تعلمُ يا إبراهيم أن هذه الأصنام لا تنطق ، فكيف تُطالبنا أن نسألها ؟! عندئذٍ تناولهم بالحجة القاطعة قال : ﴿ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ ﴾ أف : اسم فعل مضارع بمعنى أتضجر ، أي ما أتعسكم ! ما أشقاكم ! ما أغباكم ! ما أضْيَقَ تفكيركم ! ﴿ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ لكن روح الجماعة الضالَّة غَلَبَت على الحق .

 

تآمر المشركين على إحراق إبراهيم عليه السلام :


﴿ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ﴾ هنا المعجزة ، الله سبحانه وتعالى كان من الممكن ألا يعثروا عليه ، إن لم يعثروا عليه فليس هناك معجزة ، وكان من الممكن أن تأتي سحابةٌ تمطر مطراً غزيراً تطفئ النار ، ليس هذا معجزة ، ولكن الله سبحانه وتعالى مكَّنهم من إلقاء القبض عليه ، ومَكَّنَهُم من أن يجمعوا حطباً لأسابيع عديدة فجعلوها كالتلَّة الكبيرة ، وأشعلوا هذا الحطب حتى اتقدت النار ، وفي هذه اللحظة الحرجة ألقوه في النار . 

تروي بعض الكتب أن سيدنا جبريل عليه السلام جاءه وقال له : " أتريد من الله شيئاً ؟ ألك من حاجة ؟ " قال : " منك ؟ " ، قال : " لا ، من الله " ، قال : " علمه بحالي يغني عن سؤالي " أي الإنسان إذا وقع في أزمة رب إبراهيم موجود ، هوَ هو ، كن صادقاً مع ربك ، وكن مستقيماً على أمره ، وكن مخلصاً له ورب إبراهيم بالوجود ، الذي أنقذ إبراهيم ينقذك من كل ورطة ، والذي أنقذ يونس من بطن الحوت . .

﴿ وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)﴾

[  سورة الأنبياء  ]

هو موجود ، ﴿ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ﴾ أخذتهم العزة بالإثم . 


  من دعا ربَّه واستجار به فالله ينقذه من كل شدة :


كلمة واحدة ﴿ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً ﴾ قال : لو أن الله عزَّ وجل قال لها : كوني برداً لمات من البرد ، وهو في النار ، لكن : ﴿ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً ﴾ لا تؤذه ، قال بعض العلماء : " إن الله سبحانه وتعالى أفقد النار قوة الإحراق " ، وبعضهم قال : " أعطى جسم إبراهيم عليه الصلاة والسلام تحملاً " ، وبعضهم قال : " جعل بينه وبين النار حاجزاً " ، وأصَحُّ الأقوال أن النار نفسها فقدت قوة الإحراق لقوله تعالى : ﴿ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ هذه معجزة ، لكن والله الذي لا إله إلا هو على شكل مُخَفَّف يقع منها كل يوم ، بهذه الحدة هذه لسيدنا إبراهيم ، هذه معجزة ، لكن إذا دعا المؤمن ربَّه ، واستجار به ، والتجأ إليه ، وكان في ورطةٍ كبيرة ، وهو مُحِق ، فالله سبحانه وتعالى ينقذه من كل شدة . 

﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62)﴾

[ سورة النمل ]

 

قصة إبراهيم دعوة إلى الالتجاء إلى الله في الشدائد والمحن :


هذه القصة ليست للتسلية ، هذه قصة مغزاها أن تلتجئ إلى الله في ساعات الشدة كما التجأ إبراهيم عليه السلام في هذه الساعة الشديدة ، الله لن يتخلَّى عنك ، الله سبحانه وتعالى يُدافع عنك ، وينصرك ما دمت على الحق . 

﴿ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79)  ﴾

[ سورة النمل  ]

ما الذي يدعوك إلى التوكل على الله ؟ لأنك على الحق المبين . .﴿ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ﴾ .

﴿ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ ﴾ سيدنا رسول الله اللهم صلّ عليه وسلم في الهجرة ألم يأت سراقة طمعاً بمئتي رأسٍ من الإبل ليأخذ النبي إلى قريش ؟ ما الذي حصل ؟ غاصت قدما فرس سراقة في الرمال فوقع من عليها ، المرة الأولى والثانية والثالثة ، حتى شَهِدَ أن هذا الإنسان معصوم من أن يناله أذى ، أنت أيضاً مؤمن .

﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) ﴾

[ سورة الطور ]

إذا كنت مع الله ، وصادقاً ، ومخلصاً ، فالله عزَّ وجل لن يُسْلِمَك . .

﴿ الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)﴾

[ سورة النساء ]

لن يخذلك ، ولن يسلمك ، ولن يتخلَّى عنك ، وزوال السماوات والأرض أهون على الله من أن يتخلى عن عبده المؤمن. 

﴿ وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلّاً جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ﴾ وسوف تأتي في الدرس القادم قِصَصُ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ؛ سيدنا لوط ، وسيدنا نوح ، وداود ، وسليمان ، وأيوب ، وإسماعيل ، وإدريس ، وذو الكفل ، وذو النون ﴿ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ لهذا سميت هذه السورة سورة الأنبياء ، فيها ذكر الأنبياء بشكلٍ مقتضب ، جاءت قصة سيدنا إبراهيم بشكلٍ مُفَصَّل ، وسوف تأتي قصص الأنبياء بشكلٍ مقتَضب ، كل نبي الحدث الكبير في حياته ، والصفة التي يتميَّز بها ، وإلى درسٍ آخر إن شاء الله تعالى .

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور