وضع داكن
19-04-2024
Logo
الدرس : 02 - سورة القصص - تفسير الآيات 8 - 15 العناية الربانية بموسى عليه السلام
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

القصة للاستنباط والعبر :


 أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الثاني من سورة القصص.

وصلنا في الدرس الماضي عند قوله تعالى: ﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ﴾ .. قلت لكم في الدرس الماضي: إن القصة إذا وردت في القرآن الكريم فالمقصود منها المغزى أو الاستنباط، وكل قصةٍ في القرآن الكريم فيها من الحقائق والاستنباطات والمغازي ما تُضيء لنا طريق حياتنا نحن، لو لم تكن هذه القصة تضيء لنا الطريق طريق الله عزّ وجل لما كان من معنى أن تَرِد في قرآنٍ يُتلى إلى يوم القيامة، وقد انقضت، ومات كل أبطالها، على كل نعود إلى متابعة القصة مع محاولةٍ متواضعة لاستنباط بعض الحقائق. 

 

العناية الربانية بموسى عليه السلام :


﴿وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ يُستنبط أن فرعون هذا المعنيَّ بهذه القصة لم يكن له ولدٌ، وذلك من قوله تعالى: ﴿لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ .. فرعون الذي أعطى أمراً مشدداً بقتل كل أطفال بني إسرائيل الذُكور، فكيف نَجَا هذا الغلام مِن القتل؟ ما الذي حصل؟ ﴿وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ﴾ .. أيْ الله عزّ وجل ألقى محبته في قلب امرأةِ فرعون، أحياناً ربنا سبحانه وتعالى يردُّ على تدبيرٍ عظيم بتصرفٍ صغير، ما الذي نجّا النبي عليه الصلاة والسلام من القتل في غار حِراء؟ عنكبوت، هذا من آيات الله الدالَّة على عظمته، لو أن جيشاً كبيراً مدججاً بالسلاح والعتاد هاجم جهةً ما، ورّدت هذه الجهةُ عليه بجيشٍ آخر، ودارت معركةٌ طاحنةٌ، مات فيها آلاف القتلى، وأُصيب آلاف الجرْحى، وأسفرت هذه المعركة عن انتصار الجيش المُدافع، هذا نصر، ولكن أحياناً تأتي رياح عاتية تقلب القدور، وتقتلع الخِيام، وربنا سبحانه وتعالى يقول:

﴿ وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)﴾

[  سورة الأحزاب  ]

أيْ من دلائل عظمة الله عزّ وجل أنه يرد على التدبير العظيم والكيد الكبير بشيءٍ لا يُرى بالعين، أيْ هذا الطفل الذي سيقضي على مُلك فرعون ما سلاحه الشديد؟ سلاحه عاطفي، أنَّ الله سبحانه وتعالى ألقى محبته في قلب امرأة فرعون، ماذا يُستنبط؟ يستنبط أنك في تعامُلك مع أي إنسان إما أن يلقي الله محبتك في قلبه، فإذا هو في خدمتك، وإما أن يلقي الله في قلبه بغضك، فإذا هو عدو شرس، ويؤكد هذا قول النبي عليه الصلاة والسلام: عن أنس بن مالك:

(( كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يُكثرُ أن يقولَ: يا مقلِّبَ القلوبِ ثَبِّتْ قلبِي على دينِك، فقلت: يا نبيَّ اللهِ آمنَّا بك وبما جئتَ به فهل تخافُ علينا؟ قال: نعم، إن القلوبَ بينَ إصبعينِ من أصابعِ اللهِ يُقلِّبُها كيفَ يشاءُ. ))

[ صحيح الترمذي ]

أي أنت في تعاملك مع الناس إذا أراد الله أن يُكرمك، وأن يرحمك، ألقى حبَّك في قلب الآخرين، ألقى حبك في شخصٍ لا تعرفه، تلتقي به لأول مرة، فإذا هو يتمنَّى أن يقدِّم لك كل شيء، وإذا أراد الله أن يؤدِّب إنساناً ألقى بغضه في قلب مَن حوله، فإذا هم يضيِّقون عليه، إذاً القلب بين أصبعين من أصابع الرحمن، تدبيرٌ عظيم، فرعون جهَّز جيشاً من القابلات كي تتبّع كل قابلةٍ المرأة التي ستلدُ غلاماً ذكراً، ويجب أن تخبر عنه مسبقاً، وأن تتابع تطورات الحمل إلى أن يوضع، فتأخذه القابلة، فَيُلقى، أو يذبح، أو يقتل بشكلٍ أو بآخر، هذا الإجراء العظيم، هذا التدبير الكائد، كلُّ هذا أخفق في ميل قلب امرأة فرعون إلى هذا الطفل الجديد، كل كيد قريش ألغي حينما جاءت حمامةٌ على باب غار ثور، حينما نسج العنكبوت بعض الخيوط، أي جيش عظيم، مطاردة هائلة، تدبير كائد أُلغي بعنكبوت نسجت بيتها على فوهة غار ثور، وانتهى الأمر، ماذا يعني هذا؟ يعني أن الله عزّ وجل حينما يريد أن ينصرك على خصمك، حينما يريد أن يكرمك بشيءٍ لا يُرى بالعين يلقي حبك في قلب الناس، لذلك معنى قوله تعالى:

﴿ أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)﴾

[ سورة طه ]

أيْ إذا ألقى الله محبتك في قلوب الخلق أصبح الخلق كلُّهم في خدمتك، وفي طاعتك، أحياناً الزوج المؤمن، الصادق، المنيب، المخلص، الذي يقفُ عند حدود الله، يُلقي هيبته في قلب زوجته، وأحياناً حينما يعصي، حينما ينحرف، حينما يتجاوز حدود الله عزّ وجل تُنْزَع هذه الهيبة من قلب زوجته، فإذا هي تخاصِمه، فإذا هي تُنَاجزه، فإذا هي ترد عليه بكلمات أقسى، أين الهيبة؟ ضاعت الهيبة، إذاً قلب الزوجة بين أصبعين من أصابع الله عزَّ وجل يقلبه كيف يشاء، إذاً قول الإمام الشعراني رحمه الله تعالى: "إنني أعرف مقامي عند ربي من أخلاق زوجتي"، صحيح، لأن قلب الزوجة بيدِ الله عزّ وجل، ربنا عزّ وجل يقول:

﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)﴾  

[ سورة الأنبياء  ]

أحياناً قلب الشريك مادمت معه صادقاً، مخلصاً، وقّافاً عند كتاب الله، يلقي محبتك في قلب شريكك، فتأخذ المودة والمحبة طريقها إلى قلب الشريكين، فإذا هما متماسكان، متعاونان، هذه لقطة، ولك أن تقيس عليها آلاف الحالات..﴿وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ﴾ أيْ الله عزّ وجل كسا هذا الصبي الصغير من الجمال، والجلال، والبهاء، والألق، والبريق ما جعل قلب امرأة فرعون يذوب حباً لهذا الغلام، إذاً كل تدبير فرعون بقتل أبناء بني إسرائيل لئلا يقضوا على ملكه تلاشى، هذا الذي سيقضي على ملكه اقتحم عليه قصره، ودخل إلى عُقْرِ داره، وهو بين الأحضان يدلل، ويكرَّم، ويُعتنى به.

 

بطولة الإنسان أن يكون مع الله ومعتمداً عليه :


لذلك قال الله تعالى: ﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ﴾. . البطولة أن تكون على المنهج، لأنك إن لم تكن على المنهج الصحيح فإنَّ أقرب الناس إليك يقضي عليك، أقرب الناس إليك يتنكَّر لك، لأن كل من حولك بيدِ الله عزَّ وجل، فلذلك الإنسان العاقل لا ينجيه من الله إلا أن يكون مع الله، لا ينجيه من الله إلا أن يكون وقَّافاً عند أمر الله، أما ذكاؤه، حيلته، خبرته، قوته، جَمعه، هذا كله لا قيمة له عند الله عزّ وجل، لأنه يؤتى الحذِرُ من مأمنه، على نفسها جَنَتْ براقش، إذا أراد الله إنفاذ أمرٍ أخذ من كل ذي لبّ لبَّه، أنا أريد من هذه اللُقطة، أو من هذه الآية الصغيرة أن تعرفوا أن قلوب الخلقِ كلّهم بيدِ الله عزّ وجل، فإذا أراد الله أن يُكرمك ألقى حبك في قلوبهم، وإذا أراد أن يؤدِّبك ألقى البغض والشك في قلوبهم، فإذا هم يتنكَّرون لك، والقصص التي تسمعونها من أقربائكم، من أصدقائكم كثيرة. 

هناك مشكلة، أحدهم قال له الموظف: أنت امش، لم يدقق، لماذا دقق مع فلان، وخلق له مشكلة، وتساهل مع فلان؟ لو سألت هذا الموظف يقول لك: والله لا أدري، هكذا ألهمني الله، أي أنن دائماً في علاقاتك مع الآخرين يلهم الله عزّ وجل من حولك بإكرامك أو بتأديبك، فالبطولة أن تكون معه، البطولة أن تكون على أمره، البطولة أن تكون معتمداً عليه، البطولة أن تتّكِلَ عليه، البطولة ألا تشرك به شيئاً. 

أطع أمرنا نرفع لأجلك حُجبنا           فإنا منحنا بالرضا من أحبنــا

ولُذ بحمانا واحتــــــــم بجنابنــا           لنحميك مما فيه أشرار خلقنا

* * * 

﴿وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ أنّ هذا الطفل الذي التقطوه، والذي ربُّوه، وأكرموه سيُنهي ملكهم، وهم لا يشعرون، لذلك الدُعاء حينما يدعو بعض خطباء المساجد على الأعداء: "اللهم اجعل تدميرَهم في تدبيرِهم"، ليس هذا ببعيد، أيْ الكافر أحيانا يدبِّر فيكون تدميره في هذا التدبير، لأن الله عزّ وجل مع المؤمنين دائماً.

 

على المرأة المؤمنة أن تصبر على زوجها المقصِّر اقتداء بزوجة فرعون:


﴿وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ﴾ .. لكنَّ امرأة فرعون من النسوة الأربعة اللاتي كَمُلَن بنص حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام: عن أبي موسى الأشعري:

(( كَمَلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ: إِلَّا آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ بنْتُ عِمْرَانَ، وإنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ علَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ علَى سَائِرِ الطَّعَامِ. ))

[ صحيح البخاري ]

هؤلاء النسوة اللواتي كملن، لذلك ماذا قالت امرأة فرعون؟

﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11)﴾

[  سورة التحريم  ]

استنبط بعض العلماء أن على المرأة المؤمنة أن تصبر على زوجها المقصِّر، أو على زوجها العاصي، أو على زوجها المنحرف، أي هذه المرأة التي تقول: أنا لا أريده، ضقت ذرعاً به، هذه لم تقتدِ بآسية امرأة فرعون.

 

وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً : للآية التالية تفسيرات عدة:


 ﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً﴾ .. فسر العلماء هذه الآية تفسيراتٍ عدة: أحياناً يكون قلبُ الإنسان ممتلئاً بهمومٍ كثيرة جداً، أحياناً يكون مهتماً لابنه، ولزوجته المريضة، ولشريكه المسافر، وللبضاعة التي لم تُبَع معه، عنده مجموعه هموم، أحياناً تأتي مشكلة خطيرة جداً تلغي كل هذه الهموم، يصبح القلب فارغاً إلا من هذا الموضوع، هذا يحدث، أيْ أنّ الإنسان في الأحوال العادية له هموم كثيرة، أحياناً من جهة صحته يساوره شيء من القلق، من جهة أولاده يلازمه خوفٌ من عدم النجاح، من جهة زوجته يوجد شعور بعدم الرضا، من جهة عمله يقول لك: الأسواق فيها كساد، من جهة أقربائه هناك خصومة، فإذا أراد أن ينام تظهر هذه الهموم همًّا هَمًّا، من جهة كذا، ومن جهة كذا، لكن لا سمح الله ولا قدَّر؛ لو أصابه مرضٌ عُضال وجاء التحليل بأن هناك مرضاً عُضالاً خطيراً فإنّ همَّ الزوجة، وهمّ الولد، وهمّ الشريك، كل هذه الهموم تتلاشى، يصبح فؤاد هذا الإنسان فارغاً إلا من هذا الهم، نعوذ بالله من هذا الهم، العوام يتوسلون إلى الله عزّ وجل أن يجيرهم من ساعة الغفلة، وبعضهم يقول: هي ساعة الغفلة عن الله عزّ وجل، الغافل يقتحم الأخطار، الغافل يقع في المعاصي، الغافل يقع في الشِرك، الغافل يقع في الكفر، فيأتي التأديب فجأةً من دون إنذار ﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً﴾ ، هذا هو المعنى الأول

المعنى الثاني:  ربنا عزّ وجل حينما قال لها: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ﴾ من القتل..﴿فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي﴾ ، لا تخافي، ولا تحزني، إذا كان الله سبحانه وتعالى قد أوحى إلى أمِّ موسى ألا تخاف ولا تحزن، إذاً لا مانع من أن يصبح قلبها فارغاً من الخوف والحزن، هذا هو المعنى الآخر، أصبح قلبها فارغاً من الهم ومن الحزن..﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً﴾ ..

المعنى الثالث: أنها حينما ألقت به في اليَمِّ جاءتها الهواجس، وجاءتها الأحزان، وجاءتها الهموم، فخافت أن يغرق، وخافت أن يُقتل، وخافت، وخافت، فرغ قلبها من العقل، لا عقل، ولا ذرة عقل، أصبح فارغاً، أي أصبح قلبها فارغاً من الأمن، فارغاً من تطمين الله لها، جاءتها الهواجس، جاءتها الهموم، المخاوف، الأحزان، هذا هو المعنى الثالث..﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً﴾ يقولون: ما من شيءٍ في الأرض أقدس من قلبُ الأُم، وقد قلت لكم في خطبة سابقة: إن قلب الأُم طَبْع، بينما محبة الابن لأمه تكليف، أي أن المحبة والبر والإكرام تكليف، النبي الكريم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن أن يُفَرَّقُ بين الشاة وبين ابنتها، ما قولكم؟ هذا على مستوى الحيوانات، لا يجوز أن يُفرق بين الأُم وبين وليدها، فما قولك إذا كان هذا على مستوى الإنسان؟ إذا كان الذي يفرِّق بين الشاة وبين وليدها قد وقع في معصيةٍ صريحةٍ بنص حديث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكيف بالذي يفرق بين الأم وابنها؟ ورد: "منْ فرَّقَ فليسَ منَّا" ، هذا الذي يفرِّق بين الأحبة ليس من أمة النبي عليه الصلاة والسلام.

 

ربط الله عز وجل على قلب أم موسى بالصبر والإيمان:


﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ﴾ .. مرة قلت لكم: إن الشهوات لو رمزنا لها بوزن خمسة كيلو في ميزان، ولو رمزنا إلى قوة الإيمان بوزن عشرة غرامات، فإيمانٌ مقداره عشرة غرامات لا يقف في وجه الشهوات، إذا سمع الإنسان خطبة، أو قرأ كتابًا، أو سمع محاضرة في الدين أعجبته، هذه عشرة غرامات مثلاً، الشهوات خمسة كيلو، فإلى أن تُصْبح كفة الإيمان في مستوى وزن الشهوات، إلى أن يتحرك الميزان، الآن أنت في صراع، أنت في مرتبة مدافعة التدني، ولكن إذا قوي الإيمان، وأصبح وزنه مئة كيلو، والشهوات خمسة كيلو، عندئذٍ لا تستطيع الشهوة أن يكون لها إلى قلبك سبيلٌ، هذا نوع. 

النبي عليه الصلاة والسلام وُصِف بأنه على خُلقٍ عظيم، أخلاق المؤمنين بين أخذٍ ورد، بين شد وإرخاء، صراع، شخص تكلم معك كلمةً قاسية تقول: أأردّ عليه؟ لا، لن أردَّ عليه، هكذا أفضل، أنت في حالة صراع، لكن النبي عليه الصلاة والسلام بلغ مرتبةً في قوة الإيمان، وفي سموِّ الخلق أنه أصبح متمكناً من أخلاقه..

﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)﴾

[  سورة القلم  ]

فؤاد أم موسى أصبح فارغاً، ومعنى أنه فارغ ﴿إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ﴾ قال بعض المفسرين: "عندما ألقته في اليَمّ كادت تصيح: وا ابناه، وا ابناه، ماذا فعلت بنفسي؟" ﴿إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ﴾ ، أي كادت تصيح. 

وبعضهم قال: "حينما رُدّ إليها ابنها، ووضعته على ثديها، وأرضعته كادت تقول: هذا ابني من شدة الفرح"

وبعضهم قال: "حينما سمعت من الناس أنَّ في قصر فرعون غلاماً عزيزاً على فرعون اسمه موسى بن فرعون كادت تقول لهم: لا، هذا ابني" ، وحينما قال الله تعالى أوحى لها: ﴿وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ كادت أن تقول للناس: إن ابني سوف يرجِعُ إليّ، وفي كل هذه الحالات لو تكلَّمت لانتهت، ولكن الله سبحانه وتعالى سلَّم، قال عز وجل: ﴿إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ – لتعلن أنه ابنها - لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا﴾ .. أي ثبتناها بالصبر، ثبَّتناها بالإيمان، ثبتناها بالعصمة، ألهمناها الصبر، لذلك:

﴿ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127)﴾

[  سورة النحل ]

سيدنا عمر كان يقول حينما تصبيه المصيبة: << الحمد لله ثلاثاً، الحمد لله إذ لم تكن في ديني، والحمد لله إذ لم تكن أكبر منها، والحمد لله إذ أُلْهِمْتُ الصبر عليها >>

 أيْ أن الإنسان إذا أصابته مصيبة وصبر فليشكر الله عزّ وجل على أن الله سبحانه مكَّنه من الصبر، وأعانه على الصبر، لقول الله عزّ وجل: ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ﴾.

 

بطولة الإنسان أن يكون من المؤمنين المصِّدقين بوعد الله ووعيده:


إذاً..﴿لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ .. بوعدنا، إن درجة الإيمان تحدد درجة التصديق، الإيمان في بعض تعاريفه تصديقٌ وإقبال، والكفرُ تكذيبٌ وإعراض..﴿لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أيْ من المصدقين بوعد الله ووعيده، والحقيقة الإنسان يقول لك: فلان مؤمن، حينما يفعل هذا الإنسان بعض المعاصي، وهو يقرأُ كل يوم أن هذه المعاصي سوف يعاقبُ الله عليها، إذاً هو كأنه ليس مصدقاً، وهذا ينقلنا إلى موضوع دقيق.

هناك تكذيبٌ لفظيٌ، وهناك تكذيبٌ عملي، والتكذيب العملي أخطر بكثير من التكذيب اللفظي، أي أن الطبيب إذا وصف لك دواء، وأنت شكرته بلسانٍ ذَرِب، وقولٍ بليغ، ولم تشترِ الدواء، إن عدم شرائك الدواء دليل أنَّك لم تصدِّق هذا الطبيب، حينما لا يطبِّق الإنسانُ فهذا أحد أنواع التكذيب، وهو لا يدري، ما من واحدٍ في العالم الإسلامي بإمكانه أن يصرِّح بأنه غير مؤمنٍ بالآخرة، هذا الطرح ليس وارداً، ولكن هذا الذي لا يعمل للآخرة هو أحد أنواع المكذبين بها قطعاً، هذا الذي يعمل للدنيا فقط، هذا الذي تربَّعتْ الدنيا على عرش قلبه، هذا الذي كانت الدنيا أكبر همِّه، ومبلغ علمه، هذا الذي زهد بالآخرة لو قال: أنا مؤمن بالآخرة فهو في الحقيقة مكذب، عمله يكذب دعواه، إذاً.. ﴿لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي أنت حينما ترى إنساناً يأكل الربا ماذا تعتقد؟ قد يقول قائلٌ من ضِعاف المؤمنين: هنيئاً له، مالُه وفير، هذا التكذيب، إنَّك تكذِّب القرآن وأنت لا يدري، يقول ربنا عزّ وجل:

﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)﴾

[ سورة البقرة ]

هل أنت مصدق أن الله عزّ وجل لابدّ من أن يمحق ماله؟ يقول لك: والله يا أخي حالته المادية جيدة، معَ أن دخله حرام، فالبطولة أن تكون من المؤمنين المصِّدقين بوعد الله ووعيده، وأنت هل تشعر أن كلَّ إنسان انحرف لابدّ من عقابٍ في الدنيا أو في الآخرة؟ هذا اليقين هو الذي يُلْجِمَك عن معاصي الله عزّ وجل.. 

 

الذكاء في تتبع الأثر والمراقبة عن بُعْدٍ:


﴿وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ﴾ أي تتبعي أمره، يبدو أنها حينما ألقته في اليَم، وشاطئ النيل بعضه خارج قصر فرعون، وبعضه داخل قصر فرعون، فلما ألقت أُم موسى طفلها في التابوت ألقته في اليم قالت لأخته: تتبعي هذا التابوت، تتبعي مسيره، هذه بعض التأويلات، تتبعت مسيره حتى وصل، أو ساقه الله عزّ وجل إلى مكانٍ فيه شجرةٌ قريبةٌ من اليم، فهذا التابوت وقف عندها، وكان هذا على مرأى مِن امرأةِ فرعون. 

تفسيرٌ آخر؛ طبعاً أخذ فرعون الغُلام، وطلبت امرأته ألا يُقتل، وأحبَّته حباً شديداً، وقالت له: ﴿قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً﴾ طفلٌ رضيعٌ جائع صار يبكي، جاؤوا له بمرضعٍ فلم يرضع، ثم بمرضعٍة ثانيةٍ، وثالثةٍ، ورابعة فلم يرضع، لذلك أمر جنودَه أن يبحثوا له عن مرضعٍ في المدينة، فأخته تتبعت الأخبار، هذا تفسير آخر..﴿ وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ﴾ ، تتبعي أخباره.

﴿فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ .. رأتهم في حالة ارتباك يبحثون له عن مرضع، وهم لا يشعرون. 

 

كل شيء بيد الله عزّ وجل:


الآن تدبير آخر من تدابير الله عزّ وجل..﴿وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ﴾ .. العلماء قالوا: "هذا تحريم منعٍ لا تحريم شرعٍ". هذا الطفل الصغير بحاجة ماسة إلى حليب، ومع ذلك كلَّما التقم ثدي امرأة مرضعٍ عافه وأبى أن يشرب منه، وبقي يبكي، إذاً: كل شيء بيد الله عزّ وجل، الطفل بيدِ الله، وحركة الماء بيدِ الله، وقلب امرأة فرعون بيدِ الله، وفرعون بيدِ الله، فإذا كان الله معك فمن عليك؟ قال سيدنا هود:

﴿ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)﴾

[ سورة هود ]

أول شيء: قلب امرأة فرعون، بل أول شيء: الله عزّ وجل ألقى على هذا الغلام مسحة جمال، ومسحة جلال، ومسحة بهاء، أحياناً تدخل إلى صف يوجد فيه خمسون طالباً، طالب واحد يَلْفِت النظر، لا تعرف ما السر، هذا الطفل جذبك إليه، الله عزّ وجل له أسرار، أحياناً يضع سره في بعض خلقه،  ورد: "ما أخلص عبدٌ لله عزّ وجل إلا جعل قلوب المؤمنين تنهال إليه بالمودة والرحمة" أيْ يجعل سراً، أحياناً تقول كلاماً يقوله كلُّ الناس، يكون لكلامك أنت تأثير عجيب، ما سر هذا التأثير؟ الله يعلم ذلك، لكن يمكن أن نستنبط أن الإخلاص والتطبيق يسهمان في قوة التأثير.

على كل..﴿وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ﴾ هذا التحريم تحريم منع لا تحريم شرع. 

والشيء الآخر: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى﴾ هذا وحـي إلهام لا وحي رسالة، بل هناك وحي ثالث: وحي غريزة..

﴿ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68)﴾

[ سورة النحل ]

فالكلمات في القرآن تأخذ معان عدة..

 

رجوع موسى إلى أمه:


﴿وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ﴾ ، أي من قبل أن تأتي أمَّه، فقالت أخته للجنود القلقين، الباحثين عن مرضع لهذا الغلام بأمر فرعون: ﴿فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ﴾ .. قالوا: مَن؟ قالت: أمي.. ﴿وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ﴾ عندما قالت: وهم له ناصحون شكّوا في أمرها، كيف عرفتِ أنهم له ناصحون؟ قالت: أيْ هم للملِك ناصحون، وليس للغلام، هي ارتبكت من شدة لهفتها أن يعود أخوها إلى أمه فقالت: ﴿هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ﴾ من شدة ولهها ورغبتها في أن يعود هذا الطفل الصغير إلى أمه تكلَّمت كلمات زائدة فشكّوا في أمرها، قالوا: ومن أدراكِ أنهم له ناصحون؟ قالت: أردت أنهم أهل بيتٍ ناصحون للملك في هذا الغلام الذي يَحْرص على إرضاعه، عندئذٍ تمَّ هذا الأمر على هذه الطريقة..﴿فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ﴾ .. جيء بأم موسى إلى قصر فرعون، وعلى مرأى فرعون كما تروي الكتب أُعطي هذا الطفل ثدي أُمِّ موسى فالتقمه بشغف، فشكَّ فرعون في الأمر فقال: لماذا قَبِل ثديك ولم يقبل أي ثدي آخر؟ قالت: إنني طيبة الريح، طيِّبة اللبن، وما من غلامٍ رضع مني إلا التقم ثديي، أيضاً كانت ذكيةً، فعلى الإنسان أن يكون على شيء من الذكاء، لولا فِطْنتها هذه لقتلها.

 

على الإنسان أن يكون ذكياً فطناً:


﴿فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا﴾ .. يوم الأحد تحدثنا عن أن سيدنا رسول الله أرسل حذيفة بن اليمان في معركة الخندق، وهي المعركة الحاسمة التي ربما انتهى الإسلام فيها، أقول: ربما، حسب تصوِّر أصحاب رسول الله لشدة العدد والعُدد وما شاكل ذلك، فالنبي عليه الصلاة والسلام نَدَبَ سيدنا حذيفة ليستطلع في معسكر المشركين ماذا يحدث؟ ماذا يخططون؟ المهمة قاسية جداً؛ أن يتسلل جندي إلى معسكر الشرك، مقتول لا محالة، فأبو سفيان شعر بحاسةٍ سادسة أن في القومِ أُناساً غُرَبَاء فقال: "لا آمنُ عليكم من عيون لمحمد فليتفقد كلٌّ منكم جليسه وصاحبه" انتهى سيدنا حذيفة كان ذكياً جداً مباشرةً أمسك بيدِ من بجانبٍه وقال له: من أنت؟ وما اسمك؟ فقال: "أنا فلان، واسمي فلان"، هذا موقف ذكي، فإذا وقف الإنسان مواقف تدلُّ على فطنته هذا من توفيق الله له، فيبدو أنهم شعروا أن أُم موسى من لهفتها، ومن حبها أنها أمه، فقالت: لا، لكنيّ طيبة الرائحة، طيبة اللبن، وكل طفلٍ التقم ثديي قَبِلَه..  

 

وعدُ الله ووعيده نافذان ومُحقَّقان مهما كانت الظروف:


﴿فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ أي زوال الكون أهون عند الله عزّ وجل مِن ألا يتحقق وعده، لأن وعده حق. 

عندما يقول ربنا عزّ وجل: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ هذا وعد إلهي مطبَّق في أي مكانٍ، في أي زمانٍ، في أي ظرفٍ، مهما تكن الظروف صعبة، وَعَدَك الله أيها الشاب المؤمن بحياةٍ طيبة، في بلد صعب، في بلد سهل، في رخاء، في سنوات المحل، في سنوات الخصب، وعدك الله بحياةٍ طيبة، هذا وعدٌ إلهي. 

وعيد آخر: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ لا يمكن، مهما تكن، أينما كنت، مهما كنت غنياً، مهما كنتَ قوياً، مهما كنت ذكياً، مهما كنت ذا عصبةٍ كبيرة، إذا أعرضت عن ذكر الله فلابدّ من المعيشة الضَنْك، بل إن بعض المفسرين قالوا: "فما بال الأغنياء والملوك معيشتهم الضنك ضيقُ القلب، في قلوبهم من الضيق ما لو وزِّعَ على أهل بلدٍ لكفاهم". 

وعدٌ آخر: 

﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)﴾

[ سورة الروم ]

﴿ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)﴾

[  سورة المجادلة  ]

هذا وعد آخر..

﴿ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)﴾

[  سورة الأعراف  ]

 وعد ثالث، وعود الله كثيرة، له وعدٌ وله وعيد.. 

﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)﴾

[ سورة البقرة ]

هذا وعيد. أما قوله تعالى:

﴿ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)﴾

[ سورة البقرة ]

 هذا وعد..﴿أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ﴾ .

﴿فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ في سورة يوسف قال ربنا عزّ وجل:

﴿ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)﴾

[ سورة يوسف  ]

أمرُ الله هو النافذ، "أنت تريد، وأنا أريد، فإذا سلَّمت لي فيما أريد كفيتُك ما تريد، وإذا لم تسلم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد، ثم لا يكون إلا ما أريد" ، الله عزّ وجل إذا أراد شيئاً وقع، وأيُّ شيءٍ وقع أراده الله، فإذا كنت بطلاً كن مع مشيئة الله، لأنها هي النافذة، ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، إذا لم يشأ الله أمراً تعطَّل لأتفه سبب، وإذا شاء الله أمراً قام على أضعف سبب، والله سبحانه وتعالى يخلق من الضعف قوةً، من الضيق فرجاً، من المرض صحةً. 

 

قفزةٌ زمنية في قصة موسى: 


الآن هذه القصة قصة سيدنا موسى وردت في القرآن الكريم برقمٍ كبير، وردت ثلاثاً وعشرين مرة، لكن لو قرأتها قراءةً سطحية تظن أنها متكررة، أما إذا دقّقت فيها تجد أن كل مرةٍ وردت فيها هذه القصة وردت من زاوية دقيقة. 

الآن يوجد عندنا فجوة، بعد أن رُدّ هذا الطفل إلى أمه التي أرضعته انتقلنا فجأةً إلى سن الرشد، يوجد ثماني عشرة سنةً أو تزيد لا ندري عنه شيئاً، يا ترى كم سنة بقي في قصر فرعون؟ لا ندري، هل بقي في قصر فرعون كل هذه السنوات؟ هناك إشاراتٌ دقيقةٌ وخفية تؤكد أنه لم يبقَ في قصره، بل خرج من قصره، لعل أمه أخبرته ماذا يفعل فرعون ببني إسرائيل، لعل أمه أخبرته من هو، لعله رأى بعينه ما يفعله فرعون في بني إسرائيل من ظلمٍ، ومن تقتيل أولاد.

 

انقطاع المعلومات عن موسى عليه السلام حتى بلغ أشده:


على كل المعلومات انقطعت، إلى أن قال الله عزّ وجل: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى﴾ .. العلماء قالوا: "بلغ أشده أي اكتملت قواه الجسمية أي في السنة الثامنة عشرة، واستوى أي اكتملت قِواه العقلية"

وبعضهم قال: "في سنّ الثلاثين" .   

﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى﴾ .. وبعضهم قال: "في سن الثامنة عشرة" .   

على كل ربنا عزّ وجل يؤكد أنه بلغ أشده واستوى، بلغ أشده في قوته البدنية، وبلغ أشده في قوته العقلية.. ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً﴾ ، يسأل الإنسان نفسه: ما نصيبي من هذا العطاء؟ إذا كان نصيبه من المال وفيرًا فإن هذا نصيب قارون، وإذا كان نصيبه من القوة وفيرًا فإن هذا نصيب فرعون، ما نصيبه من العلم والحكمة؟ ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً﴾ .. الحقيقة الحكم بعضهم يقول: "إنه حينما تعلم حقيقةً، وتضعها موضع التنفيذ فأنت حكيم"، لا يسمَّى الحكيم حكيماً الذي تعلم الأشياء النظرية، لا يسمى الحكيمُ حكيماً إلا إذا طبق الذي عرفه، لذلك: من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم.

 

من صفات الأنبياء العلم:


﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً﴾ .. ما اتخذ الله ولياً جاهلاً لو اتخذه لعلمه.. إن الله عالمٌ يحب كل عالم، فكن عالماً، أو متعلماً، أو مستمعاً، أو محباً، ولا تكن الخامسة فتهلك، العلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك، فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً، يظل المرء عالماً ما طلب العلم، فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً﴾ .


  عطاء الله عز وجل عطاء منضبط بأسس ثابتة :


لكن أروع ما في هذه الآية هذا التعقيب الذي يبث الأمل في قلب كل مؤمن..﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ .. إن عطاء ربنا عزّ وجل ليس عطاءً اعتباطياً مزاجياً، عطاءٌ منضبط، عطاء وفق أُسس ثابتة، أي أنه لو لم يكن محسناً لما آتيناه حكماً وعلماً، كان محسناً فاستحق العلم والحكمة، ماذا قال الإمام الشافعي؟ قال شكا إلى أستاذه وكيع: 

شكوت إلى وكيعٍ سوء حفظي          فأرشدني إلى ترك المعاصي

وأنبأنـــــــــي بأن العــــــلم نــــــــورٌ         ونـور الله لا يهـــــــدى لعـاص

* * *

بعضهم قال: "لا تعصه في النهار يوقظك في الليل". إذاً: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً﴾ .

 

فضل العالم على العابد:


يقول ربنا عزّ وجل:

﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)﴾

[ سورة البقرة  ]

إذا عبدَ إنسانٌ اللهَ من غير معرفة قد ينجو، ولكن لا يؤتى خير كثير، إنك إذا عرفت الحكمة دعوت إلى الله وفق الحكمة، الناس لا يستجيبون لك، قل لهم: افعلوا كذا هكذا، أما إذا آتاك الله علماً وحكمةً، وبيَّنت للناس أوامر الله عزّ وجل، والحكمة منها، ونواهيه والحكمة منها، وبيَّنت لهم طريق الحق، والوسائل المعينة على هذا الطريق، إذا آتاك الله علماً وحكمة، هديت الناس، عندئذٍ يأتيك الخيرُ الكثير..﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً﴾ ، قد تكون عابداً، فخيرك محدود، خيرك محصور، لا تستطيع إلا أن تنفع نفسك كعابد، أما كعالم فلك أن تنفع الناس جميعاً، لك أن تُحْيي الناس جميعاً..

﴿ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)﴾

[  سورة المائدة ]

فرقٌ كبير بين أن تكون عابداً وأن تكون عالماً: عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ: ذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلَانِ: أَحَدُهُمَا عَابِدٌ وَالْآخَرُ عَالِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عن أبي أمامة الباهلي :

(( ذُكِرَ لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم رجُلانِ؛ أحدهما عابدٌ، والآخَرُ عالِمٌ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: فضلُ العالمِ على العابدِ كفضلي على أدناكم ثمَّ قالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ إنَّ اللَّهَ وملائِكتَهُ وأَهلَ السَّماواتِ والأرضِ حتَّى النَّملةَ في جُحرِها وحتَّى الحوتَ ليصلُّونَ على معلِّمِ النَّاسِ الخيرَ. ))

[ صحيح الترمذي ]

كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، فالطُّموح يجب أن يكون للحكمة، ربنا عزّ وجل يقول:

﴿ وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)﴾

[ سورة الأعراف ]

من حكمة، إذا أردت أن تعلِّم الناس إذا بيَّنت لهم مثلاً أن إطلاق البصر للحرام سوف يكلِّف صاحبه ثمناً باهظاً، فليكن بيانك بمثلٍ من واقع الناس وبحكمة. 

أعرف صديقاً لي، له جار يسكن في بعض أحياء دمشق، وكان لهذا الجار أولادٌ شباب وشابَّات، وقد زوَّج بعض بناته الشابات، له هوايةٌ لا ينفَّكُ عنها طوال سنين، أن يتجوَّل في بعض الطرق المزدحمة بالنساء الكاسيات العاريات في أيام الصيف، لا يفعل شيئاً إلا أنه ينظر، مهما كان البردُ شديداً، أو الحر شديداً هذا الطريق يمشي فيه ذهاباً وإياباً كل يوم، ولا يفعل شيئاً، نصحه أصدقاؤه فلم يستجب، إلى أن أُصيب بمرضٍ اسمه: ارتخاء الجفون، وهو لم يمت بعد، لا يستطيع الآن أن يرى إنساناً إلا إذا أمسك جفنيه بيديه ورفعهما هكذا، يكون الجزاء أحياناً من جنس العمل، فإذا أقنعت الإنسان أن إطلاق البصر يسبب شقاء زوجياً أحياناً، يسبب انزلاقاً نحو الزنا، لأن الزنا مبدؤه من النظر، وإذا أقنعته أنه من غض بصره عن محارم الله أورثه الله حلاوةً في قلبه إلى يوم يلقاه، إذا أقنعت الناس بالدخل الحلال، وبيَّنت أن الدخل الحرام لابدّ من أن يدمَّر، من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدّى الله عنه، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ. ))

[ صحيح البخاري  ]

إذا بيّنت لهم الحكمة استجابوا لك، إذاً: ﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً﴾ بين أن تكون عابداً، وبين أن تكون عالماً، شتَّان بين الوظيفتين، العابد لنفسه، العابد يصلي، ويصوم، ويحج، ويزكي، ويفعل أوامر اللهُ عزّ وجل، ولكنه لا يستطيع أن يُقْنع أحداً بأحقية الإسلام، هذا خيره محدود ﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً﴾ .

 

الحكم والعلم جزاء للإحسان :


إذاً: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً﴾ ، قال: هذه ليست له وحده يا عبادي، كلُّكم عندي سواسية..﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ .. هذا الحكم وهذا العلم كانا جزاء إحسانه، وأيّ واحدٌ منكم إذا أحسن فسوف أُعطيه الحكم والعلمَ، يوضِّح هذا عندما دخل سيدنا يونس في بطن الحوت..

﴿ وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)﴾

[ سورة الأنبياء  ]

في كل زمان وفي كل مكان، هذه التعقيبات تقلب القِصص إلى قوانين، التعقيبات تقلب القصة التي وقعت وانتهت إلى قانون مستمر، ما أروع هذه التعقيبات ! ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ .

 

أثر الإخلاص في إتيان العلم والحكمة: 


ورد في بعض الأقوال: "أنه من أخلص لله أربعين صباحاً تفجَّرت ينابيع الحكمة في قلبه، وأجراها الله على لسانه" ، أي الإنسان إذا أخلص لله، وإذا أطاعه طاعةً تامة، هو يحتار، هو يعجب من نفسه كيف أصبح طليق اللسان، يشعر وهو يتكلَّم كأن سيلاً من المعلومات قد تدفق عليه، لا يدري ماذا يختار منها، وأحياناً الإنسان العاصي الغارق في شهواته لا يستطيع أن يتكلَّم كلمة، لسانه محبوس، هناك عي المعصية وهناك طلاقة الطاعة، من أخلص لله أربعين صباحاً تفجَّرت ينابيع الحكمة في قلبه، وأجراها الله على لسانه، بعضهم يظن هذا حديثاً صحيحاً، هو حديث مشكوك في أمره، أي ضعيف، فأنا أشرت إلى أنه قول من الأقوال.

 

كلّ إنسان بفطرته يعرف ما الإحسان:


﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ .. الإحسان مطلق، وأنا أُؤَكِّدُ لكم أن كلَّ إنسان بفطرته يعرف ما الإحسان، كل واحد يعرف من دون تعليم، لك أن تُحْسِن، ولك أن تسيء، لك أن تسخر، إذا سخرت من إنسان وأنت أقوى منه حَجَّمْته، شعر بالخزي، شعر بالألم، ولك أن تثني عليه، لك أن تفضح، ولك أن تستر، لك أن تَمُنَّ بعطائك، ولك أن تسكت، لك أن تستعلي، ولك أن تتواضع، لك أن توفِّق، ولك أن تفرِّق، لك أن تغتاب، فالغيبة تتوافق مع شهوة النفس، ولك أن تسكت، ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾

 

الإحسان للمخلوقات:


الإحسان للمخلوقات: النبي الكريم رأى رجلاً يذبح شاةً على مرأى من أُختها، فغضب عليه الصلاة والسلام، وقال: عن عبد الله بن عباس :

(( مرَّ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ على رجُلٍ واضِعٍ رِجْلَه على صَفحةِ شاةٍ وهوَ يُحدُّ شفرتَه وهيَ تلحَظُ إليه ببصَرِها قال : أفلا قَبلَ هذا؟ . أو تريدُ أن تُمِيتَها مَوتاتٍ؟ ! ))

[  صحيح الترغيب : خلاصة حكم المحدث : صحيح :  أخرجه الطبراني ]

أتريد أن تميتها مرتين؟ هلا حجبتها عن أختها، إذاً حتى عند ذبح الشاة هناك إحسان. عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: ثِنْتَانِ حَفِظْتُهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: 

(( إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ. ))

[  صحيح مسلم ]

(( وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ )) ، وكيف يكون الذبح حسناً؟ قال: (( وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ)) إذاً تعذيب الحيوان إساءة، أحياناً يدوس الإنسان نباتاً يسبح الله عزّ وجل، زهرة صغيرة يدوسها، لماذا فعلت هكذا؟ أنت لست محسناً، أحياناً يُطعم حيواناً جائعاً، هذا الحيوان قد يكون غير نافع، قد يكون أحياناً كلباً، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:  

(( بَيْنَا رَجُلٌ يَمْشِي فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ، فَنَزَلَ بِئْرًا فَشَرِبَ مِنْهَا، ثُمَّ خَرَجَ، فَإِذَا هُوَ بِكَلْبٍ يَلْهَثُ، يَأْكُلُ الثَّرَى مِنْ الْعَطَشِ، فَقَالَ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا مِثْلُ الَّذِي بَلَغَ بِي، فَمَلَأَ خُفَّهُ، ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ، ثُمَّ رَقِيَ، فَسَقَى الْكَلْبَ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا؟ قَالَ: فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ. ))

[ صحيح البخاري ]

كلمة ( إحسان ) هذه كلمة شاملة. هناك آية تقول:

﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)﴾

[  سورة العنكبوت  ]

هو مع المحسنين دائماً، الله يتولى الصالحين، يوجد إحسان في القول، وإحسان بالعمل، وإحسان بالسكوت، وإحسان مع الجار، مع الأخ، مع القريب، مع الصاحب، مع الابن، مع الزوجة، مع العدو، مع الحيوان، مع النبات..﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ .

 

لا يجتمع في القلب إيمان وإساءة:


أيها الإخوة الأكارم؛ المؤمن محسن، لا يجتمع الإيمان مع الإساءة، إنسان مؤذٍ والناس يخشون أذاه، فهذا مستحيل أن يكون مؤمناً، المؤمن مصدر أمن، مصدر سلام، مصدر إحسان، مصدر رخاء للناس، كتلة خير، خير متنقِّل، الكافر يحب الأذى، الناس رجلان: بَرٌ تقي كريمٌ على الله، وفاجرٌ شقي هينٌ على الله عزّ وجل، لا يوجد حل ثانٍ، إما أن تكون محسناً، وإما أن تكون مسيئاً في عملك، في بيتك، في كل حركاتك وسكناتك. 

 

فصلٌ جديد من قصة موسى عليه السلام :


الآن دخلنا في مرحلةٍ جديدةٍ من القصة: ﴿وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا﴾ المدينة هي العاصمة، وفي بعض الكتب أنها مدينة عين شمس الآن، وهي في مصر، واسمها عين شمس، وكانت هي العاصمة على عهد فرعون..﴿وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا﴾ أي في وقت القيلولة، في وقت النوم..  ﴿فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ﴾ إسرائيلي.. ﴿وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ﴾ من أتباع فرعون.. ﴿فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ﴾ .. معنى وكزه أي ضربه بجمع يده..﴿فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ﴾ .. فوقع ميتاً، أعوذ بالله ! لم يُرِدْ موسى أن يقتله، إن الله تعالى لم يقل: فقتله، لا، لو قال: فقتله، أيْ أراد قتله، ﴿فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ﴾ وإن شاء الله تعالى في الدرس القادم نتابع هذه القصَّة بَدْءاً من قوله تعالى:﴿وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا﴾ .

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور